اللاهوت الدفاعي

الفصل السابع والعشرون



الفصل السابع والعشرون

الفصل
السابع والعشرون

بنية
الرسالة إلى فيلبّي

هذه
الدراسة هي محاولة لقراءة الرسالة إلى فيلبّي مع تطلّع خاص إلى البنية والأسلوب
والتعليم. وما نودّ المدافعة عنه هو أن فل رسالة واحدة موحّدة، ووظيفتها تداوليّة،
تشاوريّة. هذا يعني أن الرسالة ترمي العمل على إزالة الشقاق الذي نقرأ عنه بوضوح
في 4: 2-3: (أطلب من أفودية وسنتيخي أن تفتكرا فكرًا واحدًا في الربّ). أي أن
تعيشا الوفاق والوحدة اللذين يتمنّى الرسول وجودهما في جماعة فيلبّي. وكل هذا من
أجل الانجيل الذي نحامي عنه. وعلى ضوء هذا الموضوع الأساسيّ، تستنير سائرُ المواضيع.
من أجل هذا، نتوقّف عند البنية، فنجد تماسكًا يعكس مختلف الوجهات وعلاقاتها بعضها
ببعض داخل النصّ كله.

منذ
زمان تحدّث الشرّاح عن موضوع الوحدة في فل، على أنه وجهة جوهريّة في الحياة
المسيحيّة والشهادة(1). ولكن يبقى أن نستخلص هذا الموضوع من بنية الرسالة. اختلف
بولس عن يوحنا(2)، فما قال شيئًا لأهل فيلبّي عمّا دفعه إلى الكتابة. لهذا، كانت
الاقتراحات. بعضهم رأى كلامًا عن الفرح، فاعتبر أن موضوع الرسالة هو الفرح. وآخرون
شدّدوا على شكر بولس لما تلقّاه من عون. وآخرون أيضًا أشاروا إلى تواضع المسيح
الذي هو مثال للمؤمنين. سوف نحلّل الخطبة مستندين إلى المقاطع، وارتباط المقطع
بالآخر. ونحاول أن نكتشف التماسك بشكل يدلّ على التفاعل بين المتكلّم والسامع، بين
الكاتب والقارئ. وحين نصل إلى (بنية كبيرة)(3)، نكتشف على نطاق واسع مضمون النصّ
قبل أن نصل إلى تفاصيله.

بعد
أن ندرس، بسرعة، المفاصل الأولى في فل، نتوقّف عند المقاطع الصغيرة، فنفهم الموضوع
الأساسيّ: تجاه تحزّب وانقسامات في الجماعة، كان نداء بولس إلى الوحدة والتوافق من
أجل شهادة انجيليّة وسط العالم الوثنيّ وفيه ما فيه من رفض للمسيح.

 

1
– المفاصل الأولى في فل

نحاول
هنا أن نرسم مسيرة الأفكار في فل، ونكتشف الرباطات المنطقيّة بين مختلف مقاطع
الرسالة. فإننا وإن كنّا لا نتجاهل تكوين الجمل ومفردات اللغة، إلاّ أن تحليلنا
يبدأ في البنية الكبيرة قبل أن يصل إلى البنية الصغيرة(4). فهذه التي تتألّف من
ألفاظ وجمل وأقوال واسعة هي هامة، ولكن داخل نظرة نصل إليها حين نتفحّص النصّ كله.
هنا يُطرح سؤالان يوجّهان كلامنا. الأول، أية بنية كبيرة تجمع الرسالة في كلٍّ
متماسك؟ الثاني، كيف تدخل البنى الصغيرة في هذه البنية الكبيرة؟

 

أ
– الرسالة ككلّ (1: 1-4: 23)

إذا
عدنا إلى تكوين الرسائل في زمن بولس الرسول، نتعرّف إلى ثلاثة أقسام أساسيّة:
فاتحة الرسالة. جسم الرسالة. خاتمة الرسالة. إن فاتحة فل (1: 1-2) توافق شكل
الرسائل في القرن الأول المسيحيّ، وتُبرز طريقة الاتّصال الرسائليّ، فتعرّفنا إلى
ذاك الذي وجّه الرسالة، وإلى الشخص الذي تلقّى الرسالة. والمقطع الأخير في فل (4:
21-23) يتوافق هو أيضًا مع الأسلوب الرسائليّ، فيُنهي الخطبة بالسلامات والبركة.
وهكذا تُقسم فل ثلاثة أقسام: فاتحة الرسالة (1: 1-2). جسم الرسالة (1: 3-4: 20).
خاتمة الرسالة (4: 21-23).

 

ب
– فاتحة الرسالة (1: 1-2)

تبيّن
هذه البداية في هاتين الآيتين أن الرسالة كلٌّ تامّ. فرباطات هذه الوحدة واضحة في
انتقالة تتألّف من جمل إسميّة (لا فعل فيها) تصل بنا إلى أول فعل يرد بوضوح في 1:
3 (أشكر)
eucari6tw. على مستوى التأليف، تتكوّن فاتحة الرسالة هذه من عبارتين
اثنتين. الأولى (1: 1) تدلّ على المرسل وعلى متسلّم الرسالة. الثانية (1: 2)
تتحدّث عن البركة. نحن نعرف اليوم أن مضمون الفاتحة في رسالة من الرسائل
البولسيّة، يعكس عددًا من الأمور سنقرأها في الرسالة نفسها. وإن فل تتضمّن في
فاتحتها ثلاث سمات فريدة تلعب وظيفتها في هذا المضمار. أولاً، في 1: ،1 ترك بولس
الطريقة العاديّة في الكلام، وتنازل، فمنح تيموتاوس ذات اللقب الذي يمنحه لنفسه.
(عبد). ثانيًا، استعمل بولس لفظ (جميع) (كل)
pa6، في بداية التضمين، ليكلّم قرّاءه: إلى جميع القديسين(5).
ثالثًا، ذكر بولس بنوع خاص الأساقفة والشمامسة في الكنيسة، فبيّن مكانتهم (مع)
المؤمنين، لا (فوقهم)(6).

هذه
السمات هي انعكاس واضح للظرف الذي دفع بولس لكي يكتب رسالته: فالحاجة إلى الوحدة
هي فضيلة مسيحيّة لا غنى عنها. بالإضافة إلى ذلك، فلفظ
douloV يشير إلى التواضع، وهو موضوع لاحق (يرتبط بالموضوع الأساسيّ)
سيتوسّع فيه بولس في جسم الرسالة، حين يدعو أهل فيلبّي لكي يخدموا بعضهم بعضًا كما
خدمَهم المسيحُ (2: 7). وهكذا لعبت آ 1-2 وظيفة هامة، فهيّأتنا لفكر سيتوسّع فيه
بولس وهو أن العلاقات داخل الكنيسة، بين العاملين معًا في الرسالة الواحدة، هي
علاقات التواضع التي يتساوى فيها جميع المؤمنين (بل نحسب الآخرين أفضل منا، 2: 3)،
لا علاقات السلطة والتسلّط.

 

ج
– جسم الرسالة (1: 3-4: 20)

بعد
المقدّمة (آ 1-2)، يبدأ جسم الرسالة في 1: 3. ويمكننا أن نجزّئه أربعة أجزاء: 1:
3-11 (المقدّمة)؛ 1: 12-2: 30 (النواة والذروة)؛ 3: 1-4: 9 (أمور جانبيّة، ولكنها
أمور مهمّة)؛ 4: 10-20 (الخاتمة). ويُطرح السؤال هنا: على أي أساس إرتكزت هذه
التجزئة؟

أولاً،
نجد في 1: 3-4: 20، ثلاث علامات قطع رئيسيّة. العلامة الأولى نقرأها بين 1: 11 و1:
12، حيث ينتقل بولس من الجزء الأول، الذي هو المقدّمة (الشكر والصلاة)، إلى جسم
الرسالة في المعنى الحصري. بالإضافة إلى ذلك، في 1: 12 حيث يبدأ الطرح، تظهر عبارة
قاطعة (أريد أن تعلموا) تدلّ على بداية انتقال من مقطع إلى آخر في الرسائل
البولسيّة(7). ونجد العلامة الثانية الرئيسيّة بين 2: 30، 3: 1ي، حيث ينتقل بولس
من الفرح إلى الحزن والسخط. هذا التبدّل هو من الفجاءة بحيث اعتبر عدد من الشرّاح
أن فل تتألّف من أكثر من رسالة، وأن 3: 1 تبدأ رسالة جديدة. والعلامة الثالثة تقع
بين 4: 9 و4: 10. يتوقّف 4: 1-9 عند وصايا عامّة توازي ما في 3: 1. أما في 4: 10،
فيعود بولس إلى موضوع مشاركة أهل فيلبّي في الانجيل (رج 1: 5). والحدود التي تختم
الرسالة، تدلّ عليها نهايةُ الطرح في 4: 20، مع ثلاث عبارات متوازية ومستقلّة
تتضمّن السلامات (4: 21-22) والبركة الأخيرة (4: 23). وهكذا انفصل 4: 21-23 عن
المواد السابقة، على مستوى المضمون وعلى مستوى الشكل حيث نجد ثلاث عبارات مستقلّة.

ثانيًا،
من الواضح أن 1: 3-11 و4: 10-20 يرتبطان الواحد بالآخر، كبداية جسم الرسالة
ونهايته، وهذا ما لا نجده في 1: 12-4: 9. هذا اليقين نكتشفه أيضًا على مستوى اللفظ
والعبارة وعلم النحو، كما في اللوحة التالية:

1:
3-11 4: 10-20

مشاركة
في (1: 5) لم تشاركني (4: 15)

شركائي
في النعمة (1: 7) اشتركتم في ضيقي (4: 14)

من
أول يوم (1: 5) في بداءة الانجيل (4: 15)

أن
أفتكر (1: 7) افتكاركم (4: 20)

حين
رأى أحد الشرّاح هذا التوازي، قال: (لم تأت هذه الألفاظ عن طريق الصدفة، بل جُعلت
هنا بشكل خاص لتدلّ على هدف معيّن وبنية محدّدة). وهكذا لا نجد الجذر
koiuwn
(شركة) إلاّ في بداية الرسالة ونهايتها، للاشارة إلى العلاقة بين بولس وأهل
فيلبّي. وما هو لافت أيضًا هو أن في كل كتابات بولس، لا نجد الجذر
6ugkoinwn
(شركة مع) إلاّ في بداية فل ونهايتها، كما لا نجد إلاّ في فيلبّي المزج بين
jronein
(افتكر، احترم) و
uper (فوق، على)(8).

نستطيع
أن نستنتج من هذا أن 1: 3-11 يشكّل مقطوعة منفصلة داخل الرسالة، بحيث يكوّن فاتحة
جسم الرسالة. ونقول الشيء عينه عن 4: 10-20. هو أيضًا مقطوعة منفصلة داخل الرسالة
وهو خاتمة جسم الرسالة. وهكذا يتّضح أن النواة الذروة نجدها في جسم الرسالة في
المعنى الحصريّ للكلمة، في 1: 12-4: 9. هنا نجد (التعليم) الأساسيّ في فل.

 

د
– خاتمة الرسالة (4: 21-23)

نجد
هنا استنتاجين: تحيّة مثلّثة في آ 21-22. وبركة على كنيسة فيلبّي في آ 23. ومع
ذلك، داخل وظيفة 4: 21-23 الواسعة كنهاية جسم الرسالة، هناك تضمين يدلّ على نيّة
الكاتب بأن يجعل رسالته وحدة واحدة. وهذا ما نجده في الألفاظ والمدلولات:

4:
21-23 1: 1-2

الاخوة
الذين معي بولس وتيموتاوس

جميع
القدّيسين جميع القدّيسين

نعمة
الربّ يسوع المسيح نعمة.. الربّ يسوع المسيح

ما
يلفت النظر هو تكرار التمنّي بالنعمة. فآخر كلمة قالها بولس (4: 23: نعمة ربّنا)
تتلاقى مع أول كلمة (1: 2: نعمة لهم). ويرد القرار مع صيغة الجمع (ضمير المتكلّم
umwn) وصيغة
المفرد (الروح
pneumatoV): فكل عضو من أعضاء الكنيسة يشارك في الحياة الروحيّة الواحدة
(4: 23). وهكذا انتقل التركيز من هدف يتطلّع إلى الحياة المسيحيّة، إلى اتصال
شخصيّ بين فئتين مدعوّتين إلى التوافق.

 

2
– المقاطع الصغيرة في جسم الرسالة

 

أ
– فاتحة جسم الرسالة (1: 3-11)

بعد
أن تعرّفنا إلى فاتحة جسم الرسالة وخاتمته، يجب أن ندخل إلى جسم الرسالة، لكي
نكتشف ما أراد الرسول أن يقوله في خطبته. فالفاتحة تميّزت بانتقال عبارتين لا فعل
فيهما (1: 1-2) إلى فعل أول في 1: 3 (أشكر). والوقفة في نهاية 1: 11، توجّهنا نحو
بنية الوحدة التالية (1: 12-26). ثم إن التوازي بين 1: 3-8 و1: 9-11 يدلّ على
اتّصال بين هذين المقطعين، كما أنه يفصلهما عمّا يلي، وهذا ما نراه في الفعل الذي
يرد في بداية كل مقطع: أشكر (آ 3). أصلّي (آ 9). في كل هذه المقطوعة نجد فعلين
رئيسيّين (أشكر، أصلّي). وهذا ما يجعلنا تجاه مقطعين متوازيين: فعل الشكر الذي
اعتاد بولس أن يرفعه في بداية رسائله (1: 3-8) والصلاة مع فعل
pro6eucomai (1:
9-11
). سيلعب 1: 3-11 وظيفة
استباق المواضيع الرئيسيّة في سائر أقسام الرسالة(9). وهذا ما نعالجه الآن في
جزئين اثنين.

أولاً:
شكر من أجل أهل فيلبّي (1: 3-8)

هو
شكر من أجل المشاركة في الانجيل، المشاركة في نشر الانجيل. تتميّز هذه القطعة
كوحدة مدلوليّة بثلاث سمات. الأولى، عودة (جميعكم) أربع مرات في هذه الآيات (آ،4 آ
7 مرتين، آ 9). ولا نعود نجد هذا اللفظ في فل، إلاّ في 1: 25؛ 2: 17، 26. الثانية،
هي أن هذه القطعة هي جملة طويلة في اليونانيّة (إلاّ إذا كانت علامة الوصل
gar
في آ 8 علامة قطع). الثالثة، إن فعل
eucari6tw يمثّل فاتحة جملة مستقلّة ومحدّدة. لهذا، يشكّل 1: 3-8 مركّبًا
يعبّر عن الشكر (آ 3-6) مع مركّبين آخرين في داخله (آ 7 وآ 8) يدلاّن على سببَي
الشكر الذي رفعه بولس.

بعد
أن قرأنا موضوع هذه القطعة، نتوقّف عند 1: 3-6. ونجد فعلين: أشكر، يكمّل
epitele6ei. غير أن
الفعل الثاني يخضع للفعل الرئيسيّ ويرتبط به. هذا يعني أن موضوع 1: 3-8 هو كمال
الشكر البولسيّ من أجل مشاركة
(koinwnia) أهل فيلبّي في الانجيل (آ 5). ونستطيع أن نعبّر عن هذا
الموضوع كما يلي: أشكر الله، يا أهل فيلبّي، لأنكم تشاركوني بأمانة في نشر
الانجيل. استعمل بولس لغة الرفقة والشراكة ليعبّر عن التوافق بين بولس والمسيحيّين
في فيلبّي على مستوى (العطاء والأخذ) (4: 15)، على مستوى المشاركة في الأمور
الماليّة والخيرات الماديّة(10). ساعة تدلّ
koinwnia في ملء معناها على مشاركة روحيّة، بدت في 1: 5 وكأنها تشير إلى
العون الماديّ الذي تلقّاه الرسول من الفيلبيّين. وبعبارة أخرى، رأى بولس علاقته
مع أهل فيلبّي عقدًا متبادلاً من أجل هدف واحد هو نشر الانجيل. نلاحظ أن فكرة
المشاركة في الخيور الماديّة (هي وجهة هامّة في الوحدة المسيحية) موجودة في فاتحة
جسم الرسالة (1: 3-11) كما في خاتمته (4: 10-20). وهكذا نكون أمام البرهان
الرئيسيّ في فل.

ثانيًا:
صلاة من أجل نموّ الحبّ عند الفيلبيّين (1: 9-11)

ما
يدلّ على الوحدة في هذه القطعة، هو وجود فعل (أصلّي) كجملة رئيسيّة. وأن لا فعل
رئيسيًا آخر. هذه القطعة تبدو خاتمة الشكر في 1: 3-8، وتشير إلى وظيفة التشفّع من قبل
المرسل إلى من يتلقّى الرسالة، على ما في الأسلوب الرسائليّ في العالم اليونانيّ.

بعد
فعل في صيغة المتكلّم المفرد (أصلّي)، ترد
ina (كي) فتشير إلى مضمون الصلاة التي تتوزّع في طلب (تزداد محبّتكم
أيضًا أكثر فأكثر، آ 9) وهدف (حتى تميّزوا الأمور.. وتكونوا بلا عثرة، آ 10)
وتطلّع (مملوءين من ثمر البرّ، آ 11). لا شكّ في أن هدف بولس في صلاته يرتبط بشكل
التصرّف الذي يُظهره المؤمنون في فيلبّي. ونحن نستطيع أن نعبّر عن موضوع 1: 9-11
كما يلي: أصلّي لكي يكون حبّ بعضكم لبعض من النضوج بحيث تقدرون أن تروا المهمّ
المهم: سلوك مخلص وصادق (لا لوم فيه)، بعضكم تجاه بعض(11). وهكذا تقف صلاة بولس
على حدود الارشاد والتحريض، فتدلّ على ما رمى إليه تشجيعُ جماعة فيلبّي إلى قدر
أكبر من الوحدة والمحبّة. فالمسألة التي تواجه بولس والكنيسة في هذه الرسالة(12)،
تُذكر هنا منذ الآن في فاتحة جسم الرسائل. ويبرز الموضوعُ أيضًا على المستوى
البلاغيّ للغة في تكرار اللفظة الواحدة: جميع، جميعكم.. (آ 3-8): كل صلوات بولس هي
من أجل كل الفيلبيّين(13).

بالإضافة
إلى ذلك نجد هنا خمسة مواضيع تابعة تلعب دورًا هامًا في برهان بولس. الأول، يتضمّن
1: 7 أول استعمال لفعل
jronew (افتكر) الذي يرد أيضًا عشر مرات في الرسالة(14). يعكس هذا الفعل
إطارًا خاصًا لتكرار موقف، ويربط الأجزاء الرئيسيّة التي نجدها في جسم الرسالة، في
كلٍّ موحّد: يبدأ مع عودة إلى موقف بولس تجاه الفيلبيّين (1: 7)، ويقدّم مدلولاً
لاهوتيًا فيه يحثّ بولس المؤمنين على الوحدة (2: 2، 5)، ويقف تجاه الذين يفكّرون
تفكيرًا أرضيًا (3: 15، 19؛ 4: 2). وفي النهاية، يُستعمل للكلام عمّا فعله أهل
فيلبّي تجاه بولس، فعبّروا عن فعلهم بتقدمتهم (4: 10). حين استعمل بولس فعل
(افتكر) في 1: 7، هيّأ قرّاءه لما سيقوله فيما بعد، في 2: 2: يكون فكرهم كفكر
المسيح. يفتكرون فكرًا واحدًا.

الثاني،
إن موضوع الألم كوجهة من الخدمة المسيحيّة، يبدأ في 1: 7، ويمتدّ عبر الرسالة.
فالألفاظ التي تنتمي إلى الحقل الدلالي للألم، تتضمّن الجهاد
(agwn، 1:
30
)، وثاق (de6moV، 1: ،7،13،14 17
الضيق
(qliyiV 1: 17: 4:
14
). الألم (
3: 10
)، تألّم (pa6cw، 1:
29
)، جاهد مع (6unaqlew، 1:
27
؛ 4: 3). أوّل مرّة يرد
هذا المدلول، في 1: 7 مع (وثاق)، وآخر مرّة في 4: 14 مع (ضيق). الثالث، يظهر هنا
وللمرة الأولى لفظ (انجيل، بشارة)(15)
euaggelion، كرسالة تُنشر ويدافع عنها. الرابع، المسبّق(16) 6un  (مع)
يُستعمل هنا للمرة الأولى (1: 7)، فيكون أحد المفاتيح في الرسالة: في 1: 7 (شارك
مع)، نقرأ وصفًا للمشاركة بين بولس والكنيسة بالنظر إلى سجن يقاسيه من أجل خدمة
الانجيل. في 1: 27 (جاهد مع)، نقرأ كلامًا عن سعي الفيلبيّين لعيش الانجيل. في 2:
،2
6umyucoi  (نفس واحدة) تعكس الوحدة في الموقف الذي يرغبه بولس من أجل
المؤمنين. في 2: 17-18 (أفرح معكم.. إفرحوا معي)، يصوّر الرسول الفرح (المتبادل
والمشترك) بين بولس والكنيسة، كذبيحة يقدّمها عن الجماعة. في 2: 25 (العامل معي..
المتجنّد معي)، نكتشف العلاقة الحميمة بين الرسول وإبفروديتس. في 3: 17
6ummimhtai
(اقتدى مع) يرتبط برغبة بولس في أن تقتدي مجموعة فيلبّي برسولها. في 4: 3 (جاهدتا
معي.. العاملين معي) نجد صورة عن المشاركين لبولس في خدمته. في 4: 14، يلمّح الفعل
(اشترك مع)
6ngkoinwnh6ante6  إلى المعونة الماديّة التي حملها الفيلبيّون إلى بولس في السجن.
الخامس، موضوع الفرح (الفعل
 والاسم cara) الحاضر في فل، يرد هنا للمرّة الأولى وسوف يرد 14 مرّة تجاه
36 مرّة في سائر الرسائل البولسيّة(17). وهكذا مع لفظ (بفرح) (1: 4) يعلن بولس أحد
المواضيع التابعة في رسالته: الفرح في وسط الضيقات.

ب
– جسم الرسالة (1: 12-4: 9)

من
المهمّ أن نعرف منذ البداية، أننا هنا أمام قسمين واسعين يرتبط الواحد بالآخر: 1:
12-2: 30. ثم 3: 1-4: 9. فكل تحليل يبحث عن وحدة الرسالة، يجب أن يأخذ بعين
الاعتبار العلاقة بين هذين القسمين. هكذا يبرز في 1: 12-2: 30، البرهان الرئيسيّ
في الرسالة، بروزًا خاصًا: الحاجة إلى الوحدة، مع وضع حدًا للانقسام والتحزّب. هذا
مع العلم أن النداء إلى التوافق وإنهاء التفرقة في الكنيسة، يسري في جسم الرسالة
كلها. لهذا نعتبر أن بولس يستعمل 3: 1-4: 9 ليواصل برهانه من أجل الوحدة، ما عدا
هنا، حيث يعود في برهانه إلى الوراء فيقدّم نقاطًا سبق له وطرحها. ففي 3: 1-4: 9
مثلاً، توقّف عند موضوع الافتخار والطموح الشخصيّ(18). وما يُسند برهان بولس من
أجل الوحدة في الكنيسة، هو أنه ينهي كلامه مع نداء إلى أفودية وسنتيخي لكي تضعا
حدًا لخلافهما (4: 2-3) الذي لعب دورًا كبيرًا في التفرقة لدى جماعة فيلبّي.

أولاً:
ذروة جسم الرسالة)1: 12-2: 30)

شكّل
1: 12-2: 30 الوحدة الأولى الرئيسيّة في جسم الرسالة. انتهت الفاتحة مع 1: 11،
فتنظّمت المعلومة التي تقدّمها حول فعلين (أشكر، 1: 3، أصلّي، 1: 19). وبرزت بداية
وحدة جديدة في 1: 12 مع عبارة قطْع نموذجيّة: (أريد الآن أن تعلموا)، مع المنادى
(أيها الإخوة، لفظ تحبّب) الذي يشير إلى انتقال إلى موضوع (أو موضوع تابع) جديد في
الرسائل البولسيّة (رج 3: 1، 17؛ 4: 1، 8). أما التبدّل التالي فنجده في 3: 1 (يا
إخوتي) مع ظرف (أخيرًا) يرد للمرّة الأولى فيدلّ على انتقال إلى فكرة أخرى ويشير
إلى نهاية رسالة أو فكرات ثانويّة.

ولكن
هل من رباط داخليّ ورئيسيّ في قلب 1: 12-2: 30؟ يبدو هذا غير معقول لأسباب ثلاثة.
الأول، الرباطات الداخليّة التي يمكن أن نكتشفها، هي فقط في مقاطع قصيرة. الثاني،
إن الوحدات التابعة(19) ترتبط في إطار التضمين، ونحن نقرأها في ما يلي:

الوحدة
التضمين

1:
12-26 1: 12
prokophn: تقدّم الانجيل

1:
25 تقدّمكم

1:
27-30 1: 27
idwn, akouw: رأيتكم، أسمع

1:
30 رأيتموه، تسمعون

2:
1-18 2: 2
caran فرحي

2:
17-18 أفرح، أفرح مع، إفرحوا، إفرحي معي

2:
19-24 2: 19
en kuriw, tacew6 في الربّ، سريعًا

2:
24 في الربّ، سريعًا

2:
25-30 2: 25
leitourgou خادم

2:
30
leitourgiaV خدمة

وفي
الثالث، هناك بنية تعاكسيّة (تصالبيّة) في 1: 12-2: 30:

أ
أخبار حول سجن بولس (1: 12-26)

ب
تعليمات من أجل الكنيسة (1: 27-2: 18)

أ
أ أخبار حول رفاق بولس (2: 19-30).

ما
نجده في أ وأأ، ليس تحريضًا، بل أخبارًا. وفي 1: 27، ينتقل بولس من فنّ لاتحريضيّ
إلى فنّ التحريض والارشاد (أدعوكم لكي تعيشوا)
politeue6qe: عيشوا. هذا التحريض يمتدّ (مع اختلافات بسيطة) عبر 2: 18.
ولكن في 2: 19، يعود بولس إلى أمور خاصة ويتحدّث عن شركائه في الرسالة. وهكذا
نستطيع أن نعتبر 1: 12-2: 30، كمركّب رسائليّ رئيسيّ في فل، وقد جاء في شكل تعاكس،
في ثلاثة أجزاء: 1: 12-26؛ 1: 27-2: 18؛ 2: 19-30.

>
أخبار حول سجن بولس (1: 12-26)

الموضوع
هو أولويّة الانجيل في كل شيء. في هذه القطعة، يبدأ بولس فيشرح لأصدقائه أن سجنه
سار في الطريق التي يريدها: وصل الانجيلُ إلى جميع فئات الشعب، وهذا كان له سببَ
فرح. نحن نجد داخل آ 12-26 ثلاثة أمور رئيسيّة متفرّعة. في الأول (1: 12-14)،
يؤكّد بولس لقرّائه أن سجنه (سمع عنه أهل فيلبّي) يعمل الآن من أجل انتشار
الانجيل. وقدّم بولس درفتين تُسندان مقاله: عُرض الإيمانُ المسيحيّ أمام (كل دار
الولاية) (1: 13). ثمّ، تشجّع سائرُ المسيحيّين فشهدوا بجرأة للمسيح (1: 14). في
الثاني، بدأ 1: 15-18أ بتعاكس متداخل (قوم، قوم.. هؤلاء، هؤلاء)، وانتهى بسؤال
(فماذا) في إطار لغة الفرح (أفرح في هذا)(20). يفرح بولس لأن الانجيل أعلن على يد
أشخاص كانوا معارضين له حقدًا وعداء. في الثالث، بدأ 1: 18ب – 26 مع الأداة (بل)،
فاستعاد لغة الفرح من 1: 18أ (أنا أفرح) وأضاف معلومة شخصيّة أخرى، بدأت بعلامة
القطع مع (لأني أعلم) (1: 19) و(بهذا أعلم) (1: 25)، وانتهت مع الهدف (1: 26، لكي)
الذي فيه ينتقل بولس إلى فكرة جديدة: يرجو أن يُطلق من السجن فيتبيّن أنه كان
بريئًا من كل تهمة ضدّ الحكم الروماني.

إن
هذا المقطع السيروي في 1: 12-26، يقوم بوظيفة قيّمة: هو لا يجعل فقط بين قوسين
الجزء المركزيّ من جسم الرسالة، بل يأخذ أيضًا موضوعَ الوحدة، ويجعله نموذجيًا في
حياة بولس. فمثال بولس الخاص كمشارك في الانجيل (1: 12)، وإن ضُيّق على هذه
المشاركة بسبب السجن، هو دعوة ملحّة للفيلبيّين لكي (يعيشوا كمواطنين صالحين
وجديرين بإنجيل المسيح) (1: 27)، كما فعل بولس حين واجه مقاوميه (1: 28). حين وضع
حاجات الآخرين قبل حاجاته (أبقى في الجسد لأجلكم، 1: 24)، أعدّ بمثاله الطريقَ
للارشاد على التواضع (2: 1-4) مع كلام عن تواضع المسيح (2: 5-11). وأخيرًا، حين
يشير إلى المقاومين الذي يسعون لحدّ خدمته (1: 15-17)، فهو ينتقد بشكل خفيّ أولئك
الذين يقسمون الجماعة في فيلبّي (4: 2). أن لا يكون جميع المشاركين في الخدمة
المسيحيّة مدفوعين بدافع صادق، فكرة سيعود إليها الرسول خلال تحذيره الموسّع حول
الافتخار في 3: 1-4: 9.

 

>
تعليمات للكنيسة (1: 27-2: 18)(21)

بعد
أن تحدّث بولس عن ظروفه الخاصة وأثرها في الانجيل وفي أهل فيلبّي، عاد يُعطي
تعليمات للجماعة كلها. هناك موضوع واحد يربط ما في هذا القسم: الحاجة إلى فكر
واحد، وسلوك من أجل الانجيل. يرتاح الرسول حين تقوم علاقات متبادلة من الصدق
والاخلاص بين الفيلبيّين ساعة بدت العلاقات تمرّ في محنة مزمنة. انقسمت هذه الآيات
بشكل تعاكس في ثلاث وحدات متفرّعة: وحدة تجاه عالم معاد لا يؤمن (1: 27-30). وحدة
داخل الجماعة المؤمنة (2: 1-11). وحدة من أجل شهادة لا لوم فيها أمام العالم (2:
12-18). أعلن الموضوع في 1: 27: نعيش بطريقة تليق بالانجيل. مثلُ هذا العيش يعني،
قبل كل شيء، أن نكون فكرًا واحدًا ونيّة واحدة، أن نقاتل جنبًا إلى جنب من أجل
الإيمان بالانجيل (1: 27-30). بما أن أهل فيلبّي تمزّقوا بسبب العُجب والأنانيّة،
فوصلوا إلى هذا الموقف الذي لا منطق فيه، لهذا، دعاهم بولس لكي يبدّلوا طرقهم، وأن
يخدموا بعضهم بعضًا في التواضع، كما خدمهم المسيح (2: 1-11). ثم يلحّ عليهم لكي
يحملوا الشفاء إلى جماعتهم، وإلاّ كانت شهادتهم ملومة وغير فاعلة (2: 12-18).

 


حثّ على الوحدة تجاه مقاومة العالم (1: 27-30)

ثلاث
سمات في هذه القطعة: بدأى بولس مع (فقط)
monon. هناك شيء واحد فقط. هذا الظرف النادر ينقلنا من الشرح إلى
الارشاد، ويدلّ على ما هو مهمّ في قلب هذه الرسالة: خاف بولس على الجماعة من
السقوط تجاه التزامها بالانجيل. ثم، نلاحظ التقابل بين آ 27 (رأى، سمع) وآ 30
(رأيتموه، تسمعون). أخيرًا، تبدو القطعة جملة واحدة مع فعل رئيسيّ واحد يدلّ على
مسؤوليّة متبادلة داخل الجسد. من هنا جاء الأمرُ في آ 27 بالعيش عيشًا جديرًا
بإنجيل المسيح، جزءًا هامًا في هذا المقطع، فالفعل (عيشوا)
politeue6qe (1: 27) والاسم politeuma (سيرة) (3: 20) يشكّلان تضمينًا يضمّ جسم المقال كله. فدعوة بولس
هذه تشكّل اللحمة في دفاعه عن الوحدة، لأن لا وحدة حيث لا حسّ بالمسووليّة في
الجسد.

حين
دعا بولس قرّاءه ليعيشوا كمواطنين صالحين في ملكوت سماويّ، أوضح أن هذا يعني قبل
كل شيء الثبات في فكر واحد. هذا ما يشرح فعل (عيشوا) ويحدّده. إن فعل (ثبت)
6tekete
يشكّل تضمينًا مع 4: 1 (أثبتوا في الربّ)، فيضمّ كل الجزء الارشاديّ في الرسالة
على مثال (عيشوا، مسيرة): سواء كان بولس حاضرًا أم غائبًا، فعلى الفيلبيّين أن
يعيشوا فقط في شكل خاص. في الوحدة. ربط بولس كل هذا بمجيئه المحتمل، لأنه مشتاق
إلى قرّائه. لهذا جاء إرشاده بارزًا بشكل خاص.

دل
1: 27-30 على أن بولس لا يكتب فقط لكي يدلّ على امتنانه لأهل فيلبّي بسبب عطيّتهم
له (1: 3-11)، ولا ليعلمهم بظروفه الخاصة (1: 12-26)، بل ليطلب منهم موقفًا
وسلوكًا. فاهتمامه الرئيسيّ هو الوحدة والحاجة إلى روح المشاركة في إعلان الانجيل.
وهذا الاهتمام يفسّر لماذا ترك بولس (اثبتوا في روح واحد) وأخذ بلغة السباق في
الحلبة. فاسما الفاعل (مجاهدين معًا وغير خائفين) يفسّران بشكل إيجابيّ وسلبيّ ما
يعني الموقفُ الثابت. فعلى الفيلبيّين أن يثبتوا حين يجاهدون معًا من أجل إيمان
الانجيل، وحين يرفضون كل خوف من المقاومين: هل استعمل أهل فيلبّي الاضطهاد لكي
يخوّفوا المؤمنين؟ وقد يستبق بولس ما سيقوله في ف 3 حول الوعّاظ المتعلّقين
بالشريعة، والذين يقدّمون تعليمًا (للكمال). مهما يكن من ينبوع هذه المقاومة،
فليتأكّد الفيلبيّون أن سلوكهم يعمل من أجل تقدّم الانجيل.

 


حث على الوحدة والتواضع (2: 1-11)

(الشيء
الوحيد) (فقط، 1: 27) الذي دفع بولس إلى الكتابة، هو أن يتوحّد الفيلبيّون في
الشهادة للانجيل. ويأتي البرهان عنه بشكل منطقيّ حول الطرح الرئيسيّ في 1: 27-30.
فالجزء المتفرّع الأول (2: 1-11) يلوم الفيلبيّين بسبب تحزّبهم، فيبدو تهيئة لما
سيقوله الرسول حول المسألة التي تقسم الكنيسة (4: 2-3). ما نلاحظه في 2: 1-11 هو
أن بولس يعالج مظاهر التحزّب(22)، لا سبب هذا التحزّب. كما أنه لا يقدّم نصيحة
ملموسة في هذا الجزء من الرسالة، بل يسعى لأن يُقنع القرّاء بأن يميلوا عن سلوك
يقسمهم، ويتوجّهوا نحو الوحدة.

 


حث على الوحدة تجاه الانقسامات الداخليّة (2: 1-4)

إن
بداية هذا الجزء المتنوّع، ينقلنا من موضوع الوحدة تجاه مقاومة خارجيّة إلى موضوع
الوحدة تجاه التحزّب داخل الجماعة. يتمّ هذا الانتقال بواسطة الأداة
oun
(إذن، الفاء) و(الفرح) (2: 2؛ رج 2: 17-18). يتركّز 2: 1-4 على الفعل في 2: 2أ
(تحبّوا) الذي يسبقه أربع عبارات شرطيّة وتليه عبارات تابعة. ويبدو أننا في صيغة
إيقاعيّة نقسمها إلى ثلاثة أبيات(23):

I. أ فإن كان وعظ ما في المسيح

ب
إن كانت تعزية محبّة

ج
إن كانت شركة ما في الروح

د
إن كانت أحشاء ورأفة

 

II. تمّموا فرحي

أ
بأن تكونوا فكرًا واحدًا

ب
– وتكون لكم محبّة واحدة

ب
ب – وتكونوا نفسًا واحدة (في ملء الاتفاق)

أ
أ – مفكّرين فكرًا واحدًا

III – أ لا تفعلوا شيئًا بتحزّب أو بعجب

ب
بل بتواضع حاسبين الآخرين أفضل منكم

أ
أ لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه

ب
ب بل إلى ما هو للآخرين

نلاحظ
هنا أيضًا أن الوحدة هي اهتمام بولس الأساسيّ. فالبيت الأول (
I)
قدّم للوحدة الأساسَ الذي لا بدّ منه: ما يحتاجه أهل فيلبّي ليجعلوا حياتهم في
توافق، يجدونه في رفقتهم للمسيح. في البيت الثاني (
II)
نجد الفكرة الواحدة تتردّد في أربع طرق طلبًا لهذا التوافق: فكر واحد. محبّة
واحدة. نفس واحدة (توافق تام). فكر واحد. في البيت الثالث (
III)
يطلب الرسول من الفيلبيّين أن يجاهدوا من أجل الوفاق والتواضع وأن يتخلّوا عن
التحزّب الذي يدمّر وحدة الجماعة. في أصل هذا الانقسام في فيلبّي، خلاف بين
امرأتين (4: 2-3)، سيجابهه بولس بالكلام الذي قاله للجماعة كلها (2: 2). ولكنه قبل
ذلك، قدّم أساسًا آخر، ومثالاً ساميًا للحياة المسيحيّة في 2: 5-11.

 


حثّ على الاقتداء بتواضع المسيح (2: 5-11)

سمات
عديدة تدل على حدود هذه الوحدة. (1) تجاه المقطع السابق وما فيه من إرشاد، نجد هنا
تفكيرًا خلقيًا مع مثال
paradeigma أسمى للسلوك المسيحيّ هو سلوك المسيح. (2) في 2: 5 نعود إلى صيغة
الأمر (فليكن فيكم) كما في 2: 2. (3) في 2: 11 ننهي الكلام عن المسيح. وفي 2: 12
نجد إرشادًا جديدًا ومقطعًا جديدًا مع فنّ أدبيّ مختلف في هذه المرحلة من البرهان.
(4) في 2: 5 استعمل الكاتب
jronew (افتكر) كرباط بين 2: 5-11 و2: 1-،4 حيث يرد الجذر jron
مرّتين في آ،2 ومرّة واحدة في آ 3.

إن
الطريقة التي بها يستعمل بولس هذا المديح للمسيح، داخل الرسالة، يدفعنا إلى النظر
إليه كجزء من برهان بدأ في 1: 12 وأسند التحريض في 2: 1-4. يسوع متواضع. أفرغ
نفسه. قدّم نفسه. ذاك هو المثال المقدّم للفيلبيّين في علاقاتهم المتبادلة. وجاء
التشديدُ بواسطة تكرار تعاكسي لاسم المسيح: المسيح يسوع في آ 5. يسوع المسيح في آ
11. بل إن النشيد كله يبدو بشكل تعاكس:

أ
– المسيح يسوع هو الله (آ 5-6أ)

ب
– نزل إلى الأرض وخضع للوضع البشريّ (آ 6ب – 7)

ج
– مات ميتة مريعة (آ 8)

ب
ب – صعد إلى السماء وسما على الوضع البشريّ (آ 9)

أ
أ – اعتُرف بيسوع أنه إله (آ 10-11).

ما
قيل في ب ب وأ أ يقدّم النتيجة المنطقيّة لاتضاع المسيح (كما في أ وب). أما قلبُ
التعاكس (ج) فنبّهنا إلى العنصر اللافت: اتضاع المسيح وموته مصلوبًا.

 


نور في العالم (2: 12-18)(24)

بُني
هذا المقطع حول فعلين في صيغة الأمر (آ 12-16) يمثّلان جملتين مستقلّتين (2: 12ج؛
تمِّموا، 14: إفعلوا). هناك انتقال من مقطع لاتحريضيّ (2: 5-11) إلى التحريض (صيغة
الأمر). وهناك انتقال أيضًا من تصرّف المسيح (2: 5-11)، إلى تصرّف بولس (2:
17-18). وهكذا نستطيع أن نعتبر 2: 12-16 كامتداد للكلام عن الوحدة كما بدأ في 2:
1-4، مع موجز (2: 17-18) يبدو بشكل خاتمة فيستعيد ما سبق. أما موضوع آ 12-16 فهو:
أدعوكم لكي تطيعوني وتعملوا على شفاء الجماعة. فالله يعمل الآن لكي يمنحكم فيما
بينكم المشيئة الصالحة لا المريضة. إفعلوا هذا بحيث لا يجد أحدٌ لومًا فيكم. لأنكم
تشاركون الآخرين تعليم الحياة. قال أحد الشرّاح: (لم يطلب بولس من كل عضو في
الكنيسة أن يعمل من أجل خلاصه الشخصيّ، بل فكّر في صحّة الجماعة ككلّ. فعلى كل
واحد، وعليهم جميعًا، أن يُعيروا انتباههم إلى هذا الأمر)(25).

>
أخبار عن رفاق بولس (2: 19-30)(26)

نجد
حدود هذه الوحدة مع (أرجو) في البداية. والنهاية هي بداية الوحدة التالية مع
(أخيرًا، وبعد). ثم هناك سمات لا نجدها في المقاطع السابقة أو اللاحقة: معلومة عن
العاملين مع بولس وعلاقتهم بالفيلبيّين. عاد بولس إلى أموره الخاصة ومخطّطاته التي
بدأها في 1: 12. إن بنية 2: 19-30 تتضمّن توازيًا في الكلام عن تيموتاوس (آ 19-24)
وإبفروديتس (آ 25-30).

ارتبط
2: 19-30 بالأجزاء السابقة من الرسالة، بواسطة اللغة. فاللفظ
euyucw
(تطيب نفس 2: 19) يستعيد
miayuch (1: ،27
نفس واحدة) و
6umyucoi (2: 2
توافق، نفس مع). في 2: 20 نقرأ نظير نفسي
i6oyucoV فيقابل 2: 6 (معادل، نظير). وما في 2: 21 (يطلبون ما هو لأنفسهم)
يقابل 2: 4 (ينظر إلى ما لنفسه). وأخيرًا، فعل
edouleu6en (خدم) يذكّرنا ببولس (خادم، عبد) (1: 1) المسيح، وبيسوع الذي صار
عبدًا طائعًا (2: 7). فما بدا للوهلة الأولى أنه استعادة لتقرير يقدّمه بولس عن
الرسالة، تواصل تعليمًا لأهل فيلبّي حول أهميّة الوفاق والتواضع. ضحّى تيموتاوس
بنفسه، وخاطر إبفروديتس بصحّته في خدمة بولس، فدلاّ على اهتمام بالآخرين (2: 1-4)
وأبرزا المثال الفريد الذي قدّمه المسيح (2: 5-11). إن العودة إلى تيموتاوس
وإبفروديتس لعبت بشكل غير مباشر وظيفة إقناع دعا فيها بولس المؤمنين إلى الوحدة
وإلى الاقتداء بالمسيح(27).

ثانيًا:
جزء متفرّع في جسم الرسالة 3: 1-4: 9

موضوع
3: 1-4: 9 هو موضوع ما سبق (1: 12-2: 30): الوحدة والتواضع في الجهاد من أجل
الانجيل. استُبق الكلام عن هذا الموضوع في 1: 27-2: 18 مع تضمين تألّف من 1: 27
(عيشوا، تثبتون) و3: 20 (عيش، تثبتون) و4: 1 (اثبتوا). يختلف أهل فيلبّي عن
مقاوميهم الذين يتوفّف عجبهم عند أمور الأرض
epigeia (3: 19؛ رج 2: 10)، فيشاركون في مواطنيّة السماء.

يبدأ
هذا المقطع (3: 1) مع المنادى (يا إخوتي)، مع فعل الأمر (إفرحوا). مع ظرف (أخيرًا)
يشكّل انتقالاً (بالإضافة إلى ذلك) أكثر من خاتمة. وهكذا يكون 3: 1 عنصرًا
انتقاليًا كتنبيه ضدّ المتهوّدين، يبدأ في 3: 2 (احذروا الكلاب). وهو أيضًا توسّع
في موضوع الفرح الذي هو قلب برهان بولس(28): إفرحوا في ما فعله الربّ، لا في ما
فعلتموه بعُجب وكبرياء. ويضيف بولس أن نداءه المتكرّر للفرح هو وسيلة بها يحفظ
المؤمنين من معتقدات وممارسات مدمّرة. يعتقد بولس أنه إن أطاعه مسيحيّو فيلبّي في
ندائه إلى الفرح، فهذا يكفي لكي يكتشفوا الموقف المسيحيّ الإيجابيّ الذي يخلّصهم
من أمراض تضرب كنيستهم من تذمّر واختلافات وآراء فارغة وما شابه(29).

في
3: 2-4أ يصوِّر بولس تهديدًا قد يصيب الكنيسة من الكلاب وفعلة الشرّ وأهل القطع.
هم المتهوّدون الذين يستندون إلى الشريعة وأعمالها، وإلى الختان. أما أهل فيلبّي
فيعبدون الله بالروح، ولا يجعلون إتّكالهم على اللحم. بعد ذلك (3: 4ب – 11)، يقدّم
بولس حياته كنموذج للاتكال على البرّ في المسيح (آ 7-11) تجاه برّ الشريعة (آ
4ب-6). شابه مخلّصَه (2: 5-8)، فتخلّى بملء إرادته عن كل هذا الربح وهذه
الامتيازات من أجل شيء آخر: من أجل معرفة المسيح والتشبّه به في موته وحمل الصليب
يومًا بعد يوم. فالاهتداء لا يعني الارتفاع والتكبّر، بل إفراغ الذات على ما فعل
المسيح.

والموضوع
المشرف في 3: 12-16، هو أن الكمال هدفٌ نجاهد من أجله وإن كنّا لا ندركه إدراكًا
تامًا. أجل، بولس نفسه ما أدرك الكمال. وهكذا جعل من حياته مثالَ تواضع يجب أن
يعيشه الفيلبيّون. ويتواصل البرهان في 3: 17-21 مع كلام يعلن فيه بولس ثقته بالبرّ
الآتي من المسيح. مع تنبيه إلى الذين يعتبرهم أعداء صليب المسيح بما يقدّمونه من
مثل سيّئ. ومرّة أخرى، يقابل الرسول بين طريقة حياة وطريقة حياة (3: 4ب-11): لا
نتّكل على اللحم والدمّ، بل على حقيقة الانجيل. وأخيرًا، في 4: 1-9، استعاد بولس
برهانه وأشار إلى عدد من النقاط ذكرَها في جسم الرسالة.

ومجمل
القول، انطلاقة 3: 1-4: 9 هي انطلاقة 1: 12-2: 30. فكما دعا بولس الفيلبيّين في 1:
27-30 إلى عمل مشترك تجاه مقاوميهم، ها هو هنا يدعوهم أيضًا فيصوّر التهديد الذي
يشكّله المتهوّدون.. وكما حدّد في 2: 1-4 فرح المسيحيّين الحقيقيّ ظاهرًا في
الخارج، يقول في 4: 5 إن على المسيحيّين أن يمارسوا الحلم تجاه بعضهم بعضًا. وكما
صوّر في 2: 1-5 حياة يسوع في مسيرة الموت والمجد، ها هو يصوّر حياته أيضًا في 3:
4ب – 11. وكما ندّد بولس في 1: 27-2: 4 بالبحث عن المصالح الشخصيّة، والتحذّب لدى
الفيلبيّين، كذلك لام في 4: 2-3 مسؤولتين في الجماعة، أفودية وسنتيخي. مع أننا لا
نستطيع بوضوح أن نعيد بناء الخلاف بين هاتين المرأتين، إلاّ أن بولس يعتبر هذا
الخلاف هامًا جدًا. ما هو واضح، ارتباط وثيق بين 2: 2 و4: 2 حيث ترد ذات اللغة
الأساسيّة. هذا يعني أن 4: 2-3 تطبيق لما قاله بولس حول الوحدة. حثّ بولس قرّاءه
أكثر من مرّة، بسبب تأثير هذا الخلاف على الجماعة وعلى الرسالة البولسيّة. لهذا
طلب منهما الرسول أن تتركا الطموح الشخصيّ وتعملا معًا في تناسق تام بقيادة الربّ.
فالثبات (4: 1) في نظر بولس يعني حياة في وفاق بين أعضاء الجماعة في الكنيسة (4:
2-26 والافادة من السلام والتوافق اللذين يعطيهما الله (4: 7-9).

ثالثًا:
خاتمة جسم الرسالة (4: 10-20)

أقرّ
بولس في هذا الجزء من الرسالة بالهديّة التي أرسلها إليه أهل فيلبّي. فإن 4:
10-،20 شأنه شأن فاتحة جسم الرسالة (1: 3-11)، يُقسم جزئين: في آ 10-14، عبّر بولس
عن شكره للعطيّة التي حملها إليه إبفروديتس. كما ذكّر أهل فيلبّي في آ 15-20،
بمساندتهم في خدمته الرسوليّة. اعتبر بعض الشرّاح أن 4: 10-20 هي رسالة شكر منفصلة
كتبها بولس قبل أن يكتب جسم الرسالة. وقد يكون الرسول حاول أن يوجز هنا مواضيع
الرسالة. وفي النهاية، ترد المجدلة في 4: 20 مع السلامات الأخيرة (4: 21-23).

خاتمة

عرف
بولس واستعمل التقاليد البلاغيّة لكي يقنع أهل فيلبّي بالطريق التي تحمل الثمار.
غير أنه لم يكن سجين المصطلحات البلاغيّة في أيامه. فهو يستعمل البلاغة فقط من أجل
هدفه، فيدعو قرّاءه إلى فهم واضح للانجيل. وهدفه لا يتوخّى أولاً إرضاء سامعيه، بل
الانجيل بما يحمل من قوّة في حياة الفيلبيّين.

وفي
النهاية، ُتفهم فل على أنها رسالة واحدة. تنطلق من الشقاق الحاضر في الجماعة،
فتدعو المؤمنين إلى الوحدة: يتركون التحزّب والعجب والبحث عن المصلحة الشخصيّة،
ويتطلّعون إلى المسيح الذي علّمهم بتواضعه أن يخدموا بعضهم بعضًا، وأن يعتبر
الواحد أن الآخر أفضل منه. كما دعاهم إلى الاقتداء برسولهم، كما بتيموتاوس الذي
اهتمّ بهم بإخلاص، وبإبوفريدتس الذي هو خادم تجنّدَ من أجل الرسالة. هكذا تشهد
الكنيسة للمسيح في العالم، وتعيش في فرح تصل آثاره إلى ذاك الذي يقيم في السجن، ولايني
يقول لأبنائه في فيلبّي: (إفرحوا دومًا في الربّ. وأقول لكم أيضًا: إفرحوا)(30).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى