اللاهوت الدفاعي

الباب الخامس



الباب الخامس

الباب
الخامس

وجود لفظ التحريف بالقرآن ووجود أربعة أناجيل

بينما لم يذكر القرآن سوى واحداً

أولاً: وجود لفظ
التحريف بالقرآن:

لقد ذكرنا من قبل
النصوص القرآنية التى تؤكد صدق الكتاب المقدس وسلامته من التحريف والتبديل. والآن
نأتى إلى نصوص أخرى يرى البعض أنها تؤكد التحريف والتبديل والتغيير فى التوراه
والإنجيل.

(1)         
” ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق
وأنتم تعلمون” (البقرة).

(2)         
” أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق
منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون” (البقرة).

(3)    ” ولما جاءهم رسول من
عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم
كأنهم لا يعلمون” (البقرة).

(4)    ” إن الذين يكتمون ما
أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون فى بطونهم إلا النار
ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم” (البقرة).

(5)         

يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون” (آل عمران).

(6)    ” وأن منهم فريقاً
يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله
وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون” (آل عمران).

 

هذه النصوص يوردونها
كدليل على تحريف التوراة والإنجيل مع أنها صريحة الدلالة على صحتها وعدم تحريفها
ووجودهما سليمين.

 

بل أن هذه النصوص دليل
واضح وقوى على أن اليهود والنصارى مع علمهم بأمر رسول الإسلام فى كتبهم (كما يدعى
القائلون بوجود آيات بالكتاب تشير إلى رسول الإسلام) (1) لم
يقدموا على حذف هذه النصوص من كتبهم أو تحريفها بل أبقوها كما هى، فقط اقتصروا على
تشويش هذه الأدلة وتحريف كلام الله بالتأويل والإخفاء وأن هذه الآيات أيضاً تدل
على أن رسول الإسلام كان يعلم بسلامة التوراة والإنجيل من التحريف فلم يقل إن هذه
الكتب ليست هى التى نزلت على موسى وعيسى بل رمى اليهود فقط بالتلبيس والكتمان.

 

ونحن نحرص فى دراستنا
لمثل هذه الموضوعات فلا نفسر من عندياتنا نصوص القرآن الكريم ولا نستعمل عقولنا فى
تفسيرها بل نعمد دائماً إلى تفاسير أئمة الإسلام.

 

وها نحن نورد أولاً
تفسير الجلالين لهذه الآيات قال: يحرفون الكلم عن مواضعه أى يميلونه عن مواضعه
التى وضعها الله فيها. إما لفظاً بإهماله بأن يتغير وضعه، وإما معنى بحمله على غير
المراد وإجرائه فى غير مورده (الجلالين جزء أول ص 228).

 

والفخر الرازى يقول: إن
أمتى موسى وعيسى كانوا يكتمون ما فى التوراة والإنجيل من الدلائل على نبوءة محمد
فكانوا يحرفونها أو يذكرون لها تأويلات فاسدة (الفخر الجزء الثالث ص 168 و169).

 

والبيضاوى يقول فى
تفسيره: إن فريقاً من اليهود يسمعون كلام الله، يعنى التوراة، ثم يحرفونه كنعت
محمد، وآية
الرجم.
وتأويله فيفسرون بما يشتهون (من بعد ما عقلوه) أى فهموه بعقولهم (البيضاوى جزء أول
ص 91).

 

والفخر الرازى يقول
أيضاً: ولا تلبسوا الحق بالباطل أمر بترك الإغواء والإضلال وأعلم أن إضلال الغير
لا يحصل إلا بطريقين وهو إما أن كان سمع دلائل الحق فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش
تلك الدلائل عليه وإن كان ما سمعها فإضلاله إنما يكون بإخفاء تلك الدلائل عنه
ومنعه من الوصول إليها. فقوله ولا تلبسوا لحق بالباطل إشارة إلى القسم الأول وهو
تشويش الدلائل عليه. وقوله: وتكتموا الحق إشارة إلى القسم الثانى وهو منعه عن
الوصول إلى الدلائل واعلم أن إلا ظهر فى الباء التى فى قوله بالباطل أنها باء
الاستعانة والمعنى ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التى توردونها على السامعين وذلك
لأن النصوص الورادة فى التوراه والإنجيل فى أمر محمد عليكم كانت نصوصاً خفيفة
يحتاج فى معرفتها إلى الاستدلال ثم أنهم

كانوا
يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات. فهذا هو
المراد بقوله ولا تلبسوا الحق بالباطل (الرازى مجلد أول ص465)

 

يقول البيضاوى فى
تفسيره: “ولا تلبسوا الحق بالباطل” اللبس الخلط وقد يلزمه جعل الشئ
مشتبهاً بغيره. والمعنى ألا تخلطوا الحق المنزل عليكم بالباطل الذى تخترعونه حتى
لا يميز بينهما أو لا تجعلوا الحق ملتبساً بسبب خلط الباطل الذى تكتمونه فى خلاله
أو تذكرونه فى تأويله وتكتمون الحق وأنتم تعلمون كأنهم أمروا بالإيمان وترك الضلال
ونهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحق والإخفاء على من لم يسمعه أى لا تجمعوا
لبس الحق بالباطل وكتمانه وأنتم تعلمون عالمون بأنكم لابسون كاتمون. فإنه أقبح إذ
الجاهل يعذر (البيضاوى المجلد الاول ص 76 و77).

 

وفى تفسير الجلالين
يقول: تخلطون الحق الذى أنزلت عليكم بالباطل الذى تغيرونه وتكتمون الحق نعت
محمد وأنتم تعلمون (جزء أول ص 9).

 

ومن هذا نرى كيف اتفق
أئمة الإسلام فى تفسير هذا النص على أن التلبيس والكتمان كانا بالتأويل والإخفاء.

 

فإذا كان أهل الكتاب
وهم يعلمون أمر محمد فى كتابهم أى نعته وصفته ولم يقدموا ولا أسلافهم على نزع ذلك
منه أو تحريفه بل فقط اقتصروا على تشويش تلك الدلائل على السامع أليس هذا دليلاً
على أمانتهم لكتبهم كما أنزلها الله؟.

 

1)           
” أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق
منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون” (البقرة).

 

وهذا النص يدل على أن
كلام الله فى التوراة والإنجيل كان يسمع وكان موجوداً كما هو واصحابه يعقلونه
ويعلمونه.

 

قال البيضاوى (فريق
منهم) طائفة من أسلافهم أى اليهود (يسمعون كلام الله) يعنى التوراة (ثم يحرفونه)
كنعت محمد وآية الرجم أو تأويله فيفسرون بما يشتهون (من بعد ما عقلوه) أى فهموه
بعقولهم ولم يبق لهم فيه
ريبه…

 

جاء فى تفسير الطبرى:
إن بعض أهل العلم قالوا لموسى يا موسى قد حيل بيننا وبين رؤية الله عز وجل،
فأسمعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه، فقال: نعم، فمرهم فليتطهروا
وليطهروا ثيابهم، ويصوموا. ففعلوا. ثم خرج بهم حتى أتى الطور. فلما غشيهم الغمام
أمرهم موسي فوقعوا سجوداً. وكلمه ربه، فسمعوا كلامه، يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا ما
سمعوا. ثم انصرف بهم إلي بني إسرائيل. فلما جاءهم حرف فريق منهم ما أمرهم به.

 

فمما تقدم نفهم أن
فريقاً من علماء اليهود حوروا معنى الكلام الذى سمعوه وعقلوه. ولكن الفريق الآخر
تقيد بما سمع (الطبرى 1334).

 

ومن هنا يتضح أن المعنى
المقصود بكلمة التحريف هو التأويل والتفسير الغير سليم، ولكن نص الكتاب المقدس لم
يحدث فيه تغير.

 

2)    
ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب
الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون” (البقرة آية 102).

 

وهذه لا تدل على تحريف
التوراة والإنجيل بل تدل على أنهما كانا لا يزالان مع اليهود والنصارى على
حقيقتهما، فقط إن فريقاً من اليهود والنصارى نبذ التوراة والإنجيل وراء ظهورهم
وإلا إذا كانا قد تحرفا أو تبدلا فكيف يجئ الرسول مصدقاً لهذه الكتب المحرفة
ويطالب اليهود بأن يبنوا له الدلائل الدالة عليه.

 

3)    
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون
فى بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم”
(البقرة).

 

وقال الرازى فى
تفسيرها: واختلفوا فى كيفية الكتمان فالمروى عن ابن عباس أنهم كانوا محرفين يحرفون
التوراة والإنجيل وعند المتكلمين هذا ممتنع لأنهما كانا كتابين بلغا من الشهرة
والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما بل كانوا يكتمون التأويل لأنه قد كان فيهم من
يعرف الآيات الدالة على نبوءة محمد
عليه السلام
وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة يصرفونها عن محاملها الصحيحة الدالة على نبوءة
محمد (ص). فهذا هو المراد من الكتمان فيصير المعنى أن الذين يكتمون معانى ما أنزل
الله من الكتاب (مجلد ثان ص 132 133).

 

رأيت أيها القارئ
الحبيب كيف أن أئمة المسلمين يقولون إن تحريف التوراة والإنجيل أمر ممتنع لبلوغهما
مبلغ الشهرة والتواتر بحيث يتعذر تحريفهما.

 

وإن كتمان المعانى من
آيات الكتاب بتأويلها تأويلا فاسداً يصرفها عن محاملها الصحيحة وأن النص الأصلى
بقى بدون تحريف.

 

4)           
” يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله
وأنتم تشهدون” (آل عمران).

 

قال الرازى فى تفسيرها:
الأول المراد منها الآيات الواردة فى التوراة والإنجيل المبشرة بمحمد عليه السلام.
الثانى أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة لأنهم كانوا يحرفونها وكانوا ينكرون وجود
تلك الآيات الدالة على نبوءة محمد (ص)، وأما قوله وأنتم تشهدون فالمعنى على هذا
القول أنهم عند حضور المسلمين وعند حضور عوامهم كانوا ينكرون اشتمال التوراة
والإنجيل على الآيات الدالة على نبوءة محمد (ص)، ثم إذا خلا بعضهم مع بعض شهدوا
بصحتها (الرازى مجلد ثانى ص 708).

 

ومن هذا تعلم أن أهل
الكتاب لم ينسخوا
من كتاب
الله الآيات المقول إنها دالة على محمد (ص) ولا أنهم حرفوها بل حسب النص كانوا
يكفرون بها أى ينكرونها وهم يشاهدونها فى كتابهم، وهنا لا يبقى محل لتهمة أهل
الكتاب بتحريف كتابهم، ولو كان من شيمتهم التحريف لكانوا بالأولى أزالوا منه تلك
الآيات المزعوم أنها نبوءات عن محمد (ص)، بل كانوا محافظين بكل حرص وعناية على
سلامة كتبهم كما أنزلها الله تعالى.

 

5)    
وأن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب
ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم
يعلمون” (ال عمران).

 

يقول الإمام الرازى فى
تفسيرها: واعلم أن اللى عبارة عن عطف الشئ ورده عن الإستقامة إلى الاعوجاج، كيف
يمكن إدخال التحريف فى التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس. الجواب لعله صدر هذا
العمل عن نفر قليل يجوز عليهم التواطؤ على التحريف. ثم أنهم عرضوا ذلك المحرف على
بعض العوام. ووجه آخر وهو أن الآيات الدالة على نبوءة محمد(ص) كان يحتاج فيها الى
تدقيق النظر وتأمل القلب، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والإعتراضات
المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين. واليهود كانوا يقولون
مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم
أنتم، فكان هذا هو المراد بالتحريف وبلى الألسنة (الرازى مجلد ثان ص 720 و721).

 

وهذا دليل على عدم
إقدام أهل الكتاب على تحريف كتابهم. وكم أظهر الفخر الرازى دهشته عندما كان يسمع
أن أحداً يقول بتحريف التوراة والإنجيل فقد قال فى تفسيره آية 45 من سورة النساء:
كيف يمكن (التحرف) فى الكتاب الذى بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور
فى الشرق والغرب (الرازى مجلد 3 ص 337 و338) وكرر الرازى عجبه هذا فى الجزء الرابع
ص 21 و22 إذ قال: لأن إخفاء مثل هذه التفاصيل فى كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب
ممتنع.

 

6)    
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع
وراعنا ليا بألسنتهم وطعناً فى الدين” (سورة النساء 45).

 

وخلاصة تفسير الرازى
لهذا النص: إن قوماً من اليهود اعتادوا أن يدخلوا على محمد، ليسألوه المسألة،
فيجيبهم عليها. ومتى خرجوا من عنده يحرفون كلامه.

 

ونقرأ فى تفسير
الجلالين لهذا النص: أن قوماً من اليهود، يغيرون الكلام الذى أنزل الله فى
التوراة، من نعت محمد، عن مواضعه التى وضع عليها. يقولون له إذا أمر بشئ سمعنا
قولك وعصينا أمرك واسمع غير مسمع، بمعنى الدعاء. أى لا سمعت. ويقولون له راعنا،
وهى كلمة سب فى لغتهم. ليا أى تحريفاً بألسنتهم وطعناً فى الإسلام (الجلالان 112)

 

ونقرأ فى تفسير الطبرى:
إن اليهود كانوا يسبون محمداً ويؤذونه بأقبح من القول. ويقولون له: اسمع منا غير
مسمع، كقول القائل للرجل
يسبه: اسمع
ولا أسمعك الله. أما كلمة راعنا فقد قصرها بالإسناد عن ابن وهب، بأن الراعن هو
الخطأ من الكلام.

 

وبناء على هذه
التفاسير، لا يكون اليهود قد حذفوا شيئاً من نصوص الكتاب، أو زادوا شيئاً، بل
حوروا معنى الكلام بلى اللسان (الطبرى 8: 433).

 

7)           
” يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم
كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير” (سورة المائدة).

 

قال الإمام الرازى فى
تفسيره لهذه الآية: إن اليهود فيما يقرأون التوراة (تثنية22: 23-24) لووا ألسنتهم
وبدلوا معنى الرجم بالجلد. أما الطبرى فيقول فى تفسيره لهذا النص إن اليهود جاءوا
إلى محمد (ص) يسألونه عن الرجم، واجتمعوا فى بيت. قال أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن
صوريا، فقال أنت أعلمهم؟ قال: سل عما شئت! قال: أنت أعلمهم؟ قال: إنهم ليزعمون
فناشده بالذي أنزل التوراة على موسي ورفع الطور وناشده بالمواثيق التى اتخذت
عليهم، حتى أخذه افكل (رعدة) فقال إن نساءنا نساء حسان فكثر فينا القتل فاختصرنا،
فجلدنا مئة جلدة وحلقنا الرؤوس. فحكم عليهم بالرجم. (الطبرى 11611).

 

8)    
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب
الذى جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها كثيراً “(سورة
الانعام).

 

يتفق البيضاوى والرازى
والطبرى أن المراد بالتحريف هنا تشويه الحقائق بكتمان بعض من نصوص التوراة. بمعنى
أنهم يعزون إلى اليهود أنهم كتبوا التوراة فى قراطيس وأظهروا للناس كثيراً مما
كتبوا. وأخفوا كثيراً مما ثبتوه فى القراطيس فيسرونه ويكتمونه الناس.

 

ونحن نقول إن عملهم
شائن وممقوت، ولكن إخفاء القراطيس يختلف عن تبديل النص.

 

9)           
” ومن الذين هادوا سماعون للكذب، سماعون
لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعض مواضعه” (سورة المائدة).

 

جاء فى تفسير الجلالان:
إن هذه الآية قيلت فى جماعة من جنود خيبر، زنى فيهم محصنان، فكرهوا رجمهما. فبعثوا
جماعة من قريظة ليسألوا محمداً (ص) عن حكمهما فى التوراة كآية الرجم. والتحريف الذى
اتهموا به، هو أن يهود خيبر قالوا للذين أرسلهم إن أفتاكم محمد بالجلد فاقبلوه.
وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا أن تقبلوه (الجلالان 150).

 

وعلى أى حال نقول لكل
إنسان يدعى بتحريف الكتاب المقدس فى نصوصه، أو يزعم أن الكتاب الصحيح غير موجود،
إن مزاعمه تجعله مخالفاً لنصوص القرآن الصريحة التى تشهد للكتاب المقدس بأنه حق،
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد تأكدنا أن من أهم أغراض القرآن
أنه جاء ليكون مصدقاً للكتاب المقدس.

 

ويقيناً أنه ليس من أحد
يؤمن بالله وكتبه ورسله، يقدر أن ينسب لله أنه أنزل القرآن مصدقاً لكتاب مزور
ومشوش فى العقائد الدينية التى جاءت فيه.

 

أرأيتم كيف أن لا
القرآن الكريم ولا مفسرى القرآن الكريم قالوا إن اليهود والنصارى حرفوا أو بدلوا
أو غيروا التوراة والإنجيل؟.

 

إنما البعض من الذين
يقولون إن التوراة والإنجيل محرفان وحدث فيهما تغيير وتبديل وفيهما التناقض والخطأ
إنما أخذوا معلوماتهم من كتب أصحاب البدع والهرطقات والكفر والإلحاد.

 

وللأسف فإننا نجد فى
أيامنا هذه أقلاماً عديدة لا هم لها سوى الهجوم على الكتاب المقدس ومحاولة تجريحه،
ولكننا نشكر الله أن مثل هذه المقالات تعطينا الفرصة لكى نرد على أصحابها ونوضح
لهم الحقيقة، ويقف الكتاب المقدس شامخاً متحدياً كل من يحاول الوقوف ضده. وهذه
عينة قليلة من الردود التى نشرناها ببعض الصحف، ومن خلالها يتضح ما جاء بالمقال
الذي يهاجم الكتاب المقدس. ثم الرد عليه.

 

الباب الخامس

 

ثانياً: وجود أربعة
أناجيل والقرآن لم يذكر إلا واحداً.

 

يعتقد بعض المسلمين أن
الإنجيل هو رسالة أوحيت من السماء إلى السيد المسيح ولهذا فهم يقولون إنه لا مبرر
لوجود أربعة أناجيل تنتسب للسيد المسيح… والحقيقة أن هذا الموضوع بسيط للغاية
لأننا نحن المسيحيين نؤمن كما يؤمن معنا أعلام وفلاسفة المسلمين وحكماؤهم مثل ابن
سينا وابن رشد والفارابى وغيرهم أنه ليس عند الله لغات ولا حرف – أى ليس عنده
إنزال ميكانيكى (1) فالاعتقاد المسيحى عن الوحى هو ما سجله
القديس بطرس قائلاً “تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس”
(2بط 1: 21) لذلك نجد أن الله يحرك الكتاب وينير عقولهم ويحفظهم من الزلل، فهو
يكون لهم مرشداً (2) ورقيباً ويعصمهم من الخطأ فى نقل
وتسطير ما تريد عنايته الإلهية أن تخبرنا به لفائدة عباده إفراداً وإجمالاً بحيث
لا ينقل إلا ما ألهمه الله إياه، فيكون الرسول إذ ذاك ككاتب مطيع فى حوزة الكاتب
الأسمى وطوع إرادته.

 

وعلى هذا فالأناجيل
الأربعة عندنا كمسيحيين كتبت بإرشاد الروح القدس وعمل الله. وهذا لا يبطل صفات
الكاتب الطبيعية من ذكاء وأهليته ومعارف لغوية. وفصاحة بديهية، ولا يخلقها فيه إذا
كان ممن لم يحظ بها، لأن الله يختار من يشاء وليس هو بحاجة إلى الفصحاء والبلغاء
ليلقى إليهم وحيه. ومن ثم لا يستلزم وحى الكتب المقدسة تنزيل الألفاظ وتنسيق
التراكيب، لكن يقتصر فيه عادة على الحكم والمعانى. فينقلها هذا فى قالب فصيح
وعبارة صحيحة سيالة. وذاك فى تركيب لا يقصد به إلا إيصال المعانى إلى الأذهان. ولا
يختلف المعنى فى كلا النقلين؛ وشتان مثلاً بين فصاحة الشاعر اللوذعى النبى إشعياء
وبين أسلوب النبى عاموس، وكلاهما نبى ينقل آيات الله كما أننا لا يمكننا أن ننكر
ما يمتاز به إنشاء الطبيب الأديب لوقا الإنجيلى من رقة التعبير وانسجام العبارة
اليونانية عن إنشاء غيره من كتبة العهد الجديد الذين كتبوا مثله باليونانية. ولا
عجب فى ذلك؛ فإن الله إذا أوحى لنا كلامه إنما أراد جوهر الدين ولب الآداب وقصد
خلاص النفوس وليس القشور الخارجية وأعراضها، والمقصود عندما نقول كلمة إنجيل هو
التعبير عن ترجمة حياة السيد المسيح كما كتبها كل من القديسين متى ومرقس ولوقا ويوحنا
بمفردهم، أو ما كتب بعد ميلاد السيد المسيح بواسطتهم جميعاً، حيث أن كلمة إنجيل هى
أصلاً كلمة يونانية (فا انجيليون) أى النبأ أو البشارة المفرحة، ومن كلمة بشارة
جاءت كلمة (بسرت) فى الآشورية، (بشرت) فى الاوجريتية (بشرة، بشورة) فى العبرية
(سبرتا) فى السريانية. وقد أخذت اللغة الحبشية القديمة ما يشبه الكلمة اليونانية
(فا انجيليون). فالإنجيل عندهم هو (ونجيل). وعنهم أخذها العرب، وأصبحت الإنجيل أى
البشارة المفرحة التى بشر بها كل من رسل رب المجد.

 

ولذلك فالإنجيل ليس كما
يتصور البعض أنه كتاب أوحى به السيد المسيح بل هو رسالة أعدها المسيح للعالم ووعظ
بها بفمه الطاهر. فالسيد المسيح هو الله الظاهر فى الجسد، فكيف يأخذ رسالة من أحد؟
كما أنه لم يكتبها وإنما علمها شفوياً لتلاميذه المختارين وأرسلهم إلى جهات مختلفة
لينشروها ويعلموا آخرين غيرهم لذلك دُعوا رسلاً، ووعد بالروح القدس ليعلمهم كل شئ
وقد حدث هذا يوم الخمسين، فأخذوا يبشرون الجميع بالإنجيل فى كل مكان ويقدمون لهم
رسالة الخلاص بما يلائم عاداتهم ولغاتهم وحسب إرشاد الروح القدس لهم. فليس معنى
هذا وجود أربعة أناجيل كما يعتقد البعض، إنما هو إنجيل واحد له أربع صور لتكون
الشهادة قوية.

 

لقد كان من الضرورى على
التلاميذ الحواريين فى تبشيرهم أن يعلموا عن السيد المسيح حسبما يلائم عادات ولغات
العالم. ومن ثم كانت الرسالة فى مادتها – من حيث أنها بشارة المسيح، بشارة الخلاص
– واحدة وإن تنوعت مظاهرها. ومن ثم كتب البشيرون الأربعة البشائر الأربع فى أزمنة
متقاربة، وقد نحا كل منهم
فى كتابة
منحى خاصاً.

 

فليس إذاً وجود أربع
بشائر يعنى وجود أربعة أناجيل، كما يظن بعض إخوتنا المسلمين بل هو إنجيل واحد ذو
مناظر أربعة كتبه البشيرون متى ومرقس ولوقا ويوحنا. إنه رسالة واحدة. إنه الإنجيل
الذى قدمه السيد المسيح وبشر به وأعاده الروح القدس إلى أذهان هؤلاء البشيرين. وكل
كاتب منهم يمثل – بوحى الله – تعليم الإنجيل المعطى شفوياً من السيد المسيح
تمثيلاً صادقاً، وكل بشارة منها تؤدى رسالة خاصة مكملة للأخرى.

 

فالسيد المسيح واحد لا
أربعة. والإنجيل واحد لا أربعة. ولتوضيح ذلك نقول:

 

من أجل الإيضاح:

 

افترض أن أربعة أجانب
زاروا بلادنا الحبيبة مصر. أولهم ضابط. وثانيهم إمام مسلم. وثالثهم فنان. ورابعهم
كاهن مسيحى. ثم عادوا بعد زيارتهم إلى بلادهم وابتدأ كل واحد منهم يكتب عن مصر كما
رآها، فلا شك فى أن كلا منهم سيكتب من جانب غير الآخر.

 

(1)    الضابط:
سيصرف اهتمامه فى الكتابة عن موقع مصر الجغرافى وقيمته الحربية ووصف المعسكرات
والطرق العسكرية والقلعة وشكل الجنود وملابسهم وطريقة معيشتهم وأنواع الأسلحة ومدى
تطورها، وذلك لأنه نظر بعين الضابط الحربى كما نظر (متى اليهودى) إلى السيد المسيح
باعتباره(المسيا المنتظر ملك اليهود. ابن داود) فكانت بشارته بشارة الماضى.

 

(2)    الإمام
المسلم: سيصرف اهتمامه فى الكلام عن الأزهر والمعاهد الدينية الإسلامية وجمعية
الشبان المسلمين وجامع عمرو بن العاص والمساجد الأثرية الأخرى والنشاط الإسلامى،
والمؤسسات الإسلامية المتواجدة فى كل مكان والتكايا والاوقاف وغير ذلك مما يتعلق
بالإسلام. وذلك لأنه نظر إلى مصر بعين الإمام المسلم الذى يحب ألا يرى شيئاً إلا
إسلامياً، كما نظر (البشير مرقس) إلى السيد المسيح باعتباره (الخادم الأعظم. رجل
الأحزان وطبيب الإنسانية)، فكانت بشارته بشارة الحاضر.

 

(3)    الفنان:
فإنه يملأ كتابه بالصور الفنية لمناظر وادى النيل ويفعمه بوصف آثار الفن فيها وصفو
السماء وخضرة الأرض وجمال الطبيعة والشمس المشرقة وكل ما أنعم به الله على بلادنا
الحبيبة مصر من سحر وجمال، وذلك لأنه نظر إلى وطننا الحبيب بعين الفنان كما نظر
(البشير لوقا) إلى السيد المسيح باعتباره (ابن الإنسان صانع المعجزات وصديق
البشر)، فجاءت بشارته بشارة المستقبل.

 

(4)    الكاهن
المسيحى: سيصرف اهتمامه إلى الكنائس والأديرة والطقوس والروح المسيحية ودار
البطريركية، وذلك لأنه نظر إلى أمتنا الحبيبة بعين الخادم المسيحى كما نظر (يوحنا
الحبيب) إلى السيد المسيح باعتباره (ابن الله وكلمته الذى صار جسداً وحل بيننا)،
فجاءت بشارته البشارة الروحية السرمدية.

 

فكما أن هؤلاء الزائرين
الأربعة لم يصفوا أربعة بلاد بل تكلموا عن بلد واحد ولم يكونوا كاذبين، بل كان كل
واحد منهم صادقاً فيما عبر وكتب، كذلك البشيرون الأربعة، لم يكتبوا إلا عن مسيح
واحد. وإنما اختلف لون منظار كل منهم، ووجهة نظره. فكانت البشائر الأربع، والإنجيل
هو كل هذه البشائر المستقلة المكملة وما تبعها من رسائل لزيادة الإيضاح والبيان
.



(1)
 أنظر
: خلو الكتاب المقدس من اسم رسول الإسلام.

(1)
 يعتقد علماء المسلمين أن الله تعالى هو نفسه الذى كتب الكتب
الإلهية التى أوحاها إلى أنبيائه ورسله الكرام – إذ يعتقدون أنه – جل شأنه – منذ
الأزل أمر (القلم) فخط فى (اللوح المحفوظ) نص وفص العبارات والجمل التى أوحيت إلى
الأنبياء والرسل. ثم أنه – جل جلاله – فى أوقات متفاوتة. اختار أناساً سبق فعرفهم
وسبق فعينهم ليكونوا رسله فى تبليغ الأسفار المقدسة إلى البشر. وبناء على هذه
المعتقدات نرى عامة المسلمين يسلمون – بسهولة فائقة – بأن هذه الوساطة البشرية لم
تترك أثراً بالمرة لشخصيات الرسل الموحى إليهم.

(2) ليس المقصود من قولنا إن الكتاب المقدس هو كلام الله أن الله
أنزله آية آية وكلمة كلمة وحرفاً حرفاً استقبلها الكاتب كما سمعها من فم الله أو
ملائكته وقيدها بحروفها الأصلية، لكننا نريد أن نقول إن الله إذا ما قصد بسمو لطفه
وحكمته تبليغ البشر شيئاً من أسراره – حرك باطناً كاتباً يختاره فيبعثه على كتابة
السفر ثم يمده بتأييده الخاص ونعمته الممتازة ويلهمه اختيار الحوادث والظروف
والأعمال والأقوال التى شاء أن يبلغ بها البشر مع عصمته الكاملة من الزلل عند
تدوين كل كلمة وكل حرف. وربما كانت بعض الحوادث والظروف مجهولة من الكاتب فلا يصل
إليها إلا إذا أوحاها الله إليه مباشرة أو تكون معلومة لديه أو مما يستطيع معرفته
باستطلاع الأخبار واستفتاء الشهود والتنقيب والاستقراء. فلا حاجة عندئذ إلى
تنزيلها عليه لعدم الفائدة إنما يلهمه الله كتابتها ويصونه فى إيرادها عن الضلال.
وهذا كاف لأن يعزى الكتاب إلى الله فيقال كتاب الله، والكتاب الموحى به من الله.
لأن الله هو المؤلف السامى له، باختيار مواضيعه ومعانيه وإلهام ناقليها وتحريكهم
على كتابتها بالنوع الذى أراده وعصمته إياهم عن الخطأ خلال تسطيرها من بدايتها إلى
نهايتها.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى