اللاهوت الدفاعي

الفصل الأول



الفصل الأول

الفصل
الأول

الكتاب المقدس في مواجهة النقد الحديث

 

كل
آلة صورت ضدك لا تنجح وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه

(إش54: 17).

 يهتم
نقد الكتاب المقدس، أولا، بدراسة الوثائق القديمة من لفائف وأدراج ومخطوطات وكتب
للتأكد من صحة نصوص وآيات الأسفار المختلفة كما دونها كتاب الوحي الأصليون من
الأنبياء، ثم يتجه النقد بعد ذلك لبحث المحتوى الداخلي والأشكال الأدبية إلى جانب
البراهين الخارجية كالخلفية التاريخية والمكتشفات الأثرية، وذلك للوصول إلى
المصادر التي حصل منها الكتاب على المادة التاريخية والكتابية والتاريخ الذي دونت
فيه الأسفار، كل سفر على حدة. وينقسم نقد الكتاب المقدس إلى النقد الأدنى (النصي)
والنقد الأعلى (الأدبي والتاريخي):

مقالات ذات صلة

1 – النقد النصي (النقد الأدنى):

 النقد
النصي
Textual Criticism أو النقد الأدنى Lower Criticism هو الذي يبحث في الوثائق القديمة والنسخ العديدة المنقولة عن
المخطوطات الأصلية سواء بلغاتها الأصلية أو باللغات التي ترجمت إليها، خاصة
اليونانية واللاتينية والسريانية والقبطية، وذلك من عصور وأزمنة وبلدان وأمم
مختلفة، للتأكد من صحة النصوص ومطابقتها أو الوصول بها إلى التطابق الكامل مع
النصوص الأصلية كما دونها كتاب الوحي(1)، واستعادة الكلمات الصحيحة، الأصلية،
في حالة ما إذا كان قد طرأ عليها تبديل أو تغيير بسبب عمليات النسخ اليدوي المتكرر
على مر العصور والأزمنة وفي مختلف البلاد والقارات وذلك بواسطة كتبة (نساخ)
مختلفين في الفكر والثقافة والظروف. فقد كانت عمليات انتشار وتوزيع الكتب قديما
وقبل عصر الطباعة تتم بنقلها ونسخها يدوياً سواء من المخطوطات الأصلية التي دونها
الأنبياء كتاب الوحي أو من المنقولة عنها وهكذا استمرت هذه العملية من ثلاثة آلاف
سنة إلى 1900 سنة بالنسبة لأسفار العهد القديم وحوالي 1400 سنة بالنسبة لأسفار
العهد الجديد.

 ويقوم بهذه المهمة مجموعة من العلماء الذين وصلوا إلى درجة عالية من
الخبرة والتمرين، في هذا المجال(2)، والذين لديهم موهبة مميزة ومقدرة
عالية على دراسة النصوص دراسة دقيقة للوصول إلى النص الأصلي وذلك بمقارنة
المخطوطات المتنوعة والتي جاءت من عصور وبلاد مختلفة سواء في لغاتها الأصلية أو
المترجمة عنها. ومما يسهل هذه المهمة، نسبيا، وجود آلاف المخطوطات التي ترجع
أقدمها إلى زمن قريب نسبيا من زمن المخطوطات الأصلية، إذ ترجع أقدم مخطوطات العهد
القديم إلى سنة 250 ق م وكان عزرا الكاتب والكاهن قد جمع أسفار العهد القديم بعد
العودة من السبي وكتب سفره حوالي سنة 440 ق م أي أن المدة بين أخر جمع لأسفار
العهد القديم وبين أقدم المخطوطات حوالي 200 سنة بل أن أحد العلماء يؤكد أن
قسما من سفر اللاويين وجد ضمن مخطوطات البحر الميت يرجع إلى سنة 400 ق م أي قريبا
جدا
من عصر عزرا الكاتب
، كما ترجع أقدم مخطوطة من العهد
الجديد وهي جزء من الإنجيل للقديس متى إلى سنة 68 م ويرجع جزء آخر من الإنجيل
للقديس يوحنا إلى سنة 125 م أي بعد القديس يوحنا بحوالي 25 سنة. وهذا مكن العلماء
من التأكد من سلامة وصحة نصوص الكتاب المقدس وأنها وصلت إلينا كما كانت في
مخطوطاتها الأصلية.

 ويجب أن نضع في الاعتبار أن نسخة أسفار العهد القديم الأصلية،
المقياس، التي حررها عزرا الكاهن والكاتب (حوالي 440 ق م)، كانت موجودة في الهيكل
أيام الرب يسوع المسيح وتلاميذه، وكان علماء اليهود ينقلون عنها نسخهم. وقد حصل
عليها الكاهن والكاتب اليهودي يوسيفوس (36-100م) المعاصر لتلاميذ المسيح وقت دمار
الهيكل سنة 70م مكافأة له من الإمبراطور الروماني تيطس، وكتب بناء عليها عادات
اليهود من سفر التكوين وحتى أيامه(3)!! كما كانت النسخ التي كتبها تلاميذ
المسيح ورسله، بالروح القدس مع تلاميذهم وخلفائهم من آباء الكنيسة الأولى، وكانوا
يقتبسون منها، سواء كتابة أو شفاهه(4).

2 – النقد الأعلى (النقد الأدبي والتاريخي):

 والنقد الأعلى Higher Criticism يبحث في التكوين الداخلي للأسفار المقدسة، أي تركيب السفر من حيث
المصادر التي أعتمد عليها كتّاب الوحي والطريقة التي اعتمدوا عليها واستخدموها في
ضم هذه المصادر، فيحلل تركيب السفر والأشكال الأدبية والأسلوب والمفردات اللغوية
وتكرار الكلمات ومنطق السفر ووجهة النظر فيه، وأي تغيير في الأسلوب أو اختيار
الكلمات يدل على اختلاف الكتابة أو زمن

التكوين، تكوين الكتاب(5).

(أ) نقد الشكل (Form
Criticism
): وهو يفحص كتاباً ما من جهة طرق
تركيباته اللغوية وتعبيراته التي قد تبين مصادر مختلفة لعناصر محددة. ” ومن
الواضح عند هذه المدرسة أن عزل الوثائق عزلاً دقيقاً – هو الذي تم إنجازه بواسطة
المدرسة الوثائقية – كان مستحيلاً. وكانت الطريقة العملية لفهم هذه الوثائق هي
استطلاع خبايا المصادر في هيئتها المكتوبة وفحص أنواع المقولات التي تنتمي إليها
المادة الأصلية في حالتها الشفوية، بعد ذلك تتبع طريق تطور كل وثيقة من هذه
الوثائق الشفوية إلى أن وصلوا أخيراً إلى صيغتها المكتوبة. ولقد ركزوا بشدة على
حالة هذه الوثائق المختلفة ليقرروا من خلالها أي نوع من العمليات تطورت إلى أن
وصلت إلى شكلها المكتوب “(6).

(ب) النقد المصدري (Source Criticism)(7): معظم
المصادر التي استقى منها كتّاب الوحي مادة كتبهم الإلهية كانت شفوية لأنهم دونوا
إعلانات الله التي أعلنها لشعبه بواسطتهم، فكان مصدرها هو الله نفسه وقد أعلنها
لهم بوسائل الإعلان الإلهي المختلفة وذلك إلى جانب الأحداث الجارية الخاصة بعصر كل
نبي على حدة والمرتبطة بعلاقة شعب الله بهذا الإعلان وبالله ذاته. وتعتبر هذه
الكتب هي المصدر الوحيد المكتوب لهذه المواد الكتابية، مثل أسفار الأنبياء. ولكن
هناك أسفار كانت لها مصادر سابقة على عصر النبي وأحداث حدثت مع أجيال سابقة على
جيله مثل سفر التكوين الذي دون فيه موسى النبي تاريخ البشرية من الخليقة إلى يوسف
الصديق. وهذه المصادر ليست موجودة بين أيدي النقاد والباحثين ولكن أثارها واضحة في
السفر نفسه. وهناك بعض الأسفار التاريخية لا تزال بعض مصادرها موجودة بين أيدينا
الآن، فهناك نصوص كاملة متطابقة أخذها كاتب سفر الملوك الثاني (ص13: 18-1: 20-19)
من سفر إشعياء النبي (ص 34-39) وكان إشعياء هو النبي العامل فيها، أي أن سفر
إشعياء هو أحد مصادر سفر الملوك، التاريخي، وبقاء النصين في كلا السفرين يشهد بصحة
كل منهما. كما أن أسفار صموئيل والملوك تعتبر أحد المصادر الرئيسية لسفري أخبار
الأيام، لذلك يمكن الرجوع إلى هذه الأسفار للتأكد من صحة سفري الأخبار، والعكس
صحيح أيضا لأن سفري الأخبار اللذين كتبا في القرن الخامس ق م يشهدان على صحة أسفار
صموئيل والملوك وأن نصوصها التي بأيدينا اليوم هي هي كما كانت، على الأقل، في
القرن الخامس قبل ميلاد السيد المسيح. كما تشهد أجزاء من سفر إرميا لأجزاء من سفر
الملوك الثاني (2ملوك 25 وإرميا 25) والعكس صحيح، كما أن خاتمة الأخبار الثاني هي
فاتحة سفر عزرا وكلاهما يشهد لصحة الأخر.

 ولكن بقية مصادر الأسفار التاريخية الأخرى غير موجودة بين أيدينا،
فقد كان كهنة وملوك وأنبياء إسرائيل يسجلون الأحداث المعاصرة لهم ويحتفظون
بسجلاتها إلى جوار تابوت العهد، ثم بعد ذلك في الهيكل، وقد استعان الأنبياء كتاب
الوحي بأجزاء منها عند كتابة الأسفار التاريخية مثل قضاة وصموئيل والملوك
والأخبار، وذلك إلى جانب الأحداث الجارية التي كانت معاصرة للكتاب، مثل أحداث عصر
إرميا والتي دونها في سفر الملوك الثاني وأحداث عصر صموئيل النبي التي دونها في
الإصحاحات الأولى من سفر صموئيل الأول 00 الخ.

 وبرغم أن هذه المصادر المفقودة لا حاجة لنا بها لأنها كانت تهتم
بحوليات الملوك والممالك وليست من أسفار الوحي إلا إننا نعرف الكثير منها من
الكتاب المقدس ذاته والذي أكد الفحص الدقيق لمحتوياته الداخلية إلى جانب كتب
التاريخ المدني القديمة والحفريات والكشوف الأثرية الكثيرة جدا صحة ودقة كل ما جاء
فيه.

(ج) معايير التاريخ: ويستخدم
التحليل التاريخي والمفردات اللغوية والتحليل الأركيولوجي (علم الآثار) للمكتشفات
الأثرية والحفريات لتحديد الموقع التاريخي للسفر(8). وهناك عدّة معايير
لتحديد
تاريخ أي سفر أو جزء من أسفار الكتاب المقدس مثل اقتباس سفر من أخر أو إشارته
إليه، وذكر أحداث – أو أشخاص – كانت معاصرة ولها سجلات أخرى خارج الكتاب المقدس أو
تنبؤ بعض الأنبياء عن أحداث سوف تتم بعد تنبؤهم بها أو حتى بعد رحيلهم عن العالم
أو بعد ذلك بمئات أو ألوف السنين. فهناك بعض الأسفار تقتبس من أسفار أخرى كمعظم
الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى واقتبسوا من شريعته أو أشاروا إليها، وهذا يعنى أن
تاريخ أسفار التوراة الخمسة أقدم من تاريخ كل أسفار الكتاب المقدس، وبهذا المعيار
أيضا تكون أسفار صموئيل والملوك اسبق من سفري أخبار الأيام. وكذلك أيضا عندما يذكر
أحد الأسفار حدثاً تاريخياً أو أشخاصاً لهم دور تاريخي معاصر فتاريخ هذا الحدث أو
هؤلاء الأشخاص يحدد لنا تاريخ السفر، مثل غزو سنحاريب لمملكة يهوذا وحصار نبوخذ
نصر لأورشليم. كما حددت لنا سجلات حضارات الشرق الأدنى القديمة كبابل وأشور وكذلك
سجلات مصر القديمة تاريخ بعض أجزاء العهد القديم. وعلى سبيل المثال فقد مكنتنا
السجلات الآشورية من تحديد تاريخ سفر إشعياء بتاريخ سابق لعام 701 ق م وهو العام
الذي غزا فيه سنحاريب يهوذا(9).

 وتحدد بعض الأسفار النبوّية تاريخها بذكر السنين التي تنبأ فيها
كتابها الأنبياء وأسماء ملوك هذه الفترة. فيحدد إشعياء تاريخ نبوءته وبالتالي سفره
بتاريخ أربعة ملوك ” عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا ” (إش1: 1)،
وكذلك هوشع يذكر نفس الملوك الأربعة (هو1: 1)، وهكذا يفعل عاموس (عا1: 1) وميخا
(ميخا1: 1) وصفنيا (صف1: 1) وحجى (حج1: 1) وزكريا (زك1: 1)، كل منهم يحدد تاريخ
سفره بالملك أو الملوك الذين كانوا معاصرين له.

 وقد ساعدت الكشوف الأثرية والحفريات على إعادة بناء تاريخ الشرق
الأدنى القديم بتفصيل حاسم بدرجة معقولة وهكذا مكنتنا بدرجة كبيرة من تحديد الموقع

التاريخي المناسب لأسفار العهد القديم المختلفة.

 وهناك نبوّات تنبأ بها بعض الأنبياء عن أحداث تمت في أيامهم أو بعد
ذلك. والنبوّة هنا تحدد تاريخ السفر لأن النبوّة دائماً تسبق الأحداث المتممة لها،
وعلى سبيل المثال فقد تنبأ ناحوم النبي عن سقوط نينوى (نا8: 3و9) وتحققت نبّوته
وسقطت نينوى عام 612 ق م وهذا، بدوره، يحدد لنا تاريخ سفر نحميا قبل 612ق م وليس
العكس. كما تنبأ إرميا وحزقيال عن حصار أورشليم وقد تم ذلك بالفعل سنة 588-587 ق م
وبالتالي يكون تاريخ هذه النبوّات قبل تاريخ الحصار، ثم عاد النبيان وسجلا أحداث
هذا الحصار، بعد أن تم، كأحداث تاريخية ومن ثم يكون تاريخ هذا السجل بعد تاريخ
الحصار ولكن، كما يدل السفر، قبل العودة من سبى بابل سنة 537 ق م بزمن.

3 – مشكلة النقد الأعلى:

 وبرغم
أن هذا النقد عموما، سواء النصي أو الأعلى لا يشكل مشكلة بالنسبة للكتاب المقدس بل
يساعد الدارس على الوصول للنص الأصلي لأسفار الكتاب المقدس بكل دقة وفهم المحتوى
الداخلي لها، إلا أنه كان في البداية لغير صالح الكتاب المقدس، يقول جوش ماكدويل (
Josh McDowell)(10)” ولسوء الحظ فإن مدرسة النقد
العالي التي نمت في الأوساط الدراسية الألمانية
في
القرن قبل الماضي استخدمت بعض المناهج الخاطئة التي استندت على بعض الافتراضات
المسبقة المثيرة للجدل. ولقد قوَّض هذا شرعية الكثير من استنتاجاتهم. إذ انقسمت
أسفار بأكملها إلى مصادر عديدة، كانت معظم أسفار العهد القديم تؤرخ في بعض الحالات
بعد ألف سنة تقريباً من زمن الشهود الحقيقيين للوثائق. وهكذا نجد أن القصة
الكتابية للتاريخ العبري القديم حلَّت محلها نظرية معقدة متناقضة مع رواية إسرائيل
في كل النقط الرئيسية تقريبا 00 هذه المدرسة التي سيطرت على دراسات العهد القديم
منذ البداية معاً بالإضافة إلى المنهج الذي أنتج هذه النتائج المتطرفة، أصبحت
تُعرف في بعض الدوائر بأنها ” النقد العالي الهدام “(11)
.

4 – النقد الأعلى الهدام المتأثر بالفلسفات المادية الجدلية الإلحادية:

 بدأت
عملية نقد الكتاب المقدس، وخاصة العهد القديم،كما بينا في الفصل السابق، منذ
القرون الأولى للمسيحية. وللأسف فقد تأثر معظم هؤلاء النقاد بالفلسفات المادية
الجدلية الإلحادية التي ذكرناها في المدخل لهذا الكتاب.

5 – النقاد والافتراض المسبق المضاد لما هو خارق للطبيعة:

 وهؤلاء النقاد وأمثالهم، من الملحدين وغيرهم، بنوا نظرياتهم النقدية
للكتاب المقدس على أساس افتراضات سابقة وهي ؛ بما أن الله غير موجود أو أنه لا
يتدخل في نظام الطبيعة والكون والتاريخ فلا معنى لعبارات مثل ” كلمة الله
“، ” قال الله ” و ” وحي من الله “، ولا وجود للنبوّة
لأن الإنسان مهما كان لا يستطيع أن يعرف ما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد،
ولا معنى لكلمة معجزة لأن للطبيعة قوانينها الثابتة وكل شيء له مسبباته التي يصل
إليها الإنسان بالخبرة والتجربة، كما أن الكون مغلق على ذاته ولا تتدخل فيه قوة من
خارجه!! ” لأننا نعلم أنه لا يوجد إله، وأن ” الأمور التي فوق الطبيعية
مستحيلة ” و ” نحن نعيش في نظام مغلق ” و ” المعجزات غير
ممكنة “، وهكذا إلى ما لا نهاية “(13).

 ويلخص لنا جوش مكدويل أفكارهم كما يلي: ” ما دمنا نعيش في نظام
مغلق أو ما نسميه الكون، لذا لن يكون هناك أي تدخل أو غزو من قوى خارج الكون. وذلك
بواسطة إله مفترض. هذا النظام المغلق يعني أن كل حدث له أسبابه داخل النظام،
ولتوضيح المسألة أكثر، نقول إن كل حدث يحادث له تفسير طبيعي، لذلك، أي إشارة إلى
تدخل إلهي يعتبر باطلاً، ما دمنا نفترض تواجد تفسير طبيعي لكل ظاهرة “(14).

 وقد عرَّف أ. كارلسون – في كتابه ” العلم وما فوق الطبيعة
” – ” ما فوق الطبيعة ” بقوله: ” هي كل المعلومات، والنظريات،
والاعتقادات والتطبيقات التي تدَّعي لنفسها مصادر أكثر وأعمق من الخبرة الموثَّقة
والتفكير العميق، أو هي الأحداث التي تتعارض مع الظواهر التي نعرفها من الطبيعة
(15).

 ونتيجة لذلك فعلى ناقد الكتاب المقدس أن ينطلق في نقده على الافتراضات
المسبقة التالية:

1 – بما أنه لا وجود لله أو أنه لا يتدخل في سير التاريخ ولا أحداثه
فلا يوجد ما يسمى بكلام الله أو وحي الله أو نبوّات، ولا وجود للمعجزات، سواء
قيامة الأموات أو غيرها لأنها تتناقض مع قوانين الطبيعة، وبالتالي فالكتاب المقدس
ليس أكثر من مجرد كتاب بشري كتبه بشر ليس بوحي ولا بالهام من قوة خارقة للطبيعة،
والمعجزات ما هي إلا أساطير أو خرافات، والنبوّات هي تاريخ حدث أولاً ثم كتب بعد
حدوثه بسنوات بصيغة وأسلوب الأدب الرؤوي!!

2 – وعلى المؤرخ وهو يحقق التاريخ أن يشكل قناعته بناء على هذه
الافتراضات المسبقة، وليس على ما حدث فعلاً في مكان محدد وزمان معلوم في التاريخ!!
ويلخص الباحث الألماني فرانك الافتراضات المسبقة التي تؤمن بها تلك الجماعة من
المعارضين تلخيصاً دقيقاً بقوله: ” إن عرض أي حدث في التاريخ يمكن اعتباره
غير حقيقي وغير تاريخي إذا تداخلت فيه عوامل ما فوق الطبيعة، كل

شيء يجب أن يظهر بشكل ملائم للطبيعة ويرتبط بحدث تاريخي طبيعي “(16).

 ويذكر أ. كونن وهو يشرح اتجاهه المعارض لما فوق الطبيعة: ” ما
دمنا ننسب جزءاً من حياة إسرائيل الدينية إلى ما هو فوق الطبيعة أو للنبوّات ولو
للحظة واحدة، فإن أي وجهة نظر لتقييم الحدث سوف تكون غير دقيقة، ونجد أنفسنا
مضطرين إلى لوي الحقائق بعنف هنا وهناك لكي نطمئن على تدفق الأحداث التاريخية، ولا
يوجد سوى التطور الطبيعي الذي نأخذه في الحسبان في كل ظاهرة مجال البحث “(17).

 ويعترف كونن أيضاً بأن ” التدخّل المعتاد للقوى الإلهية في حياة
الآباء الأوائل هي من وجهة نظري واحدة من العوامل الرئيسية التي تضعف من السمات
التاريخية في الرواية “(18).

 ويشرح لانجدون جِلكي من جامعة شيكاغو الرد الكتابي لتجربة الخروج إلى
سيناء بقوله: ” إن الأفعال التي ظن الإسرائيليون أن الله فعلها والكلمات التي
اعتقدوا أنه نطق بها – هم قالوا إن الله فعلاً عملها ونطق بها – لكن بالطبع نحن
نعلم أنه لم يفعل كذلك “(19).

 ويسخر جوليوس ويلهوزن في كتابه ” تاريخ إسرائيل واليهودية
” من ذكر المعجزات التي صاحبتهم أثناء خروجهم من مصر ولجوئهم إلى سيناء
وبعدما أعطى الله موسى الشريعة، بقوله: ” لكن من يمكن أن يصدق كل هذه
الأمور؟”(20).

3 – وعلى الناقد لأسفار الكتاب المقدس أن يبني نقده على أساس هذه
الافتراضات المسبقة!! ويخبرنا برنارد رام عن المذهب الطبيعي وتأثيره على نتائج أي
دراسة نقدية: ” إذا كان الموضوع يختص بما فوق الطبيعة، فإنه من الواضح أن هذا
المدخل يجعل من النتائج هي الغرض الرئيسي. وبالاختصار، قبل بداية النقد، يتم الحكم
نهائياً على ظواهر ما فوق الطبيعة، وعلى جميعها أن يختفي من الوجود. لذلك
فالاستنتاجات النهائية لن تكون نتيجة لدراسة عقلية خالصة لكن استنتاج محكوم عليه بمعتقدات
راسخة تعارض كل ما هو فوق الطبيعي، إذن بأي أساس يستطيع به النقاد أن يحكموا بشكل
كامل على ظواهر ما فوق الطبيعة المسجلة ولها قيمة تاريخية لاشك فيها؟

(21).

 ويقول هيرمان ريدربوس: ” من غير المقنع بالنسبة للمفكر الحديث
إمكانية قيام إنسان من الموت وأن يعود طبيعياً مرة أخرى، لأن المفكر الحديث تعلَّم
أن يفهم جيداً نظام الجسد البشري. يمكن للإنسان الحديث أن يفهم عمل الله بأنه
الحدث الذي يتدخل ويحوِّل من حقيقة حياته ” الضرورية “، بمعنى أنه يؤثر
في حقيقة تواجده كروح. لكنه لن يقتنع بما يسمعه عن أعمال الفداء، لأن هذه تتعامل
مع الإنسان وهو حقيقة طبيعية في عالم طبيعي وداخل منظومة كونية طبيعية. ومشابه
لذلك الحبل بالمسيح، ووجوده السماوي السابق، ونقل الإنسان إلى عالم من النور حيث
يلبس جسداً سماوياً، هذه الأمور ليست فقط غير قابلة للتحقق من مصداقيتها، بل أيضاً
أمور لا معنى لها، إنها جميعاً لا تقول شيئاً “(22).

 ويقول هيوم في جداله الفلسفي إن المعجزة هي انتهاك لقوانين الطبيعة،
ولأن نشأة هذه القوانين كانت بسبب تجارب ثابتة لا تتغير، فإن الدليل ضد المعجزة هو
من نفس طبيعة الحقيقة ويشابه أي محاولة تنشأ من التجربة ويمكن تصورها. لن يقِّدر
أحد المعجزة إذا حدثت في التيار المعادي للطبيعة. لن تعتبر تلك معجزة أن يموت فجأة
شخص كان يتمتع بصحة جيدة، لكن ما يعتبر معجزة هو أن يقوم ميت من بين الأموات، لأن
هذا الأمر لم يلاحظ ورود مثله على مدى الأزمان، لذلك يجب أن يكون هناك تجربة شكلية
للتحقق من الحدث الإعجازي وإلا فإن هذا الحدث لن يستحق حتى التعريف(23).

 ويقول و جرين معلقاً على تأثر نقاد الكتاب المقدس بافتراضاتهم
المسبقة: ” لا يمكن أن نتجاهل موضوعياً وعلمياً الميل الواضح ضد ما هو فوق
الطبيعة والذي أثر على كل النظريات النقدية 000 كل القادة المعروفين للحركة، وبدون
استثناء، ازدروا بحقيقة المعجزات والنبوّات والتدخل الفوري للعناية الإلهية
بمفهومها الإنجيلي الصحيح الأصيل. كل نظرياتهم مزخرفة بفروض مسبقة لها صلة بالمذهب
الطبيعي، ولا يمكن الفكاك منها إلا بتدميرها إلى قطع متناثرة “(24).

 والشيء العجيب بل والغريب أن بعض النقاد المحافظين والتقليديين من
الذين يؤمنون بوجود الله يسايرون هذه الاتجاهات ومن ثم يقول توماس ويتلو ” ما
دام النقَّاد ذوو المستوى المرتفع يؤمنون بوجود إله، فإنه لا يحق لهم أن يفترضوا
عدم تدخله في العلاقات السببية، أو يفترضوا مقدماً أن ” المعجزات لا تحدث
“، وأن النبوّات ومعرفة الأمور المستقبلية مستحيلة، معترفين بأن هذا يعتبر
انتهاكاً للمنطق السليم إذا اتخذوا الموقف المضاد، هذا يعني، أنه من خلال حفظ الله
للعالم يظهر الله ذاته، يجب إذن أن تحدث المعجزات وللنبوّات، وعلى الإنسان أن يتخذ
موقفاً ثابتاً ليناضل ويثبت أن هذه المحاولة غير عادلة، والتي تبدأ بافتراض عدم
تواجد
ما يسمى بظواهر ما فوق الطبيعة إلا ما يتوافق مع أعمال الطبيعة
المعروفة “(25).

6 – تطور النظريات العلمية يهدم نظريات النقد الهدام:

 ولكن هذه الأساليب لا توصل للحقيقة لأنه إذا تمسك الناقد أو أي إنسان
بافتراضات مسبقة خاطئة وغير سليمة وأصر عليها وتعصب لها دون بحث الأدلة والقرائن
فلن يصل أبداً للحقيقة. ومما يدل على ذلك هو تأكيد العلماء الآن أن زمن النظريات
القديمة للكون قد ولي وبرهنت الثورة العلمية الحديثة على أن نظرية نيوتن القائلة أن
الكون ثابت وله قوانينه الثابتة قد ولى، وأنه لم يعد أحد يعرف ما يسمي ب ”
القانون الطبيعي بشكل كاف، فقد غيرت نظرية النسبية لإينشتاين وبرهنت على أن الكون
غير منقسم ولا حدود له وأننا لا نعرف كل شيء عن الكون وقوانينه وبالتالي إمكانية
حدوث المعجزات والنبوّات، يقول ج. سوليفان في كتابه ” حدود العلم “:
” إنه منذ أن طبع إينشتاين كتابه ” النظرية الخاصة للنسبية ”
(1905) وكذلك أعمال بلانك عن ” إشعاع الأجسام السوداء “، واجه العلماء
بما يسمى بالقانون الطبيعي في كون غير مقسَّم ولا حدود له “(26).

 ويكتب سوليفان قائلاً: ” ما يسمى ” بالثورة العلمية ”
الحديثة تشمل حقيقة وهي ن نظريات نيوتن التي تحكمت في العالم العلمي لمدة تقرب من
مائتي سنة، وجدت أنها غير كافية، وأصبح واضحاً أن الفلسفة الحديثة بما تتضمنه من
نظرة جديدة، برغم عدم اكتمالها تبدو مختلفة عن الفلسفات الأقدم “(27).

 ويضيف چيمس مور في كتابه ” المسيحية للعقل الرزين ” يقول:
” يرى العلماء المعاصرون أن لا أحد يعلم ” القانون الطبيعي ” بشكل
كاف بحيث يمكن له أن يقول أن حدثاً ما يعتبر إخلالاً به. وهم يتفقون على أن الفرد
غير الثابت كعينة للزمن والمكان ليس كافياً لأن يكون أساساً لنضع عليه فكرة عامة
غير قابلة للتغيير تخص طبيعة العالم كله. وهكذا فإن المصطلح الشائع الذي نسميه
” القانون الطبيعي ” هو في الواقع وصفنا الجامد والمحدود للظواهر
الطبيعية “(28).

 ويؤكد چون مونتجومري على أن موقف معارضي ما فوق الطبيعة هو في حقيقته
له جانبان جانب فلسفي وآخر علمي. أولاً
من الناحية الفلسفية: لا أحد أقل من الإله يقدر أن يعرف الكون تماماً بحيث يستبعد
المعجزات. وثانياً
من الناحية العلمية: لسبب أننا نعيش في عصر إينشتاين (وهو مخالف تماماً لعالم
نيوتن المطلق حيث كوَّن هيوم
نظريته الكلاسيكية في مجادلة المعجزات). ولكن الآن انفتح الكون لكل الاحتمالات.
وأي محاولة لذكر القانون العالمي للسببية يصبح لا فائدة منه، وليس هناك سوى
الاعتبار الدقيق للصيغة التجريبية لحدث إعجازي هو الذي يقدر أن يحدد ما إذا كان قد
حدث فعلاً أم لم يحدث(29).

 واستمرت تلك المناقشة في كتابه ” التاريخ والمسيحية ”
وقال: لكن هل يستطيع الإنسان الحديث أن يقبل المعجزة كما يقبل موضوع القيامة؟
والإجابة مدهشة للغاية: يجب أن نقبل القيامة لأننا من أهل الزمن الحديث، نحن نعيش
في زمن إينشتاين. وبالنسبة لنا، ونحن لم نعد المخالفين لمن كانوا يعيشون في زمن
نيوتن، لم يعد الكون ثابتاً في نظرنا، ولم يعد ملعباً معروفاً نعلم كل قواعده.
ومنذ إينشتاين لم يعد لأي إنسان الحق في الحكم على أي حدث بسبب معرفته السابقة

بالقانون الطبيعي”.

 الوسيلة الوحيدة لنعرف ما إذا كان الحدث قد وقع فعلاً هو أن نفحص
الأمر لنتأكد من وقوعه فعلاً. مشكلة المعجزات إذن يجب أن تحلّ في مجال الفحص
التاريخي وليس في مجال التوقعات الفلسفية “(30).

 ويستكمل مونتجومري قوله: ” تذكر إنه عندما يواجه المؤرخ معجزة،
فهو هنا لا يواجه شيئاً جديداً، كل الحوادث التاريخية فريدة من نوعها، وتجربة
شكلها الواقعي يمكن قبوله بطريقة تسجيلية، وهذا ما نتبعه هنا الآن، ليس هناك مؤرخ
له الحق في اختلاق نظام مغلق بأسباب طبيعية، لأن تصوُّر السبب هو شيء غريب، غير
منتظم، وله شكل شاذ “(31).

 ويحذر فنسنت تايلور وهو ناقد شكلي مخضرم من الرفض الجامد لكل ما هو
إعجازي ويقول: ” الوقت متأخر هذه الأيام ليسمع من ينادي بأن المعجزات
مستحيلة، هذه المرحلة من النقاش تعتبر من الزمن الماضي. فالعلم يتواضع الآن، يوجه
نظرة حقيقية للقانون الطبيعي عما كان ملحوظاً في السابق، نحن نعلم الآن أن ”
قوانين الطبيعة ” هي ملخصات كافية للمعرفة المتاحة. الطبيعة ليست ”
نظاماً مغلقاً “، والمعجزات ليست ” تدخلات ” في ” نظام مؤسسي
“. خلال الخمسين سنة الماضية ترنحنا من جراء الاكتشافات العظمى والتي كان
ينظر إليها في وقت ما بأنها مستحيلة، لقد عشت حتى سمعنا عن تحطيم الذرة، ووجدنا
العلماء وهم يتكلمون عن الكون بأنه ” فكرة عظمى وليس آلة عظمى “. هذا
التغيير في وجهة النظر لم توثق في الإطار المعجزي من الأحداث، لكنها تعني أنه
عندما تتحقق شروط معينة فإن المعجزات ليست مستحيلة، ولا يمكن لأي اعتقاد علمي أو
فلسفي أن يقف في الطريق “(32).

7 – الجذور التاريخية للنقد الأعلى الهدام:

 ناقش الربيون اليهود، منذ القدم، كيفية كتابة التوراة، واجمعوا على
وحيها الإلهي وكتابة موسى النبي لها، ولكن مسألة ” موت موسى النبي ”
المذكورة في آخر سفر التثنية (تث5: 34-15) كانت موضع نقاشهم في التلمود والمدراش،
فكان بعضهم يرى أن موسى النبي كتبها بالوحي قبل موته، بروح النبوّة(33)،
وكان البعض الآخر يرى أن يشوع هو الذي كتبها بعد موت موسى النبي.:

… فقال الربي جودا بن إلاي Judah Ben Ilai أن الآيات الأخيرة من التوراة كتبها يشوع(34).

… وتقدم أجزاء من المدراش دليلاً على العصر
الراديكالي الذي نقح فيه عزرا الكاهن والكاتب نص التوراة وجعله قانونياً كما نعرفه
اليوم. ويقول تقليد رباني أنه في سنة (440 ق م) كان عزرا قد حرر نص التوراة(35).
.

… وفي العصور الوسطى بدا للربي أبراهام ابن عزرا
وغيره أن أجزاء كثيرة في التوراة وكأنها لم تكتب في عصر موسى، على سبيل المثال
لاحظ تفسير ابن عزرا للتكوين 12: 6، 22: 14، وتث 1: 2، 3: 11،،1: 6. ووجد الربي
جويف بونيفلز عدداً من روايات البرية في الخروج(36).

… وفي القرن الثاني عشر لاحظ المفسر ر. جوزيف بن
ياسون عدداً من روايات البرية في الخروج وفي العدد متماثلة جداً، وخاصة في حادثة
المياه من الصخرة وفي قصة المن والسلوى. وقال إن هذه الأحداث حدثت بالفعل مرة
واحدة ولكن التقاليد المتوازية طورتها(37).

… وفي القرن الثالث عشر لاحظ حزقيا بن ميمون بعض
الملحوظات على النص التي سبق أن لاحظها عزرا، وقال في تعليقه على تكوين 12: 6 أن
هذا الجزء كتب من منظور مستقبلي(38).

… ولاحظ الربي يوسف بونفيلز في القرن الخامس عند
مناقشة تعليقات بن عزرا أنه يبدو أن موسى لم يكتب هذه الكلمة بل كتبها يشوع أو بعض
الأنبياء الآخرين بما أننا نؤمن بتقاليد الأنبياء، فما الفرق إذا أن يكون من كتب
هذه الكلمة هو موسى أو الأنبياء بما أن كلمات كل منهم كتابات نبوية(39).

… ثم جاء اسحق بن ياسوس من توليدوا (1057م) وقال
أن قائمة الملوك المذكورة في سفر التكوين (تك3: 36-5) كتبت في عصر يهوشافاط وليس
في عصر موسى النبي. وعلق أبراهام بن عزرا (1167م) على تثنية (1: 1) والتي تقول أن
موسى النبي تكلم إلى بنى إسرائيل ” في عبر الأردن “، ثم أشار إلى مجموعة
آيات أخرى في أسفار موسى النبي الخمسة(40) وقال أنها كتبت بعد عصر موسى النبي(41).

 وجاء اسحق ابرابانيل (1509م) بنظرية تقول أن الكتب بشكلها الحالي قد
جمعت في عصر متأخر من سجلات أقدم كانت محفوظة.

 وهذه كانت مجرد أراء فردية لعدد يعد على أصابع اليد الواحدة وتخالف
التقليد والإجماع المسيحي اليهودي كما تخالف البرهان الداخلي للكتاب المقدس. وذلك
على الرغم من أن هؤلاء النقاد لم يشكوا في كون موسى النبي هو كاتب التوراة بل
أفترض بعضهم يشوع هو الذي أكمل سفر التثنية أو أن الأنبياء أو بعض مدارس الأنبياء
المتأخرة أضافت بعض العبارات التوضيحية، بين قوسين، وأفترض البعض الآخر أن نصوص
التوراة جمعت من سجلاتها القديمة التي كانت محفوظة فيها وكتبت في شكلها الحالي دون
أي تغيير أو تبديل. إلى أن جاء المفكر اليهودي سبينوزا
Spinoza (1632-1677م)، والذي كان يؤمن بوحدة الله
والطبيعة ” الله والطبيعة واحد ” وأنكر كتابة موسى للتوراة!! وقال في
كتابه ” رسالة في اللاهوت والسياسة ” أن عزرا هو الذي كتبها مستخدما
مواد أقدم جاء بعضها من موسى النبي ذاته(42). ثم جاء بعده كثيرون
تنوعت أفكارهم وتحديداتهم للتاريخ الذي ظن كل واحد منهم أن التوراة كتبت فيه.

 وقبلت
الكنيسة المسيحية التوراة وبقية أسفار العهد القديم بناء على شهادة الرب يسوع
المسيح وتلاميذه ورسله لوحيها وقانونيتها وصحة وسلامة نصوصها، مؤكدة على أن موسى
النبي هو كاتب الأسفار الخمسة الأولى، التوراة، بوحي الروح القدس (2تى16: 3؛2بط20:
1و21) وكذلك كتب الأنبياء الموحى إليهم بقية أسفار العهد القديم(43).
وسارت الكنيسة على هذا الأساس طوال القرون الأولى للميلاد ولم يخرج عن ذلك سوى بعض
الهراطقة من شيعة الناصريين والأبيونيين الذين رأوا في النصوص التي تقول بموت موسى
النبي دليلاً على أن موسى النبي لم يكتب أجزاء أو كل التوراة. وعلق القديس جيروم
(400م)(44)على بعض العبارات التي يتخذ البعض منها
دليلاً على أن كاتب التوراة ليس هو موسى النبي مثل عبارة ” إلى هذا اليوم
” (أنظر تك20: 35؛ تث6: 34) المتكررة في الأسفار الخمسة، قائلاً: يجب أن تأخذ
هذه العبارة بكل تأكيد على أنها تشير إلى الزمن الذي كتُبت فيه سواء كان كاتبها هو
موسى النبي كاتب التوراة الأصلي أو عزرا الكاتب الذي أستعاد التوراة ونقحها، كما
كان يؤمن بذلك.

 ويقول يونج إن مثل هذه المراحل من النقد العدائي التي بدأت في الظهور
في هذه الفترة يأتي إما من مجموعات كانت تعتبر هرطوقية من العالم الوثني الخارجي.
أو أن هذا النقد عكس افتراضات فلسفية معينة لها سمة منحرفة وغير علمية(45).
وهكذا فإن الإدّعاء أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة بدأ أثناء القرنين الأولين بعد
الميلاد وكان الأساس الذي يستقر عليه هذا الاتهام هو وجود فقرات كان يُفترض أنها
كُتبت بعد عصر موسى. ومع أنه كان هناك قليل من الشك أن موسى هو الكاتب أثناء
القرون التالية، فإن الجدال لم يتحرك إلى أساس جديد حتى القرن الثامن عشر وسرعان
ما ظهرت نظرية عدم كتابة موسى لهذه الأسفار وتطورت بطريقة متسعة.

8 – تطور النظريات النقدية:

 وقد تطورت النظريات والافتراضات النقدية بعد ذلك واتخذت أبعاداً
عديدة ومختلفة وافترضت افتراضات نظرية عديدة مجردة.

(أ) افتراض المصادر القديمة: أفترض
فيترنجا
C. Vitringa (1689م) أن موسى النبي استخدم مصادر اقدم منه قد يكون بعضها جاءه
من إبراهيم الذي أتى به بدوره من ما بين النهرين (العراق). ولاحظ القس ر. سيمون
R. Simon (1682م) تنوعا في أسلوب التوراة وافترض تاريخا
متأخراً للتوراة، وبصفة خاصة وجود روايتين للخلق وللطوفان بهما نوع من الاختلاف في
الأسلوب والتأليف. وقال ويتر
H. B. Witter القس البروتستانتي (1711م) أن سبب الازدواج في قصة الخليقة يرجع
إلى استخدام اسمين مختلفين لله في التوراة، هما إيلوهيم ويهوه(46).
ولكنهم لم ينكروا أن موسى النبي هو كاتب التوراة.

 ثم
جاء الأستاذ الجامعي وطبيب البلاط الفرنسي
Jean Astruk وقدم للمرة الأولى (سنة 1753م) في كتاب صغير بعنوان ” في
الوثائق التي يبدو أن موسى استخدمها في تدوين سفر التكوين ” نظرية الروايتين
والاسمين الإلهيين ؛ ” يهوه ” واسماهما الرواية اليهوية (
Jehovist) من اسم الله في العبرية ” يهوه YHWH والذي يكتب أحيانا YHVH “، لأنها تحتوي على أسم الله يهوه، ورمز له العلماء بحرف
J “، وإيلوهمي، واسماها الرواية الإيلوهية ” Elohist ” من اسم الله إيلوهيم “ُ Elohim “، لأنها تستخدم اسم الله إيلوهيم ورمز لها العلماء بحرف
E “. ولاحظ أن الأسم إيلوهيم مستخدم في الإصحاح الأول ويهوه
مستخدم في الأجزاء الأخرى للسفر في حين أن الاسمين يهوه وإيلوهيم يندمجان معاً في
الإصحاح الثاني. ويترجمان في الإنجليزية والعربية ب ” الرب الإله ”
وإيلوهيم(47).

 على كل حال فقد أكد على أن موسى النبي هو كاتب سفر التكوين. ولكنه
كان أول من قسم المصادر إلى إيلوهيمي ويهوى، ثم أفترض أيضا مصادر أخرى إلى جانب
هذين المصدرين وقال أن موسى النبي استخدمها في كتابته للتوراة، وأفترض أن موسى
النبي رتب هذه المصادر في أعمدة منظمة ثم اختلطت هذه الأعمدة ونشأ الشكل الحالي
للنص. وبرغم اعتقاده أن موسى النبي هو كاتب التوراة إلا أنه لم يفهم طبيعة أدب
الشرق الأدنى القديم(48). فقد كتب موسى النبي التوراة بالوحي،
مسوقا من الروح القدس، ولكنه أستخدم أسلوب عصره في الكتابة. وهذا ما لم يفهمه
جيداً أصحاب افتراضات المصادر المتعددة لقلة درايتهم، وقتئذ، بأدب وفكر الشرق
الأدنى القديم، خاصة وأن معظمهم من الغرب. ومع أنه طوَّر هذه النظرية إلا أنه دافع
عن موسى كمؤلف لهذه القصص الكتابية(49). ومن هنا بدأ النقد النصي الكتابي
الذي أصبح فيما بعد هو النقد الأعلى(50)!!

(ب) افتراض الجزيئات أو المصادر غير الكاملة: تأثر
النقاد بافتراضات أستروك، بالرغم من أنه تحدث فقط عن سفر التكوين وتوقف بعد خروج ص
6، وأضافوا إلى افتراضاته وعدلوها. وكان أول من استخدم نظرية أستروك في ألمانيا هو
ايكهورن
J G Eichorn فقد أخذها إلى ألمانيا وفرق بين الوثيقتين الرئيسيتين على أساس
أسلوبها اللغوي (1787م)، ولكنه مثل استروك أكد أن كاتب التوراة هو موسى النبي،
وقال في مقدمته للعهد القديم(51)، أن معيار تحليل المصادر في أسفار
موسى الخمسة يجب أن يتضمن اعتبارات أدبية (مثل اختلاف الأسلوب، والكلمات الخاصة
بالوثائق السابقة، وهكذا) بالإضافة إلى معيار اسم الله عند أسترك(52). ثم
افترض القس الإسكتلندي اليكسندر جدس
Geddes (92-1797م) عدداً كبيراً جداً من الأجزاء أو المصادر غير الكاملة،
وزعم أن أسفار موسى النبي الخمسة مع سفر يشوع كتبت بعد موسى النبي ب 500 سنة، ربما
في أورشليم، ولكن ليس قبل داود ولا بعد حزقيا، ورجح إنها كتبت أيام سليمان الحكيم
من هذه المصادر الكثيرة. ثم طور هذه الافتراضات الألماني يوهان فاتير
J. Vater (1802-1805م) وحاول أن يبين التطور التدريجي
لأسفار التوراة الخمسة من أجزاء قائمة بذاتها. كان يعتقد أنه هناك على الأقل 38
مصدراً للأجزاء المختلفة. ومع بعض الأجزاء المعينة التي كانت من عصر موسى، فإن
الأسفار الخمسة كما هي عندنا الآن قد جُمعت في حوالي وقت السبي اليهودي (586 ق.م).

 وحوالي سنة 1822م علق F Bleek على العلاقة الأصلية بين يشوع والأسفار الخمسة على أساس استمرار
سفر يشوع في نفس الرواية. ثم ظهر آخرون قالوا بالتعدد داخل المصدر الواحد ؛ فقالوا
بالمصدر الإيلوهي 1 والإلوهي 2 واليهوي ب، ث أضافوا المصدر ”
D ” اختصار ل Deutronomy أي التثنوي من سفر التثنية، أ, التشريعي أو
أسموه التثنوي
Deutronoist ؛ ثم أضافوا Deutronoist 1 و Deutronoist 2. ثم تطورت هذه النظرية أكثر في عام 1831 بواسطة الباحث الألماني
هارتمان(53). وكان قد أثر عمله هذا في دى ويت
De Wette (1806-1807م) الذي تخيل أن هناك وثيقة
إيلوهيمية جوهرية في سفر التكوين

امتدت بإضافة مصادر أخرى عليها غير كاملة. هذه الوثيقة الجوهرية
استمرت وسط الأسفار الخمسة ” ملحمة الثيؤقراطية العبرية ” وأدخلت عليها
مجموعات القوانين وغيرها في زمن متأخر(54).

 ثم جاء المؤرخ الألماني يوليوس فيلهاوزن Julius Wellhausen ونشر سنة 1886م ” مقدمة في تاريخ إسرائيل
” قال فيه أن التشريع الكهنوتي غير موصوف في منتصف الأسفار الخمسة وقال أنه
أضيف في مرحلة متأخرة من السبي البابلي ورمز له بالحرف ”
P ” من Priestly أي كهنوتي. وأعتبر سفر يشوع ضمن هذا المجوعة
التي اسماها بالهيكستاتيوك
Hextateuch، أي السداسية، الأسفار الخمسة وسفر يشوع، وقال أنها كتبت بواسط
مجموعة من الكتاب على مدى زمن طويل، وضيق مجالات الروايات إلى
Jahwist & Elohist
& Deutronomist & Priestly
(JEPD). وقال أن الذي حرر هذه المصادر الأربعة قام بعدة تنقيحات وقال
أنه عزرا الكاتب والكاهن. واصبح لدي هؤلاء النقاد أربعة مصادر رئيسية هي(55):

… المصدر J، Jehovist الإلوهي من اسم الله يهوهJehovah (YHVH). وقالوا أن تاريخ هذه الوثيقة يرجع لما بعد سنة 900 ق م بقليل(56).

… المصدر “ E Elohist من اسم الله Elohim. ويرجع لحوالي 700 ق م(57).

… المصدر E J وقالوا أنهما انضما معا حوالي سنة 650 ق م(58).

… المصدر ” (59)DDeutronomist من سفر التثنية Deutronomy. ويرون أن المصدر الذي كتب منه سفر التثنية
وسفر يشوع والقضاة و1و2 صموئيل و1و2 ملوك. ويرون أنه كتب قبل سنة 621 ق م.

… المصدر ” P(60) Priestly والذي يشير إلى المادة الكهنوتية والتي تستخدم
اسم الله
Elohim إيلوهيم وإيل شداي El Shadai. وزعموا أنه أدمج بقية النص في القرن الرابع قبل الميلاد. وزعموا
أن التوراة في شكلها الحالي تكونت حوالي 400 ق م.

(ج) افتراضات التكميل: دعيت هكذا لأنها تفترض أن عدة
وثائق ألحقت بوثيقة رئيسية وقد اتبعها مجموعة من العلماء وعدلوها وأضافوا إليها
فصارت المحصلة الرئيسية لهذه المصادر هي: إيلوهيم، يهوه، التثنية، الكهنوت.
ورموزها هي
E. J. D. P. وملحقاتها من الوثائق الأخرى الصغيرة.

 وقد أثبتت الدراسات الأثرية والتاريخية الحديثة، في الشرق الأدنى، أن
هذا الأسلوب، المزعوم، في كتابة التوراة لا مثيل له في أدب تلك العصور سواء الديني
أو غير الديني. كما أثبت اكتشاف الألواح الطينية، والتي ترجع إلى زمن إبراهيم، أن
قصص الخليقة والطوفان وبرج بابل التي وردت بها والتي تقترب مع ما جاء في التوراة
بصورة إعجازية تبطل نظرية المصادر المتعددة.

 كما أن افتراضات ونظريات المصادر هي مجرد افتراضات استنتاجيه بنيت
على مجرد الافتراض والظن بدون سند أو دليل واقعي أو منطقي سواء من التاريخ أو
التقليد أو الآثار أو الإيمان الذين اجمعوا على أن موسى النبي هو كاتب التوراة.
وهذه الافتراضات والنظريات متعارضة ومتناقضة للدرجة التي تؤدى إلى رفضها جميعا. إذ
لا يعقل أن نترك الحق الظاهر ونجرى وراء أوهام.

 ويستحيل أن نتصور أنه كان لدى الكاتب مصادر عديدة وضعها في أعمدة
متجاورة ثم خلطها أو دمجها معا بمساعدة زيادات أخرى اخترعها ذاتيا ليكون بذلك
رواية واحدة!! فهذا لا يتصوره إلا خيال الناقد الملحد فقط ولم يحدث بل ويستحيل أن
يحدث في الواقع. وعند النظر إلى محاولة النقاد أن يصوروا أنها مصادر متعددة، نجد
أن كل ما تصوروا أنه مصدر يكون رواية مستقلة، غير كامل وناقص وغير واضح المعاني
وأن هناك حذفا في الأقسام الجوهرية وفجوات لا يمكن تفسيرها والحدث فاقد
الاستمرارية وبه أحداث تظهر بلا تعليل أو منطق.

 ومما يدل على استحالة وبطلان هذه الافتراضات والنظريات هو الرسومات
الإيضاحية التي تشبه اللوغاريتمات التي يحاول النقاد استخدامها لتصوير كيفية تكوين
رواية واحدة من مصادر عديدة في عصور أتسم أسلوب كتابتها بالبساطة كما أجمع العديد
من العلماء على أن بساطة أسلوب التوراة ينفي كل هذه الافتراضات والنظريات الوهمية.

 كما أن استخدام أسمى الله ” إيلوهيم ” و ” يهوه
” لا يدلان على أنهما جاءا من مصدرين مختلفين، بل يدلا على أن لله أسماء
وألقاب متعددة تدل على صفاته المتعددة إذ أن ” إيلوهيم ” يعنى قدرته
الكلية و” يهوه ” يعنى وجوده المطلق كالواجب الوجود الدائم الوجود علة
وسبب كل وجود، كما يعنى لقبه ” إيلون ” الأعلى، ولقبه ” أيل شداي
” ضابط الكل.

9 – النقد التاريخي التقليدي الشفهي (مدرسة أوبسالا):

 رفض
العديد من النقاد نظرية فلهازون في حينها، واتجه علماء النقد من سنة 1880 إلى
1925م إلى العودة إلى التاريخ القديم للتوراة، وهاجم بعضهم النظريات التطورية
وأكدوا على أن موسى النبي هو كاتب التوراة ودافعوا عن وحدة التوراة، وقال علماء
مدرسة أوبسالا
Uppsala (1945م) والتي تأسست في اسكندنافيا ببطلان هذه النظريات
والافتراضات خاصة وأنه لا أثر لها في التوراة. وهم ” يعتقدون أن أسفار
التوراة الخمسة لم يكتبها موسى في الأصل، ولكنها كانت مجموعة من المواد جُمعت على
مر القرون، وتعهد بعض الأشخاص بكتابتها ليس قبل السبي. ولقد رفضت هذه المدرسة
الاسكندنافية رفضاً باتاً رأى ” الفرضية الوثائقية ” كحل غربي لمشكلة
أدبية من الشرق الأدنى القديم كان مختلفاً تماماً. ركزت هذه المدرسة الاسكندنافية
على التقليد الشفهي أكثر من چانكل وكل مدرسة نقد الشكل. حتى أن البعض قال: إن
التقليد الشفهي أكثر أهمية عن التقليد المكتوب في الشرق القديم. لم تكن الوثائق
المكتوبة هي التي يجب التعامل معها، ولكن التعامل يجب أن يكون مع وحدات من التقليد
الشفهي وحلقات من التقليد و” مدارس ” مختلفة داخل هذه الدوائر التقليدية
(61).

10 – مدرسة اللاهوت التحرري (LIBERALISM):

 وعلى رأس
هؤلاء جماعة سمينار يسوع:
وقد تأثر أصحاب هذه المدرسة
بنظريات النقد المختلفة ومن ثم فقد أخضعوا، خاصة المفسرين الألمان، تفسير الكتاب
المقدس لها. وانقسم هؤلاء إلى فرق وشيع مختلفة ومتنوعة وتأثر كل منهم بنظريات
نقدية مختلفة ومتناقضة ومتضاربة، بل وطبق بعضهم الكثير من أفكار الملحدين وغيرهم
والتي وصلت ببعضهم إلى إنكار تاريخ الآباء البطاركة مثل إبراهيم وأسحق ويعقوب وأدت
بالبعض الآخر إلى إنكار وجود شخصية المسيح في التاريخ نهائيا وقالوا أنها خليط من
الفكر اليوناني والفكر اليهودي، وتصور بعضهم أيضا أن شخصية المسيح قد وجدت بالفعل
في التاريخ وأن كان قد تأثر بالأفكار اليهودية عن المسيح المنتظر وحاول تطبيق
نبوات العهد القديم على نفسه، أو طبقها تلاميذه عليه، وتوهم، أو توهم تلاميذه، أنه
سيأتي في آخر الأيام على السحاب لنشر ملكوته السماوي على الأرض. وقاموا بتفتيت
الكتاب المقدس وتمزيق أسفاره إلى مصادر متنوعة ومتضاربة اعتمادا على مجرد نظريات
افتراضية متناقضة ومتضاربة لمفكرين ملحدين وأنكروا التقليد والحق الثابت.

 كما قالت جماعة ” سمينار يسوع Jesus Seminar ” التي تضم كاثوليك وبروتستانت ليبراليين وكذلك يهود ملحدين،
في أمريكا، أن 20 % فقط من الأقوال المنسوبة للرب يسوع المسيح قالها هو بالفعل
وبقية ما نسب إليه من أقوال وضعها التلاميذ بعد صعوده لتلائم الظروف التي استجدت
بعد انتشار المسيحية في بلاد كثيرة!! ويتجاهلون المعجزات في الأناجيل ويركزون فقط
على تعاليم المسيح، ويلخص أحد علماء الكتاب ويدعى جيسلر النتائج الراديكالية
للسمينار التي تؤثر في الإيمان المسيحي التاريخي التقليدي:

(1) يسوع القديم والمسيحية القديمة لم يعودا مناسبين الآن.

(2) لا يوجد اتفاق بشأن شخصية يسوع: هل كان فيلسوفاً آمن بالفضيلة أو
حكيماً أو مصلحاً يهودياً أو مناصراً للمساواة بين الجنسين، أم معلماً ونبياً أم
نبياً اجتماعياً

ثورياً أو نبياً مؤمناً بالقيامة والدينونة.

(3) يسوع لم يقم من الأموات. وهناك أحد الأعضاء يُدعي كروسان ألَّف
نظرية تقول بأن جثمان يسوع دفن في قبر سطحي فحفرته الكلاب وأكلت الجثة.

(4) الأناجيل القانونية مكتوبة في زمن متأخر ولا يمكن الوثوق بها.

(5) الكلمات الأصيلة ليسوع يمكن أن تجمع من جديد من خلال الوثيقة Q وإنجيل توما ومرقس السري وإنجيل بطرس (62)“.

11 – مدرسة الشك التاريخي أو نقد الشكل والعهد الجديد:

 وهذه
المدرسة التي ظهرت في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين يزعم أتباعها، نقَّاد
الشكل، أن الأناجيل تتألف من وحدات أو فصول صغيرة مستقلة. هذه الوحدات الصغيرة
المنفردة تمَّ ترويجها ونشرها بشكل مستقل كل على حدة. ويُعلِّم النقَّاد أن هذه
الوحدات اتخذت تدريجياً شكل أنماط متنوعة من الكتابة والأدب الشعبي مثل الأساطير
والحكايات والخرافات والأمثال. ويعرف ج.أ. لادد نقد الشكل بما يلي: إن ” نقد
الشكل ” يهتم بدراسة الأشكال الأدبية المتنوعة التي يفترض أنها التقليد
الشفهي الذي تمَّ تناقله من فم إلى فم. وخلف هذه الدراسة تكمن الفرضية أن ثمة
قوانين محددة للتقليد الشفهي عندما يتم تطبيقها على الأناجيل سوف تقود إلى استعادة
الشكل الأول والأقدم للتقليد. وبدراسة متعمقة لهذه الأشكال فإنها تقود إلى الخلاصة
النقدية التي تقول بأن محتوى الأناجيل في مراحلها المبكرة كان يعتمد على التناقل
الشفوي كوحدات وحكايات وقصص وأقوال وتعاليم وأمثال غير متصلة. وكل وحدة من
التقاليد لها تاريخها الخاص في الكنيسة. إن الموجز التاريخي لأعمال يسوع كما هو
موجود في إنجيل مرقس ومجسَّد بشكل كبير في متى ولوقا ليس جزءاً من هذا التقليد،
ولكنه من اختلاق مؤلف الإنجيل الثاني، الذي قام بجمع الكثير من وحدات التقليد،
وابتدع موجزاً تاريخياً لأعمال يسوع، واستخدم هذا الموجز كخيط روائي يمكن من خلاله
تقوية العلاقة بين الجزيئات المنفصلة من التقاليد المستقلة. وهذا يعني أن الإشارات
التي تدل على التتابع الزمني والمكاني وما يماثلها في الأناجيل هي إشارات غير
أًصيلة تاريخياً على الإطلاق وغير جديرة بالثقة، ومن ثم يجب تجاهلها من قِبَل
نقَّاد الإنجيل الجادّين. وكنتيجة لذلك نحن لا نملك في الحقيقة سجل حياة أو ”
سيرة حياة ” يسوع، ولكن فقط مجموعة من الحكايات والتعاليم المنفصلة التي تم
ربطها معاً بأسلوب غير تاريخي وسطحي “(63).

 أما رودلف بولتمان وهو ناقد راديكالي
للشكل فيوضِّح المدخل لنقد الشكل في قوله: منذ ما يزيد عن أربعين عاماً الآن،
ودارسو العهد الجديد على دراية بوجود مدرسة للبحث في الإنجيل تعرف باسم نقد الشكل
– أو بدقة أكثر تاريخ الشكل
Form History ولقد كرَّست هذه المدرسة اهتمامها على تحليل الوحدات المكونة التي
بنى التقليد على أساسها الأناجيل المتوافقة وهي تسعى إلى دراسة التقليد الشفهي في
مرحلة سابقة لتبلوره في الأناجيل، أو حتى في المصادر التي تأسست عليها الأناجيل،
سواء كانت وثائق مكتوبة أو حلقات من التقليد المتكرر – مثل التقليد (
Q) وهو مخطط تمهيدي يشرح خدمة يسوع، هذا المخطط
كان قد سبق إنجيل مرقس. كما أنه يدرس التتابع في الروايات والمحتويات الخطابية
والروايات العاطفية وغيرها.

 ويستمر في شرحه: يبدأ نقد الشكل مع إدراك أن التقليد الذي تضمنته
الأناجيل المتوافقة يتكون في الأصل من وحدات منفصلة، تم جمعها معاً تحريرياً
بواسطة كتَّاب البشائر، ومن ثم فنقد الشكل مهتم بتمييز واستخراج وحدات التقليد
هذه، وكذلك اكتشاف أول وأقدم أشكالها وأصولها في حياة المجتمع المسيحي المبكر. إن
نقد الشكل ينظر إلى الأناجيل كمجموعة لهذه المادة الأقدم. ولكنه أيضاً يدرس
الأناجيل باعتبارها أعمال كاملة سعياً لتقدير وتحديد حجم الأنشطة الأدبية لكتَّاب
البشائر ولاكتشاف الدوافع اللاهوتية التي قادتهم وأرشدتهم “(64).

 وقد رد علماء الكتاب المقدس على مزاعم هذه المدرسة وأبطلوا مزاعمها
لدرجة أن أحد العلماء ويدعى ج. بريتز يصل في رده على مزاعم هذه المدرسة بقوله
ومن ثم فإن نقَّاد الشكل يواجهون تحدياً فإما أن يعترفوا بخطأ منهجهم
وما
توصِّلوا إليه من نتائج أو أن يتخلصوا منه تماماً.

 ما يتضمن هنا الآن ليس التبديل بين الاتجاه غير النقدي وبين النقد،
لكن بين النقد والمبالغة في النقد. فالنظرة النقدية للأناجيل لا تزعم أنها موضوعية
بشكل مطلق. فمن الصعب أن نقول أين ينتهي الشعر ويبدأ التاريخ. ومن المرجح جداً عدم
وجود تتابع زمني تحتي صارم أو مخطط طوبوغرافي، كما أنها ليست كتباً لسير الحياة
حسب مفهومنا الحديث لهذا الصنف الأدبي. ولكن ذلك لا يعني أننا نعترف بأننا لا نملك
شهادة موثوقة من شهود عيان، أو بأن الكنيسة من خلال مسيح إيمانها قد خلقت أو
اختلقت يسوع التاريخي، بدلاً من أن يسوع التاريخي هو مسيح إيمانها (65).



(1) The Revell Bible
Dictionary p. 153.

(8) Revell, p.
154.

(9) The Int. St.
Bible Ency.
vol. 1 p.819.

 

(10)
جوش ماكدويل، واحد من أكثر العلماء المدافعين عن الكتاب المقدس في الغرب، وله عدة
كتب في ذلك، أشهرها ” برهان جديد يتطلب قرار –
A New Evidence
That Demands A Verdict
“.

(14) Ibid.p.

(15) Carlson,
Science and
Supernature,p. 5- 8.& McDowell 351.

(16) Frank, Henry Biblical
Archaeology and faith & Josh McDowell.

(17)Mcdowell p.
355.

(29) Ibid, p. 360.

(34) Talmud, Bava
Batra 15a and Menachot 30a, and in Midrash Sifrei 357. See Documentary
hypothesis
From Wikipedia, the free encyclopedia.

(35) Documentary
hypothesis
From Wikipedia, the free encyclopedia.

(41) INt. St. Bib.
Enc. Vol.
1, p. 819.

(42) رسالة في اللاهوت والسياسة،
ترجمة دكتور حسن حنفي، ف 8 : 265 -281.

(47)
Documentary hypothesis
From Wikipedia, the free encyclopedia.

(49)Young, In. OT,p.118 -21.

(50)Documentary
hypothesis
From Wikipedia, the free encyclopedia.

(54)
Documentary hypothesis
From Wikipedia, the free encyclopedia.

(56) المصدر J أو الكاتب الذي يزعم النقاد أنه استخدم كلمة يهوه وكان أول من جمع
الأساطير، والخرافات، والأشعار معاً، وحتى القصص المعروفة من شعوب أخرى، مثل
البابليين، وجعلها تاريخاً واحداً لشعب الله.

(57) المصدر E أو الكاتب المزعوم الذي يقول النقاد أنه استخدم
كلمة ” إيلوهيم ” و كان ثاني كاتب جمع كل التقليد في تاريخ واحد.
ويزعمون أنه كتب هذا التاريخ حوالي 700 ق م،من التقاليد التي تداولتها القبائل
الشمالية.

(58) المصدر JE وهو كتابات هذين الكاتبين المزعومين وقد جُمعت معاً في تاريخ واحد
بواسطة محرر غير معروف بعد خراب أورشليم.

(59) المصدر D أو Deuteronomy (الكاتب التثنوي المزعوم) كان غرضه إصلاح
ممارسات العبادة. ولم يكن
P,J,E قد جُمعوا بعد في كتاب واحد عندما جُمع D.

(60) المصدرP والذي يزعمون
أنه ربما كان كاهناً
Priest أو مجموعة من الكهنة الذين عاشوا أثناء السبي البابلي، قد أوجدوا
مجموعة مبادئ عن القداسة للشعب، أي طرق العبادة والناموس الذي يجب أن يُطيعوه.

 

(65) Ibid.
549. &
Peritz, FCE, 205.

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى