اللاهوت الدفاعي

الفصل السادس والعشرون



الفصل السادس والعشرون

الفصل
السادس والعشرون

واحد
هو انجيل رومة، وواحد هو المبشّر به
روم
1: 1-7

مقدمة

تنطبع
هذه المقدّمة، المكوّنة من جملة يونانيّة واحدة والمؤلّفة من سبعة آيات، بطابع
أسلوب بولس الانشائيّ من حيث المبنى. كما تتراكم الأفكار وتتسابق في فكره لتنبثق
وتؤلّف إعتراضات كثيرة في سياق كلامه. يذكرنا هذا الأسلوب برسالة أغناطيوس
الانطاكي إلى أهل روما.

تؤلّف
هذه الآيات، من حيث المعنى، مقدّمة للمواضيع الرئيسيّة التي سيتوسّع فيها بولس في
رسالته، كما إنها تكوّن ملخّصًا فريدًا لنظريات الرسول حول دور المسيح، وأهميّة
الانجيل، وعلاقة الإيمان بالخلاص. يضمّ بولس إليها بعض العبارات التي تسلّمها من (كرازة)
الكنيسة الأولى.

تتميّز
هذه المقدّمة بالطول والأبّهة وغنى العقيدة، وتتضمّن أربعة عناصر: اسم المرسل،
توسيع عن معنى (الانجيل)، تحديد المرسل إليهم الرسالة، والتحيّة. سنتطرّق إلى كل
عنصر منها على حدى.

 

1
– العنصر الأول (آية 1)

يظهر
لنا من هذه الآية الأولى أنّ بولس وحده مؤلّف الرسالة إلى المسيحيّين في رومة. غير
أنّ روم 16: 22 تبيّن لنا بأن طرطيوس هو كاتب الرسالة (..؟). نعرف من الرسائل
الأخرى أن الرسول يضيف في مقدّمة الرسالة عمومًا أسماء مشاركيه في كتابة وتأليف
الرسالة(1).

يتكوّن
هذا العنصر من اسم المرسل الذي يُطلق على نفسه ثلاثة ألقاب (عبد يسوع المسيح) (في
اليونانيّة (عبد المسيح يسوع)، والذي (أفرد لبشارة الله)، و(رسول). أتاه هذا اللقب
الأخير بدعوة خاصة من الربّ، الذي اختاره لخدمة الانجيل.

يلقّب
بولس نفسه بادئ ذي بدء (بعبد)
(douloV) يسوع المسيح. يعطي العهد القديم لقب (عبد) إلى أشخاص هامين
ومميّزين كأبي الآباء ابراهيم (مز 105: 6) وموسى (2 مل 18: 12) وداود (2 صم 7: 5)
ويشوع (قض 2: 8) وكاتب سفر المزامير (مز 27: 9؛ 31: 17). كذلك يُلقّب
الاسرائيليّون (بعبيد الربّ) (تث 32: 36).

ويأخذ
لقب (عبد يهوه) دورًا هامًا ليصبح الشخص الذي توكّل إليه مهمة رفيعة الشأن ذات
طابع ديني. وقد أعطي لأشخاص مميّزين أوكل الله إليهم مهمّات تتضمّن مسؤوليّة عالية
ليقوموا بتحقيق مخطّط الخلاص. هؤلاء هم (الأنبياء) (رج عا 3: 7؛ إر 7: 25). نجد
هذا اللقب مرتبطًا بالشخصيّة التي يتكلّم عنها الجزء الثاني من نبوءة أشعيا، ويصفه
العهد الجديد (م ش ي ح) (رج أش 42: 1-4؛ 49: 1-6؛ 50: 4-9؛ 52: 13-53: 12؛ أيضًا
أع 3: ،13 26؛ فل 2: 7).

يقدّم
بولس نفسه (عبد الله)
(douloV Qeou) في طي 1: ،1 ولكننا نجد عمومًا لقب (عبد يسوع المسيح) أو (عبد
المسيح).. ويعود هذا اللقب في رسائل العهد الجديد الأخرى. كما يعطي العهد الجديد
هذا اللقب للمسيحيّين (رج أع 4: 29؛ 1 بط 2: 16؛ رؤ 1: 1؛ 2: 20؛ 11: 18).

يرتبط
(العبد)
(douloV) بعلاقة مع (معلّم،
مالك)
despothV (طي 2: 9؛ 1 طيم 6: 1) أو kurioV (فل 2: 7). تشبه هذه العلاقة، علاقة (عبد) و(أدون) في العهد
القديم (تث 23: 16؛ أش 24: 2). ونلحظ أن لقب
(douloV) يصبح بعض الأحيان (paiV) في الترجمة السبعينيّة (1 صم 22: 14-15). في هذا الإطار
البيبليّ، يشير لقب (عبد) إلى شخص مرتبط بشخص آخر، يعمل عنده ويخضع له ويأتمر
بأمره. إنه خضوع بولس التام لإرادة يسوع المسيح.

يساعدنا
هذا الإطار على فهم الفكرة التي اتّخذها بولس بتسمية نفسه (عبدًا) وخصوصًا فكرة (عبده
يهوه) الواردة عند أشعيا. إنه ملتزم بأن يكون نورًا للأمم (رج أع 13: 47) وبأن
يتحدّى الصعوبات والأتعاب في تحقيق هدفه (رج أع 9: 15ي؛ 2 كور 11: 23-12: 10). هذا
ما يكوّن مسؤوليّته كرسول. إنه ينظر إلى إستمراريّة رسالة المسيح وتطويرها، إذ إنّ
المسيح حقّق في نفسه كل هذه النبوءات(2).

يصنّف
بولس بعد ذلك نفسه في فئة الرسل، ويشدّد على أن لقب (رسول) أعطي له (بدعوة) إلهيّة
خاصة من أجل كرازة الانجيل. تعود كلمة
ApostoloV؟ إلى فعل apostellw اليونانيّ بمعنى (أرسل شخصًا) أو (شيئًا مرسلاً). يتّخذ هذا اللقب
صفة دينيّة في العهد الجديد إذ يرتبط بفكرة (ش ل ي ح) الآرامي، أي الشخص المرسل
بمهمة للتعليم خارج حدود أورشليم. يعود هذا التأسيس إلى القرن الأول قبل المسيح
عندما أرسلت السلطات الأورشليميّة (مرسلين) ليقوموا مقامها في الارشاد والتعليم
والتنظيم. أما ميزة الرسول المسيحيّ فترتكز على عمل المسيح القائم من بين الأموات
الذي أوكل أتباعه بالشهادة أو بالبشارة باسمه (رج لو 24: 47-48؛ متى 28:
19-20)(3).

تذكرنا
عبارة (دُعي ليكون رسولاً)
(klhtoV
apostoloV
من فعل kalew؛ رج 1 كور
1: 1) بالعبارة (إلى المدعويّن ليكونوا قدّيسين) (1: 7؛ رج 1 كور 1: 2
klhtoiV agioiV)(4). تطابق هذه المفردات العبارة الواردة في الترجمة السبعينيّة (klhth agia) التي تدلّ
على جماعة اسرائيل وتجعلها الأمة المقدّسة، لأنها مجتمعة بأمر الله، أو بالأحرى
مدعوّة من الله للاجتماع بمناسبة الأعياد لتقدّم له العبادة (رج خر 12: 16؛ أح 23:
2-44؛ عد 28: 25). يساعدنا هذا التقارب بين النصوص إلى القول، إنّ الجماعة (مقدّسة)
لأنها مدعوّة من الله للاجتماع، وبالتالي (مفردة) عن الآخرين لتشارك في القداسة
الالهيّة. يصبح بولس رسولاً لأنه مدعو من الله ليقوم بمهمة رسوليّة خاصة. نجد هنا
تعاطف العبارتين (المدعو)
(klhtoV
apostoloV
) و(المفرد) (afwriomenoV eiV euaggelion)(5).

يشعر
بولس باستخدامه لقب (رسول) بأنه ينتمي إلى أعضاء تلك الجماعة الذين اختارهم يسوع
ليكونوا ممثليه الشخصيين ولهم مطلق الصلاحيّة (رج غل 4: 14 حيث يتكلّم عن (ملاك
الله) بمعنى (رسول)؛ كذلك 2 كور 5: 20)(6) مع المهمة الخاصة بكرازة الانجيل (رج
روم 1: 14ي؛ 1 كور 9: 16؛ طي 1: 1-3). نستنتج من هذه الشهادات أن بولس يودّ أن
يحظى، إلى جانب دوره (الرسوليّ)، بمكانة خاصة. يشعر بولس أولاً بأن المسيح اختاره،
ليس بنوع مطلق، ليكون رسولاً للأمم (رج روم 11: 13؛ 15: 15ي؛ غل 2: 7ي)، وثانيًا
لأنه حصل على معرفة سر الخلاص بعمق (رج روم 16: 25ي؛ أف 3؛ كول 1: 24-29). كذلك
يعي بولس وعيًا تامًا أنه (رسول) وأنه ينتمي إلى فئة (الذين كانوا قبله رسلاً) (غل
1: 17). إنها شهادة دفاع عن حقوقه الرسوليّة وواجباته كرسول بين المسيحيّين (1 كور
9: 1-2؛ 15: 9؛ 2 كور 11: 5؛ 12: 12؛ غل 1: 1).

تقدّم
لنا آيات غل 1: 15ي أجمل تفسير للعبارة (المدعو ليكون رسولاً)، حيث تعود مواضيع
الدعوة والافراد والتبشير نفسها. أجل، تتطابق في بولس الدعوة إلى الإيمان والدعوة
إلى الرسالة. أجل، دعاه الله، ليس كسائر المسيحيّين، ليعرّفه بابنه (حتى يبشّر به
بين الوثنيّين) (غل 1: 16). يعلّق يوحنا الذهبي الفم على ذلك: (دُعي بولس ليعرف
يسوع المسيح وليُعرّفه في الوقت نفسه) في العالم أجمع.

(أفرد
ليعلن بشارة الله)
(afwrismenoV
eiV euaggelion
). نرى في هذا
الفعل خلفيّة العهد القديم في إفراد الله اسرائيل من بين سائر الشعوب كشعب خاص به
(لا 20: 26) أو في إفراد سبط لاوي لخدمته الخاصة (عد 8: 1). ويرى بعض المفسّرين أن
بولس يتلاعب في ألفاظه على خلفيّته الفريسيّة (رج فل 3: 5). يلمّح بولس إلى أن
خلفيّته الفريسيّة ظاهرة من العناية الالهيّة لإعلان البشارة الرسوليّة(7). يكتب
بولس في غل 1: 15 أن الله أفرده من بطن أمه
(aforisaV
me ek koiliaV mhtroV mou
) ودعاه
ليبشّر بابنه بين الوثنيّين. تذكّرنا هذه العبارة بدعوة أش 49: 1 (عبد يهوه) وإر
1: 5. ينتمي بولس بالتالي إلى فئة أنبياء العهد القديم. لم تكن بالتالي مهمة إعلان
(يسوع ربّ) مسؤوليّة إتّخذها بولس بنفسه على عاتقه. أصبحت دعوته للتلمذة المسيحيّة
لاحقًا دعوةً للمسؤوليّة الرسوليّة التي تتطلّب منه بشارة الوثنيّين (روم 11: 13).

يجب
أن ندرك مدلول معنى كلمة (بشارة)
(Euaggelion (بشارة الله) أي البشارة التي تأتي من الله، وينجلي محتواها
من خلال الآيات 3-4. يشدّد بولس تارة على الأعمال الخلاصيّة، وهي موضوع الكرازة،
في إطار تحقيقها التاريخي (وهذا ما نسمّيه بالتحديد التاريخي للبشارة)؛ وطورًا على
قدرة هذه الأعمال الخلاصيّة وتأثيرها على جميع الذين يتقبّلونها من خلال الإيمان
والعماد (التحديد اللاهوتيّ للبشارة، روم 1: 16). يطرح إذًا بولس في مقدّمة رسالته
موضوع (البشارة) التي سيتوسّع فيها فيما بعد. إنها الحقيقة المطلقة والجديدة التي
أدخلها الله في تاريخ البشريّة. يتساءل نايجرين: (ما هو الانجيل، ما هو محتوى
الإيمان المسيحيّ؟ يستطيع الانسان أن يتعلّم ذلك كله من الرسالة إلى أهل رومة أكثر
من أي كتاب آخر في العهد الجديد. وتعطينا هذه الرسالة الانجيل في إطاره الواسع)(8).

 

2
– العنصر الثاني (آ 2-6)

يؤلّف
العنصر الثاني تفصيلاً حول موضوع بشارة الله (آ 2-4) وموضوع دعوة بولس إلى الرسالة
(ا 5-6).

أ
– بشارة الله (آ 2-4)

تكوّن
هذه الآيات صدى واضحًا لإعلان الخلاص الأوليّ والأساسيّ الذي توسّع فيه بولس
لاحقًا. أجل، يتطرّق الرسول إلى السرّ الفصحيّ، موت يسوع وقيامته، الذي يشكّل
النواة المركزيّة في الرسالة الخلاصيّة. ويشير إلى ولادة المسيح الزمنيّة وإلى
ارتباطه بالنسل الداوديّ (رج أع 13: 23). ويتكلّم عن ما حدث بعد تمجيد المسيح من
حلول الروح القدس، ويذكّر بالتحضير الذي أعدّه الله للخلاص حسب شهادات العهد
القديم.

نجد
نصوصًا قريبة إلى نصّنا في 2 كور 13: 4؛ 1 كور 15: 45؛ 1 طيم 3: 16؛ 2 طيم 2: 8.
كذلك الأفكار المعبّر عنها في نصّنا تجد لها صدى في خاتمة الرسالة (16: 25-27).
أما في ما يتعلّق بتصميم الآيتين 3 و،4 فنجد عناصر متوازية تؤلّف هاتين الآيتين
وتأخذ شكل (تعاكس أو تصالب)، وهو نوع من البديع في الفن الأدبيّ(9):

tou genomenou A ek spermatoV Dauid

B kata sarka

tou ori6JentoV

uiou Qeou

en dunamei

B kata pneuma agiwsunhV

A ex anastasewV nekrwn

 

أولاً:
إنّ القصد الانجيليّ الذي وعد به الله، وهو مبدؤه، نجده معلنًا في الكتب المقدّسة
على ألسنة الأنبياء. يصبح الانجيل مفهومًا من خلال تحقيق وعد الخلاص الشامل الذي
وعد به الله ابراهيم وجدّده لنسله من بعده مرات كثيرة. وراحت محتويات هذا الوعد
تتحدّد بطريقة بطيئة من خلال نبوءات العهد القديم (رج أع 13: 32ي). ترتبط هذه
البشارة بما سبقها في تاريخ الخلاص. لقد هيأها الربّ نفسه من خلال الأنبياء.
ويؤكّد بولس أن البشارة التي يقوم بها، هي أيضًا تنبع من وحي إله العهد القديم،
وأن شريعة العهد الجديد أينعت من العهد القديم. فالله هو الإله الحيّ الذي لا يزال
يقدّم لشعبه طريقة خلاص جديدة (روم 16: 25-26).

يعبّر
الرسول عن نظريّته هذه عندما يعلن أنّ (برّ) الله سيظهر في الانجيل (رج روم 1: 17؛
3: 21-26). سيعود بولس ليتوسّع في تحليل هذه العبارة عندما يتطرّق إلى الكلام عن
فكرة الوعد في رسالته إلى أهل غلاطية (3: 15-4: 7).

ثانيًا:
تتمحور هذه البشارة حول (ابن الله) الذي يصفه بولس بريشته الفنيّة في شخصه وفي
أعماله، في وضعه الضعيف وفي كيانه المجيد (رج فل 2: 5-11)، وفي مجيئه الذي يصبح
بداية عهد جديد.

تدلّ
كلمة (الابن)
(uioV) على علاقة
يسوع بالله الآب. يقول الأب لاغرانج: (الذي وُلد من زرع داود كان ابن الله سابقًا،
وهذا الفعل مستقلّ عن العمل الذي يحدّده الفعل الثاني)
(orisJentoV)(10). بينما يقول كايزمان: (فهم جميع مؤلّفي أسفار العهد الجديد بنوّة
يسوع الإلهيّة الفريدة في معنى ماورائي)(11). غير أن فيتزماير يرفض هذه النظريّة
المتطرّفة المتعلّقة بالتفكير (الآبائي) أكثر منه بالتفكير اللاهوتيّ
البولسيّ(12).

يستعمل
بولس كلمة (ابن) في مدلولها على (البنوّة الكائنة قبلاً) (
prexistent (رج روم 5: 10؛ 8: ،3،29 32؛ 1 تس 1: 10؛ غل 1: 10؛ غل 1: 16؛ 2:
20؛ 4: 4..). كذلك يستعمل الرسول كلمة (زرع)
(sperma في المعنى المجازيّ وليس في المعنى الحرفيّ للكلمة، كما يظهر ذلك
أيضًا في العهد القديم (تك 12: 7؛ 15: 13؛ 2 صم 7: 12؛ مز 89: 5).

أصبح
المسيح عضوًا في عائلة داود بحسب الجسد
(sarx آية 3)، لأنه اتّخذ طبيعة ضعيفة ومريضة، ولأنه جعل نفسه مشاركًا
وضع البشريّة الضعيف (رج روم 8: 3). تشير عبارة (جسد)
(sarx في نصّنا، إلى حدود الطبيعة البشريّة وإلى النقائص الموجودة
فيها، وليس إلى تلك النقائص على المستوى الدينيّ أو الأخلاقيّ التي هي تحت حكم
خطيئة الانسان الحاضرة أو الماضية (رج روم 7؛ غل 5)(13).

نحن
بإزاء إشارة واضحة إلى تجسّد ابن الّله، الذي يدل على بدء تحقيق مواعيد الخلاص.
يظهر ذلك من استعمال عبارة
(genomenou) من فعل (ginomai) بمعنى (أصبح) وبالتالي (وُلد). يُستعمل هذا الفعل في مراجع
أخرى ليدلّ على المسيح الذي يتضامن مع البشر ويشترك بضعفهم وتأثّراتهم ليكون
قادرًا أن يخلّصهم (من الداخل) (رج غل 4: 4؛ يو 1: 14).

ويزيد
النص عبارة
(orisJentoV) من فعل (orixw) بمعنى (حدّد
حدودًا) أو (رسم خطًا يُظهر حدود شيء ما)
(oroV). (إنه جُعل) ابن الله القدير، في سلطة قدرته الكاملة بعد
قيامته من بين الأموات، إذ أصبح روح قداسة. يشير ذلك إلى أنّ المسيح أولاً أصبح
بعد القيامة (روحًا) أي (مروحنًا) في كيانه كله؛ ثانيًا دخل بطبيعته البشريّة في
إطار الالوهيّة ولكنه (أفلت) من الحدود التي قبلها؛ ثالثًا بدأ يؤثّر تأثيرًا
فعّالاً وشاملاً من أجل (تقديس) البشر. يذكّرنا ذلك بقول بولس، إنه أصبح (روحًا
محييًا) (رج 1 كور 15: 45).

>
ترجمت الفولغاتا (اللاتينيّة الشعبيّة) كلمة
(orisJentoV) بعبارة Praedestinatus أي (المؤهّل سابقًا). غير أن الترجمة (جُعل) التي أتبعناها، تعطي
النصّ حقّه. وأيضًا ترد في هذا المعنى في أع 2: 23؛ 10: 42.. يقول الأب بوامار،
تعني عبارة (جُعل ابن الله) أن المسيح جلس (على عرش الملك المسيحانيّ)(14). يظهر
أنّ هذه الفكرة غير مقبولة لأنها تمنح (الابن) معنى مختلفًا في الآية 3 والآية 4
في نصيّن محازيين. كذلك، لأن فكرة المسيح (ملك مسيحاني) واردة من خلال انتمائه إلى
(النسل الداوديّ). تقدّمه عبارة الآية (3) مثل ابن لداود وبالتالي بطريقة غير
مباشرة مثل ملك مسيحاني.

يظهر
طابع يسوع المسيحاني واضحًا من خلال العبارة المستعملة في نصّنا إذا ما قارنّاها
مع يو 7: 42: (ألم يقل الكتاب إنّ المسيح هو من نسل داود وإنه يأتي من بيت لحم،
القرية التي منها خرج داود؟). يتبع الأب ليونيه تفسير الأب بوامار، غير أنه يفترق
عنه في بنية الجملة ويفصل بين
(orisJentoV) و(en dunamei)(15). نوافق رأي الأب ليونيه لأن نصّنا يحتوي على حرف الجر () وليس على () كما جاء في روم 6: 4(16).

1)
tou orisJentoV uiou Qeou 


2)
hgerqh CristoV ek nekrwn dia thV doxhV..

>
نلحظ أيضًا أهميّة القيامة
(anastasiV) ودورها المميّز في هذه الرسالة. بعكس غل التي تشدّد على
موضوع الصليب، تعطي روم مكانة رفيعة لموضوع القيامة وتؤكّد عمومًا على ارتباطها بالعنصر
(الخلاصيّ) أكثر من ارتباطها بالعنصرين (الدفاعي) (أع 17: 31) والتبشيريّ (أع 1:
22). أجل، نجد عنصر القيامة (الخلاصيّ) في روم مرتبطًا:

(+)
بتقديسنا (روم 1: 4؛7: 4)؛ وبتبريرنا (4: 25)؛ وبإحياء أجسادنا (8: 11)؛ وبالخلاص
(5: 10).

(+)
تصبح القيامة موضوع الإيمان الذي يخلص (4: 19-24؛ 10: 9).

(+)
نفهم تأثير القيامة في العماد (6: ،5 9).

بالإضافة
إلى ذلك يعود فعل القيامة إلى الآب (4: 25؛ 8: 11)، ولكنه يرتبط بعض الأحيان
مباشرة بالابن (14: 9). يظهر لنا أن العبارة الأولى بدائيّة وتقليديّة، بينما
الثانية المتعلّقة بالابن هي لاهوتيّة.

>
نحن بصدد عمل المسيح الخلاصي المرتبط عمومًا بقيامته من بين الأموات (روم 4: 25؛ 1
كور 15: 17ي..). نلحظ أن حرف الجرّ
(ek) غائب من العبارة اليونانيّة (ex
anastasewV ek nekrwn
) في نصّنا،
وهذا ما دعا بعض المفسّرين إلى الكلام عن قيامة الأموات العامة في آخر الأزمنة.
غير أن هذه العبارة ترتبط بالعبور من حالة الضعف (الجسد) إلى حالة القدرة
المتعلّقة بالمجد، أي بانتصار يسوع على الموت وتمجيده (رج فل 2: 5-11). تشير هذه
العبارة العامة (قيامة الأموات) إلى أنّ قيامة المسيح، آدم الجديد (رج 1 كور 15:
،22 42؛ روم 5: 14) تتضمّن البشريّة كلها، كما أنها تفتح قيامة جميع البشر وتعطيها
الضمانة الكافية(17). يبدأ المسيح بقيامته من بين الأموات في ممارسة قدرته
الالهيّة في التقديس.

>
يظهر لنا أن العبارة
(pneuma
agiwsunhV
) مأخوذة حرفيًا من
العبارة العبريّة (روح ه ق د ي ش) الواردة في مز 51: 13 وأش 63: 10. كما أنها
تشير، بحسب بنيتها الساميّة، إلى حلول الروح في أورشليم كثمرة لتمجيد المسيح
وعلامة له. يدعونا ذلك إلى القول، تشير عبارة (روح القداسة) إلى القداسة التي
ينقلها ابن الله إلى البشر، أكثر من أنها تصف قداسة ابن الله الشخصيّة. يرى القديس
يوحنا الذهبي الفم فيها إشارة إلى عمل المسيح الذي يمنح الروح القدس ليقدّس
المؤمنين. وهذا ما دفع بعض المفسّرين إلى الكتابة: (تدلّ العبارة) على تلك القوة
الفعّالة المحيية والخلاّقة التي تعمل في شعب الله لترفعه من المستوى الطبيعي إلى
مستوى
kainh ktisiV)(18).

يفتتح
هكذا المسيح ابن الله والكائن قبل الدهور، بقيامته التي تعمل في روحنة كيانه (الذي
أصبح روحًا)، عهدًا جديدًا في تفعيل قدراته الالهيّة خاصة من خلال عمله التقديسيّ (روح
القداسة). تعود هذه القدرات له منذ الأزل (جعل ابن الله في القدرة)، غير أنها كانت
شبه (مغلّفة) ومرتبطة بحالته الضعيفة عندما اتّخذ الطبيعة البشريّة (ولد من نسل
داود بحسب الجسد). يقول أيضًا زرويك: (تعني عبارة
kata
pneuma agiwsunhV
 الطبيعة الالهيّة
التي ينظر إليها بولس من زاوية الخلاص: يمنح المسيح بعمل الروح القدس قدرته
الخلاصيّة والمقدّسة، بفضل تمجيده من خلال الموت والقيامة. رج يو 7: 39)(19).

>
يختتم بولس كلامه بدخوله في عالمنا التاريخيّ ليقول بأنّ ابن الله هذا هو الذي
يُلخّص فيه الانجيل، وهو يسوع المسيح ربّنا. يحبّ الرسول استعمال العبارة (يسوع المسيح
ربّنا)
(Ihsiu Cri6tou tou Kuriou hmwn) التي توجز الإيمان المسيحي.

يشير
اسم (يسوع) إلى طبيعة ابن الله البشريّة وإلى تضامنه مع البشر إذ أتى (ليخلّص)
البشر (رج متى 1: 21). كما يؤكّد بولس في عبارة (المسيح) التي تؤلّف جزءًا من اسم
يسوع على مسيحانيّته. يتضمّن اسم المسيح في فكر بولس ذكرًا لدور المخلّص الملكيّ
والنبويّ والكهنوتيّ؛ هذا هو مفهوم العهد القديم لاسم (م ش ي ح). بينما تدلّ كلمة (الربّ)
على (الاسم الذي يفوق جميع الأسماء) (فل 2: 9) وتشير إلى أن المسيح تمجّد في
طبيعته البشريّة نفسها وجلس عن يمين الآب. إنها تشرح لنا بطريقة تامة قدراته
الالهيّة لصالح البشر.

هكذا
توجز هذه الأسماء حدث المسيح منذ تجسّده وبدء الملكوت المسيحانيّ معه حتى تمجيده
الأخير الذي يوليه حقّ عبادة جميع الخلائق.

 

ب
– الدعوة إلى الرسالة (آ 5-6)

بعد
أن تطرّق بولس بطريقة عابرة إلى الانجيل، وشدّد على طبيعة المسيح محور الانجيل
كله، برّر تدخّله في أمور الرومانيّين، وذكّر بأن المسيح القائم من بين الأموات
منحه نعمة الإيفاد إلى الرسالة. تتمركز هذه الرسالة حول هداية جميع الوثنيّين
لطاعة الإيمان إكرامًا لاسم يسوع. يسعى الرسول بالتالي إلى قيادة هؤلاء إلى إيمان
يتحقّق في الطاعة لله.

نقرأ
في النص اليوناني: (به نلنا النعمة والرسالة من أجل طاعة الإيمان بين جميع
الوثنيّين) (آ 5). لا نتكلّم هنا عن هبتين مختلفتين منفصلتين الواحدة عن الثانية،
بل إن هاتين الكلمتين (النعمة والرسالة)
(cariV
Kai apostolh
) تعبّران معًا عن فكرة
مركّبة من عبارتين تتبع الأولى الثانية وتخصّصها وتؤلّفان معًا ما يُسمّى (
Hendiadys). لا تبقى الأداة حرف عطف فحسب بل تأخذ منحى تفسيريًا لتعطي
المعنى إلى النصّ: (النعمة لمهمة رسوليّة). ارتبطت الدعوة إلى الإيمان عند بولس
بالدعوة إلى المهمة الرسوليّة. أتته (نعمة الرسالة) من عند يسوع المسيح، من (سيّد)
(kurioV)حياته. ونجد
عمومًا في العهد الجديد هذه الصلة بين (النعمة) و(الرسالة) (رج روم 15: 15؛ غل 2:
9؛ فل 1: 7؛ أف 3: 2).

تنطوي
عبارة (طاعة الإيمان)
(upakohn
pistewV
) حسب التركيب الإنشائيّ
اليونانيّ على المعاني التالية: (الطاعة التي تنبع من الإيمان)، (الطاعة للإيمان)،
(الطاعة التي تكمن في الإيمان). تعود هذه العبارة من جديد في روم 16: 26 وقد تكون
موازية لعبارة (سماع الإيمان)
(akohV pi6tewV) الواردة في غل 3: 2، 5. يعرض فيتزماير ترجمة ثانية (الالتزام
الإيماني) (
Commitment)(20).

يدلّ
الإيمان، كما هو معروف، بعض الأحيان، على ذلك الفعل الذي يقوم به الفرد ليصبح
مسيحيًا. ويطبع أحيانًا أخرى تصرف المسيحيّ الذي يتابع عمله الأوليّ في تقديم نفسه
الكامل إلى المسيح. ويصبح تارة مرادفًا لكلمة الانجيل وللمسيحيّة.

إذا
أعطينا للإيمان المعنى الشخصيّ أي أن الإيمان الذي يعبّر عنه ويكمن في الطاعة لله
وللمسيح، وليس فقط المعنى الموضوعيّ أي الطاعة للبشارة، نجد أن كلمة (الإيمان)
عندما ترادف كلمة (البشارة)
(Euaggelion) تحمل عمومًا (أل) التعريف (رج غل 1: 23؛ 3: 23، 25). ونشير
أيضًا إلى أن الانتماء إلى المسيحيّة يكون بعض الأحيان (فعل إيمان) (أع 4: 4؛ 13:
12؛ 14: 23) و(فعل طاعة) (أع 5: 32؛ 6: 7). ونجد في روم 10: 16 موازاة بين (الطاعة)
للبشارة و(الإيمان) بالكرازة.

يرى
بعض البحاثة في العبارتين
(upakohn) و(pistewV) إشارة إلى التصرّف المختلف بين المسيحيّين المتهودين الذين
يرفعون راية (الطاعة) للشريعة، والمسيحيّين الوثنيّين الذين اتّخذوا (الإيمان)
كلمة السرّ في حياتهم. يظهر أن بولس يسعى إلى الجمع بين هذين الموقفين. إنه يطلب
من المسيحيّين (الطاعة) في مفهومها المختلف عن الطاعة للشريعة حسب تعليم الرابّينيين،
أي الطاعة (كفعل إيماني)، الذي هو بالتالي (فعل خضوع الانسان لله في الطاعة له)(21).

تمثّل
عبارة (إكرامًا لاسمه)
(uper tou
onomatoV autou
) موضوع ذلك (الإيمان)،
وتشير إلى الإيمان باسم يسوع، أي بالربّ القائم من بين الأموات والممجّد. نتّخذ
هنا مقولة القديس يوحنا الذهبي الفم (حتى نؤمن باسمه)
(ina
eiV to onoma autou pisteuswmen
). يهدف بولس
خدمة المسيح من خلال تبشيره، وقد أصبح (عبدًا) من أجل مهمة خدمة (سيّده).

ينتمي
أولئك الذين يُرسل بولس إليهم رسالته إلى العالم الوثنيّ، غير أنهم هم أيضًا (مدعوّين)
من قبل يسوع المسيح. إنهم أيضًا ينتمون إلى المسيح وقد أصبحوا خاصة روحه القدوس.
نلحظ أن بولس يحيل الدعوة دائمًا إلى الآب كما ورد في روم 4: 17؛ 8: 30؛ غل 1: 6،
ولكنّ المسيحيّين أصبحوا مدعويّن (من) يسوع المسيح بفعل الدعوة إلى الإيمان،
وبالتالي باتوا خاصة المسيح ربّهم وعبيده. وهذا ما دفع البعض إلى ترجمة أخرى: (دعاكم
(الله) إلى يسوع المسيح).

3
– العنصر الثالث (آ 7أ)

يلمّح
هذا العنصر إلى المرسل إليهم، ويتضمّن المؤمنين الرومانيين الذين اهتدوا من
الوثنيّة إلى المسيحيّة مع عدد ضئيل من المسيحيّين المتهودين. يصفهم الرسول بأنهم
موضوع محبّة الله، وقديسين من خلال دعوتهم إلى الإيمان الذي ضمّهم في شعب الله
وجعل منهم أمة مقدّسة وكهنوتًا ملوكيًا (رج 1 بط 2: 9).

نلحظ
أن بعض المخطوطات لا تحتوي على ذكر مدينة (رومة)
(en
Rwmh)(
22)، ويرجع بعض المفسّرين هذا الغياب إلى مرقيون الذي أراد أن يضفي
على الرسالة طابع الشموليّة لتكون موجّهة إلى جميع المؤمنين في (المسكونة).

نلحظ
أيضًا في عنوان الرسالة غياب لقب (كنيسة) الذي يعود في 1 تس 1: 2؛ 2 تس 1: 2؛ غل
1: ،2 ولكننا بصدد عبارة مماثلة نجدها في فل 1: 1؛ كو 1: 2. يرى بعض البحاثة في
غياب هذا اللقب عدم وجود بنية في تلك الجماعة، لا بل انقسامًا في الجماعة بين يهود
ووثنيّين، ويفكّرون بأن بولس يسعى إلى إعادة تنظيمها(23).

تحدّد
الألقاب الثلاثة (أحبّاء) و(مدعوين) و(قديسين) حالة المسيحية من جوانبها المختلفة،
وتلخص بنوع ما تاريخ الخلاص. كما إننا نجد هذه الألقاب الثلاثة معًا في كو 3: 12 (مختارين)
بدل (مدعوين)، وفي 1 تس 1: 4 نجد لقبيّ (محبوبين) و(مختارين). لنتناول الآن كل لقب
على حدى.

 

أ
– (أحبّاء)
(agaphtoiV)

يُلمّح
بولس بهذا اللقب إلى مصدر الخيرات كلها، تلك الخيرات التي يتمتّع بها جميع القراء.
ستشرح الألقاب اللاحقة معاني الخيرات المختلفة، لا بل إنها تسبق أحد مواضيع
الرسالة الهامة (محبة الله) (الفصول 5-8).

يعتبر
بولس محبة الله مصدر عمل المسيح الفدائي وهدفه (5: 8؛ 8: 31-39)، ومصدر عمل روح
ابن الله التقديسيّ وهدفه (5: 5؛ 8: 1-30)(24).

نقرأ
في الرسائل الأخرى العبارات التالية (محبة الله) و(محبة المسيح) (روم 5: 5، 8؛ 8:
35-39؛ 2 كور 5: 14؛ 13: 13؛ أف 3: 19). ونجد كذلك عبارة (محبة) في استعمالها
المطلق (رج غل 5: 6، 13، 22؛ روم 12: 9؛ 13: 10؛ كو 3: 14). إنه من البديهيّ أن
العبارة الأولى تدلّ على المحبّة التي تصدر عن الله أو المسيح، ولكنها تصل من خلال
عطيّة الروح القدس إلى قلب الانسان. بينما تشير المحبّة المطلقة والملتصقة
بالإيمان (غل 5: 6) إلى محبّة القريب(25).

 

ب
– (قديسين)
(agioiV)

تطرّقنا
سابقًا إلى هذه العبارة في كلامنا عن دعوة بولس ليكون (رسولاً). لا تدلّ العبارة
في استعمالها البيبليّ إلى حالة الطهارة أو الكمال في مفهومها الأخلاقيّ، ولا
تتعلّق مباشرة بطريقة (عمل) شيء ما ولكن (بكيان) هذا الشيء. تشير كلمة (قديس) في
جذورها إلى الفصل بين ما هو مدنّس وبين ما يختصّ بالله من ناحية العبادة.

تتّخذ
عبارة (قُ د ش) في العهد القديم معنى قانونيًا وطقسيًا. هذا ما يفرضه فهم نص سفر
الخروج في قوله: (وأنتم تكونون لي مملكة من الكهنة وأمة مقدّسة) (19: 6). يصبح شعب
اسرائيل أمة مقدّسة لأن الله فصله عن سائر الشعوب، ولأنه أصبح خاصة الله بقصد
العبادة التوحيديّة. يطبّق العهد القديم هذا المفهوم على جميع المنتمين إلى الشعب
المختار (مز 79: 2: (أصفيائك) أو بالأحرى (الذين ينتمون إليك) أو (خاصتك)؛ رج 1 مك
7: 7)(26).

أما
في العهد الجديد، وفي استعمال أول، دلّت عبارة
(agioV) على مؤمني الكنيسة – الأم، كنيسة أورشليم وفلسطين (روم 15:
25، 31؛ أع 9: 13، 32). ثم امتدّت التسمية بدون تفرقة إلى جميع المسيحيّين لأنهم
يشتركون في الخيرات نفسها (أف 3: 6) في يسوع المسيح (روم 16: 2؛ 1 كور 1: 2؛ 2 كور
1: 1؛ كو 3: 12). وتذكّر العبارة أيضًا بفكرة الفصل والانتماء إلى الله نتيجة
لدعوة واختيار، ولكنها بالوقت ذاته تحتوي مفهومًا ومضمونًا أكثر فعاليّة. إنها
المشاركة في القداسة الالهيّة، وفي طهارة كيانه وكماله، هذا الكيان الذي يظهر في
العمل. تصبح القداسة إذًا مرتبطة في قلوب المؤمنين بوجود الروح القدس الفعّال الذي
يجعلهم (أبناء) (روم 8: 14) ويفيض فيهم (محبة الله) (روم 5: 5). يبدو هذا المظهر
الإيجابيّ للقداسة في 1 تس 5: 23: (قدّسكم إله السلام نفسه تقديسًا تامًا وحفظكم
سالمين روحًا ونفسًا وجسدًا..). يجعل فعل الله المقدّس المؤمنين كاملين على صورته.

بالإضافة
إلى ذلك، تتطلّب حالة (القداسة)
(agiwsunh أي هبة الله الداعية إلى الإيمان، (التقديس) (agiasmoV) وهي إرادة
الله (رج 1 تس 4: 3) وثمرة عمل الله الظاهرة في المؤمنين (رج 1 تس 5: 23). تقتضي
هذه القداسة من المؤمنين أن يعيشوا في طريقة مختلفة عن حالة سائر الناس (رج 1 تس
4: 6ي) وعن الأزمنة الماضية (روم 6: 15-23)، ولكنها مطابقة لله وللمسيح (أف 5:
1ي). يطلب بولس من الرومانيين أن يجهدوا في خدمة البرّ ليعملوا في تقديسهم (6: 19؛
رج أيضًا 1 بط 1: 5)(27).

 

ج
– (مدعوين)
(klhtoiV)

يعبّر
هذا اللقب عن فكرة تقول إن الله هو الذي اتّخذ المبادرة في الخلاص، وهو الذي أراد
تحقيق هذا المخطّط الخلاصي في أن يدعو الانسان إلى الإيمان ليبرّره ويمجّده (روم
8: 30).

تتماشى
مع هذا اللقب عبارة (مختار)
(eklektoV) التي تحمل معنى مماثلاً (للمدعو) (1 كور 1: 24ي؛ كول 3: 12؛
2 بط 1: 10؛ رؤ 17: 14؛ روم 8: 33). غير أنها تتضمّن بوضوح مفهوم الاختيار
والتفضيل والاصطفاء. نلحظ أن عبارة كنيسة
EKKLHSIA تجمع بين فكرة
الانتقاء وفكرة الدعوة.

 

4
– العنصر الرابع (آ 7ب)

يتألّف
هذا الجزء الثاني من الآية 7 من ثلاثة أقسام، وكل قسم من أربع كلمات


CariV umin kai eirhnh    

– apo Qeou patroV hmwn

– kai Kuriou Ihsou Cristou.

 

كما
أنه ينطوي على التمنّيات الرسوليّة بالنعمة والسلام. ويذكرنا ضمّ عبارتيّ (النعمة
والسلام) (في القسم الأول) ببعض عناصر البركة الكهنوتيّة التي كان يسألها بنو
هارون من الله ليفيضها على الشعب: (يباركك الربّ ويحفظك، ويضيء الربّ بوجهه عليك
ويرحمك، ويرفع الربّ وجهه نحوك ويمنحك السلام! فيجعلون إسمي على بني اسرائيل، وأنا
أباركهم) (عد 6: 24-26).

يدلّ
اسم
(QEOS) عمومًا على
الآب ويصبح في روم 15: 6: (الله أبا ربّنا يسوع المسيح). ويشرح بولس في روم 8: 15 (أبا،
يا أبت) معنى هذه الأبوّة في علاقتها مع المسيحيّ (رج 1 كور 1: 3؛ 2 كور 1: 2؛ فل
1: 2)(28).

تشكّل
(النعمة) في هذا الإطار مجموعة البركات المسيحانيّة الملخّصة في هبة الروح القدس
(غل 3: 14) والمعبّر عنها من خلال الرضى الالهيّ. ويشير (السلام) إلى الخلاص
المسيحانيّ المرتبط بتحقيق سلامة الانسان الكاملة التي تتجلّى في إعادة التناغم في
العلاقات بين الله والبشر (روم 5: 1)، والاتفاق التام بين البشر أجمعين (أف 2:
14-17؛ روم 12: 18). هذا السلام هو الركيزة الأولى للسلام الذي يرفض جميع مظاهر
العداء والحرب والشقاق (غل 5: 19-22)(29).

يجاور
بولس الآب مصدر هذه البركة إلى جانب المسيح السيّد القائم من بين الأموات (رج لقب
(KurioV) المعطى
للمسيح). هكذا يصبح الآب والابن بالتساوي مصدر البركات لمسيحيي رومة.

 

خاتمة

لا
نستطيع إلاّ أن نقف منذهلين أمام هذا الغنى الفكريّ اللاهوتيّ في مطلع هذه
الرسالة، وهذا الأفق الروحيّ الواسع الذي فتحه أمامنا الرسول بولس. يسيطر مخطّط
الله على الزمن، لأن الله في المسيح ومن خلال بشارته
(Euaggelion) يتابع خلاص العالم. هكذا يؤلّف المسيح (الربّ) محور التاريخ
البشريّ لأنه (أعطي كل سلطان في السماء والأرض) (متى 28: 18)، ولأنه يهب قوّته
المقدّسة إلى جميع المسيحيّين الذين يدعوهم إلى الرسالة. تقوم هذه الدعوة، في
جوهرها، على الانتماء في الطاعة الأبويّة إلى يسوع المسيح (آ 6)، وعلى أن يكون
المسيحيّون (أحباء) الله في المسيح. أجل، تشكّل هذه الآيات القليلة في مقدّمة
الرسالة إلى أهل رومة ملخّصًا غنيًا في العقيدة الكرستولوجيّة، استطاع بولس أن
يعبّر عنها بعد موت المسيح وقيامته بزمن يسير.

 

مراجع:


بولس الفغالي، (الانجيل قدرة الله – الرسالة إلى الرومانيين)، محطات كتابيّة،1
الرابطة الكتابيّة 1995.


(رسالة بولس إلى الرومانيين)، في مجلة (بيبليا) عدد 6 و،7 2000.

DUPLACY, J., اLe Fils de Dieu né de
la race de David, in AssS n. série 8 (1972) 12-16
.

IDEM,
ا
Paul Apotre du Fils de Dieu auprès des
Nations (Rom 1, 1-6), in AssS 8 (1962) 20-36

CIPRIANI, S., Epistola Ai Romani, in Introduzione alla
bibbia, V/1,
Torino 1966, pp. 432-438.

FEUILLET, A., Romains (Epitre aux), in DBS X, 1985,
col. 739-863
.

CAMBIER, J. M., Lépitre aux Romains, in introduction à
la bible, éd. nouv., le Nouveau Testament, Desclée, 1977, pp. 123-151
.

LYONNET, S., Le message de lépitre aux Romains, Paris 1971.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى