اللاهوت الدفاعي

الفصل الثاني والعشرون



الفصل الثاني والعشرون

الفصل
الثاني والعشرون

الكرازة
البولسية

إن
قارئاً متمعناً في رسائل بولس وفي التفاسير العديدة التي أعطيت لكتاباته إن من حيث
الأسلوب أو المضمون، ومحاولات اكتشاف بنية الرسائل على أساس أساليب البلاغة أو
غيرها.. يجد نفسه في بحر من المعلومات التي تفيده ولا شك وتعطيه غنىً كبيراً في
معرفته لهذا الرسول العظيم ولكتاباته. ويبدو لي أن هذا المؤتمر الذي نحن بصدده
يدخل في إطار المحاولة عينها. مع ذلك، أريد أن أحاول تبسيط الفكر البولسي بما يمكن
السامع أو القارئ من إعادة تجميع كلّ هذه المعلومات وترتيبها بطريقة تسهّل عليه فهم
جوهر الرجل وفكره الذي ما هو في النتيجة إلا عبد ورسول ليسوع المسيح، كما يحلو له
غالباً أن يقدّم نفسه في رسائله المتعددة. طبعاً مثل هذا العمل فيه مخاطرة التفقير
التي تجابه كل محاولة تبسيط، ولذلك ما أود أن أعرضه ليس تجميعاً لكل فكر بولس بل
لما أسمّيه هنا الكرازة البولسية، أعني جوهر إعلان بولس لإنجيل المسيح يسوع. من
ناحية ثانية سيكون تركيزي خاصةً على الرسالة إلى أهل رومة، فهذه المقالة لا ترغب
سوى أن تكون مثلاً يمكن تطبيقه على الرسائل الأخرى وفي دراسات لاحقة.

قبل
أن أبدأ دراستي أعرض ما أعتقده البنية الأساسية للكرازة البولسية وأقسّمها ثلاثة
أقسام:

أ
– الانسان قبل المسيح أو واقع الخطيئة

ب-
الخبر السار بيسوع المسيح كجواب على هذا الواقع

ج
– الدعوة إلى استقبال هذا الخبر السار بالتخلّي عن الماضي والعيش في الواقع
الجديد.

هذا
التصميم نجده في كرازات بولس في أعمال الرسل (أع 13 على سبيل المثال).

من
خلال هذه البنية نجد أبعاداً زمنية ثلاثة هي الماضي والحاضر والمستقبل، حيث إن هذا
الحاضر، أي حدث المسيح، يأتي كجواب على واقع موجود في الماضي ومستمرّ، ولكنه في
الوقت عينه ينفتح على واقعٍ جديد ينطلق من الحاضر ويمتدّ باتجاه المستقبل.

أما
التصميم الذي سنتبعه في معالجة هذا الموضوع فهو من ناحيتين: الأسلوب والمضمون.

1
– من حيث الاسلوب: لا شك أنّ العرض البلاغي هوأحد أهم مميّزات رسائل بولس وبخاصة
روما وغلاطية. ولكننا نترك الأمر لمقالآت أخرى عالجت هذا الموضوع.

ما
يهمّنا نحن هو ثلاثة أبعاد مرتبطة بجوهر الكرازة البولسية وهي:

أ-
تفسير العهد القديم على ضوء حدث المسيح وفيه نتطرّق إلى بعض ملامح استفادة بولس من
فريسيّته وعلمه الكتابيّ ونحاول أنّ نعطي بعض الأمثلة عن الأسلوب الرابّيني بشكل
عام وبخاصة استعمال بولس للإسلوب المدراشي.

ب-
التفسير التيبولوجي.

ج-
الشهادة الشخصيّة لبولس وهذا (كما سنرى)، ما يميّزه عن كل كتّاب العهد الجديد بمن
فيهم كتّاب الرسائل الأخرى.

2
– أما من ناحية المضمون فنرغب أن نقدّم الأفكار التالية:

أ
– مركزية الكرازة بالخبر السار، أي حدث المسيح، في فكر بولس وتعليمه. فالتاريخ
البشري السابق لحدث المسيح هو مهيِِّئ له ومهيَّأ لاستقباله.

1-
من جهة أولى يبدو أنّ العهد القديم هو مكان تجذّر سر يسوع المسيح في التاريخ
الخلاصي، ولكنّه في الوقت عينه الحالة التي كانت تستدعي هذا الحدث لتكتمل، بل
ليتحقّق ما وعدت به وأشارت إليه.

2-
ومن ناحية ثانية فإن تاريخ الشعوب الوثنية وواقع الأمم يحمل تلميحات إلى هذا السر
الذي لم يُكشَف للعقل البشري وإن كان هذا الاخير يتوق اليه في بحثه الدائم عن
أجوبة على سرّ وجوده. وحدث المسيح هو الجواب الأوحد عن واقع العالم الوثني الذي
كان مفصولاً عن الشركة والمواعد.. وغارقاً في فساد الجهل والخطيئة!

ب-
الجواب الوحيد الممكن عن هذا الحدث إذاً هو الإيمان به واستقباله من قبل الجميع:
يهوداً كانوا أم وثنيين. ونستبق هنا بالقول ان للايمان بعدين أساسين سنفصّل كلاً
منهما في بعض النقاط، وهما:

1-
البعد الشخصي والمعبَّر عنه غالباً بصورة التخلّي عن الإنسان العتيق أو السيرة
الماضية، ولبس الإنسان الجديد والسيرة الجديدة في المسيح. وسنُظهر أن هذا البعد
الشخصي مرتبط ارتباطًا خاصًا بعمل الروح القدس أي بروح المسيح القائم.

2-
البعد الجماعي والأسراري حيث إن حدث المسيح الذي يُستقبل بالإيمان لا يمكن التعبير
عنه إلا من خلال الانتماء إلى الجماعة أي الكنيسة وهي جسد المسيح السري. وفي الوقت
عينه هي التي تحقّق هذا السر في احتفالها بالأسرار المقدّسة وبشكل أساسي
بالمعموديّة والإفخارستيا.

أمّا
موضوع الأخلاق المسيحيّة، فالواضح انّ بولس يعتبرها ثمرة للإيمان وعلامة تدلّ
عليه. وهذا ما يفسّر تقسيم كل رسالة من رسائل بولس عامة إلى قسمين، أي ما يسمّى
بالقسم العقائدي وهو في البداية، وما يسمّى بالقسم الإرشادي التهذيبي وهو في
النهاية. ما نوّد أن نؤكد عليه مسبقًا هو أن ما يُدعى بالقسم العقائدي هو عنوان لا
يعبّر بدقّة عن فكر بولس. فالرسول لا يعرض في القسم الأول من رسائله عقيدة مسيحيّة
أو تعليماً إيمانياً مفصلاً، بل إعلاناً لحدث المسيح، سمّيناه كرازة، وهذا الذي
يتحكّم بفكره وعرضه. في كل الأحوال لن نعرض هذا القسم تاركين الامر للمقالات
الاخرى. ابدأ اذاً بتفصيل الموضوع.

1
– من حيث الأسلوب

إنّ
الكرازة البولسيّة التي هي، خاصةً في رومة وغلاطية، موضوع خطبة طويلة تتبع إطارًا
للكلام عن البنية البلاغية المعروفة في الأدب اليوناني الروماني في عصره، تتضمّن
ما نسمّيه (البرهنة) أي العناصر التي يلجأ إليها الخطيب في إطار عرضه لفكرته
وتقديم البرهان عنها. ولا شك انّ القارئ يجد عناصر عديدة يلجأ إليها بولس في
رسالته، ولكنّنا سنتوقّف كما قلنا عند ثلاثة:

 

أ-
تفسير العهد القديم على الطريقة الرابينيّة: المدراش

يعتبر
الشرّاح أن بولس قد لجأ فعلاً إلى تقنيات التفسير الرابينيّة في معرض شرحه لنصوص
العهد القديم(1)، مع التنبيه إلى أن بولس لا يتمادى في ترك العنان لمخيّلته كما
فعل أولئك غالباً في شرح النصوص، بل يتوقف عند المعنى الحقيقي والواقعي للنص
بارتباطه بالوعد الإلهي. ويعتقد البعض الآخر أن سبب هذا التباين هو أن بولس لم
يستعمل أسلوب (الهلكة) أي تفسير النصوص على خلفية إيجاد مسوّغات كتابية لمواضيع
أدبية وأخلاقية، كما كانت الحال بالنسبة إلى الرابّينيين، بل إنّه استعمل بشكل خاص
أسلوب الهغادة أي قراءة النصوص، وبخاصة الأحداث التي ترويها التوراة، وذلك بهدف
استنتاج تعاليم إيمانية منها واستخراج معناها الكامل الكائن وراء الكلمات. ولمزيد
من المنهجية في العرض، نستفيد هنا من بعض الدراسات التي حاولت المقاربة بين بولس
وبعض كبار المدارس التفسيرية في عصره ونتوقّف عند ثلاث:

بولس
وفيلون: يلتقي بولس وفيلون معاً على رفض التفسير الحرفي للتوراة خاصة في ما يتعلّق
بالمواضيع المتعلّقة بقواعد السلوك في الحياة اليومية والطقسية. ومع أن بولس
يستعمل بعض التفاسير الأليغورية (قريبة من الاستعارة) لفهم معاني النصوص
الكرستولوجية والروحية، إلاّ أنه بعيد جداً عن أسلوب فيلون الذي كان يلجأ إلى هذا
الأسلوب بطريقة مستديمة وعلى أساس أنه القاعدة الأساسية لتأوين النصوص(2). فهمّ
فيلون الأول هو المقاربة بين الفلسفة اليونانية والتوراة ومحاولة إظهار التوراة
أنها ليست كتاباً تخطّاه الزمن وغير صالح للزمن الحاضر؛ ولذلك لجأ إلى التفسير
الأليغوري عند كل صعوبة في التوفيق بين الفكر المنطقي والفلسفي وبين تعاليم التوراة؛
بينما بولس لم يكن محتاجاً إلى ذلك، لأنّ الفكر المسيحي كان في نفس الخط اللاهوتي
للفكر التوراتي من حيث مضمونه الأساسي، أي التاريخ الخلاصي الواحد الذي صنعه الله،
والوحي والنبوءات، ولم يكن يحتاج إلا إلى قراءة النصوص على ضوء حدث المسيح الذي
اعطى لهذه النصوص معانيها الكاملة إن في عصرها أو في ما يجب أن تقوله الآن (عصر
بولس).

 

بولس
والتفاسير الرابينيّة

يقسّم
العلماء أسلوب المدراش اليهودي إلى ثلاثة أنواع:


المدراش التفسيري، المدراش الوعظي، المدراش السردي(3). ويمكن القول بأن بولس
يستعمل كثيراً الأسلوب المدراشي خاصة من النوعين الأولين، أي المدراش التفسيري
والمدراش الوعظي. بل قل أن المفضّل عند بولس هو المدراش التفسيري، حيث يلجأ إليه
للبرهان على صحة تعليمه وعلى حقيقة فهمه لحدث يسوع المسيح.

فإذا
نظرنا مثلاً إلى روم 8: 19ي، لا نجد أن بولس يذكر أي نص من نصوص العهد القديم،
ولكننا نكتشف أنه يكتب ما يكتب إرتكازاً على تفسيره لنصوص في العهد القديم: فهو
يعطي مدراشاً لنص تك3: 17 دون أن يذكره مباشرةً. نفس الشيء في روم 7: 11 الذي
يفسّر فيه نص تك 3: 13. هذا الأمر عينه يمكن تطبيقه على الفصل 5: 12-21 حيث الإطار
العام هو المقارنة التيبولوجية بين شخص المسيح وشخص آدم، ولكن أساليب العرض
والبراهين كلّها مدراشية تفسيرية، مثل الآية 12 التي تفسّر تك 2: 17و3: 19، مع
إكمال الفكرة ودعمها من خلال نص تك 2: 24. نفس الشيء يمكن قوله عن الآية 19 التي
تفسّر نص اش 53: 11. وهكذا طبعاً كل التفاسير يقولها بولس في إطار كرازته وتعليمه
الهادف إلى إظهار الفهم الحقيقي للنصوص وإلى دعوة الجماعة التي يكتب لها إلى
الطاعة لتعاليمه.

من
جهة ثانية، لا يلجأ بولس إلى تأليف قصص تعليمية كما هي العادة عند الرابيّنيين، بل
يستعمل بعض القصص الموجودة في تعاليمهم مثل تفسيرهم الأليغوري لنص سفر الخروج
وبخاصة نصوص من الفصول 13 إلى 20 وهو يعيد قراءتها وتفسيرها على ضوء حدث يسوع
المسيح. (راجع 1قو 10: 1-13) الأمر نفسه نجده في نص 2قو 11: 13-14 الذي يستعمل فيه
بولس مدراشاً رابينيًا لنص سفر التكوين وبخاصة عن موضوع الشيطان الذي يتلبّس بلباس
النور كما جاء في كثير من القصص الرابينيّة.

 

بولس
وتفاسير قمران

لقد
عرفت جماعة قمران بطريقة تفسيرية خاصة سميت (المدراش فشر). وهذه الطريقة ليست سوى
محاولة من جماعة قمران لقراءة دقيقة جداً لكل كلمة أو فعل أو إسم في نصوص الكتاب
المقدّس بطريقة تخدم فهمهم الخاص للأحداث وتعاليمهم وتوقّعاتهم لما سيكون.
بالحقيقة ليست هناك فوارق كبرى مع المدراش الرابيني العادي سوى اللجوء إلى إكتشاف
معانٍ حتّى في كل حرف من النص أو من الكلمات.. ولعلّنا نجد مثلاً عن ذلك في روم10:
6-8 حيث يعلن بولس ثلاث مرّات: هذا هو
(tout
e6tin
) ليفسّر النص الكتابي
الذي هو بصدده. ويعتقد البعض انّ هذا التفسير قريب من تفاسير قمران الأليغوريّة.
راجع مثلاً عن ذلك ما ورد في تفسير سفر العدد 21: ،18 الوارد في (وثيقة دمشق) في
الفصل السادس: (البئر هي التوراة، والذين حفروها هم المهتدون من شعب اسرائيل الذين
ذهبوا إلى أرض دمشق. الله دعاهم كلهم امراء لانهم افتكروا به). هذه المقابلة غير
أكيدة، وليس أكيداً أن بولس قد عرف التفسير القمراني أو أنه استعمله. وهذا النص
نفسه أعني روم 10: 1-11 يتبع الطريقة التفسيرية التي كان يلجأ اليها الرابينيّون
أي تأويل النص بطريقة تساعد على فهم المعنى المقصود والذي يعتقد المفسّر أنه هو
المعنى الحقيقي. فهنا مثلاً، يستعمل بولس نص تث 9: 4 ونص تث 30: 12-13 ليؤكّد بأن
البرّ الذي يأتي من الايمان هو موضوع يتطرّق إليه هذا النص عن الشريعة. فكما أن
الوحي بالشريعة ليس بعيداً عن الانسان القديم، كذلك المسيح الذي يبرّر الانسان
بمجرّد الايمان به والاعتراف به.

في
خلاصة القول يمكننا التأكيد بأن خلفية بولس الرابينيّة واليهودية واضحة إلى حدّ
كبير، وهذا مناسب أيضاً لتنشئته الفريسيةّ في مدرسة جملئيل المعروفة. والكتاب
المقدس هو أوّل مصدر لفكر بولس وفيه نجد الخلفية الحقيقيّة لطريقة بولس في تفسير
الكتاب المقدس. فلا ننسى ان الكتاب المقدس يحتوي على كتب كثيرة مثل سفر الامثال
والحكمة وابن سيراخ التي حاولت اعادة قراءة نصوص من التوراة وتأوينها وتفسيرها.
وبهذا الموضوع، نجد عند
R. Brown مجموعة من المقالات المهمة عن موضوع مثل كلمة (سر) التي يستعملها
بولس في العديد من رسائله للاشارة إلى التاريخ الخلاصي وسرّ يسوع المسيح الذي لم
ينجلِ إلاّ في ملء الازمنة (وأعلن لنا وحدنا)، (افسس 1: 9). ويعتقد هذا الكاتب بأن
خلفية بولس يجب أن نجدها في أسفار الحكمة وقمران(4).

ونجد
ايضاً مقالات عديدة عن استعمال بولس لكلمة
Kurio6 عن يسوع المسيح وكأنه يريد بذلك أن يعلن أن الادوناي في العهد
القديم، هو المسيح في وجوده الازلي والذي تجلى إلى شعب اسرائيل. وهذا اللاهوت عينه
نجده عند يوحنا كما هو معروف ويعبر عنه بكلمة
egw
eimi
 أي (الانا هو) وهذا أيضًا
هو التفسير الأبائي وخاصة الشرقي للكلمة عينها.

هذا
اذاً جزء صغير مما يمكن أن نقوله عن أسلوب بولس التفسيري الذي هو في الخط الرابيني
الذي نشأ عليه. وننتقل لمعالجة نقطة سريعة في أسلوب بولس أعني الأسلوب التيبولوجي.

 

ب-
الأسلوب التيبولوجي

لقد
استعمل بولس أسلوب التفسير التيبولوجي لكثير من شخصيات وأحداث العهد القديم،
مفسّراً من خلال ذلك كونها قد استبقت حدث المسيح ومهّدت له، فهي كانت صورة ناقصة
عنه ثمّ اكتملت قالباً ومضموناً به وبالحدث الخلاصي الذي حقّقه. مع ذلك فليس
صحيحاً ما يعتقده البعض بأن بولس نفى عن هذه الشخصيات أو الأحداث كونها كانت قائمة
بذاتها أو أنها لم توجد إلا لتكون صورة مسبقة للمسيح(5).

والحقيقة
أنّ بولس عندما يتكلّم عن ابراهيم فإنه يعنيه هو أولاً ويقدّمه كمثال المؤمن الذي
تبرّر بالإيمان ليؤكّد لاهوته عن التبرير بالإيمان بيسوع المسيح. فابراهيم هو مثال
المؤمن المسيحي وليس اليهودي ولكنه قبل ان يكون مثالاً فهو الذي عاش وآمن وتبرّر
(روم 4). وكذلك في كلامه عن آدم الذي يقدّمه كمثالٍ معكوس للمسيح، مقابلاً بين آدم
الأول الذي به دخلت الخطيئة إلى العالم فالموت، وآدم الثاني الذي به دخل البر
فالحياة ؛ وهكذا أيضاً في استعماله التفسير الأليغوري لشخصية هاجر وسارة مفسّراً
الأولى على أنّها رمز لشريعة سيناء والثانية لشريعة المسيح، والواحدة مثالٌ
للعبودية والأخرى للحرية.. وفي هذا فإنّ بولس لا ينفي طبعاً عن هاجر وسارة
شخصيّتهما التاريخية الطبيعية.

في
كلّ حال فإن التفسير التيبولوجي عند بولس لا يتطابق في استعماله لكل الشخصيات التي
يذكرها. ويمكننا القول بأنّ شخصيات مثل ابراهيم واسحق وفرعون وآدم هي الأقرب إلى
التعبير عن المقابلة بين ما نسمّيه عادة بال
tupo6 وال antitupo6 أي بين المسيح والعهد الجديد من جهة، والشخصيات المذكورة والعهد
القديم من جهة أخرى (راجع عب 9: 24). ولا بد من القول بأن النص الوحيد الذي يستعمل
فيه بولس كلمة
 عن إحدى الشخصيات هو روم 5: 14 حيث يقول عن آدم إنّه (مثال المزمع
أن يأتي) أي المسيح. طبعاً موسى هو مثال للمسيح ولكنه مثال غير كامل إذ إنّ ما
صنعه موسى كان مؤقتاً، أعني إعطاءه الشريعة، ولخدمة مؤقتة بين وقت التبرير
بالإيمان الابراهيمي، ووقت التبرير بالايمان المسيحي. ونجد مثل هذا التفسير في روم
10: 6 ي حيث يمثّل موسى الصاعد إلى سيناء والنازل مع الوصايا، المسيحَ الذي نزل من
السماء حاملاً الخلاص للانسان. وهنا لاشكّ ان بولس يستعمل تفسيراً ترجومياً للنص
كما يظهر ذلك في بعض الدراسات(6).

ويمكن
قول الامر نفسه عن تمثيل موسى الغير كامل للمسيح يمكن ايجاده في استعمال بولس
للمدراش الرابيني عن المزمور 68: 19 في رسالة أفسس 4: 8ت.

من
جهة ثانية يمكننا التوقف عند تطبيق بولس على النصوص الكتابية معنيَين، ولنا في ذلك
نصوص عديدة لا مجال للتوقف عندها هنا مثل: روم 9: 17، 9: 25-26؛ وروم 10: 6ي
وغيرها. ويبدو لي أنّ بولس يؤكّد في هذه النصوص انّ المعنى التاريخي لا يكتمل الاّ
بتطبيقها تطبيقاً تيبولوجياً على الواقع الحالي حيث يكتمل معناها. ولعلّ اشهر هذه
النصوص هو 1قو 10: 1-11 الذي يفسر فيه بولس نصوص حز 13 و14 على انها مثالاً مسبقاً
عن العماد المسيحي، ثمّ يفسر نص خر 16: 4-35 عن المنّ، ونص خر 17: 5-6 وعد 20:
7-11 عن الماء الخارج من الصخرة على أنها مثال مسبق عن الافخارستيا. والصخرة نفسها
هي المسيح الذي كان يرافقهم الخ.. ويمكننا القول ان النص بكامله يتبع منهجية تفسير
تيبولوجية مزدوجة. فالآيات 1-4 تعبر عن عدة عناصر من السر المسيحي، والآيات 6-11
هي احداث مثالية معكوسة، أي اننا لا يجب أن نقتدي بها وقد كتبت لتكون لنا مثالاً
في ما يجب أن نتحاشاه. وكما يقول بعض الشراح، فإن هدف هذا النص ونصوص أخرى عديدة
في كتابات بولس هو غالباً التعليم والحثّ على العيش بحسب الايمان المسيحي او ما
نسميه بال
Paraklh6i6 (7).

بالاختصار،
يمكننا القول بأن جوهر التفسير التيبولوجي البولسي يعتمد على هذه القناعة، التي
سيعبّر عنها آباء الكنيسة لاحقاً، وهي أن التاريخ الخلاصي مركّز على المسيح إن في
ما سبقه من أحداث أو في المستقبل الذي سيقود إلى المجيء الثاني: فكل شيء يجد معناه
في المسيح وفي جسده السري الذي هو الكنيسة والتي بدورها تنمو في التاريخ ليتحقق
فيها ملء قامة المسيح.

 

ج-
شهادة بولس الشخصية

في
مقال له أهمية بالغة يؤكد الاب
Vanhoye بأن الكاتب الوحيد في العهد الجديد، الذي يقدّم ذاته وحياته
وخبرته الشخصية وشهادته الايمانية في رسائله هو بامتياز بولس الرسول؛ حتى صار من
المستغرب تفسير هذه الرسائل لا من حيث المضمون فقط، بل من حيث الاسلوب ايضاً، بدون
الاخذ بعين الاعتبار هذا العنصر الاساسي أي شهادة بولس(8).

صحيح
ان كل الرسائل تبدأ بذكر المرسِل والمرسَل إليهم وهذا ما نجده في رسائل بولس كما
في رسائل يعقوب وبطرس ويهوذا، ولكننا لا نجد في هذه الرسائل الاخيرة كما في كل
رسائل العهد الجديد الاّ شذرات قليلة عن شخصية كاتبها.

أما
في الرسائل، فإن بولس لا يفتأ يعبّر عن ردات فعله الشخصية على الاحداث التي
يذكرها، ويؤكّد سلطانه الرسولي، ويدافع عن مركزه وعمله ورسالته. بل نراه يضحك
ويبكي ويحزن ويفرح ويعبّر عن كل هذه وعن خوفه وقلقه كما عن رجائه وآماله، حتى نكاد
لا نميّز ابداً بين المرسل والرسالة، فهما واحد(9).

مثالٌ
على ذلك يورد الاب
Vanhoye بعض الامثلة المعبّرة كما ورد في 1تس 1: 4-10 حيث يؤكّد الرسول
لاهل تسالونيكي ان وجوده مع معاونيه بينهم واعلانهم البشارة لهم هو العلامة
الحقيقية الاكيدة على محبة الله لهم.

مثال
آخر عن هذه العلامة بين الرسول ورسالته ومن ارسل اليهم نجده في غل 4: 71-02 حيث
يعلن بولس: (انهم يريدون ان يفصلوني عنكم ليربطوكم بهم هم)! ثم يؤكد لهم بأنهم
اولاده الصغار الذين يلدهم بالآلام حتى يتكوَّن المسيح فيهم. ولا ننسى كل شهادة
بولس عن اختباره الايماني الخاص على طريق دمشق واختلائه في الصحراء العربية
وعلاقته بالرسل.. حتى انه لا يتوانى عن خبر مشادته مع بطرس، رأس الرسل، واتهامه
بالرياء.. وكل ذلك ليؤكد صحة تعليمه الذي علّمه للغلاطيين.

هذا
ما نجده أيضاً في الرسالة إلى اهل فيلبي حيث يؤكّد لهم أنه يحملهم في قلبه (1: 7)
وأنه يحبهم بحنان أحشاء المسيح (1: 8) وأنهم كمال فرحه (2: 2). ولا بتوانى عن
اخبارهم عن اختباراته الروحية الخاصة والحميمة (1: 12-26؛ 2: 7-14؛ 3: 12-13).

كذلك
في الرسالتين إلى اهل قورنتس، نجد الكثير من هذا التداخل بين الرسول والرسالة التي
يكتبها، حيث لا يتوانى عن الكلام عن ذاته وعن المشاكل التي تخصّه مع الجماعة كلها
او مع بعض اعضائها..

ما
يهمنا هنا هو ما يقوله الاب
Vanhoye عن اهمية هذا الاسلوب البولسي في تفسير رسائله ولاهوته: (فهل
يمكننا ان نعبّر بشكل صحيح عن وجه المسيح عند بولس دون ان نحلّل العلاقة الشخصية
التي لبولس مع المسيح كما يعبّر عنها هو نفسه)؟ وهل يمكننا أن نفهم صورة الكنيسة
عند بولس دون أن نحلّل بتأنٍ دور شخصية الرسول في علاقته مع الجماعات عند تأسيسها،
وإبّان نمّوها، وفي أوقات المحن التي مرت بها؟(10) ولا نتوقف هنا عند ما يؤكّده الأب
Vanhoye من أن دراسة نسبة الرسائل نفسها إلى بولس أو إلى تلاميذه تتأثر
ايجاباً حين نأخذ هذا الاسلوب الشخصي بعين الاعتبار؛ واعتقد ان هذا هو احد اهم
النتائج التي يمكن الاستفادة منها من هذه المقالة(11).

ولكني
سأعطي مثالاً آخر عن اهمية دراسة علاقة بولس الشخصية بالجماعات التي يتوجّه اليها،
في فهم تعليمه.فإذا أخذنا الموضوع الشهير المتعلّق بالتبرير الآتي من الاعمال أو
من الايمان، أفلا تساعدنا معرفة ان بولس يتوجه إلى جماعات هو نفسه قد أسّسها أو
أنها حديثة التأسيس (مثل جماعة رومة) وان معرفته لواقع المهتدين حديثاً إلى
الايمان تجعله يفهم عدم قدرتهم على القيام بأعمال، وهي قد تصبح أحمالاً ثقيلة على
كاهلهم وقد تؤدي بهم إلى الضياع وفقدان هذا الايمان الحديث الذي نالوه؟

فبولس
يعلم جيداً أن الوثنيين المهتدين إلى المسيحية هم أنفسهم كانوا تحت تأثير شرائع
عديدة مرتبطة بعالمهم الوثني، وهو يعلم أن خيبة أملهم بكل هذه الشرائع هو الذي
دفعهم إلى استقبال الايمان بيسوع المسيح على انه المحرّر الحقيقي لهم. افلم يكن
الوثنيون يمارسون الصلاة؟ أو لم يكن عندهم طقوس عبادة وأنواع صيام أو نذورات أو
تقدمات؟ أفلم يتفوّق الوثنيون على اليهود بعباداتهم وطقوسهم؟ فماذا كان ينقصهم
اذاً؟ طقوس جديدة وشرائع جديدة وعبادات جديدة؟ وهل لاجل هذا تركوا الوثنية؟ طبعاً
لا، بولس يعلم أن اختبار المهتدي إلى الايمان هو أولاً وآخراً اختبار قدرة اعلان
الخبر السار في حياته. وقدرة هذا الخبر السار، اعني حدث يسوع المسيح وموته
وقيامته، هي التي جعلتهم يتخلون عن حياة الاستعباد للخطيئة والموت التي كانوا
فيها، لينالوا حياة الانسان الجديد التي انتقلوا اليها بالعبودية. فأي فضل اذاً
للختان أو أنواع المأكولات، أو مراعات الاعياد والشهور.. في اهتدائهم؟ ولا أي
فضل!! وبولس نفسه، ألم يكن فريسياً محافظاً ومتمسّكاً بالشريعة وبالعبادات.. أفليس
ذلك ما دفعه لأن يصبح شريكاً في القتل ومضطهداً للكنيسة؟

كل
هذه وغيرها، يعبّر عنها في رسائله كلها، وقد دفعته إلى فهم اولوية الايمان، أي
اختبار قدرة المسيح القائم من الموت، (والذي مات لاجل خطايانا وأقيم لاجل
تبريرنا)، في نقل الانسان من واقع الخطئية والموت إلى واقع الحياة الجديدة المرضية
لله. وهذا هو جوهر تعليمه عن التبرير، مع انه هو نفسه سيدعو جماعاته كلها إلى عيش
حياة تليق بدعوتهم وتبيّن ثمرة إيمانهم. هذا المثل الذي نعطيه هنا عن اهمية شخصية
بولس في فهم لاهوته وتعليمه يقودنا إلى القسم الثاني من هذه الدراسة والذي سنحاول
فيه عرض الكرازة البولسية من حيث مضمونها.

 

2
– مضمون الكرازة البولسية

أ-
مركزية الكرازة بالخبر السار أي حدث المسيح في فكر بولس

1-
هناك تصاميم عديدة ممكنة وموضوعة للرسالة إلى أهل رومة. ولكن الأقرب منها إلى
الواقع، بحسب رأينا وخصوصاً في الفصول الثمانية الأوّلى التي تركّز على الجواب
الذي يقدّمه المسيح على الحالة البشرية التي سبقته:

فالواقع
الأول هو واقع الخطيئة الذي يعيش فيه اليهود والوثنيون على حدٍّ سواء (1: 8 – 3:
20)، والذي لم تستطع الشريعة ولا العقل البشري أن يبرراه، والذي جاء المسيح يبرره
في نعمته وعطية الإيمان لليهود كما للوثنيين! (3: 21 – 4: 25).

والواقع
الثاني هو واقع الموت الذي عاشته البشريّة كلّها منذ خطيئة آدم (5: 1-14) والذي
وحده المسيح قادر أن يعطيه الحياة والتبرير (5: 15 – 6: 23). والواقع الثالث هو
واقع الانقسام الذي يعيشه الإنسان بشكل عام واليهودي المؤمن بشكل خاص بين معرفته
للخير وعدم قدرته على تتميمه ومعرفته بالشر وعدم قدرته على الامتناع عنه (7:
1-25)، وهنا أيضاً ليس سوى المسيح من يقدر أن يحرّر الإنسان من عبودية تلك الشريعة
الموجودة في أعضائه، وذلك بالروح القدس وشريعة الروح الجديدة التي تجعل منه ابنا
ووارثاً (8: 1-39).

وهناك
من يعتبر أن الفصول 9-11 هي أيضاً ذات بنية متشابهة حيث إن إسرائيل المنبوذ بسبب
رفضه المسيح (9: 1 – 10: 21) سيعود وينال الخلاص بالمسيح في نهاية الازمنة (فصل
11).

وتشبه
هذه البنية إلى حدٍّ بعيد الأسلوب النبوي في عرض كلمة الله وتتميّز بأسلوب تكرار
المعنى الواحد على شكل دوائر مركزها واحد: أي أنّ الفكرة تتطوّر وتتعمّق بينما
تتكرّر (
Structure spirale). فإذا نظرنا إلى الرسائل الأخرى المتشابهة بالمواضيع مثل غلاطية
أو أفسس وقولوسي، فإننا نجد أن الكرازة البولسية فيها ترتكز على بنية متشابهة إلى
حدٍّ بعيد:

ففي
الرسالة إلى أهل غلاطية نجد موضوع التبرير بالإيمان في أساس الخبر السار الذي يريد
بولس إعلانه إلى أهل غلاطية بعد أن عادوا يبحثون عن التبرير من خلال أعمال
الشريعة! وهنا أيضا لا يتردد بولس في إعلان واقع (اللعنة) الذي وجد فيه أنفسهم
(أهل العمل بكلام الشريعة) طالما انهم لم يستطيعوا القيام بكل فرائضها (غل 3:
10-11)، والشريعة لا تبرر الخاطئ بل بالعكس تبيّن له ما ينتظره من موت بسبب خطاياه
دون أن يكون لها القدرة على مساعدته! والخبر السار إذا أن يسوع المسيح جاء ليفتدي
أهل الشريعة أنفسهم، أولئك الذين عاشوا في حكمها وفي حراستها (غل 3: 23-24، 4:
4-5). (فكانوا قاصرين وفي حكم أركان العالم عبيدًا لها) (4/3).

نفس
الخبر السار يعلنه بولس إلى أهل افسس واصلهم من الوثنيين مؤكدًا (أن الله الواسع
الرحمة، لحبّه الشديد الذي أحبنا به، مع أننا كنّا أمواتا بزلاتنا، أحيانا مع
المسيح وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماوات في المسيح يسوع!) (أفسس 2: 4-6).

والملاحظ
أن الرسالة إلى أهل افسس تعلن نفس موضوع الرسالة إلى أهل رومة، أي أن ليس الوثنيين
وحدهم من كانوا أمواتًا بزلاتهم وخطاياهم، بل أيضا اليهود، حيث يقول بولس: (وكنا
نحن أيضًا جميعًا في جملة هؤلاء، أي أبناء المعصية، نحيا بالأمس في شهوات جسدنا،
ملبّين رغبات الجسد ونزعاته، وكنا بطبيعتنا أبناء الغضب كسائر الناس) (افسس 2:
1-3). فحدثُ المسيح إذا يأتي هنا أيضًا كجواب على واقع موت ومعصية عند الوثنيين
كما عند اليهود!

الأمر
نفسه نجده في الرسالة إلى أهل قولوسي حيث يذكرهم بولس بأنهم (كانوا بالأمس غرباء
وأعداء في صميم قلوبهم بالأعمال السيئة) (قولوسي 1: 21) وبأن الله قد صالحهم (في
جسد ابنه البشري وبموته ليجعلهم في حضرته قديسين لا ينالهم عيب أو لوم) (1: 22).

ولعلّ
نصّ (روم 5: 6-11) هو افضل معبّر عن هذين البعدين للكرازة البولسية الأساسية، أعني
واقع الإنسان الخاطئ، يهوديًا كان أم وثنيًا، وجواب الله على هذا الواقع بأن أرسل
ابنه الوحيد ليفتدي، لا الذين يحبونه ويطلبونه ويدعونه، ولا الذين يرضوه بأعمال
الشريعة، بل (لما كنا ضعفاء، مات المسيح في الوقت المحدد من اجل قوم كافرين، ولا
يكاد يموت أحد من أجل امرئ بار، ولا جرؤ أحد أن يموت من اجل امرئ صالح، أما الله
فقد دلّ على محبته لنا بأن المسيح مات من أجلنا إذ كنا خاطئين!).

2-
من جهة ثانية، فهذا الخبر السار هو (جهالة) (وحماقة) عند الذين يتمسّكون بحكمة
عقولهم وفلسفاتهم وبحثهم عن الإقناع والمجادلات الفلسفية العقيمة، كما في عالم
الحكمة الرومانية، وهو أيضًا جهالة عند الذين ينتظرون الخلاص بآيات القوة والعجائب
والذين يبررون أنفسهم بادعائهم حفظ الشريعة والبحث عن العدالة البشرية ومنطق العين
بالعين والسن بالسن، أولئك الذين يزرعون الكراهية لمن ليسوا مثلهم ويحتقرون
الوثنيين (كما في العالم اليهودي). نعم، إن الخبر السار الذي أعلنه الله للعالم مع
حدث المسيح، صار سبيل شكّ وازدراء لأن هذا الخبر السار هو (المسيح المصلوب، قدرة
الله وحكمة الله) (1قورنتس 1: 27-35).

اذا،
فلا سبيل إلى الخلاص بالمسيح إلا بالإيمان به، أي بالتصديق أن الله يخلص العالم
بنفس ما يعتبره العالم حماقة وضعفا!

طبعا،
لا يستطيع الإنسان أن يلوم اليهود الذين يعتبرون ظهور سيناء وما رافقه من علامات
القدرة والقوة الإلهية قمّة الظهور الالهي، والعلامة التي ينتظرون تكرارها أو
مشاهدة ما هو اعظم منها عندما يحين مجيء المسيح! وكيف لهم أن يصدقوا بأن المصلوب
هو هو (يهوه) الآتي ليخلص العالم بعلامة الضعف هذه؟

ولا
يستطيع الإنسان أن يلوم مبدعي الفلسفات وأصحاب العقول الراجحة وخطباء البلاغة
وغيرهم ممن كانت تعجّ بهم المدن اليونانية والرومانية، لأنهم ينتظرون من العقل أن
يقودهم إلى (العقل الأول) ومن قدرة البلاغة على إقناع الناس بمواهبهم؛ لا يمكن لوم
هؤلاء لأنهم يحتقرون الإعلان المسيحي بالخلاص بصليب لصّ محكوم عليه بالموت!

ولكن
المشكلة الأساسية هي في أن (ما يعرف عن الله بيّن لهم (أي لفلاسفة الوثنيين
ومذاهبهم المختلفة المرتكزة على العقل والمنطق)، فقد أبانه الله لهم. فمنذ خلق
العالم لا يزال ما لا يظهر من صفاته، أي قدرته الأزلية وألوهته، ظاهرا للبصائر في
مخلوقاته. فلا عذر لهم اذا، لأنهم عرفوا الله ولم يمجّدوه ولا شكروه كما ينبغي
لله، بل تاهوا في آرائهم الباطلة فأظلمت قلوبهم الغبية. زعموا انهم حكماء، فإذا هم
حمقى قد استبدلوا بمجد الله الخالد صورة تمثل الإنسان الزائل والطيور وذوات الأربع
والزحافات..).

فالمشكلة
إذا ليست في استعمال العقل والحكمة البشرية للوصول إلى الله، بل في اعتبار العقل
نفسه مؤلها وكذلك الفكر والمنطق، فيضيع الإنسان في ادّعائه المعرفة ويصبح أسير
المجادلات العقيمة.. ولا يمجد الله في عقله ولا يتواضع ليقبل وحي الله له! هذه
مشكلة حكماء هذا الدهر الذين رفضوا الخبر السار (اع 17: 32-34). ولكن المشكلة
الأكبر هي عند اليهود أنفسهم الذين (هم بنو إسرائيل ولهم التبنّي والمجد والعهود
والتشريع والعبادة والمواعد والآباء، ومنهم المسيح من حيث انه بشر) (روم 9: 4-5)،
ومع ذلك فإن الوثنيين الذين لم يسعوا إلى البر قد نالوا البر الذي يأتي من
الايمان، في حين أن إسرائيل الذي كان يسعى إلى شريعة البرّ، لم يدرك هذه الشريعة.
ولماذا؟ لأنه لم ينتظر البر من الايمان، بل ظنّ إدراكه بالأعمال، فصدم حجر صدم
(روم 9: 30-32).

 

ب-
جواب الايمان

ان
الخبر السار أي حدث يسوع المسيح، (موته لأجل خطايانا وقيامته لأجل تبريرنا) يفترض
ان يحقق تجديد الانسان، ولكن دون ذلك جملة شروط بحسب كرازة بولس: أوّلها الايمان،
أي كما يقول هو نفسه: (هذا هو كلام الايمان الذي نبشر به، فإذا شهدت بفمك ان يسوع
رب، وآمنت بقلبك ان الله أقامه من بين الاموات، نلت الخلاص) (روم 10: 8-10). ولكن
دون هذا الايمان شروط عديدة يذكرها بولس في روم 10: 13-17: فإن لم يسمع الانسان لا
يؤمن، ولكي يؤمن يجب ان يجد مبشرا يعلن له الايمان.. وهذا ما يقوم به بولس نفسه
الذي كرّس نفسه لخدمة البشارة.

فجواب
الايمان اذًا ضروري، واعتقد ان بولس يشدّد على أن الايمان وحده هو القادر أن يبرر
الانسان أي أن ينقله من حالة الخطيئة والموت إلى حالة النعمة والحياة الجديدة.

وأنا
أرغب هنا أن أتوقف عند البعدين الاساسيين للإيمان بحسب بولس: البعد الشخصي وهو
مرتبط بعمل الروح القدس والبعد الجماعي وهو مرتبط بالانتماء إلى جسد المسيح من
خلال سرّي المعمودية والافخارستيا.

 

اولاً:
البعد الشخصي

وفيه
ثلاثة نقاط مهمّة:

– عجز الانسان عن
الجواب

البعد
الشخصي للإيمان يعني بالدرجة الاولى الجواب الشخصي على اعلان الخبر السار بموت
وقيامة المسيح والاعتراف بأن يسوع المسيح هو حقا الرب، وان الله اقامه من بين
الاموات. والاعتراف بذلك بشهادة الفم (روم 10: 8-10). ولأن الايمان يأتي من السماع
(10: 17) فهو اذا جواب على محتوى الاعلان والبشارة. في هذا المجال اعتقد ان هنالك
لدى بولس تأكيدًا على ان المؤمن هو الذي اختبر بنفسه عدم جدوى الطرق الاخرى في خلاصه.
فلنرى مثالا أولاً على ذلك في روما2: 17ي:

فاليهودي
الذي يعتقد بأنه مبرر بالشريعة لأنه يحفظها ويتبعها وذلك الذي يعتقد انه قادر على
هداية الناس إلى طريق الله من خلال ما تلقّنه إياه الشريعة، فهل يجد هذا الانسان
خلاصا مما يعرفه ويلقّنه؟ كلا! فهذا الانسان نفسه، مع انه يعلّم الآخرين الا انه
لا يعلّم نفسه! ومع انه يعظ بالاقناع عن السرقة فهو يسرق! وينهي عن الزنى ولكنه
يزني! فما هي المشكلة اذا؟ يتوسع بولس في شرح هذه المشكلة في روم 7: 12-14:

ان
الانسان يجد في أفعاله شريعة تخالف شريعة عقله، فهو وان كان يعرف الشر فيجد نفسه
عاملا به! وان كان يعرف الخير ويرغب به إلاّ أنه لا يفعله! فما أشقاه اذا (آية24).

فمن
اين تأتي هذه المشكلة؟ اعتقد ان بولس يعطي جوابا لها في الآية 13 من النص عينه:
(ان الخطيئة، ليظهر انها خطيئة، اورثتني الموت، متذرّعة بما هو صالح، لتبلغ
الخطيئة أقصى حدود الخطيئة، متذرّعة بالوصيّة).

في
الآية 11 كان بولس قد قال: ان الوصية التي هي سبيل إلى الحياة قد صارت لي سبيلا
إلى الموت، ذلك بأن الخطيئة انتهزت الفرصة سبيلا فأغوتني
(exhpath6en) بالوصية وبها اماتتني. هذا الفعل نفسه يستعمله بولس في 2
قورنتس 11: 3 مشيرا بطريقة مباشرة إلى ما حصل مع حواء في جنة عدن وذلك في معرض
دعوته القورنثيين إلى التمسك بإنجيله الذي بشرهم به: (.. ولكني أخشى عليكم ان يكون
مثلكم مثل حواء التي أغوتها الحية بحيلتها..).

(w6 o oji6 exhpath6en Euan) ما يريده بولس هنا هو التأكيد بأن هذه المشكلة هي مشكلة
الانسان عامة بمعزل عن معرفته بشريعة موسى او بالشريعة الطبيعية المكتوبة في قلبه!

فالشيطان
أغوى حواء مستغلا الوصية ليجعلها تخطئ، اي انه استعمل وصية إلهيّة طيبة هدفها خير
الانسان ليؤلّب الانسان ضد الله. أفلم يقل الشيطان ان الله اعطى الوصية لحواء وآدم
لأنه يغار منهما ولأنه لا يريد ان يصيرا آلهة مثله؟ أليست رغبة (التحرر) من الوصية
هي التي دفعت حواء إلى الخطيئة فإلى الموت؟

هذا
هو تفسير بولس اللاهوتي والوجودي لواقع الانسان: انه يعرف الخير ولكنه يعتقد ان
هذا (الخير) المتمثّل بالشريعة يحدّه ولا يسمح له بالتعبير عن حرّيته. انه ينظر
إلى ما يغويه (اي الخطيئة) على انه الخير الحقيقي ولكنه ممنوع عليه. فيرفض هذا
المنع ويقرر ان يعمل (الشر) حتى ولو كانت الوصية تمنعه! انها تلك النظرة القانونية
إلى الوصية التي تبرر القول الشائع: (كل ممنوع مرغوب!)

اعطينا
هذا المثل لنظهر من هو الذي يستقبل الايمان بنظر بولس: انه باختصار ذلك الانسان
الذي اختبر بأنه عاجز عن (عدم القيام بالشر الذي يغويه) وهو الذي اختبر بأن وقوعه
في الشر يميته ويحوّله إلى عبد لشهواته!

لذلك
نفهم الآن صرخة مار بولس في روم 7: 24: (ما أشقاني من انسان، فمن ينقذني من هذا
الجسد الذي مصيره الموت؟) وجوابه في روم 7: 25: (الشكر لله يسوع المسيح ربنا!).

 

– الايمان المختبر

هذا
الجواب هو ما يعنيه بولس بالايمان، اي الاختبار بأن المسيح وحده هو الذي يستطيع ان
يعتق الانسان من واقع العبودية والموت هذا! وهو الذي في الفصل 5 أظهر كيف ان
المسيح قام بهذا التحرير ووصفه بآدم الثاني في مقابل آدم الأوّل الذي بعصيانه دخلت
الخطيئة إلى العالم ودخل الموت. لقد توقّفنا عند الفصل الخامس سابقاً، ونود هنا أن
نشير ايضاً إلى نص 6: 20-23حيث يعود بولس من جديد إلى الاختبار الشخصي لدى
المؤمنين وهو: (لمّا كنتم عبيداً للخطيئة، كنتم أحراراً من جهة البر، فأي ثمرٍ
حملتم حينذاك؟ إنّكم تخجلون الآن من تلك الأمور لأن عاقبتها الموت. أما الآن وقد
إعتقتم من الخطيئة وصرتم عبيداً لله، فإنّكم تحملون الثمر الذي يقود إلى القداسة،
وعاقبته الحياة الأبدية، لأن أجرة الخطيئة هي الموت، وأما هبة الله فهي الحياة
الأبدية في يسوع المسيح ربنا). أعتقد هذا الكلام الموجه إلى مؤمنين عن موضوع
الخطيئة وما ينتج عنها من موت، والايمان ينتج عنه من حياة، لا يمكن أن يجد
مصداقيته إلا في اختبار هؤلاء المؤمنين الواقعي والتاريخي. فكلام بولس ليس وعظاً
من نوع (ما يلزم وما لا يلزم)، ولا خطابياً من نوع الشرح النظري عن الخطيئة
والإيمان ومحاولة إقناع السامعين بهذا دون تلك.. بل هو كما نرى يذكّر هؤلاء
باختبار إيمانهم. لقد إنتقلوا من واقعٍ قديم إلى واقعٍ جديد، وكما يقول هو نفسه في
رسالته إلى أفسس 4: 20 – 24، فإن من يتلقّى تعليماً موافقاً للحقيقة التي في يسوع،
يُقلع عن سيرته الأولى فيخلع الإنسان القديم الذي تفسده الشهوات الخادعة، ويتجدد
بتجدد أذهانه الروحية فيلبس الإنسان الجديد الذي خُلق على صورة الله في البر
وقداسة الحق. طبعاً هذا الكلام نجد له كلاماً موازياً في غل3: 26 حيث يؤكد بولس:
(لأنّكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، فإنّكم جميعاً وقد إعتمدتم في
المسيح، قد لبستم المسيح). أي أن الإنسان الجديد الذي يتكلم عنه في نص أفسس الذي
ذكرناه هو على صورة المسيح وبالإيمان به. نفس الموضوع نجده في رسالة رومة التي
نركّز دراستنا عليها وذلك في الفصل 6. ولكننا نفضّل أن نبقي هذا النص إلى حين
كلامنا عن البعد الجماعي والأسراري للإيمان.

 

– عمل الروح القدس

تبقى
نقطة مهمة في هذا البعد الشخصي للإيمان وهو إرتباطه بعمل الروح القدس، بل كون
الروح القدس هو العامل الأساسي في تحول الإنسان من القديم إلى الجديد، من حالة
العبودية بلا إيمان إلى حالة البنوّة التي من الإيمان.

نشير
هنا فقط إلى نص روم 8: 1-17 الذي سظهر فيه بولس أن عمل الروح أساسي لكي ينتقل
الإنسان من حالة (عداوة الله) إلى حالة (إرضاء الله).

لقد
سبق وتوقفت في مكان آخر عند هذا النص(12) وأظهرت أن الروح المقصود هنا هو الروح
القدس طبعاً، ولكن بارتباطه الوثيق بالمسيح القائم من الموت الذي صار روحاً محيياً
أي أنه يعطي الروح المحيي (راجع 1كو 15: 45). أعتقد أن بولس هنا هو في خط الأنبياء
الأوائل الذين بعد أن اكتشفوا عدم قدرة الإنسان على إرضاء الله بحسب (الشريعة
المكتوبة). أعلنوا أن لا سبيل إلى إستقامة علاقة الإنسان بالله وعيشه الأمانة
لعهده إلا من خلال روح الله نفسه (راجع حز 36: 26-28).

ومن
الجدير ذكره أن بولس يربط بين عدواة الله وعدم القدرة على إرضائه بما يسمّيه (روح
العبوديّة)، حيث يقول: (لم تتلقّوا روح عبودية لتعودوا إلى الخوف، بل روح التبنّي
به ننادي أبّا، يا أبتي)! وهذا الروح يشهد مع أرواحنا بأننا أبناء الله (روم 8:
15-16). فالمشكلة الأساسية التي قادت حواء وآدم إلى الخطيئة فالعبودية فالموت هي
روح العبوديّة، أي روح التمرّد الذي قادهما إلى العصيان وبالتالي إلى الخوف (راجع
تك3: 10). والحل الوحيد هو التحرر، بواسطة روح الله، من روح العبوديّة هذا،
لاستعادة الحريّة والبنوّة.

وخلاصة
الأمر أن الخطوة التي يحتاجها الإنسان لكي يؤمن بما سمعه، ولكي يتخلّى عن إنسانه
القديم، هي أن يثق بالكلمة التي تعلَن له وبالخبر السار الذي يُعلن على مسامعه.
فلا أحد يتخلّى عن شيء مهما كان حقيراً ومزعجاً ومؤلماً، إن لم يتأكد بأن ما يُعرض
عليه هو أفضل منه كثيراً. وهذا هو بالتأكيد ما يُقنع الإنسان ليقبل الكرازة، أي
الروح القدس الذي (يشهد مع روحه بأنه إبن الله).

 

ثانياً:
البُعد الجماعي

وفيه
نقطتان: تحقيق الايمان من خلال الانتماء إلى جماعة، وعيش الايمان في الاسرار.

– الانتماء إلى
جماعة

نتوقّف
قليلاً عند نص 1كو12: 12-13 الذي يختصر فكر بولس عن البعد الجماعي للإيمان
المسيحي، لا من حيث فعل الإيمان الذي يبقى موقفاً شخصياً وجواباً منفرداً أمام
سماع الإعلان بالخبر السار وعمل الروح القدس، ولكن من حيث عيش هذا الإيمان. فليس
من مؤمن يستطيع أن يكتفي بإيمانه، بل إنّ الإيمان يكتمل باختبار الانتماء إلى جسد
المسيح، أي الكنيسة. فاختبار المسيح ليس اختباراً روحانياً، أو عقلياً، أو وجودياً
شخصياً فحسب، بل أن المسيح الحقيقي هو المختبر في تجسده الكنسي أي من خلال جماعة
المؤمنين المتّحدة في جسده السرّي. وموضوع المواهب الذي يذكره بولس هنا وأيضاً في
روم 12 يتطرّق إلى موضوع الروح الواحد ليؤكّد بأن ما يُظهر صحةَ إيمان الفرد هو في
أنّ إيمانه، الذي يختبره في المعمودية، هو نفس إيمان الآخرين. والعلامة عن ذلك هو
أن الروح واحد وليس هناك أرواح عديدة: (فلقد اعتمدنا جميعاً في روحٍ واحد لنكون
جسداً واحداً، أيهوداً كنّا أم يونانيين، عبيداً أم أحراراً، وشربنا من روحٍ
واحدٍ) (1كو12: 31). هذا النص يطرح أيضاً البعد الأسراري للإيمان من خلال سريّ
المعمودية والإفخارستيا ولنا عودة إليهما. ولكننا نركّز الآن على الطابع الجماعي
للإيمان من خلال الروح الواحد. فهذا الموضوع يتطرق إليه بولس مجدداً في الرسالة
إلى أهل أفسس4: 1-6 حيث نجد أساس دعوته المؤمنين إلى أن يسيروا سيرةً تليق بالدعوة
التي دعوا إليها، وإلى احتمال بعضهم بعضاً في المحبة، وإلى الإجتهاد في المحافظة
على وحدة الروح برباط السلام، في قوله: (هناك جسد واحد وروح واحد، كما أنكم دُعيتم
دعوة رجاؤها واحد. وهناك رب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة وإله واحد أب لجميع الخلق
وفوقهم جميعاً، يعمل بهم جميعاً وهو فيهم جميعاً). وهذا ما يؤكده أيضاً في روم12:
5 وفي قول3: 14-15.

أعتقد
أنّ هذا البُعد الجماعي للإيمان هو إحدى الركائز الأساسية للكرازة البولسية.
فالرسول يدرك أن الأجساد تختلف، والعقول، وكذلك المواهب التي يعطيها الله للإنسان.
ولكن العلامة الأكيدة على أنّ إيمانهم المختبر بطريقة شخصية هو من روح الله، هو في
عدم التناقض بين إنسان وآخر، وهو في رباط المحبة الذي يجمع المؤمنين في واحد
ويوحّدهم في جسد المسيح الواحد. طبعاً هذا الجسد له شكله الخاص القائم على
التراتبية إن في المواهب أو في الأعمال. فالمسيح هو الرأس وله يجب أن يخضع
الأعضاء.. ولا نريد أن نتوقّف عند هذا الموضوع المعروف والذي تنظّمت على أساسه
الكنيسة لاحقاً من خلال موهبة القيادة والتدبير الممثّلة في الرسل والأساقفة،
ومواهب التعليم والنبؤة.. وهذا كله نجده في تكملة نص أفسس الذي ذكرناه (4: 9-16).
امّا هدف هذه التراتبية فهو تأكيد (وحدة الإيمان بابن الله ومعرفته لنصير الإنسان
الراشد ونبلغ القامة التي تُوافق كمال المسيح).

– عيش الأسرار

إن
نص 1كور المذكور سابقاً هو من أهم النصوص في طرح البعد الأسراري للإيمان؛ وكما سبق
وقلنا، فالايمان هو جواب شخصي على الإعلان السار، وهو حدث يحصل بعمل الروح القدس.
وقلنا إن هذا الإيمان يتأكد من خلال انتماء الإنسان إلى جسد المسيح كعلامة عن وحدة
الروح ووحدة الإيمان. ونريد هنا بالقول أن أهم ما يمكن أن يحقّق الإيمان ويغذّيه
ويجعله أمراً متجسداً، هو الاشتراك بالأسرار المقدسة. وإذا كان سر المعمودية هو
الحدث الذي يولد فيه الإنسان بالروح القدس إلى بنوّة الله على مثال المسيح مرةً
واحدة، أي بالإشتراك بموت المسيح وقيامته (سرياً) (
Sacramentellement) وهذا ما يختبره المؤمنون جميعاً، فإن سر الإفخارستيا هو الحدث الدائم
الذي يتحقّق فيه الإيمان بطريقة فردية وجماعية معاً.

فكل
مؤمن يتناول جسد المسيح في جسده الخاص، ويشرب دم المسيح ليمتزج بدمه الخاص. ولكن
في الوقت عينه، هذا الجسد يحوّل كل متناوليه إلى واحد في الجسد الواحد والدم
الواحد، بالمسيح الواحد.

وقول
بولس، (فإننا جميعاً نشرب من الروح الواحد)، هو قول يعبّر عن المشاركة في دم
المسيح الواحد من خلال الإفخارستيا.

طبعاً
هناك نص 1كو 10: 15-17 الذي يعلن وحدة المؤمنين من خلال سر الإفخارستيا الذي فيه
(نحن على كثرتنا جسد واحد لأننا كلّنا نشترك في هذا الخبز الواحد). ولكن يبدو لي أن
الفصل 12 أكثر عمقاً من حيث إنّه يعلن وحدة المؤمنين الأسرارية، بدءًا بسر
المعمودية وإنتهاءً بسر الإفخارستيا وذلك في نصٍ واحد.

من
جهة ثانية، من الواضح أن سر الإفخارستيا هو الذي يعبّر أكثر من غيره عن حقيقة
الوحدة في الإيمان من خلال حدث إحتفالي جماعي تظهر فيه وحدة الجماعة المسيحية
بطريقة أسرارية أي بشكل ظاهري يعبّر عن حقيقة وجودية وإيمانية. ولا عيب إذا كانت
الكنائس المسيحية التي تحتفل بالإفخارستيا تدعو المؤمنين إلى عدم المشاركة في
المناولة في احتفالات الجماعات الأخرى التي لا وحدة بعدُ معها، لأنه إن لم يكن من
وحدة في الإيمان، والتراتبية الرسولية، وغيرها، فالمناولة من الجسد الواحد تصبح
شكلاً خارجياً عن كمال الوحدة لا يعبّر عن الحقيقة الوجوديّة والإيمانية الناقصة
عن هذه الوحدة عينها.

 

خاتمة

رأينا
ان بولس الرسول يهيئ كرازته على أساس تفسير كلمة الله التي تتحقّق بكمالها في شخص
المسيح والتي أعلن عنها (العهد القديم). وهو يجتهد في استعمال كل أساليب التفسير
والعرض التي تعلّمها من مدرسة جملئيل، إن من حيث أسلوبه المدراشي او من حيث اللجوء
إلى التفسير التيولوجي. وقلنا ان اهم ما يميز أسلوب بولس في تفسيره للأحداث هو
إقحام خبرته الشخصيّة، اي اختباره التاريخي لشخص المسيح، في معرض شرحه لموت يسوع
المسيح، لا بل في اعلانه له، وحتى في أسلوب كتابته.

واذا
كان قد لجأ في بعض رسائله إلى أسلوب الخطابة البلاغية لإيصال كرازته واعلان حدث
المسيح بأفضل طريقة ممكنة، فإن هذا الاسلوب البلاغي نفسه، ونحن لم نعرضه هنا،
يتميّز غالبا بثغرات على مستوى التأليف الادبي وذلك تحديدا لأن بولس يقحم شعوره
وردّات فعله الشخصية في كلامه.

بولس
هو رسول الامم وهو القائل (الويل لي ان لم أبشّر). أعتقد انه استحقّ الطوبى لأنه
بشّر بالمسيح، بعلمه وبكلّ طاقاته بل بكلّ كيانه.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى