اللاهوت الدفاعي

الفصل الثامن



الفصل الثامن

الفصل
الثامن

أبحاث
جديدة
حول بناء الرسالة إلى الرومانيين

يصعب
على الباحث دومًا، بل هو يخاطر حين يطرح تصميمًا لأي مؤلّف كان، ساعة لا يُعلن هذا
المؤلّفُ بوضوح تصميمَه. ومع ذلك، فالقارئ لا يقدر أن يستغني عن البحث عن تصميم،
ولا سيّما حين يكون أمام مؤلّف كثيف وغضّ مثل الرسالة إلى رومة، التي لا تسلّم
تعليمها بسهولة. فجميع الكتب المقدّسة المطبوعة، ولا سيّما الطبعات الكبرى
المستعملة في العالم المسيحي، المسمّى (الغربي)، سواء كاثوليكيًا أو بروتستانتيًا،
تطرح تقسيمات ترسم في النصّ سبلاً ناجحة أو لا.

وغالبًا
ما تكون التصاميم التي يتوقّف عندها المترجمون والناشرون تصاميم بحسب الموضوع
والأفكار. فالمترجم يحاول أن يكتشف في النصّ أفكارًا رئيسيّة مؤسّسة على الألفاظ
المسيطرة. يعود إلى روح الشميلة لديه، فيحدّد أقسامًا في النصّ يجعلها تحت عناوين
يُقحمها في المؤلّف لكي تكون سبلاً تتيح للقارئ أن لا يتراجع أمام نصّ كثيف جدًا.

منذ
وُجدت ترجمات البيبليا في اللغات الحديثة، ومنذ بدأوا يقطّعون النصّ أقسامًا
أعطوها عنوانًا، لكي يسهلّوا قراءته، تكاثرت تصاميمُ روم حسب الموضوع والافكار.

 

1
– الكتل الكبرى

في
الحقيقة، هناك كتل كبرى يسهل عزلها. فيتوافق جميع القرّاء على حدودها. مثلاً، ذاك
هو وضع ما يسمّى الغلاف الرسائلي(1). فالرسالة إلى رومة بُنيت كخطبة طويلة أدرجت
في رسالة نكتشف فيها بسهولة العنوان والخاتمة. فالعنوان يتبع الرسمة الكلاسيكيّة
لعنوان رسائليّ في الزمن القديم: فلان يكتب إلى فلان ويرسل إليه تحيّته. هذا ما
نجده في روم 1: 1-7.

والخاتمة
أيضًا، تألّفت من سلامات وأخبار شخصيّة، هذا إذا تركنا جانبًا مسائل النقد
النصوصيّ(2). فهي تغطّي بشكل إجمالي 15: 14-16: 25.

ونستطيع
بسهولة أن نكتشف أيضًا كتلتين أخريين كبيرتين. ننطلق من نهاية الرسالة لكي نراها،
ونواصل قراءتنا للنصّ ونحن راجعون إلى الوراء. الكتلة الاولى تبدأ مع ف 12 وتتواصل
حتّى 15: 13. لهجتها تختلف كل الاختلاف عن الفصول العقائديّة التي سبقتها.
فالمسائل المعالَجة هي مسائل خلقيّة، مسائل ترتبط بتصرّف المؤمن. في الطبعات
القديمة التي قدّمتها (بيبليا أورشليم)، سمّيت (ارشاد)(3). أمَّا الطبعة الأخيرة
(1998) فاستعملت لفظة بسيطة لا تقنيّة. فضّلت أن تعطيها العنوان التالي: (جواب
المؤمنين). اختلفت الألفاظ وظلّ المضمون هو هو.

ثم
إنه من السهل أن نعزل ف 9-11 المكرّسة لمسألة شعب اسرائيل الذي لم يدخل في الخلاص
الذي قدّمه المسيح: سبق لبولس فأكدّ أننا ننال الخلاص بالايمان بيسوع المسيح، وأن
الايمان لم يعد مربوطًا بممارسة الشريعة. ولاحظ أيضًا أن الشعوب الوثنيّة تقبّلت
بسرور البلاغ المسيحيّ الذي رفض أن يأخذ به مجملُ الشعب اليهوديّ. عندئذ طُرح عليه
سؤال يتجذّر في كل التقليد البيبليّ: ما الذي صار إليه اختيار اسرائيل (أتكلّم هنا
عن الشعب اليهوديّ ككلّ، لا عن دولة اسرائيل)، وهل نتأمّل بأن يشارك في الخلاص؟
سؤال مؤلم لشخص مثل بولس اليهوديّ، ولقسم من قرّائه المسيحيين في رومة الذين كان
بعض منهم يهوديًا. لهذا، كرّس الرسول لهذا الموضوع ثلاثة فصول(4).

فإذا
أخذنا بعين الاعتبار هذه الملاحظات التي يتّفق عليها جميعُ القرّاء تقريبًا،
نستطيع أن نعزل في روم بعض كتل كبيرة تقودنا إلى التصميم التالي:

1:
1-17: عنوان الرسالة

1:
18-8: 39 التوسّع العقائديّ الرئيسيّ

ف
9-11 وضع اسرائيل وخلاصه

12:
1-15: 23 مسائل خلقيّة

15:
14-16: 27 خاتمة الرسالة.

 

2
– التصاميم الموضوعيّة غير كافية

على
هذا المستوى الاجماليّ جدًا، لا نجد اختلافات تُذكر في الآراء. وتبدأ الصعوبات
ساعة نبدأ بتقسيم النصّ داخل هذه الكتل الكبرى، وخصوصًا داخل المجموعة المؤلّفة من
ف 1-8.

يجب
أن نعترف في هذا المجال، أن المحاولات الموضوعيّة (على مستوى المواضيع والأفكار)
لا تُقنع كثيرًا، فهي تصل بنا إلى نتائج تختلف بين شارح وآخر، وهذا ما لا يجعلنا
نثق بها طوعًا. هناك اتفاق عام على قسمة هذه المجموعة الكثيفة المؤلّفة من ثمانية
فصول تقريبًا، قسمتين اثنتين. ولكن، أين تكون علامة القطع؟

جعلها
بعض الشرّاح بين آ 20 وآ 21 من ف 3. فإن 3: ،1 يبدأ بعبارة احتفالية (أما الآن(5)
تجعلنا نفهم أن وضعًا جديدًا يبدأ(6).

وتوقّف
بعض الشرّاح عند علامة قطع أخرى: هي تمرّ بين ف 4 المخصّص لابراهيم، وف 5. تبدو
البداية أقلّ وضوحًا، ولكن التوسّع حول ابراهيم يقدّم خاتمة حسنة لأول توسّع
عقائديّ رئيسيّ(7).

وفي
النهاية، جعل آخرون(8) علامة القطع بين 5: 11 و5: ،12 فاعتبروا أن المقطوعة التي
تصل إلى 5: 11 تعود إلى موضوع لاهوتيّ (تيولوجيّ، أي مركَّز على الله، في المعنى
الحصري للكلمة) بشكل رئيسيّ. وأن ما يلي فمخصّص لمواضيع انتروبولوجيّة (ترتبط
بالانسان).

ما
يُزعج في جميع هذه التصاميم الموضوعيّة، هو أنها تستند إلى فهم النصّ، سواء وصلنا
إلى ذلك قبل تقطيعه في وحدات صغيرة، أو عدنا إلى مؤلفّات سابقة نستلهمها فننسخها
أو ننتقدها. إذن، من يقدّم هذه التصاميم ينطلق من فهم مسبق للنصّ. وفي النهاية،
يركِّز على النصّ أفكارًا هي أفكاره هو، لا أفكار يستخرجها من النصّ عينه، على
المستوى اللاهوتيّ أو الأدبيّ أو التاريخيّ. وعلى سبيل المثال، أوردُ على سبيل
النكتة، بالنسبة إلى روم، العنوان الذي جعله ناشرو (ترجمة البيبليا المسكونية) كما
في 1: 18-25: (خطيئة الوثنيين). فإن قرأنا النصّ بتمعّن نلاحظ أن لفظة (خطيئة)(9)
غير موجودة في المقطع، ولا لفظة (وثني)(10).

هذا
ما يقودنا إلى طرح سؤال حول البحث عن تصميم: أما هو أمر خاص بفكر غربي، يهتمّ
بالمنطق ويريد أن يُدخل في إطار ضيّق نصوصًا لا تخضع لمثل هذا المنطق؟ مثلُ هذا
النقد له ما يبرّره. ولكنه لا يمتلك كل المعلومات. لهذا، فقبل التخلّي عن كل
محاولة لوضع تصميم داخل أقسام النصّ التي تبدو مكثّفة، يجب أن نتساءل: أما كتب
المؤلّفون الأقدمون بحسب قواعد تأليف حدّدها الاستعمال، فارتبطت بحضارة العصر.
وبولس، بشكل خاص، كان رجل أدب. إنه يهوديّ من الشتات يضمّ في شخصه حضارتين:
الحضارة اليهوديّة والحضارة اليونانيّة. أما وُجد، في هذه الحضارة وتلك، طرق تأليف
متّفق عليها خضع لها الرسول، فوجب علينا أن نكتشفها من خلال تحليلنا للنصوص.

وهذا
ما يقودنا إلى تفحّص النصوص، ولا سيّما نصّ روم. لا نحاول بعدُ أن نكتشف مواضيع
متعاقبة، حسب منطق غربيّ، بل إشارات صريحة تحدّدها قراءة دقيقة ومتنبّهة، قراءة لا
تخضع لفهم مسبق يمارسه القارئ.

في
هذا الاتجاه كانت محاولات لا تعود إلى زمن بعيد: بعضها يرتبط بالبلاغة الساميّة،
والبعض الآخر بالبلاغة اليونانيّة والرومانيّة. سنقدّم هاتين البلاغتين على
التوالي متوقّفين بشكل خاص عند الثانية التي تتوافق، برأينا، توافقًا أفضل مع
التصميم الاجمالي لرسالة بولس إلى أهل رومة(11).

 

3
– الرسالة إلى رومة والبلاغة الساميّة

إن
النهج التحليليّ الذي تلهمه البلاغة المسمّاة ساميّة، قد حدّده تعليم اللجنة
البيبليّة الحبريّة (تفسير البيبليا في الكنيسة): (تجذّرت هذه البلاغة في الحضارة
الساميّة فاهتمّت اهتمامًا خاصًا بالتآليف المتوازية التي بفضلها تقام علاقات بين
مختلف عناصر النصّ. ودراسةُ مختلف أشكال التوازيات وسائر المناهج الساميّة في
التأليف، تتيح (للقارئ) أن يتعرّف تعرفًا أفضل إلى بنية النصّ الأدبيّة، بحيث يصل
إلى فهم أفضل لما فيه من تعليم)(12).

يعمل
مثلُ هذا النهج على اكشتاف تكرار الكلمات في النصوص، وتمييز طرق التعبير، والضمائر
وزمن الافعال. كل هذا يرسم بنية أدبيّة: وهكذا نصل إلى تضمينات تحدّد بنى من نوع:
أ، ب، أأ. وإلى تعاكسات تُبنى حسب تواز متواز من نوع: أ. ب. أأ. ب ب، أو حسب تواز
متناوب من نوع: أ. ب. أأ. ب ب. وهكذا نفصل أقسامًا جاءت في بُنى ظهرت بعودة
الألفاظ عينها والطرق الغراماطيقيّة الواحدة.

هذه
الطريقة في القراءة والكتابة أمر معروف في الآداب الساميّة. ونحن نكتشفها في العهد
القديم. كما تُكتشف، على ما يبدو في نصّ القرآن(13). وقامت عدّة محاولات لقراءة
روم بهذه الطريقة. وأكثر من طبّقها في اللغة الفرنسيّة: فيليب رولان(14). وها نحن
نعطي على ذلك مثلاً.

حدّد
رولان وحدة نصوصيّة محصورة بين 1: 17 و4: 25. نكتفي هنا بتقديم المعالم التي لها
معنى خاص، قبل وبعد خط متواز يمرّ بين 3: 20 و3: 21(15).

1:
17 برّ الله

3:
20 ليس لجسد تبرير أمامه

3:
24 بُرِّروا مجانًا بنعمته

4:
25 أقيم لأجل تبريرنا(16)

وهكذا
نجد طرحًا لبُنى تستعمل التوازيات بالنسبة إلى روم كلها، أو إلى أقسام محدّدة(17).
مثل هذه الطروح لها فائدتها. فمن الواضح أن بولس الذي اغتذى من الكتاب المقدس، قد
استعمل بُنى من هذا النمط. وهي تسري، في رأينا، بشكل خاص داخل مقاطع قصيرة، فتدلّ
على بداية توسّعٍ ونهايته. مثلاً، هذا المقطع حول الختان في 2: 25-29:

2:
25أ: الختان ينفع

2:
25ب ولكن إن كنت متعديًا على الناموس

2:
26 الأقلف (اللامختون) الذي يحفظ الناموس

2:
27أ الأقلف (اللامختون) الذي يعمل بالناموس

2:
27ب يدين المتعدّي على الناموس

2:
29 الختان هو ختان القلب(18).

 

4
– البلاغة اليونانيّة الرومانيّة

لم
أفكّر يومًا في رفض الأساليب المرتبطة بالبلاغة الساميّة، على أنها غير شرعيّة.
غير أنها لا تفسّر كل شيء. أما زميلي وصديقي شارل بيرو(19) فيهاجمها بقوّة ويبتسم
حين يقرأ مقالات أو كتبًا أصيب صاحبها ب (مرض التعاكس)(20). وفي الواقع، إذا كانت
بعض مقاطع من الرسائل البولسيّة قد استعملت بشكل واضح هذا النموذج من البناء
الأدبيّ، فهناك أخرى يبدو فيها العنصر التواتريّ(20
bis)
بسيطًا جدًا: صيغة الفعل، اسم اشارة، لفظة وصل بسيطة. بمختصر الكلام، نحن أمام
عنصر يتدخّل تدخّلاً صغيرًا في مدلول النصّ بحيث نتجاوز الحدّ إن أعطيناه مثل هذه
الأهميّة.

إذا
كانت بعض الرسائل البولسيّة، ولا سيّما أقدمها(21)، مبنيّة بناء واضحًا بحسب هذا
النموذج الساميّ، فهذا النموذج لا يمكن أن ينفع كثيرًا بالنسبة إلى رسائل متأخّرة
مثل الرسالة إلى غلاطية والرسالة إلى رومة. فقد استطاع الشرّاح أن يُبرزوا في
هاتين الرسالتين بشكل خاص، كما في الرسالة إلى كولسي، عناصَر بناء أخرى مأخوذة من
البلاغة اليونانيّة الرومانيّة(22). ففي داخل غلاف رسائليّ بيّنه الشرّاح من قبل
بالنسبة إلى روم، دوّن الكاتب نصّه بشكل خطبة. ومن المعلوم أن تأليف الخطب خضع،
لدى اليونان والرومان، لقواعد تأليف محدّدة بما فيه الكفاية. وهذا ما نجده في
مراجع قديمة مثل (بلاغة ارسطو)(23) (بلاغة هارانيوس)(24) الني نسبت مدة طويلة،
ولكن خطأ، إلى شيشرون، (النظام البلاغي لكوينتيليانس)(25).

وإليك
الكلمات التي بها قدّمت اللجنة البيبليّة الحبريّة هذا النهج التحليلي: (كل وضع
خطابيّ يتضمّن ثلاثة عناصر: الخطيب (أو الكاتب). الخطبة (أو النص). السامعون (أو
متسلّمو الرسالة). لهذا، تميّز البلاغةُ الكلاسيكيّة ثلاثة عناصر اقناع تعمل على
إعطاء الخطبة قيمتها: سلطة الخطيب. برهنة الخطبة. الاحساس الذي تحرّكه الخطبة لدى
السامعين. وإن تنوّع الأوضاع والسامعين يؤثّر تأثيرًا كبيرًا على طريقة الكلام.
لقد وصلت البلاغة الكلاسيكيّة، منذ أرسطو، إلى تمييز ثلاثة أشكال (أو فنون) من
البلاغة: الفنّ القضائيّ (أمام المحكمة). الفن التشاوري (في المجالس السياسيّة).
الفن البرهاني (في الاحتفالات)(26).

إن
تطبيق هذه النهوج على النصوص البيبليّة، لا يتمّ بشكل متحجّر قاس. فلا هو من
الإفادة ولا الخصب في شيء، أن نحاول، مهما كلّف الثمن، أن نحدّد نمط البلاغة الذي
إليه تنتمي هذه الرسالة أو هذا القسم من الرسالة. ولكن من المفيد أن نعرف الأساليب
التي استعملها الكاتب لكي يُقنع قارئه، وكيف بنى نصّه. تستطيع هذه النقطةُ الأخيرة
بشكل خاص أن تعيننا على اكتشاف سمات واضحة تساعدنا على تحديد تصميم مفصّل لرسالة
ما. هذا ما يسمّيه أهل البلاغة: الترتيب أو التنظيم(27). ونأخذ مثلاً على ذلك نموذج
الترتيب الكلاسيكيّ في البلاغة الخطابيّة(28):


يجب أن يبدأ العرض ب (مطلع)(29) يهيّئ السامع لكي يكون مستعدًا تجاه الخطيب،
مصغيًا إليه. هذا الوقت الذي فيه يتمّ الاتصال بينهما يتضمّن جزءًا من اجتذاب
رضى(30).


يأتي بعد ذلك (وقد يتأخّر) الإخبار(31): يقدّم خبر الاحداث التي عنها نتكلّم أو
نكتب. عادة، تكون أفعال هذا القسم، كما هو الأمر في كل خبر، في صيغة الماضي. في
صيغة أمر حصل.


الطرح(32) هو قلب الخطبة. هكذا نُقل النصّ إلى اللغات الحديثة. في الواقع، نحن
أمام عنصر أكثر تشعّبًا. بشكل عام، هو قصير جدًا. ولكنه لا يكتفي بأن يعلن في صيغة
ملخّصة ما سوف يدافع عنه الكاتب فيما بعد. فالطرح، بشكل عام، يتضمّن مسبقًا بعضَ
ألفاظ سيستعيدها النصّ، أو إعلان الصيغ البراهينيّة اللاحقة. فإحدى المحطات
الهامّة في التحليل البلاغيّ هي تحديد (الطروح) التي تتوزّع النصّ الذي ندرس.


البرهنة(33) أو تقديم البراهين. كل ما يساعد على إسناد الطروح(34) في النصّ.
تستطيع أن تستعمل أساليب براهينيّة مختلفة: مثل الردّ(35) على اعتراضات حقيقيّة أو
مفترضة. والجدال(36) الذي يقوم بأن تتوجّه إلى خصم حقيقيّ أو مفترض. و(الأنا)(37)
البلاغيّ الذي يجعل الخطيب يتحدّث في صيغة المتكلّم المفرد ليقدّم براهين لا تقابل
كل المقابلة فكره الحاليّ.


وقد يسترسل الكاتب في استطراد(38) واحد أو أكثر.


وأخيرًا، ينهي كلامه بخاتمة إطنابية(39)، يستعيد فيها بعض نقاط سبق له وتوسّع
فيها. فيحرّك الشعور لدى السامع أو القارئ: (وينفخ في بوقه) لينهي كلامه بشكل
بلاغيّ.

 

5
– الرسالة إلى رومة والبلاغة اليونانيّة الرومانيّة

يليق
بنا، بعد هذا العرض العام، أن نشير إلى التطبيقات التي يمكن أن نستخرجها لفهم
الرسالة إلى رومة(40). نأخذ النصّ منذ البداية، فنتوصّل إلى تنسيق العناصر
الرئيسيّة في (الترتيب(41). فنعود إلى كتابنا: المسيحيون والشريعة اليهوديّة(42)
من أجل التفاصيل.

في
الرسالة إلى رومة، كما يحدث مرارًا عند بولس، يتبع العنوانَ الرسائلي، فعلُ شكر
(1: 8-15) يلعب هنا دور (المطلع) في البلاغة الكلاسيكيّة. يبيّن هذا المثل أنه إن
كان الرسول اتّبع قواعد البلاغة، فهو لم يطبّقها بشكل حرفيّ.

وبعد
فعل الشكر هذا، تأتي آيتان كثيفتان جدًا يرى فيهما الشرّاح بشكل يُشبه الاجماع،
(الطرح) الذي يُشرف على الفصول اللاحقة. وها نحن نقرأه في ترجمة حرفيّة جدًا:
(فأنا لا أستحي بالانجيل، لأنه قوّة الله لخلاص كل انسان يؤمن، لليهوديّ أولآً
ولليونانيّ. فبرّ الله يتجلّى به (= الانجيل) بإيمان إلى إيمان، على ما كُتب:
البار بالايمان يحيا) (1: 16-17).

نجد
هنا كل المواد التي تدخل في تركيب (طرح). يتكلّم فيه بولس في صيغة المتكلّم المفرد
(أنا لا استحي). ولكنه يتركها حالاً لكي يعطي للقارئ مضمون الانجيل الذي يكرز به.
أدخل موضوعين مركزيين: برّ الله والايمان. واختتم كلامه بآية من الكتاب المقدس
(إيراد من حب 2: 4)، تعلن البراهين الكتابيّة العديدة التي سنقرأها في ما يلي من
الرسالة. من الواضح أننا نمتلك هنا نموذجًا رائعًا عن طبيعة (الطرح) في البلاغة
الكلاسيكيّة.

ويعالج
الكاتب هذا الموضوع العام في درفتين. ويشرف على كل درفة (طروحات) ثانويّة ترتبط
بهذا الطرح الأول الذي يمكننا أن نسمّيه (الرئيسي). ذكر بولس، في زمن أول، نتائج
غضب الله الذي يردّ على كفر البشر ولابرّهم: هناك (طرح) أول ثانوي في روم 1: 18-19
يتبعه (إخبار)(43) (1: 20-32) و(برهنة)(44) (2: 31: 20). غير أنه سيَذكر فيما بعد،
في زمن ثان، نتائجَ الخلاص الذي حمله يسوع المسيح: كل هذا يبدأ ب (طرح) ثان ثانوي
ينفتح انفتاحًا دقيقًا بلفظتين احتفاليتين مهمتين (أما الآن، 3: 21-22)، يتبعه
أيضًا (إخبار) لهذا الخلاص (3: 23-26)، ثم (برهنة) تألّفت في جزئها الأكبر من
البراهين الكتابيّة التي يبنيها الكاتب منطلقًا من شخص ابراهيم البيبليّ (3: 27-4:
5).

وتُختتم
القطعةُ حول ابراهيم باعتراف ايمان احتفاليّ يدلّ على دورة بلاغيّة أولى. وتبدأ
دورة ثانيّة مع ف 5 الذي بُني هو أيضًا في (طرح) رئيسيّ و(طرحين) ثانويين، بلا
شكّ. والدورة الثالثة تغطّي ف 9-11. وأخيرًا، تنفتح الدورة الرابعة في بداية ف 12.
فضّلنا أن لا نعطي تصميمًا كاملاً للرسالة. واكتفينا بأن نتوقّف عند تطبيقات
نستطيع أن نستخلصها من هذا النمط البلاغي النموذجي بحيث نكتشف خصبه كما نرجو.

 

6
– تطبيقان عمليّان

النتيجة
الأهمّ التي يمكن أن نستخرجها من مثل هذا النهج هي نتيجة تقول بأن جميع أقسام نص
روم لا تتمتّع بالوضع نفسه. ف(الطرح) ليس (البرهنة). و(البرهنة) ليست (الإطناب)..
كما أن التأكيدات التي يتضمّنها (طرح) من الطروح، هي جوهر فكر الرسول، فجاءت
العبارات منحوتة بدقّة، وبعض المرات بكثافة لا يسهل فهمها. كذلك وبشكل معاكس، قد
يقود الشكل الأدبيّ، في قسم إخباريّ أو برهانيّ، إلى قادوميات بل إلى مبالغات.
لهذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الوضع البلاغيّ لمقطع من المقاطع من أجل تفسيره.
ونعطي على ذلك مثلين.

منذ
زمن طويل، لاحظ الشرّاح تناقضًا ظاهرًا بين مقطعين من روم قريبين، هما 2: 13 و3:
20. نقرأ في 2: 13: (ليس الذين يسمعون الناموس يبرَّرون أمام الله. الذين يعملون
به هم الذين يبرّرون). فبعبارة أخرى، يبدو التبرير وكأنه نتيجة ممارسة الناموس.
ولكننا نقرأ بعد ذلك في 3: 20 ما يلي: (لهذا، لا أحد يبرَّر أمامه (أمام الله)
بأعمال الناموس. فالناموس لا يعطي سوى معرفة الخطيئة). من الصعب أن يقول الرسول
قولين لا يتوافقان، والواحد قريب من الآخر. ولكن إذا وضعنا جانبًا شروحًا أخرى
يمكن أن تعطى (لن ندخل هنا بالتفصيل في تحليل هاتين الآيتين)، قد تستنير الأمور إن
أخذنا بعين الاعتبار الوضع البلاغيّ لكل مقطع.

عمَّ
يتكلّم النصّ الأوّل؟ نحن في إطار برهنة يرتبط ب (طرح) ثانويّ حول لابرّ الكون في
عالم بدون المسيح (1: 18-19)، وبشكل أدقّ في إطار اتّهام يوجَّه إلى الذي يجعل
نفسه محلّ الله فيدين الخطأة. فقبْل المسيح، كان البشر في نظام شرعيّة الناموس.
وفي نظام شرعيّة الناموس، نبرَّر بالممارسة لا بمجرّد السماع. فالناموس وُضع لكي
يُعمل به، لا لكي يُسمع فقط.

وما
هو الوضع في 3: 20؟ هو يختلف كل الاختلاف على المستوى البلاغي. نحن في انتقالة
تقدِّم طرح 3: 21-22 الثانوي، حيث يُعلن أننا نبرَّر بالايمان بيسوع المسيح. لم
يعد النظام هو هو. فالخلاص الذي حمله موت المسيح وقيامته، أخرج المؤمن من نظام
الشريعة ليُحلّ محلّه نظامَ الايمان. فالشريعة اليهوديّة، شأنها شأن كل شريعة
أخرى، يجب أن يتجاوزها تدبيرٌ آخر. وهكذا يشدّد النصّ على عجزها في مجال التبرير.
وفي صيغة أخرى نقول: في التعارض بين ممارسة الناموس ومجرّد السماع بدون ممارسة،
يُبرز بولس ممارسة الناموس. ولكن في التعارض بين الناموس والايمان، يُبرز بولس
الايمان على حساب الناموس. فإذا أردنا أن نفهم أي كلام، وجب علينا أن نحدّد موقعه
في سياقه البلاغيّ.

ونعطي
مثلاً آخر: تفسير مقطع (7: 15-23) يدلّ على التعارض بين الرغبة والعمل. أرغب في
صنع الخير، ولكني أصنع الشرّ. هذا الانشداد الممزَّق هو في أصل تفسير لوثر المشهور
للآية،16 وهو أن المسيحيّ (خاطئ معًا ومبرَّر). لا شكّ في أننا نختبر كلنا هذا
الانشداد: نقترف الشرّ، وفي أعماق نفوسنا نرغب في العمل من أجل الخير.

ولكن
هل توخّى بولس أن يصوّر الصعوبات السيكولوجيّة التي فيها يمرّ المسيحيّ الخاضع
لقوى مقاومة؟ كلا، بلا شكّ. فإن كان هذا المقطع قد دُوّن كله في صيغة المتكلّم
المفرد (ما عرفت أنا) منذ 7: ،7 يبدو أن هذا (الأنا) هو (أنا) بلاغيّ(45): هو لا
يعود إلى خبرة بولس تلميذ المسيح، بل إلى وضع الانسان الخاضع للناموس. فنهاية
الفصل السابع كلها هي وصف لنتائج الناموس. إذن، يؤكّد بولس أن في نظام الناموس،
انشدادًا بين مجموعة وصايا يجب أن تقود إلى الخير، وتحفّظًا في العمل بها تكون
نتيجته الشرّ. غير أن مثل هذا الانشداد لا يوصف هنا على أنه ينطبق على الانسان
الذي برّره المسيح. هو لا يكفي، حسب تفسير لوثر، لكي يصف وضع الانسان المبرّر الذي
خرج حقًا من منطق الطاعة للوصايا.

هذا
لا يمنع، من جهة أخرى، أن يوافق هذا الانشدادُ خبرة عامة، كما قالت توافقات أخيرة
بين اللوتريين والكاثوليك. فهناك (خطر مستمرّ مصدره سلطان الخطيئة وعملها في
المسيحيين. في هذا المناخ، يستطيع اللوتريون والكاثوليك معًا أن يفهموا المسيحيّ
على أنه في الوقت عينه بارّ وخاطئ، بالرغم من مقاربات مختلفة لهذا الموضوع)(46).

 

خاتمة

نستطيع
أن نعطي أمثلة عديدة من هذا النمط عمّا يفيد منه تأويل النصوص البولسيّة، إن هو
عاد إلى البلاغة الكلاسيكيّة. لا شكّ في أن هذا ليس ترياقًا ودواء لكل الصعوبات.
وهو لا يستبعد أبدًا نهوجًا ومقاربات أخرى، كما لا يلغي النهج التاريخيّ
النقديّ(47) الذي لا يمكن أن يُستغنى عنه.

ولكننا
اكتشفنا هنا منفعتين نستطيع أن نختم كلامنا بهما. من جهة، يستطيع النهج البلاغي أن
يُعيننا لكي نضع للرسائل تصميمًا مؤسّسًا على سمات شكليّة(48)، وليس فقط على
ملاحظات موضوعيّة(49). هذا لا يقود المؤوّلين إلى الإجماع، وإلاّ لن يعود التأويل
تأويلاً. بل يقدر أقلّه أن يقود إلى قراءات فيها يجعل القارئ مسافة أفضل بينه وبين
مفترضاته اللاهوتيّة. وهكذا لا تعود قراءته قراءة إيديولوجيّة.

ومن
جهة ثانية، هذا يتيح لنا نظرة نقديّة نعود فيها إلى الوراء، بالنسبة إلى البرهان
الكتابيّ في اللاهوت. استغل الدارسون البيبليا استغلالاً مفرطًا فاستعملوها
كاستثمارات في خدمة اللاهوتيّ الذي يستخرج منها، كيفما شاء، مقتطفات لكي يُسند
أقواله. بمثل هذا الاستعمال للكتاب المقدّس، نستطيع تقريبًا أن نجعله يبرّر كل شيء.
أما التحليل البلاغيّ، فيفرض علينا أن ننتبه إلى النصّ، وإلى موقع كل آية من
الآيات في النصّ. أن ننتبه إلى سياقه الأدبي والبرهانيّ. لهذا كان التحليل البلاغي
مدرسة تعلّمنا الدقّة والصرامة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى