اللاهوت الدفاعي

الفصل الرابع عشر



الفصل الرابع عشر

الفصل
الرابع عشر

بولس
والشريعة

أبحاث
معاصرة حول العالم اليهودي
في زمن
القديس بولس

بولس
والشريعة، مسألة لاهوتيّة وتأويليّة لم يعالَج مثلها مسألةٌ في زمننا الحاضر. وقد
خصّص لها ثلاثةُ كتّاب مؤلَّفات هامّة، منذ عشرين سنة تقريبًا: هوبنر(1)،
سندرز(2)، رايزاين(3). ما قدّمه هؤلاء المؤلّفون كان السبب في حركة مدّ وجزر تركت
الكتب العديدة(4). فالمرمى مهمّ جدًا. فهناك أولاً الخلقيّة(5) المسيحيّة والمكانة
التي تحتلها فيها وصايا العهد القديم. كما أن هناك العلاقة بين العالم المسيحيّ
والعالم اليهوديّ.

إن
مواقف المفسّرين العديدين الذين انكبّوا على دراسة هذه المسألة، متباعدة جدًا. ففي
الكلام عن الشريعة، قد يرى الواحد في بولس امتدادًا حقيقيًا للخلقيّة اليهوديّة،
بعد أن احتفظ للمسيحيين بجوهر وصايا التوراة في المعنى الحصري. وفي الطرف الآخر،
يجعلون من بولس انتيناموسيًا، مناوئًا للشريعة، والمتعلّق تعلّقًا كبيرًا بخلقيّة
بدون شريعة. وعلاقات بولس مع العالم اليهوديّ تقف داخل لائحة واسعة جدًا: تصوّر
بعض المؤوّلين والمؤرّخين بولس، على أنه فرّيسي حقيقيّ، يتّحد اتحادًا عميقًا على
مستوى الفكر والروح مع المثقّفين اليهود في القرن الأول المسيحيّ. بينما يؤكّد
آخرون أنه لم يفهم شيئًا تقريبًا من العالم اليهوديّ في عصره.

سنحاول
أن نلقي بعض الضوء على هذا الجدال. ولكن من الواضح أننا لن نقدر في هذه الحلقة
المتعدّدة الاصوات، أن نقدّم حلولاً أفضل من تلك التي قدّمها آخرون.

 

1
– تعابير لامتوافقة في الظاهر

في
المحاضرة السابقة(6)، أشرنا إلى واقع يقول إن بولس لا يخشى أن يقدّم آراء عن
الشريعة، في تعابير تحمل سمة المفارقة. وها نحن نقوم بجردة على مدّ الرسالة إلى
رومة. فقد سبق وأبرزنا التوافق الظاهر بين المقطعين الأولين اللذين نعود إليهما.

استعمل
بولس لفظة (شريعة)(7) (ناموس) للمرة الأولى، في روم، ليقدّم عنها بالاحرى نظرة
إيجابيّة: (جميع الذين خطئوا بدون ناموس، فبدون ناموس أيضًا يهلكون، وجميع الذين
خطئوا في نظام الناموس، يدانون بالناموس. فليس السامعون للناموس يبرّرون أمام
الله. إنما العاملون بالناموس يبرّرون) (2: 12-13). فالناموس الذي هو موضوع الكلام
هنا هو الناموس اليهوديّ. وهو يقدّم هنا كشرط العمل الخلقيّ. بعضهم خضعوا له: هم
اليهود. لهذا، هم يدانون حسب معايير تتوافق والناموس. أما الوثنيّون فلم يخضعوا
للناموس. لهذا، هم يدانون حسب معايير أخرى.

ولكن
بعد ذلك بقليل، يستعمل النصّ في كلامه عن الشريعة تعابير ليست أبدًا في صالحها:
(لا يبرّر أحدٌ أمامه (أمام الله) بأعمال الناموس) (3: 20). رأينا أن بولس هيّأ،
بهذا القول، الطريق لاعلان التبرير بالايمان، وهو اعلان يأتي حالاً بعده، في 3:
21.

هل
يستنتج بولس من هذا أن الشريعة لا تلعب بعدُ دورًا في النظام المسيحيّ؟ حاشا وكلا.
فهو بعد أن صوّر خلاصًا يعني جميع البشر، مختونين ولا مختونين (أي اليهود وغير
اليهود)، طرح السؤال: (هل ننزع بالايمان كل قيمة للشريعة)؟ وأجاب: (بل بالأحرى
نثبت الشريعة) (روم 3: 31). ولكي يبيّن أنه يثبتها، خصّص فصلاً كاملاً لكي يقدّم
براهينه منطلقًا من الشريعة، من التوراة اليهوديّة التي تعني أبا الآباء ابراهيم
(روم 4). ونستطيع أن نوجز البرهان بالشكل التالي، ونحن نرجو أن لا نفرط في تبسيطه:
أكّد سفر التكوين أن ابراهيم أعلن بارًا لأنه آمن بالله (تك 15: 6). إذن، هي التوراة
نفسها تؤكّد أننا نتبرّر بالايمان، لا بأعمال الشريعة. إذن، التبرير بالايمان
يتوافق مع الشريعة.

ومع
ذلك، فالخبرة تبيّن أن الشريعة تحرّك تجاوز الشريعة (4: 15). هي ترتبط ارتباطًا
بالخطيئة (5: 13). بما أن ذاك الذي يؤمن بيسوع المسيح قد خرج من منطقة تؤثّر فيها
الخطيئة، فقد خرج أيضًا من منطقة تؤثّر فيها الشريعة. فاستطاع بولس أن يكتب في
بداية ف 7: (أما الآن وقد متنا عمّا كان يقيّدنا، تحرّرنا من الشريعة) (7: 6). لا
شك في أن الشريعة نفسها ليست خطيئة (7: 7). ولكنها تكشف الخطيئة، تعطيها قوّة لم
تكن لها بدونها، تجعل الانسان في انشداد بين رغبته في عمل الخير وعجزه عن تحقيقه،
كما قلنا أيضًا في المحاضرة السابقة. إذن هناك (شريعة الخطيئة) (7: 23) التي
سيسمّيها بولس أيضًا بشكل أكثر سلبيًا: (شريعة الخطيئة والموت) (روم 8: 2). ولكن
ليس هناك فقط تلك الشريعة. حينئذ يسمّي بولس شريعة أخرى. يدعوها (شريعة الله) (7:
22). أو أيضًا: (شريعة الروح)، وهي تلك التي (حرّرته من شريعة الخطيئة والموت) (8:
2).

ولا
نودّ أن ننهي هذه اللائحة دون أن نذكر أيضًا مقطعين يردان فيما بعد، في مسيرة
النصّ. في المقطع الأول نقرأ جملة هي مثار جدال، ونجدها في الفصول المخصّصة لمصير
اسرائيل وخلاصه (ف 9-11): (المسيح هو غاية الشريعة) (10: 4). في هذه العبارة، لفظة
(غاية)(8) هي ملتبسة. فقد تعني (الهدف، المرمى). حينئذ يكون المسيح ذاك الذي إليه
تقود الشريعة. وتعني (النهاية، الخاتمة). هذا يعني عندئذ أن الشريعة تنتهي حين يكون
المسيح هنا(9).

في
المقطع الثاني، تحدّث بولس أيضًا عن الشريعة في الفصول التي يخصّصها للخلقيّة. بعد
أن أورد عدّة وصايا من الدكالوغ، من الوصايا العشر، (لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا
تشته)، أكّد أن كلمة واحدةً، هي محبّة القريب، تكمّل جميع هذه الوصايا (13: 8-10).
نلاحظ هنا أنه يذكر الشريعة والوصايا لكي يتجاوزها. لأن الجملة التي يوردها من سفر
اللاويين (19: 18) (أحبب قريبك كنفسك) توصف بأنه (كلمة)، لا (شريعة)، ولا (وصيّة).

وهكذا
نرى التشعّب الكثير لهذه المسألة (بولس والشريعة) كما نكتشفها في نهاية هذا
التعداد. فما هي إذن هذه الشريعة السلبيّة والايجابيّة التي تعمل دومًا بقوّة مع
أنه سبق لها وانتهت؟ وما هي هذه الشريعة الأخرى التي يجعلها الرسول بجانب الأولى؟
هل هناك شريعة واحدة، أو شريعتان؟ ولم لا يكون هناك ثلاث شرائع؟

إن
أردنا أن نرى الأمور بوضوح أكثر، نتوقّف على التوالي عند الرسالتين البولسيتين
اللتين تتحدّثان عن الشريعة أكثر من سائر الرسائل: الرسالة إلى الغلاطيين والرسالة
إلى الرومانيين: نحاول أولاً أن ندرك وضع الكنيسة الذي وُجد فيه القرّاء.
وبالتالي، نُلقي الضوء على نصّ الكلام الذي وجّهه بولس إلى قرّائه.

2
– بولس والشريعة في الرسالة إلى الغلاطيين

إذا
أخذنا بالفرضيّة التي تقول إن قرّاء غل هم كنائس غلاطية الشماليّة(10)، أي الكنائس
التي بشّرها بولس خلال رحلته الرسوليّة الثانية، نكون أمام جماعات مسيحيّة تألّفت
من مؤمنين جاؤوا من العالم الوثني(11)، ثم حاولوا بعد ذلك أن يتهوّدوا، أي أن
يضمّوا إلى إيمانهم المسيحي بعض ممارسات الشريعة اليهودية: الختان، المحرّمات
الطعاميّة، الاحتفال ببعض الاعياد.

وكانت
مسألة ثانية مثار جدل: من أين جاء هؤلاء المنادون بانجيل يختلف عن إنجيل بولس؟ هل
هم مسيحيون انتدبهم يعقوب وأرسلهم من أورشليم(12)؟ هل هم يهود قريبون من الاتجاه
الفرّيسيّ، ولم يكونوا يومًا مسيحيين؟ هل هم من تيارات يهوديّة لا أرثوذكسيّة
أقامت في الشتات؟ إن نص الرسالة لا يتيح لنا بأن نحسم المسألة.

وما
هو واضح، هو أن الجواب الذي قدّمه بولس لتيّار شريعاني(13) يرى فيه بولس انحرافًا،
يُبرز عرضًا للشريعة اليهوديّة، يرتبط بتاريخ الخلاص. عارض بولس الشريعة
بالوعد(14). فالوعد هو أول في قصد الله، وأول حين نتكلّم على مستوى مسلسل الأحداث.
هو يعود إلى ابراهيم. وهو الذي يحمل سلالة العهد. وموضوعه الروح القدس (غل 3: 14).
والحال أن هذا الروح يقيم في جميع المؤمنين، لا في اليهود وحدهم. وضمّ إلى ابراهيم
نسله(15)، وهو لفظ يستعمله بولس في صيغة المفرد فيدلّ في النهاية على يسوع المسيح،
فوق سلسلة الوسطاء الذين ينطلقون من ابراهيم إلى المسيح. وفي الوقت عينه، لاحظ
بولس أن الشريعة التي جاءت بعد الوعد بأربع مئة سنة (غل 3: 17) لا تلغي الوعد. بل
هي خاضعة له.

وبعبارة
أخرى، زمن الشريعة، كما تقدّمه غل، هو معترضة. يمكن أن توضع بين قوسين. لعبت دورًا
تربويًا في وصول الشعب إلى النموّ. غير أن هذا الوضع لم يكن معدًا لكي يدوم (3:
24-25). ثم إن المربّي كان عبدًا في الحضارة اليونانيّة والرومانيّة. فهو نفسه كان
محرومًا من الحرية. ونقل بولس غياب الحرية لدى العبد المربّي إلى غياب الحرية لدى
الصبيّ الذي كلّف بتربيته، فقال: من خضع للشريعة كان وكأنه في الأسر (3: 23). ولكن
حصلت لنا النجاة في المسيح، وزمنُ النضوج إذا شئنا، فلم يعد من مبرّر لنبقى خاضعين
لهذا المربّي ولا لكي نجعل هذا الأسر يدوم. ففي المسيح أعطيت لنا الحرية. (فالمسيح
حرّرنا لكي نكون حقًا أحرارًا) (5: 1).

ثم
يجب أن لا ننسى أحد الأقوال التي تبدأ مقال غل حول الشريعة: إن قيامة المسيح
تُُثبت لعنة، تؤثّر في الشريعة. فشريعة كُتب فيها: (ملعون من علِّق على خشبة) (تث
21: 23. يرد في غل 3: 13)، تُصدر حكمًا ضمنيًا به تلعن المسيح المصلوب. ولكن
المصلوب لم يُلعَن من قبل الله. بل عكس ذلك. فقيامته تقابل بركة. وبعبارة أخرى، إن
اللعنة التي تلفظها الشريعة على المصلوب عادت إليها. فاستطاع بولس أن يتكلّم عن
(لعنة الشريعة)(16) مستعملاً المضاف الوضعيّ(17).

بعد
هذا، ماذا يبقى من الشريعة في النظام المسيحيّ؟ لا نكونُ متطرّفين إن قلنا: لا
يبقى منها شيء. قامت بخدمتها، فلم يعد من مبرّر لوجودها. في غل، اختلفت عبارات
بولس عن عبارات استعملها في روم، فحاذر استعمال لفظ (شريعة)(18) حين أراد أن
يتكلّم عن الكتب المقدّسة اليهوديّة التي ينطلق منها لكي يقدّم براهينه. فانحصرت
الشريعة في غل، في مجموعة وصايا عفّاها الزمن. ودعا بولس قرّاءه إلى أن لا يقولوا
بشريعة أخرى سوى تلك التي يسمّيها (شريعة المسيح) (غل 6: 2)، وهي عبارة تتضمّن
مضافًا(19)، هو موضوع جدال. هو بلا شكّ مضاف تفسيريّ(20) أو مضاف بدل(21). ويمكن
أن نوضح العبارة فنقول: (الشريعة التي هي المسيح) أو (الشريعة – المسيح). فلا
شريعة أخرى للمسيحيّ سوى المسيح نفسه. وهي لا تشبه أي شبه مجموعة وصايا مبنيّة
بناء. والمؤمن لا يخضع لها بموقف ينتمي من بعيد أو قريب إلى الطاعة(22).

 

3
– بولس والشريعة والعالم اليهودي في الرسالة إلى رومة

قدّمت
الرسالة إلى غلاطية عن الشريعة اليهوديّة وُجهة بدت في صوت واحد. فقد رأى فيها
القرّاء الذين هم مسيحيون جاؤوا من العالم الوثني، شيئًا لا أساس له أخذوه من
العالم اليهوديّ. والحال أن بولس يعتبر أن الانسان يستطيع أن يصير مسيحيًا دون أن
يمرّ في اليهوديّة ويقبل الختان. في مثل هذه الظروف، ما احتاج الرسول أن يهذِّب
نظرته إلى العالم اليهودي. فالتهوّد في نظر الغلاطيين هو عودة عبثيّة إلى ديانة
ليست ديانتهم. ذاك هو الوضع الذي بدا واضحًا بعض الوضوح، في كنائس مسيحيّة أمميّة،
أي كنائس آتية من العالم الوثنيّ.

ولكن
الأمر يختلف بالنسبة إلى كنائس مؤلّفة من مسيحيين جاؤوا من العالم اليهوديّ. وقد
تعقّد هذا الوضع الأخير أيضًا بمسائل ارتبطت بالتساكن بين حضارتين، بين كنيستين ممزوجتين،
كنيستين جاء بعض مؤمنيها من العالم الوثني والبعض الآخر من العالم اليهوديّ. ذاك
كان وضع الجماعة المسيحيّة في رومة. وها نحن نحاول أن نُوجز تاريخها، فننطلق منه
لكي نذكر الأسئلة التي طُرحت في هذه الجماعة(23).

بُشّرت
رومة في الاربعينات على يد مرسلين نجهل اسمهم. وكان اليهود بلا شكّ أول الرومان
الذين لامستهم الكرازة الانجيلية، وهدتهم إلى المسيح. وبعد ذلك، انضمّ إليهم بعض
الوثنيين الذين شكّلوا أقليّة في البداية. ولكن انضمام بعض أعضاء الجماعة
اليهوديّة الرومانيّة إلى الانجيل، خلق انقسامًا في داخلها. ونتج عن ذلك،بين هاتين
المجموعتين اليهوديتين، مواجهاتٌ تميّزت ببعض العنف، فانتهت بشكل واضح بقرار عرفه
سواتانيوس. (بما أن اليهود كانوا يثورون بدون انقطاع بدفع من خرستوس، طردهم
(كلوديوس) من رومة(24). هناك جدال حول تاريخ هذا القرار. فقد يعود إلى بداية حكم كلوديوس،
حوالي سنة 41-42. أو إلى حوالي سنة 49(25). وكانت النتيجة أنه وجب على المسيحيين
الذين من أصل يهوديّ، أن يهربوا من مدينة رومة: لجأ بعضهم إلى الشّتات. والبعض
الآخر عاد إلى الأرض اليهوديّة. ذكر سفر الأعمال في هذا المجال وصول برسكلة وأكيلا
إلى كورنتوس ساعة بلغ إليها بولس نفسه (أع 18: 2-3). المسيحيون الذين لبثوا في
رومة كانوا قلّة، وكانوا من أصل وثنيّ. فاعتادوا أن يعيشوا دون أن يراعوا عادات
حضارية اعتاد عليها إخوتهم الذين من أصل يهوديّ. ومات كلوديوس سنة 54. وهذا ما
أتاح ليهود رومة أن يعودوا إلى المدينة التي تركوها قبل ذلك الوقت ببضع سنوات.
ولما وصلوا إلى هناك، وجدوا جماعة مسيحيّة نمت كثيرًا بعد أن انضمّ إليها أعضاء
جدد جاؤوا كلهم، أو معظمهم، من العالم الوثنيّ. كان المسيحيون المتهوّدون
الأكثريّة في المجموعة المسيحيّة ساعة اتخذ كلوديوس قرارًا بطردهم. وما عتّموا أن
وجدوا نفوسهم أقليّة. وهذا ما خلق لهم صعوبات مع إخوتهم المسيحيين الذين من أصل
وثنيّ. كانوا يعيشون على الطريقة اليهوديّة، فيراعون بشكل خاص القواعد الطعاميّة
التي لا يرى المسيحيون الأمميّون لهم علاقة بها(26).

إن
إعادة البناء التاريخيّ لهذه الأحداث تبدو سهلة حين نستعين بشهادات جانبيّة نجدها
في سفر الأعمال وكتب التاريخ الرومانيّة. ونستطيع أيضًا أن نعرف، مع هامش بسيط من
الخطأ، ما كان الوضع الدينيّ في جماعات رومة المسيحيّة. حين نتذكّر كبر المدينة،
ونأخذ بعين الاعتبار أن المسيحيين لم يمتلكوا مباني كبيرة يجتمعون فيها، يجب أن
نتكلّم بالاحرى عن جماعات مسيحيّة، في صيغة الجمع، لا في صيغة المفرد(27). ولكن
تكبر الصعوبة حين نحاول أن نُدرك المناخ اليهوديّ الذي يعود إليه بولس في رومة حين
يذكر الشريعة. هل يشير إلى الشريعة كما عاشها اليهود في رومة؟ أو إلى الشريعة كما
عرفها بولس حين نال تربية دينيّة في شتات طرسوس؟ أو إلى الشريعة كما كان يعلّمها
الفريسيون في أورشليم؟ إن الوجهات المتعدّدة للعالم اليهوديّ في القرن الأول،
ترافقت (وهذا أمر لا يمكن تجنّبه) مع نظرات متعدّدة إلى الشريعة.

وكانت
فرضيّة تقول إن هذه التعدّدية تشرح تنوّع أقوال بولس في الشريعة. ورث تيّارات
وأفكارًا يهوديّة غير موحَّدة، فقدّم في روم نظرة إلى الشريعة جاءت قليلة
التماسك(28). ولكن، مع أننا نوافق على وجود تعدّدية في مراجع الفكر البولسيّ، إلاّ
أننا لا نستطيع بسهولة أن نقبل بكل بساطة بقول عن لاتماسك فكر بولس، قبل أن نستنفد
سائر طرق البحث كلها.

وافترض
مفسّرون آخرون أن بولس يصلّب موقف اليهود حين يذكر الرأي اليهودي الذي بحسبه
(يتبرّر الانسان بأعمال الشريعة) (روم 3: 20). فاعتبر ساندرز أن ما من يهوديّ في
عصره فكّر مثل هذا الفكر. بل إن العالم اليهوديّ الذي عاصر بولس، نادى بالاحرى بما
سمّاه ساندرز (شريعيّة العهد)(29) التي بدا مضمونها كما يلي: لم تكن الامانة
للشريعة، بالنسبة إلى اليهود، وسيلة للبلوغ إلى التبرير. بل كانت أولاً وسيلة
وشرطًا للبقاء في العهد. جاءت مؤلفات ساندرز ثمينة بالتحاليل العديدة التي
قدّمتها. ولكن كانت موضوع دراسات عديدة، فغذّت جدالات كثيرة. لهذا، أخذت قلّة
قليلة بطرحه لأنه كان قاسيًا ولا يأخذ الظروف بعين الاعتبار. بل جاء ما (يكذّب)
هذا الطرح بشكل جزئيّ ما نُشر أخيرًا من مخطوط وُجد في مغارة قمران الرابعة: وُجدت
فيه عبارة (أعمال الشريعة) وقد كُتبت بكل وضوح، وهي التي نقرأها في روم 3: 20 وفي
أكثر من مرّة في الرسالة إلى غلاطية (2: 16؛ 3: 2، 5، 10). ففي رسالة وجّهها رئيس
جماعة قمران إلى رئيس معارضيه، كتب إليه: (ولهذا كتبنا لك بعضًا من أعمال
الشريعة(30) التي نظنّها صالحة لك ولشعبك، لأننا رأينا فيك فهم الشريعة (التوراة)
ومعرفتها)(31). لا شكّ في أننا أمام نصّ اسيانيّ، ولكنه يدلّ على واقع يقول إن
نظريّة (شريعيّة العهد) التي صاغها ساندرز تقلّل بلا شك من الأهميّة التي منحها
العالم اليهودي في القرن الأول، لنتائج الخلاص التي تنتج عن ممارسة الشريعة.

بعد
هذا، فمؤلّفات ساندرز والدراسات التي نتجت عنها حول العالم اليهوديّ، جعلتا عددًا
من المسيحيين يخرجون من أفكار مبسّطة حول العالم اليهوديّ في القرن الأول المسيحي
وفيما بعد. فحفظُ الوصايا لم يكن يومًا لليهوديّ التقيّ نوعًا من تجارة ترتبط
بمنطق (أعطي فتُعطي)، وكأن ممارسة الشريعة طريقة نفرض بها على الله أن يمنح برّه.
فممارسة الشريعة في العالم اليهوديّ، هي نعمة يمنحها الله ذاته. وليست الشريعة
أولاً لائحة وصايا نعمل بها. هي عطيّة يهبها الله، في حبّه، لشعبه. في هذا المجال،
يكفي أن نتأمّل في مز 119 لكي نقتنع بهذا الكلام.

ولكن
الموضع الذي فيه بدا بولس يستعيد مقولات الفكر اليهوديّ لكي يجعل مسافة بينه
وبينها، ففي النقد الذي يوجّهه إلى تعدّدية الوصايا: حسب الفكر اليهوديّ، يجب أن
تمارس كلها، وهي عديدة جدًا: 613 وصيّة. ذاك هو العدد الذي احتفظ به المعلّمون
اليهود (الرابينيون) في خُطى الفريسيين، على ما يبدو. وهذا ما شهد له بولس نفسه
حين كتب إلى الغلاطيين: (وأشهد مرّة أخرى لكل من يختتن، أنه مُلزم بأن يعمل
بالناموس كله)(32) (غل 5: 3)(33). والمرّة الوحيدة التي فيها يستعمل بولس عبارة
(عمل الشريعة) فيعطيها قيمة إيجابيّة، إنما يستعملها في صيغة المفرد، وذلك حين
يتحدّث عن الوثنيين الذين يمارسون الشريعة مع أنهم لا يعرفونها: (أظهروا أن عمل
الشريعة مكتوب في قلوبهم) (روم 2: 15). أما عبارة (أعمال الشريعة) في صيغة الجمع
فتتلوّن عنده دومًا بلون سلبيّ.

حين
ينتقد بولس الشريعة اليهوديّة، وبشكل رئيسي في روم، فاللوم الاكبر الذي يوجّهه
إليها هو بلا شكّ تفتّتها في وصايا عديدة تفترض ممارسة دقيقة جديدة: فلا شك بأن
بولس يعتبر أن هذه الدقّة (والتفاصيل) تُبعد المؤمن عن الهدف الذي هو الأمانة لله
في يسوع المسيح. هناك ثابتة في الفكر البولسي، التشديد على الواحد كصورة عن الشامل.
بل هو يحذّر من كلَّ ما يُفرد، ما يقسِّم، ما يفجّر الوحدة في واقع متعدّد. ذاك
هو، على ما يبدو، أحد انتقاداته الرئيسيّة للعالم اليهوديّ. فالاله الواحد يطلب
تعلّقًا اجماليًا كاملاً، لا مجموعة من الممارسات المحدّدة التي تقودنا دومًا،
بشكل أو بآخر، إلى إحصاء أعمالنا الصالحة(34).

 

خاتمة

وهكذا
رأينا أن الأبحاث حول بولس والشريعة، حول بولس والعالم اليهوديّ، هي في ملء
غليانها. وما من مفسّر واجه مثل هذا الواقع، تجرّأ فقال إنه قدّم لهذا البناء
حجرًا متينًا، أو حجرًا نهائيًا. مثلُ هذا الموضوع يطرح سؤالاً حول علاقة بولس
بجذوره. والحال أن هذه العلاقة انطبعت بعناصر انقطاع كما ارتبطت بعناصر هي عناصر
اتصال(35).

أين
هو الاتصال؟ نجده بلا شك، في تكريم بولس للكتب المقدّسة تكريمًا يشارك فيه إخوته
اليهود، ولا سيّما الجزء الأقدس في الكتاب المقدّس بعهده القديم، وهو التوراة
بالمعنى الحصري أو البنتاتوكس (أسفار موسى الخمسة). هو يورد الكتاب. ينطلق منه لكي
يقدّم براهينه. الكتاب هو محرّك فكره وبانيه.

ولا
شك أيضًا بأن هناك اتصالاً في الكلام عن القداسة التي يصف بها الشريعة، وهي قداسة
يذكرها في روم 7: 12: (فالشريعة إذن مقدسة. والوصيّة مقدّسة وعادلة وصالحة).
فالشريعة التي هي عطيّة الله تشارك في قداسة ذاك الذي خلقها وأعطاها لشعبه
المختار، للشعب اليهوديّ. في هذا المعنى، كانت الشريعة نافعة. بل لعبت في التاريخ
اليهوديّ دور التدبير والعناية: دور المرافق، دور المربّي الذي أتاح لاسرائىل أن
ينمو في الايمان. إن الشريعة تدلّ على مرحلة رئيسيّة في تاريخ الخلاص وهي مرحلة
تسير من موسى إلى يسوع.

ومع
ذلك، فالشريعة كمجموعة وصايا عديدة مبنيّة بناء، جُعلت لزمن، وهذا الزمن قد انتهى
الآن. فعلاقة المؤمن بالله انطبعت بعلامة الوحدة والشموليّة، التي تتوافق بصعوبة
مع ما هو خاص ومتعدّد. ونلاحظ أيضًا في المقطع الذي أوردناه الآن (روم 7: 12) أن
(شريعة) و(وصيّة) يردان في صيغة المفرد. ونقول الشيء عينه عن عبارة (عمل الشريعة)
التي لا قيمة لها إيجابيّة عند بولس، إلاّ في صيغة المفرد، لا في صيغة الجمع.
فحدود الشريعة هي أن مجمل الوصايا التي تكوّنها تسهّل التجاوزات، وأنها تكشف في
مهمتها التربويّة أنها شريكة(36) في الخطيئة من قريب أو بعيد. فالشريعة تتوقّف عند
الفرديّة فتقسم العالم قسمين، اسرائيل والآخرين. أما بولس فيشدّد، وهو على صواب في
ذلك، على نداء جميع البشر إلى الخلاص. نحن هنا أمام نداء يتوجّه إلى الكون كله.

إذن،
الشريعة الخلقيّة الوحيدة التي يحتفظ بها بولس هي الشريعة الاجماليّة: هي (شريعة
الروح) (روم 8: 2). أو أيضًا: (شريعة المسيح) (غل 6: 3). غير أن مثل هذه الشريعة
ليست شريعة: المسيح هو شريعة. والروح هو شريعة المؤمن وشريعته الوحيدة. وكل
التعليمات حول تصرّفات يمكن أن تُعطى في الكنيسة، ليست سوى نصائح وقواعد حياة
نعطيها لنفوسنا، وليس لها أي طابع مطلق(37). يجب أن لا ننسى أن بولس نفسه عصى
أمرًا أعطاه الرب بنفسه، أمرًا يجعل خادم الانجيل يعيش على المستوى المادي من
نشاطه الرسوليّ(38). ورغم هذا الأمر، عمل الرسول بيديه ما عدا في فيلبي (فل 4:
16-17) لكي ينعم بحريّة أكبر بالنسبة إلى المؤمنين في الكنائس. فإن كان بولس قد
(افتخر) بأنه عصى أمر الرب، فبالحري نستطيع أن نظنّ أنه لم يعط الطابع المطلق لأي
أمر من الأوامر.

وفي
النهاية، اذ نرجع بعض الشيء إلى الوراء بالنسبة إلى الفكر البولسيّ بحصر المعنى،
لنقدّم عنه تأويلاً مسيحيًَا يتوافق مع عصرنا، نورد هذه النقطة الأخيرة. لا نعتبر
نفوسنا، نحن المسيحيين، خاضعين لفرائض الشرائع اليهوديّة. في هذا المعنى، نحن حقًا
تلاميذ بولس. غير أننا نعيش في كنيسة، وهذه الكنيسة قد أعلنت شرائع وقوانين. فكيف
نتعامل معها؟ ألم نعطها بدورنا الطابعَ المطلق؟ أما فتّتنا الخلقيّة المسيحّة
فجعلناها في عدد كبير من الفرائض، تشير مرارًا إلى تفاصيل، وأردنا أن نحاسب
المؤمنين عليها بدقّة تصل بنا بعض المرات إلى الوسواس؟ وبعبارة أخرى، أما خلقنا من
جديد خلقيّةَ شريعة أكثر تفتيتًا وأكثر تفصيلاً من تلك التي يندّد بها بولس في
العالم اليهودي؟ لنطرح على نفوسنا سؤالاً في هذا المجال. إن كنا سقطنا في
الشريعانيّة، وفي شريعانيّة تزيد بقسوتها على شريعانيّة العالم اليهوديّ في القرن
الأول أو الشريعانيّة التي يندّد بها بولس، لنعد من جديد إلى نصوص بولس فنتغذّى
منها. إنها صعبة القراءة. وهي تقدّم نظرة إلى الشريعة لا ندركها بسهولة، وان بدت
هذه النظرة، بعض المرَّات، متضاربة في الألفاظ. غير أن لهذه النظرة نفَسًا، لها
نفَس الروح، فتكون دواء صالحًا يمنعنا من المناداة بخلقيّة من النمط (المتهوّد)،
خلقيّة تعطي أهميّة مفرطة لما يُزعم أنه وصايا مسيحيّة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى