اللاهوت الدفاعي

الفصل الخامس والعشرون



الفصل الخامس والعشرون

الفصل
الخامس والعشرون

بالمعموديّة
نموت مع المسيح لنحيا معه
روم 6: 1-14

الأطروحة:

1
إذًا فماذا نقول؟ أنستمرّ في الخطيئة، لكي تكثر النعمة؟

مقالات ذات صلة

2
معاذ الّله! نحن الذين متنا بالنظر إلى الخطيئة، كيف نعود نحيا فيها؟

 

الدفاع:

3
أوتجهلون أنّا نحن الذين عُمدنا في المسيح يسوع، في موته عمدنا؟

4
إذًا دفنا معه في الموت، بالمعموديّة، حتى كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد
الآب، كذلك نسلك نحن في جدة الحياة.

أ
– 5 فإذا صرنا وإياه واحدًا على شبه موته، نكون أيضًا على شبه قيامته

ب
– 6 وإنّا لعارفون أن انساننا العتيق صُلب معه، لكي يُبطل جسد الخطيئة، فلا نعود
نخدم الخطيئة.

ج
– 7 لأن من مات بُرّر من الخطيئة.

أ
– 8 فإذا متنا مع المسيح نؤمن أنّا سنحيا أيضًا معه.

ب
– 9 وإنّا لعالمون أن المسيح، وقد أقيم من بين الأموات، لن يموت من بعد، لن يتسلّط
عليه الموت من بعد

ج
– 10 لأن من مات مات بالنظر إلى الخطيئة مرة واحدة، أما الذي يحيا فبالنظر إلى
الله يحيا.

11
كذلك أنتم أيضًا أحسبوا أنفسكم أمواتًا بالنظر إلى الخطيئة، أحياء بالنظر إلى
الّله في المسيح يسوع.

التطبيق:

12
إذًا فلا تملكنّ الخطيئة بعد في جسدكم المائت، لكي تطيعوا شهواته.

13
ولا تجعلنّ أعضاءكم بعد سلاح ظلم للخطيئة، بل اجعلوا أنفسكم لله، كأنكم حييتم من
بين الأموات، وأعضاءكم سلاح برّ لله.

الخاتمة:

14
فلا تتسلّط عليكم الخطيئة، لأنكم لستم في قيد الشريعة بل في قيد النعمة.

 

مقدمة

يقسم
القديس بولس رسالته إلى أهل روما إلى قسمين واضحين: قسم لاهوتي تعليمي (1-11)؛
وقسم أدبي عملي (12-16). في القسم الأول يتّبع الرسول أسلوبًا في الشرح خاصًا، على
طريقة الأنبياء الأقدمين، فيعلن الموضوع، أن الإنجيل هو قوّة خلاص لكلّ مؤمن (1:
16-17) ثمّ يوسّعه في أربع مراحل متتالية، شارحًا في كلّ مرحلة، في لوحين سلبيّ وإيجابيّ،
الشقاء بدون الانجيل، في لوح، والخلاص بالانجيل، في لوح ثان.

فنصّ
رومانيّين 6: 1-14 الذي نحن بصدده يقع في المرحلة الثانية للموضوع (5: 12-6: 23)
حيث يجري الكلام في اللوح السلبيّ عن شقاء الانسان المتضامن وآدم الخاطئ (5:
12-21)، وفي اللوح الإيجابيّ عن خلاص الانسان المتضامن ويسوع، آدم الثاني البار
(6: 1-23). هذا اللوح الأخير يتضمّن موضوعين، الأول عن المعموديّة وهو الموضوع
الذي نعالج (6: 1-14)، والثاني عن التحرّر من الخطيئة (6: 15-23).

 

1
– إطار النص

يؤلّف
نص رومانيّين (6: 1-14) وحدة أدبيّة متماسكة، ومرتبطة ربطًا وثيقًا بالنصّ السابق
له وبالنصّ التابع له. فيبدأ بسؤال (6: 1): (إذًا فماذا نقول؟ أنستمرّ في الخطيئة،
لكي تكثر النعمة؟ وهذا السؤال مرتبط مباشرة بالآيتين السابقتين (5: 20-21): (أما
الشريعة فقد اندسّت لكي تكثر الزلّة، وحيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة..). ثم بعد
إعطاء الجواب على السؤال (6: 1)، في 6: 2-،14 يعود الرسول فيطرح السؤال نفسه من
جديد في 6: 15: (إذًا، ماذا؟ أنخطأ لأنّا لسنا في قيد الشريعة، بل في قيد النعمة؟)

يحذّر
بولس قرّاءه من تفسير خاطئ للحريّة المسيحيّة، يؤدّي إلى العيش من جديد (حسب
الجسد). فالتساؤل في 6: 1 ليس فرضيّة نظريّة، لأنّ بولس يؤكّد في 3: 8 أن بعضهم قد
اتّهمه بأنه ينادي بما سينقضه هنا: (أفلا نفعل السيّئات لتأتي الصالحات، كما يفتري
علينا قوم، ويزعمون أننا نقول ذلك؟ إنّ القضاء عليهم لعدل!). من هم هؤلاء القوم،
أيهود هم، أم يهود مسيحيّون، أم الاثنان معًا؟ لا ندري. ولكن استعمال صيغة المخاطب
الجمع في رومانيين 6: 1-7: 6 قد يدلّ على أن المعضلة المطروحة تهمّ مباشرة كنيسة
روما.

وبولس
يسعى ليصحّح بين الرومانيّين صورته وما يفتري عليه هؤلاء القوم وعلى بشارته. يدحض
بولس هذا الافتراء على مرحلتين: المرحلة الأولى 6: 2-14 حيث يعطي جوابًا سلبيًا
للسؤال المطروح في الآية الأولى، ويختمها بهذا الاعلان في الآية 14ب: (لأنكم لستم
في قيد الشريعة بل في قيد النعمة).

هذه
الخاتمة (14ب) لما سبق هي أيضًا عرضة لاستنتاجات مرفوضة، منها يحذّر بولس قرّاءه:
لا شريعة بعد اليوم، مما يعني حريّة التصرّف حسب الأهواء والميول. لذلك يكمّل بولس
في تحذير جديد في الآية 15، بتكرار التساؤل الذي قدّمه في الآية الأولى مستعملاً
تعابير الآية 14ب: (إذًا، ماذا؟ أنخطأ لأننا لسنا في قيد الشريعة، بل في قيد
النعمة؟). معاذ الّله! يجاوب بولس، لأنه بعملكم هذا تخسرون الحريّة التي أعطاكم
المسيح لتعودوا عبيدًا للخطيئة.

 

2
– بنية النص الأدبيّة

يقسم
نص رومانيين 6: 1-14 إلى ثلاثة أقسام أساسيّة:

الأولى
6: 1-2 وهو الأطروحة، ويتألف من تساؤل وجواب.

الثاني
6: 3-10 وهو دفاع عن هذه الأطروحة، ويستند إلى حجة قويّة حيث يدور الكلام على
المعموديّة مع التركيز على موضوع الموت والحياة مع المسيح.

الثالث
6: 11-14 وهو تطبيق الأطروحة على حياة المسيحيّين، مع التنويه على أن الآية 11 هي
آية انتقاليّة، والآية 14 تشكّل الخاتمة.

معطيات
كثيرة تثبّت هذا التقسيم وذلك بالاستناد إلى دلائل تتعلّق بالمبنى والمعنى. فالقسم
الأوسط (6: 3-10) بدوره يقسم إلى ثلاث مراحل:

تبدأ
المرحلة الأولى بطابع خطابي يعتمده بولس غالبًا، ولا نجده في سائر كتب العهد
الجديد. ويتميّز باستعمال تعبيرين متشابهين:

(لا
أريد/نريد أن تجهلوا أيها الاخوة..) (1 تس 4: 13؛ 1 كور 10: 1؛ 12: 1؛ 2 كور 1: 8؛
روم 1: 13). (أوتجهلون..؟) (روم 6: 8؛ 7: 1).

بعدها
يذكر العماد 3 مرات: الفعل عمّدنا مرتين (آية 3) والاسم معموديّة مرة واحدة (آية
4).

ثمّ
تتوازى المرحلة الثانية والثالثة على الشكل التالي:

1)
أ – فإذا صرنا (5)

في
وحدة عضويّة مع المسيح بالموت تتبع الوحدة مع المسيح في القيامة.

ب
– وإنّا لعارفون (6)

توسيع
حول الانسان العتيق المصلوب مع المسيح لكي يبطل جسد الخطيئة.

ج
– لأن من مات (7)

بديهيّة
مقرّرة عامة يقدّمها بولس كبرهان على ما تقدّم.

2)
أ – فإذا متنا (8)

الرجاء
في الحياة مع المسيح التي بدأت ولكنها تكتمل في القيامة وتتجذّر معه في الموت.

ب
– وإنّا لعالمون (9)

توسيع
في المسيح القائم الذي لن يتسلّط عليه الموت أبدًا.

ج
– لأن من مات (10)

برهان
تطبيقي على حالة المسيح في المسلّمة الآية 7: موته حقّق (مرّة واحدة) التحرير من
الخطيئة، حياته هي دخول نهائي في حياة الّله.

فالآية
5: (فإذا
؟
صرنا وإيّاه واحدًا (غرسة واحدة
sumjutoi
gegonamen
) على شبه موته)

توازي
الآية 8: (فإذا
؟
متنا مع المسيح)

وتعبّر
الآيتان الشرطيتان 5 و8 على مشاركة المؤمن في موت المسيح، وتحدّدان بداية المرحلة
الثانية والثالثة. كما أنّ نهاية المرحلتين تردّد تقريبًا ذات العبارة: (لأن من
مات) (7 و10)

زد
إلى ذلك أنها تحتوي في محورها على أفعال المعرفة: (وإنّا لعارفون أن
touto ginoskwnteV oti
(6
) وأيضًا (إنّا لعالمون أن
eidoteV oti (9)

الآية
11 سبق وقلنا إنها تشكّل جملة انتقاليّة بين الجزء العقائديّ والتطبيق العمليّ في
حياة المسيحيّين. هذه الآية تكرّر عناصر الأطروحة في الآية 2. ولكن ليس على شكل
تساؤل، بل في صيغة الأمر الجمع: (احسبوا). يهدف فعل الأمر هذا إلى تحقيق الأمور
المتطابقة (كذلك أنتم أيضًا)، وبذلك يمهّد إلى التوجيهات اللاحقة.

تبدأ
التوجيهات ب (إذًا
oun؟) التي تدلّ على أن بولس سيقدّم الاستنتاجات عمّا قيل. توسّع
الآيات 12 و13 هذه الاستنتاجات بوصايا مبنيّة على ثلاثة أفعال في صيغة الأمر يبدأ
كل منها وصيّة: وصيّتان في صيغة الأمر النفي، وواحدة في صيغة الأمر التأكيد في
تواز مفارق مع (بل أو لكن):

(فلا
تملكنّ
mh basileuetw..، ولا تجعلنّ mhde
paristanete
..، بل اجعلوا parasthsate..

تدلّ
الآية 14 في الوقت نفسه على علاقتها بما سبق وعلى وضعها المميّز في استعمال الفعل
في صيغة المستقبل (فلا تتسلّط)،
ou kurieusei) حيث تحتفظ الآية بشيء من الأمر وتنفتح على وعد. ولكن هذه
الآية تدلّ بوضوح على أنها تشكّل خاتمة القسم الأول من التوسيع، بتكرار عناصر
أساسيّة من الآية الأولى وبذات الترتيب:

(1)
أنستمرّ في الخطيئة، (14) فلا تتسلّط عليكم الخطيئة،

لأنكم
لستم في قيد الشريعة

لكي
تكثر النعمة؟ بل في قيد النعمة

 

إلى
جانب الهيكليّة التي عرضنا هناك دلائل على صعيد المعاني والكلمات تبيّن أن
رومانيّين 6: 1-14 هي وحدة أدبيّة مستقلّة. منها المتناقضات بين خطيئة ونعمة (1
و14)، بين موت/مات وحياة/حيي أو قيامة (2 و4 و5)، بين عتق وجدّة (6 و4).

زد
إلى ذلك الرابط بين العلة والمعلول إنطلاقًا من حدث الخلاص، موت وقيامة المسيح،
وقد عبّر عنه بمجموعة من الجمل الشرطيّة والجمل الغائية، تبدأ إذًا (5 و8) ولكي (4
و6).

ثمّ
ترداد الكلمات المركّبة مع حرف العطف (مع): دفنا معه (4)، غرسة معه (5)، صلب معه
(6) سنحيا معه (8). وهي تجمع الكل تحت مفهوم إشتراك المؤمن في عمل الفداء.

وأخيرًا
الترابط الداخلي للموضوع حيث تتوسع المقالة في شرح مفهوم الموت والحياة (مات
وحيي). وتدور في فلك كل مفهوم عبارات خاصة: فمن جهة صُلب (6) ودُفن (4)، ومن أخرى
أقيم (قيامة) (4 و5 و9 و13). الأولى لها معنى سلبيّ والثاني إيجابيّ. موت ومات هي
تعابير سلبيّة بالنسبة إلى حيي وقام من وضع مائت (4 و9 و13)، ومن تسلّط الموت (9)،
ومن الحيازة على جسد مائت (12). هذه الكلمات ذاتها لها مدلولات إيجابيّة عندما
تعبّر عن التحرّر من الخطيئة (2 و7 و10 و11)، والاتحاد بموت المسيح، بعمله الخلاصي
(3 و4 و5 و8 و10).

كذلك
الفعل (حيي) له مدلول سلبي عندما يُطبّق على وضع الانسان الخاطئ (2)، بينما ذات
الفعل مدلوله إيجابيّ عندما يتعلّق الأمر بالمسيح الممجّد (10)، وبالذين يقبلون
الخلاص الذي يعطيه (4 و8 و11 و13).

يطال
المفهومان المتناقضان، في الوقت ذاته، المسيح والمسيحيّين في عمليّة حيث موت وحياة
الأول غايتها موت وحياة الآخرين. هناك ارتباط عضويّ جماعيّ في هذا التعليم المضاد.

بولس
الذي يعلّم وينشر هذا التعليم هو حاضر في النص، فرد من أفراد هذه الجماعة. لأنه
يتكلّم عنها بصيغة المتكلّم الجمع. بولس لا ينظر إلى الجماعة كمراقب ومنظّر ولكن
كعضو في هذه الجماعة التزم في هذا المشروع الذي يصف وهو يتحمّل كل المتطلّبات (2).

يطرأ
تغيّر منذ الآية (11) إذ تبدأ بالتعبير التالي: (كذلك أنتم) وتشير إلى (كذلك نحن)
(آية 4) فتقدّم الاستنتاجات المتعلّقة بحياة القراء المسيحيّين. في هذه الاستنتاجات
يظهر قصد بولس الأساسي التحريضيّ. العماد الذي يبدأ هذا التوسيع لا يظهر بالفعل
إلاّ قليلاً: لأنه منذ الآية،4 لم يعد له ذكر. والموضوع يكمّل دون الحاجة إلى
الرجوع إليه. وهذه دلالة على أن موضوع العماد ليس بالموضوع الجوهريّ في هذا
التأليف.

 

2
– المعموديّة (3-4)

لا
حاجة إلى ذكر أصل المعموديّة في العهد الجديد والنصوص التي تتناولها معتبرين هذا
الأمر معروفًا. لا يتعلّق موضوعنا بعماد يوحنا بل بالعماد المعطى باسم الربّ يسوع
(رسل 2: 38)، وهو يفترض عند المعمِّد والمعمَّد الإيمان بالمسيح القائم من الموت.
وهذا ما تعبّر عنه رمزيًا الحركتان المتلاحقتان اللتان تشكلان رتبة الغطس: النزول
إلى الماء أي الموت، والصعود من الماء أي القيامة. حتى نستطيع أن نفهم التشابه
القائم بين رتبة العماد الرمزيّة وسرّ المسيح المائت القائم، فلا بدّ أن نذكّر
بإعلان الإيمان التقليديّ الذي تسلّمه بولس وسلّمه بدوره إلى الكورنثيين: (المسيح
مات..، وقبر..، وأقيم..) (1 كور 15: 3-4). هذه الأحداث الثلاثة يحدثها العماد
فينا، بفضل الاتحاد الوثيق بالمسيح يسوع. (عُمّدنا) في موته (3)، (دُفنّا معه في
الموت) (4)

ولكن
التوازي ينتهي هنا، لأن المرحلة الثالثة لم تتمّ بعد. لم نكن بعد أقمنا من الموت
مثله، فقط في الوقت المناسب نتّحد به إتّحادًا وثيقًا على شبه قيامته (5). في
الحاضر، النتيجة المحدثة هي أن نسلك في جدة الحياة (4ب). أما أفعال القيامة
ومشتقّاتها فلا تعود تظهر في هذا الفصل، ولكن موضوع الحياة يتردّد ثلاث مرات مع
الفعل (8 و10، 10)، ومرّتين مع الاسم (،11 13)، ويؤلّف ثنائيًا مع الموت أربع مرات
(3 و4 و5 و9).

 

أ
– الموت مع المسيح

إن
موضوع إشتراك المؤمن في موت المسيح على الجلجلة لا يرتبط بالعماد في رسائل بولس
إلاّ إستثنائيًا، كما هي الحال في نص روما 6: 3-4أ الذي نعالج، وفي قول 2: 12.
فعبارة (مات مع المسيح) تعود بجوهرها إلى عبقريّة بولس اللاهوتيّة، فيحمّلها معاني
متعدّدة متنوّعة. لذا يجب أن ندرس كل مقطع في ذاته وفي إطاره.

ففي
الرسالة إلى أهل غلاطية ذاتها تتعدّد المعاني. عندما يكتب بولس أنه (صلب مع
المسيح) (غل 2: 19)، فالفعل هو في صيغة الماضي، والموضوع يتعلّق بالمسيح الذي
بصلبه، ألغى شريعة موسى كونها وسيلة خلاص. هذا الاعلان لا يستدعي أي ألم وتحوّل
عند بولس. ولكنه يتعلّق بعمليّة الّله الموضعيّة في الماضي، عمليّة قطف ثمارها
بولس وكل الذين يؤمنون بالمسيح. فمن الآن الخلاص يكون به وفيه، (بالإيمان بابن
الّله) (غل 2: 20)، وليس بتبرير الذات في طاعة الشريعة. في هذا النص لا يوجد أي
تلميح إلى العماد.

وفي
غل 5: 24 حيث يقول بولس (إن الذين هم للمسيح يسوع، قد صلبوا الجسد وأهواءه
وشهواته)، فإنه يتكلّم عن النتائج الخلقيّة لحدث الجلجلة. فالذين تخلّوا عن كل شيء
ليكونوا للمسيح هم الذين (صلبوا الجسد وميوله وشهواته). فالفعل (صلبوا) هو في صيغة
الماضي المبهم ويدلّ على عمل تام. الفاعل هو المسيحيّون والأمر يتعلّق بعمل سبق
وقاموا به. على خلاف النص الذي رأينا في غل 2: 19 حيث الفعل في صيغة المجهول يدلّ
على عمل المسيح. ولكنه هنا أيضًا لا يذكر شيئًا عن موضوع العماد كما في غل 2: 19.
نرى في هذه الأقوال المنهجيّة الأساسيّة التي يتبعها جواب الإيمان على البشارة
الإنجيليّة: هذا هو الصلب الفاعل أبدًا المتعلّق بالصلب السلبيّ الذي عاناه المسيح
على الجلجلة، وهو يستمرّ في رفض إرضاء متطلّبات إنسانيّة قد جرى التخلّي عنها.

وفي
نهاية رسالته إلى أهل غلاطية فلا يفتخر بولس إلا بصليب المسيح، على حساب إكتفاء
دينيّ لا نتيجة فيه: (أما أنا فمعاذ الّله أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح،
الذي به صُلب العالم لي، وأنا صُلبت للعالم) (غل 6: 14). فالصليب أي موت يسوع على
الصليب (راجع 6: 12) هو العمل الذي بطريقة ما صلب العالم بالنسبة لبولس ولكل
الذين، مثله، وضعوا إيمانهم بالمسيح. هذا الصلب يؤدّي إلى صلب آخر مشابه، إلاّ وهو
صلب المؤمن وقد مات عن العالم، وبكلام آخر لا يطاله العالم كونه دخل في الخلق
الجديد (غل 6: 15). إن مفهوم الموت مع المسيح أو الصلب معه، المتنوّع والمتعدّد
واضح في رسالة غلاطية. ولكن تبقى الفكرة الرئيسيّة والمشتركة هي أن الاشتراك في
أحداث موت يسوع هي وسيلة الخلاص.

الملفت
أنه لا ذكر للقيامة في أي من هذه النصوص، وأكثر من ذلك فالرسالة إلى أهل غلاطية لا
تذكر القيامة إلا مرّة واحدة في العنوان (1: 1)، والاهتمام يتمحور على الصليب
وعثار الصليب (غل 5: 11).

أما
في الرسائل الأخرى فالقيامة تأتي أوّلاً، يتكلّم بولس في فيلبي عن التغيّر الرائع
الذي جعله ينتقل من طاعة الشريعة إلى معرفة يسوع المسيح: (لكي يعرفه ويعرف قوّة
قيامته والاشتراك في آلامه، مشابهًا إياه في موته) (فل 3: 8 و10). وبما أن الأمر
يتعلّق بالمعرفة نفهم أن القيامة تتقدّم على الموت لأننا عرفناها أوّلاً في دخولنا
في الإيمان في يسوع. الباقي جرّ بولس إلى لائحة من الاختبارات جعلته يكتشف ما
يتضمّنه واقعيًا موت المخلّص.

يجب
ألا تقتصر الفكرة على تطابق أدبيّ بين بولس الذي اضطُهد وسُجن، والمسيح في آلامه.
هل قام بولس برسالته دون مصاعب وآلام وجلجلة؟ لقد استطاع أن يتكلّم عن المشاركة في
موت المسيح التي حدثت منذ اهتدائه إلى الإيمان به. بولس عنده هنا حجة إضافيّة حتى
يذكر هذا الأساس الجوهريّ لكل حياة مسيحيّة: فالذي ينجذب انجذابًا جسديًا وأدبيًا
لخدمة الانجيل يتّضح له أن اتحاد المسيحيّ الموضوعيّ بموت يسوع على الجلجلة،
بالتحديد الذي يحدثه، يشدّه إلى مغامرة شخصيّة حيث الإماتة، التي تصبح ممكنة،
تصحبها آلام محتّمة (فل 1: 15-17).

هذه
الآلام في حالة الرسول كما يخبرنا في 2 كور 4: 10-11 تصبح إعلانًا عن سرّ الموت
والحياة. وهذا السرّ تحقّق مرّة وإلى الأبد في المسيح. حاليًا يتجلّى هذا السر في
الذين (لأجل يسوع)، يعيشون بطريقة مفارقة (راجع 2 كور 6: 9) مصنوعة من الألم
والحياة المنيعة، تحت دفع الإيمان والحبّ للذي هو المنبع.

إنّ
موت وحياة الانسان هما بعلاقة مع موت وقيامة المسيح. هذا ما يعلنه أيضًا بولس في
رسالته 2 كور 5: 14-15: (فإن محبّة المسيح لتأسرنا، وقد أدركنا أن واحدًا مات عن
الجميع. فالجميع إذًا ماتوا. مات عن الجميع لكي لا يحيا الأحياء بعد لأنفسهم، بل
للذي مات عنهم وأقيم). القول بأن المسيح مات (وقام) عن الجميع، يدلّ على أن موت
المسيح يندمج مع ذبيحة التكفير عن الخطأة. وهذا يدعو وكنتيجة حتميّة ليس الجملة
(فالجميع إذًا ماتوا) بل (إذًا خطايا الجميع غفرت). بموته عن الجميع يأخذ كل الناس
إلى الموت إلى موته هو.

 

ب
– نموت مع المسيح في العماد لنحيا ثم نقوم معه

لا
يوجد، في النصوص التي استعرضنا، أي ذكر واضح للعماد والمعاني مفهومة بشكل كاف
وبدون هذه الزيادة. ولكن روم 6: 1-14 هي واضحة: (نحن الذين عمّدنا في المسيح يسوع،
في موته عمدنا). ويستنتج بولس: (إذًا فقد دفنّا معه في الموت، بالمعموديّة..)
(3ب-4). بداية هذا القول نجده تقريبًا حرفيًا في غل 3: 27، وفي ذات التعبير (عمدنا
في المسيح). هذا التعبير هو خاص في بولس ولا يستعمله إلاّ في هذين النصّين، ولكن
بأي معنى نفهم (العماد في المسيح)؟

حتى
نفهم العبارة يجب أن نحدّد معنى (عمّد). يستعمل بولس في 1 كور 10: 1-2، رمزيّة سفر
الخروج ويفسّرها بلغّة مسيحيّة إذ يقول (والجميع عُمّدوا في موسى) وهو يلمّح إلى
العبارة الواردة في غل 3: 27. فالعماد في موسى لا يمكن فهمه إلاّ بمعنى الانتماء
إلى موسى كونه القائد الذي اختاره لشعبه. نحن أمام عبارة تدلّ على العلاقة مثل
العبارة المستعملة للإيمان: (آمن ب) والتي تدلّ على الاتحاد بالمسيح.

يبدو،
حسب العلماء، أن عبارة (العماد في المسيح) هي اختصار وتفرّع لعبارة أقدم معروفة
أيضًا في بولس (راجع 1 كور 1: 13ب-15): (عمّد) أو (تعمّد باسم يسوع). وهي تفترض
اتّحادًا شخصيًا بين المعمّد والمسيح. ولكن بولس يقدّم هنا تفصيلاً متوازيًا لا
نجده في غل 3: 27 ألا وهو:

أ
– نحن الذين عُمّدنا أ – عُمدنا

ب
– في المسيح يسوع ب – في موته.

التوازي
يؤكّد من جهة أن العماد (في موت المسيح (هو عماد الماء، وهو رتبة الدخول في
المسيحيّة؛ ومن جهة ثانية، العماد في موت المسيح يصيّرنا واحدًا مع شخص المسيح من
خلال الرابط الذي أحدثه العماد، ليس مع موته كحدث موضوعيّ، ولكن مع المسيح كونه
عانى الموت.

هكذا
فالفعل عمد في هذه الآية، يحتفظ بمعناه ولا يأخذ في الاستعمال الثاني معنى يختلف
عن الاستعمال الأول. هذا ما أدّى في الآية اللاحقة (6: 4) إلى تغيير صغير: (إذًا
فقد دفنا معه في الموت بالمعموديّة). مما أوحى رتبة العماد وصار المعنى العام:
(عُمدنا (غصنا) في موت المسيح، كوننا في حفلة العماد قمنا برتبة دفن رمزيّة). ولكن
في الواقع الربط يختلف، والجملة في الآية الرابعة تقدّم الاستنتاج الأخير لما قيل
ولما هو جليّ: مشاركة حقيقيّة في موت المسيح، إذا كاملة وتامة، بما في ذلك، الدفن.
بذلك يعبّر بولس بطريقة نهائيّة وجازمة عن حقيقة موتنا مع المسيح، لأن الدفن هو الختم
الموضوع على حدث الموت. عندما يترك الأهل والأصدقاء جثة انسان في القبر ويعودون
بدونه إلى البيت، فالنتيجة حتميّة: من الآن لن يشاركهم في حياتهم. إذًا لا يوجد أي
تغيير في النظرة بين الآية 3 والآية 4. ولكن كيف نفهم هذه المشاركة في موت المسيح
في العماد؟

القسم
الأول من الآية 5 يعطي شرحًا وهو في الواقع ليس تكرارًا للآية 4أ. فبولس يكتب
حرفيًا: فإذا صرنا (وإياه) واحدًا على شبه موته..). ويجب ألا نفسّر بداية الآية
حسب المعنى الأصلي محتفظين لكلمة
6nmjutoi  بالمعنى النباتي (نبتة واحدة). فالكلمة في الأدب اليونانيّ الكلاسيكيّ،
انتشرت بمعنى (متّحد مع) أو أيضًا بمعنى (خاص ب). إذًا بهذا يعبّر هنا أيضًا على
فكرة المشاركة، الموجودة في كل الإطار.

ولكن
في هذا الإطار بالذات (الاتحاد بموت المسيح) وجب أن يتحقّق دون وسيط. فكيف نفهم
هذا الاتحاد على (شبه موته؟)

حيرة
الشرّاح واضحة في الإجابة على هذا السؤال، وبالفعل كل جواب حازم يدخل في باب
الافتراض. يمكن معالجة الأمر في إبعاد المعنى الليتورجي عن كلمة (شبه): رتبة
العماد بواسطة الغطس، تقدّم هذا الشبه، هذه الصورة المؤونة لموت المسيح، صورة
يشترك بواسطتها المعمّد في هذا الموت. بدون شكّ المقابلة بين الآية 4أ و5أ تبدو
لأوّل وهلة أنها تدعم هذا الشرح.


– إذا فقد دفنّا معه بالمعموديّة بالموت


– فإذا صرنا (وإياه) واحدًا ب شبه موته

(بالمعموديّة)
تقابل (ب شبه). وإذا ما اعتبرنا أن الإضافة (ب شبه) هي إضافة سببيّة (بواسطة
الشبه) نجعل منها مرادفًا ل (بالمعموديّة): (وبالتالي الكل لا يعبّر إلاّ عن فكرة
واحدة ألا وهي أننا اشتركنا أو اتّحدنا بموت المسيح بواسطة العماد كونه صورة
إسراريّة لهذا الموت. ولكن هذه القراءة غير ممكنة، لأنه إذا ما اعتبرنا (ب شبه)
إضافة سببيّة (بالمعموديّة)، يبقى السؤال بما أو بمن نحن متّحدون؟ لأنه ينقص عنصر
في الآية 5أ: وإيّاه أو والمسيح. لذا يجب اعتبار (شبه) كونها مفعول ل (صرنا
واحدًا): متّحدين بشبه وليس بواسطة هذا (الشبه). وهناك تفسيران لهذا القول:

الأول
يقدّر استعمال (شبه) عند بولس كونها حقيقة واقعيّة، تشبه ولا تساوي المشبّه به. هذا
ما يمكن تطبيقه هنا حيث اشتراك المعمّد في موت المسيح يتحقّق مع اختلاف: طالب
العماد لا يموت جسديًا مثل المسيح.

والثاني،
يعطي لكلمة (شبه) معنى (هيئة)، وذلك بالاستناد إلى إستعمالها في السبعينيّة (تث 4:
12؛ يش 22: 8) والرؤيا (9: 7)، فتصبح الجملة مشابهة لما كتبه بولس في فل 3: 10:
(مشابهًا إياه في موته).

وهناك
التباس أيضًا حول نتيجة هذه الشركة في الموت، أي حول الاتحاد بقيامة المسيح. سببه
معنى الفعل (نكون،
e6omeqa) في صيغة المستقبل. ويقدّم الشرّاح رأيين:

الأول
يتعلّق المعنى بمستقبل منطقيّ أو ناتج، وهذا يعني أن المعمّد عند عماده يشترك، منذ
الآن في قيامة المسيح. وهذا لا يمكن فهمه إلاّ بطريقة تماثليّة، فيدلّ على (جدة
الحياة) التي نحن بصددها. وإذا ما كانت (جدة الحياة) هي الشرط المطلوب لنشترك في
مجد المسيح (راجع 8: 17)، نبقى حكمًا على مستوى السلوك البشريّ الأخلاقيّ. وفي هذا
المعنى، الفكرة لا تتقدّم ولا تتطوّر بالنسبة لنهاية الآية السابقة.

والثاني،
المعنى يتعلّق بمستقبل حقيقيّ ونهيويّ. فتحرز الفكرة تقدّمًا، إذ تدلّ على القيامة
العامة في منتهى الزمن. علاوة على ذلك، فالقسم الأوّل من الآية 5، مع الفعل في
صيغة الماضي (صرنا)، يدلّ على وضع قائم ناتج عن فعل المعموديهة الذي حدث في
الماضي؛ ننتظر إذًا في جواب الشرط نتيجة تشير إلى المستقبل. في النهاية، التعبير
يستبق ما نقرأه في الاية،8 حيث المفهوم الاسكاتولوجي، بالمقارنة مع جمل أخرى
مشابهة عند بولس، لا يمكن أن تقبل الشكّ (راجع 1 تس 5: 10؛ روم 8: 17؛ 2 طيم 2:
11-12). بالتأكيد المعمّد يحيا متحدًا بالمسيح (روم 6: 10 و13) ولكن في الرجاء
واليقين في البلوغ، في المستقبل، إلى قيامة الأموات.

رأينا
سابقًا أن مفهوم موت أو صلب المؤمن مع المسيح، له معان متنوّعة متعدّدة في رسائل
بولس. ففي روم 6: 1-،14 المفهوم يصبح هو ذاته الموجود في غلاطية 5: 24، وفي إطار
مشابه، يتمحور حول الشروط الأدبيّة للحياة المسيحيّة. ولكن في رومانيّين يفتح بولس
نافذة على القيامة، ليس فقط قيامة المسيح كما في 2 كور 5: 14-15، ولكن أيضًا قيامة
المسيحيّين: فالذي تبنّى (جدة الحياة) التي أسّسها المسيح وجعلها ممكنة سيعطى أن
يشترك في قيامته عندما يشرق يوم مجيئه القريب (روم 13: 11-14).

4
– تطبيق رمزية العماد (6: 6-7)

تطبيق
رمزية رتبة العماد تناولت الانسان والخطيئة التي فيه. لا بدّ أن نرى ماذا حلّ ب
(الانسان العتيق) فينا، بمعنى آخر الحالة التي ورثنا منذ ولادتنا، من جنس يعاني من
نير الخطيئة المشخصة، من قدرة جهنّميّة هي مصدر الشرّ. تظهر الخطيئة في نص
رومانيّين وكأنها شخص، كائن حي يسكن قلب الانسان ويفرض عليه شريعته، ويتسلّط عليه؛
الانسان مستعبد للخطيئة (راجع 6: 15..؛ 7: 14..) كما كان العبرانيّون قديمًا
عبيدًا للفرعون. الجواب نعرفه بالإيمان: (إنّا لعارفون أنّ..)


انساننا العتيق: (صلب مع) (مقدّر المسيح)، هذا يفسّر معنى (عمادنا في موته)

بفضل
هذه الصورة نرى كل الانسانيّة العتيقة مسمّرة على الصليب مع يسوع على الجلجلة.


إذًا، (جسد الخطيئة) أي الجسد كونه أداة للخطيئة، وسمّي الكل باسم الجزء للدلالة
على طبيعة الانسان الشريرة التي يرثها منذ ولادته، أبطل أي تحوّل إلى لا شيء.


كان الهدف المنشود ألا (نعود نخدم الخطيئة) مشخّصة هنا كونها القدرة التي تخضع
الانسانيّة العتيقة تحت نيرها. هكذا تتوطّد العلاقة بين فعل العماد ومفهوم الفداء
العام كتحرير وهو مطروح في الرسالة إلى الرومانيّين في غير مكان.

بفضل
المعموديّة، تحرّر المؤمنون من هذه العبوديّة. كيف تمّ ذلك؟ فالبرهان واضح:
بالعماد يغوص المؤمنون في موت المسيح ويدفنون معه في الموت ويموتون معه. استعمل
بولس بشكل خفيّ حجة قضائيّة (لا ننسى أنه يكلّم رومانيّين ضليعين في الحقوق؛ راجع
7: 1): فالذي يموت بذات الفعل تحرّر من كل قيد وشريعة، إن كان العبد بالنسبة إلى
سيّده أو المرأة المتزوّجة بالنسبة إلى رجلها (راجع 7: 4)، فالموت يلغي كل
استعباد. وبما أن المسيحيّ مات مع المسيح، فالخطيئة لم يعد لها أي حق عليه ولم تعد
تستطيع أن تفرض عليه شريعتها.

ومن
جهة ثانية يعتبر بولس أن جسد الانسان هو الوسيلة التي بواسطتها تملك الخطيئة عليه
(6: 6)؛ كون الجسد مات بشكل سريّ مع المسيح، فالخطيئة لم تعد تستطيع أن تفرض
شريعتها على الانسان. الفكرة واضحة: الموت مع المسيح بالمعموديّة يحرّر المؤمن من
عبوديّة الخطيئة. في هذا المفهوم يدخل التضاد عتيق – جديد: الذي مات فينا
بالمعموديّة، هو الانسان العتيق، ذاك الانسان الخاضع لسلطان الخطيئة. الآن،
المسيحيّ، وقد تحرّر، يستطيع أن يعيش (حياة جديدة). هذا لا يعني أن فيه، في
طبيعته، ما يمكنه أن يعيش هذه الحياة الجديدة. ولكن كما أنه تعمّد في موت المسيح،
هكذا تعمّد في قيامته. مبدأ الحياة الذي أقام المسيح يسمح له أن يعيش في حياة
جديدة. النصوص اللاحقة تخبرنا عما لم تقله النصوص هنا بوضوح وهو أن مبدأ القيامة
والحياة هو روح الله (8: 2..).

التضاد
بين عتيق وجديد، يفرض فصلاً جذريًا في طريقة حياة المؤمن: قبل العماد كان يعيش
حياة خطيئة، مستعبدًا للخطيئة باعتبارها قوّة شرّ تفرض عليه شريعتها، بعد العماد
المسيحيّ يتبع شريعة الروح المحيي. موضوع (العتيق والجديد) يرتبط غالبًا بعلاقة
مباشرة أو ضمنيّة مع العماد المسيحيّ وفيه فكرة الفصل. وفكرة الفصل هذه لها ثلاثة
أبعاد.

الأول
بعلاقة مع رمزيّة المعموديّة العامة بالاستناد إلى الخروج والبعدين الآخرين بعلاقة
بالموضوع اليهوديّ، الخليقة الجديدة.

1
– المعموديّة تحدّد فصلاً في نوع حياة المؤمن. قبلاً كان يعيش حياة أدبيّة فاسدة،
مستعبدًا للخطيئة والشهوات الجسديّة. الآن خلع الانسان العتيق ليلبس الانسان
الجديد. يعيش في البرّ والقداسة تحت دفع الروح القدس. موت الانسان العتيق وولادة
الانسان الجديد الذي يتجذّر في موت وقيامة الربّ يسوع. هذه الحياة الجديدة في روح
المسيح هي العبادة الروحيّة التي ترضي الّله.

2
– المعمّد صار في نظر الّله خليقة جديدة. المسيح أخذ على عاتقه كل خطايا البشر
وكفّر عنها على الصليب، لدرجة أن المعمّد يصبح بارًا وكأنه ولد من جديد.

3
– بما أن المعموديّة تجعل من المعمّد خليقة جديدة، وتلغي الماضي، فهذا يعني أن
المعمّد خلق من جديد في المسيح يسوع.

 

5
– العبور من الموت إلى الحياة (8-11)

ينتج
عن هذا الوضع، بالنسبة إلينا نحن المعمّدين، عبور من الموت إلى الحياة (8-11). ففي
الآية 8 ينظر إلى الموت كحدث من الماضي، (الفعل في صيغة الماضي المبهم (متنا)؛
ولكن الحياة ينظر إليها في نظرة مستقبليّة (مع فعل في صيغة المستقبل (سنحيا). وفي
الحالتين نحن متّحدون مع المسيح: الموت مع المسيح، (نؤمن أنّا سنحيا أيضًا معه).
هذا المستقبل لا يدلّ على القيامة التي ذكرت في 5ب كونها إتّحاد نهائي للمعمّدين
في قيامة المسيح. بل هو الاشتراك في حياة المسيح مدى العمر على الأرض أي جدّة
الحياة في الآية 4. التشديد هنا هو على دوام جدّة الحياة، لأن الفعل في صيغة
المستقبل يتعلّق بفعل في صيغة المصدر (وإنّا لعالمون) الذي يدلّ على دخول المسيح
في حياته الممجّدة: (إن المسيح، وقد أقيم من بين الأموات لن يموت من بعد): الموت
(مشخّص مثل الخطيئة سابقًا). (لن يتسلّط عليه الموت من بعد) (9).

إذًا
فالموت والحياة يرتبطان تلقائيًا بالنقيضين الخطيئة والّله. (فالذي مات بالنظر إلى
الخطيئة مرّة واحدة) (10أ). هنا أيضًا التعبير يدلّ على علاقة سريّة بين موت
المسيح والتسلّط العتيق للخطيئة المشخّصة على الناس الذين صاروا عبيدًا لها. هل أن
المسيح مات عن الخطيئة هو بذات المعنى كوننا (متنا عن الخطيئة) (6: 2)؟. الموت عن
الخطيئة ليس هو ذاته في الحالتين، إذا ما اعتبرنا الخطيئة أنها غلطة أدبيّة من
الانسان: فالتعبير لا يعود له معنى بالنسبة إلى المسيح. ولكن إذا اعتبرنا أن بولس
يجسّد الخطيئة (يشخّصها) كونها قوّة تسلّطت على الانسانيّة بكاملها، عندها نفهم أن
المسيح يجعل نفسه متضامنًا مع البشريّة الخاطئة، عانى الموت، ليس كقصاص للخطيئة
التي تُظهر انتقام الّله الذي يُنزل على البار قصاص الخطأة، ولكن كعلامة حسيّة عن
تسلّط قوّة الشرّ على الانسانيّة التي ألقت خطاياها عليه. بموته، ذهب المسيح، من
فرط حبّه، حتى نهاية التضامن مع الخطأة، حتى يحرّرهم من هذا الاستعباد المزدوج:
الموت والخطيئة.

نصل
إلى التفكير حول سرّ الفداء كونه تحريرًا: بخضوعه إلى سلطان الموت، غلب الخطيئة في
عقر دارها، وقيامته أظهرت فيما بعد الغلبة على الموت. في هذا المعنى (مات عن
الخطيئة)، بالنظر للخطيئة ليغلب. ولكن في معنى آخر، كونه غلب الموت، فهو حيّ (يحيا
لله) (10ب). يتأتى من ذلك للمعمّدين تحرير مزدوج من الخطيئة والموت: (إحسبوا
أنفسكم أمواتًا بالنظر إلى الخطيئة، أحياء بالنظر إلى الّله في المسيح يسوع). هذا
هو الوضع المسيحيّ الذي يتأتى عن العماد.

هذا
النص عن رتبة العماد يقدّم مباشرة لفهمه إنطلاقًا من رمزيّة الغوص في الماء التي
تمثّل الموت، والصعود من الماء الذي يمثّل القيامة، كونها دخول في جدّة الحياة.

إنه
لمن الواضح أن تغيير الرتبة بسكب قليل من الماء على الجبهة مكان الغوص الكامل في
جرن العماد، يلزمنا أن نفكّر بشكل مختلف حول معنى العماد: نستعجل إلغاء الخطيئة
كمحو لنجاسة، أو أيضًا تكريس الجسد بماء مقدّس حيث المسيح غطس عندما قبل العماد من
يوحنا: الاشتراك في هذا العماد، الذي قبله المسيح، يشترك المعمّد بقداسته حتى يعيش
(حياة جديدة). ولكن علينا أن نعترف أن الرتبة لا تعود تعبّر كفاية، وتخسر هكذا
قسطًا كبيرًا من رمزيْتها.

 

6
– تحريض على الحياة الجديدة (12 -14)

سبق
ورأينا أن بولس يستعمل في هذا التحريض ثلاثة أفعال في صيغة الأمر، والخاتمة يعرضها
في صيغة المستقبل مع حافز يشدّد على العبور من قيد الشريعة إلى قيد النعمة. تُذكر
الشريعة مرتين في 14 و15 ولكن أي شريعة؟ أشريعة موسى، والأمم حسب بولس لن تخضع
لها؟ إنه من الواضح أن كلمة شريعة مأخوذة هنا بمعنى ضيّق تدلّ على كل تعبير عن
إرادة الّله كمقياس لحياة البشر من حيث النظرة الأخلاقيّة. نعرف من خلال روم 2:
14-15 أن الأمم دون أن تعرف الشريعة بالمعنى الموسويّ، لها شريعتها التي يمليها
عليها ضميرُها. فالتحريض الذي يتوجّه إلى اليهود كما إلى الأمم عندما يتقدّمون
لقبول العماد، لا يستعمل كلمة (شريعة) إلا لمقابلة نظامين دينيين حيث الّله صُوّر
تحت شكلين مختلفين: الّله الذي يأمر ويدين بالنسبة للطاعة لأوامره. الآب الذي يريد
أن يخلص الناس فيهبهم نعمته حتى يلهمهم الأمانة لحبّه.

هذا
لا يعني أن الشريعة بحدّ ذاتها هي شريرة. ولكن لا يكفي الشريعة أن تعرفنا على
الخطيئة (روم 3: 20). فهي لا تعطي السبيل للانتصار والغلبة عليها، مع أن الخطيئة
(مشخّصة) كانت تملك على (الجسد المائت) لضحاياها حتى تخضعهم لشهواتها (12).
الشهوات بارتباط وثيق مع الجسد. هذا لا يعني أن الجسد هو شرير (راجع الثنائيّة
اليونانيّة)، ولكنه المكان حيث الميول غير المنتظمة تظهر في الشخص الحيّ، لذلك فما
يتبع سيتكلّم عن (الأعضاء) (مرتين في الآية 13) أي الهيئة الخارجيّة، المنظورة،
الحسيّة للفرد. ندخل هنا في موضوع مقياس الحياة. قبل العماد، الأعضاء كانت (سلاح ظلم
للخطيئة)؛ في حياة المعمّدين تصير الأعضاء (سلاح برّ لله) (آية 13).

الطباق
واضح: فهو يُظهر الحياة كمعركة ويحدّد الأرباب الذين بخدمتهم يقاتل الناس، الّله
أو الخطيئة (مشخّصة كقوّة جهنّمية). ومع هذا هناك اختلاف بين الحالتين: ففي الحالة
الأولى يقدّم البشر كذريّة خاطئة، أعضاءهم. نتبيّن هنا تلميحًا إلى معضلة حريّة
الشخص: فالحريّة لم تكن إلاّ حريّة مأسورة ما دامت خاضعة لسير حركة الأعضاء. ولكن
العماد بالنعمة التي يعطيها للمعمّد، يحرّره حتى يستطيع أن يمثل أمام الّله في
كيانه الأكثر حميمة.

 

خاتمة

نص
روم 6: 1-14، مرتكز على سير رتبة العماد، يُعالج جوهر الحياة المسيحيّة بإعطائها
معنى روحيًا للسلوك الأخلاقيّ من خلال فضيلة (البرّ). يجب ألا نفتّش في هذا المقطع
عن عقيدة بولس حول العماد. هناك نصوص أخرى كثيرة، لا سيّما الرسالة إلى كولسيّ
والرسالة إلى أفسس، تقدّم عناصر مكمّلة، بطريقة مختلفة. ولكن المهمّ هنا، أن
نتلمّس أننا لسنا أمام تفكير لاهوتي عام، لا يمت بصلة إلى واقع الكنيسة. فعلاقة
هذا النص مع رتبة العماد، هو جوهريّ لمعنى النصّ.

يبدو
أن الإطار الفصحيّ هو الأقرب ويفسّر شرح الرتبة في اتحاد المعمّدين بالمسيح في
موته ودفنه وقيامته. هذا النص يفسّر للمؤمنين معنى عمادهم والعلاقة القائمة بين
العماد وقواعد الحياة الجديدة التي يسلكها المعمّد في المسيح يسوع. هذه الطريقة في
الشرح التي يعتمدها بولس تبعد اللاهوت الأدبيّ عن قواعد المسموح والممنوع، حيث
كثير من الناس، مؤمنين أولاً، يختذلون اللاهوت الأدبيّ المسيحيّ بالمسموح
والممنوع، غافلين عن الخلقيّة الانجيليّة والليتورجيّة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى