علم المسيح

الفصل الخامس عشر



الفصل الخامس عشر

الفصل
الخامس عشر

في الطريق
نحو أورشليم

101- النصيب
الصالح: مرثا ومريم

لمَّا
ازداد إلحاح الدعوة للمسير إلى أُورشليم، ترك المسيح بيرية واتجه نحو أُورشليم
صاعداً. وعلى بعد ميل ونصف من أُورشليم وعلى سفح جبل الزيتون تقع مدينة بيت عنيا،
حيث كان يعيش هناك رجل أحبه المسيح اسمه لعازر مع أختين له: مرثا ومريم، كان يذهب
إلى منزلهم ليستريح، وقد أحبهم المسيح. وقد قدَّم لنا ق. لوقا صورة لهذه الأسرة
بنفس بريقها الذي يقدِّمه ق. يوحنا في إنجيله، غير أن قصة ق. يوحنا تشير إلى أن
علاقة المسيح بهذه الأسرة وبيت عنيا مبكِّرة جداً. وإن كان ق. لوقا لم يذكر مدينة
بيت عنيا فذلك لأن القصة طغت على الفرعيات.

ويحكي ق. لوقا عن الذكريات الموروثة لهذه العائلة، أنه
بينما كان المسيح في ضيافتهم يوماً،
بدأت الأخت الكبرى مرثا تخدم المسيح بإعداد الخبز الساخن
وطهي الطعام بأصنافه، وأجهدت نفسها كثيراً. أمَّا الأخت الأخرى مريم فتركت كل شيء
وجلست عند قدميْ المسيح تسمع منه عن الحياة الأبدية، والتهبت روحها فنسيت أختها
ونسيت كل شيء مما أحزن مرثا، فجاءت تعاتب مريم، ولكن الكلام للمسيح: “فوقفت
وقالت: يا رب، أما تُبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقل لها أن تعينني! فأجاب
يسوع وقال لها: مرثا مرثا، أنتِ تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى
واحد. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها.” (لو 10: 4042)

هنا
الواحد الذي أشار إليه المسيح، الذي نحن في حاجة قصوى إليه، هو الحياة الأبدية
وهو المسيح بكل تأكيد التي من أجلها نعيش ونعمل، أمَّا الأمور
الكثيرة فهي حاجات العالم التي تُطلب اليوم ولا تبقى ولا تدوم وتفنى بفناء الجسد
والعالم، فهي في حقيقتها ليست “حاجة” بالمرَّة. أمَّا الحياة الأبدية
فهي حاجة ملحَّة تفوق كل الحاجات. فالحاجة في مفهومها الأُخروي الإلهي هي الحياة
الأبدية؛ مثَّلتها مريم بالجلوس والاستماع إلى المسيح. والمعنى هو الحاجة إلى كلمة
الحياة الأبدية التي تقودنا في طريق غربتنا إلى الغاية السعيدة، أو النصيب الصالح
الذي حقا لا يُنزع منّا. أمَّا الانشغال بأمور كثيرة، فكلها وإن لم تُنزع منّا
الآن، فسوف نُنزع منها نحن ومن الأرض كلِّيةً حتماً. والمسيح لم يحسم بين ما اختارته مريم “كأفضل”، ولكن
نبَّه مرثا بالصالح الواحد:
“الأبقى”.

 

102- مرض
لعازر

الذي يسير
في النهار لا يخاف

وقبل أن يدخل المسيح بيت عنيا، وهو لا يزال في بيرية على
بعد 20 ميلاً من بيت عنيا، وقع لعازر في مرض يبدو أنه كان شديداً وميئوساً منه.
فأرسلت الأختان رسولاً إلى المسيح يخبرانه: “يا سيد، هوذا الذي تحبه
مريض” (يو 3: 11). كان المسيح يود أن يرفع الحزن عن هاتين الأختين ويشفيه،
ولكن كانت الخدمة أو الرسالة تطغي على المشاعر الشخصية عند المسيح، فآثر المسير
على الطريق يكرز. وإذ كان المسيح يعلم أنه بإمكانه أن يقيم لعازر من المرض مهما
بلغ، وحتى من الموت، لم يُسرع المسير: “فلمَّا سمع أنه مريض مكث حينئذ في
الموضع الذي كان فيه يومين” (يو 6: 11). ولكن النيَّة كانت متجهة عنده لشفائه
وقد ضغطت عليه. وهكذا صرَّح لتلاميذه: “لنذهب إلى اليهودية أيضاً” (يو
7: 11)، لأنهم كانوا في عبر الأُردن في بيرية ويلزم أن يعبروا النهر، لكي يبدأوا
المسير تجاه بيت عنيا. فلمَّا سمع تلاميذه أنه يود العودة إلى اليهودية، وقد تركها
قبلاً بسبب اشتداد المقاومة وتدبير الخطط لقتله، انزعج التلاميذ وواجهوه
بانزعاجهم: “يا معلِّم، الآن كان اليهود يطلبون أن يرجموك وتذهب أيضاً إلى
هناك؟” (يو 8: 11). وتعجَّب المسيح من خوفهم هكذا، وإذ كان واثقاً أنه النور
الحقيقي أو شمس الحياة التي لا تنطفئ، قال لهم ما معناه: ما دمتم سائرين معي فلا
تخافوا الظلمة، لكنه وضعها في مَثَل: ” أليست ساعات النهار اثنتي عشرة؟ إن
كان أحد يمشي في النهار لا يَعْثُر، لأنه ينظر نور هذا العالم، ولكن إن كان أحد
يمشي في الليل يَعْثُرُ، لأن النور ليس فيه”
(يو 11: 9و10). والمعنى
واضح، طالما أنتم تسيرون معي، فأنتم في النور تسيرون ولا عثرة لكم. وقصد المسيح
واضح أنه يركِّز على إحساسهم بأنه حقا هو نور العالم، وطالما يسيرون معه فهم بمنأى
عن الظلمة وكل أعمالها. ولكن لمَّا أبطأ المسيح مات لعازر! ولكنه استمر في المسير
إلى بيت عنيا.

103- موت
لعازر

وصلت أخبار مجيء المسيح، وهو لا يزال بعيداً عن البيت،
فأسرعت مرثا الأخت العاملة، وتخلَّفت الأخت المتأملة، إذ كانت غارقة في أحزانها مع
المعزِّين وهم كثرة، لأن أفراد عائلة لعازر كانوا من الفضلاء المحبوبين أيضاً. جرت
مرثا لتقابل المسيح، وشعاع أمل يبرق في قلبها أن صاحب الأشفية والمعجزات قد حضر،
يا عزائي! يا عزائي!! وكتمت الرجاء الذي يتحرَّك في قلبها بعنف وتكلَّمت عن
إمكانية كانت وقد ذهبت: “يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخي” (يو 21: 11).
ولكن عاد الرجاء في قلبها وانفجرت تفصح عن أملها الباقي: “لكني الآن أيضاً
أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه” (يو 22: 11). هذا إيمان جاهز قد
مهَّد للمعجزة قبل أن يرى المسيح الميت. قال لها يسوع وكأنه يرد على إيمانها:
سيقوم أخوكِ”! وفي لحظة فلت الإيمان والرجاء والأمل المنشود،
فالميت في القبر قد أنتن، وكأنها تحلم ثم استيقظت على صراخ النادبات! “أنا
أعلم أنه سيقوم في القيامة، في اليوم الأخير” (يو 24: 11)، لمَّا فلت الإيمان
الحي بقي الإيمان المحفوظ!! مدَّ المسيح يده وأمسك بقلبها حتى لا يفلت الإيمان
منه: “أنا هو القيامة والحياة. مَنْ آمن بي ولو مات فسيحيا!!.. أتؤمنين
بهذا؟” (يو 11: 25و26). عاد الإيمان إلى قلبها، وأخذ المسيح هيئته الإلهية
أمامها “نعم يا سيد. أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله، الآتي إلى
العالم” (يو 27: 11). وأسرعت عائدة وكأنها ستُسِرُّ إلى لعازر أنه سيقوم
سيقوم. ذهبت إلى مريم وهي جالسة بين المعزِّين قائلة لها سرًّا: “المعلِّم قد
حضر”

قامت
مريم مسرعة فجأة، فظن المعزُّون والمعزِّيات أنها قامت إلى القبر لتبكي، فأسرعوا
الخطى وراءها، وما أن رأت المسيح حتى خرَّت ساجدة عند رجليه وببكاء قالت ولم
تترجَّى: “يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخي” (يو 32: 11). فلمَّا رآها
المسيح تبكي، واليهود الذين جاءوا معها يبكون بنحيب النسوة الذي يُقطِّع نياط
القلوب،” بكى يسوع”!!.. وفي صمت قال: “أين وضعتموه؟”
(يو 34: 11)

لم
يبكِ المسيحُ لعازرَ كما ظن اليهود، ولكن بكى مع الباكين!! فهو: “قادر أن
يرثي لضعفاتنا، بل مجرَّب في كل شيء مثلنا، بلا خطية” (عب 15: 4)، مع
أنه سيرفع البكاء حالاً عن عيون كل الباكين. ولكن كثيرين رأوا أنه بكى لأنه كان
يحب لعازر، لا!! ولكنه بكى لأن لعازر مات وفرح إذ لعازر قام. فالبكاء والفرح هما
المشاعر التي جعلته مثلنا في كل شيء! ولكن البعض أيضاً تفلسف ووازن بين أعمال
المسيح العظيمة وبكائه الآن فقال: “ألم يقدر هذا الذي فَتَحَ عيني الأعمى أن
يجعل هذا أيضاً لا يموت؟” (يو 37: 11). آراء وفلسفات البشر على طريق
القيامة!!

104- قيامة
لعازر

كان
المسيح قد بلغ أقصى حالة التوتُّر الجسدي من جراء المناظر التي يراها، فنفسه بلغت
حالة الحزن الشديد، لا لشيء إلاَّ لأجل الموقف الذي يقفه الآن وسط أحزان صادقة
جداً ومُرَّة جداً، وخاصة من الأختين. وقد أوضح الكتاب هذا بكلمتين: ” فانزعج
يسوع أيضاً في نفسه”
(يو 38: 11). أليست هذه هي بشرية المسيح الحرة
المعبِّرة عن نفسها أصدق تعبير؟ والذي يزيد من هذا التعبير قوة وسمواً ومجداً أنه
تهيَّأ لإقامة إنسان من بين براثن الموت!! فهو انزعاج القوة والجبروت الذي
والدموع في عينيه يقيم الميت من القبر!! النفس منزعجة،
فهي في مواجهة سلطان الموت والهاوية، تنتهره ليترك الفريسة من بين أظافره. لم يعبأ
المسيح بقوانين الطبيعة والموت وعوامل الفناء التي بدأت تدب في الجسد المسجَّى في
القبر منذ أربعة أيام. ووقف وصلَّى: ” ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها
الآب، أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي. ولكن لأجل هذا الجمع
الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني!”
(يو 11: 41و42)

لم
يكن هناك توسُّل أو حتى طلب، بل الشكر على الاستجابة وكأنها حاضرة، وليس من أجل
المسيح بل من أجل أن يعرفوا أن الآب أرسله، وليس ليعزِّي القوم بل ليؤمنوا. صلاة
لا يقال فيها إلاَّ كونها من المثيل للمثيل، من الابن إلى الآب بكل معنى ووقار،
ولم تكن الصلاة لتعطيه القوة على إصدار الأمر للروح بالمجيء وقيام الجسد، بل للشكر
على ترافق الصلاة مع القيامة. ولم تكن الصلاة تعبيراً جديداً عمَّا للمسيح من دالة
وسلطان، فحياته كلها كانت صلاة وشكر واستجابة. وضمَّن المسيح صلاته سر وجوده وعمله
كمُرْسَل من الآب. فهو يربط بين قيامة لعازر وقيامته العتيدة كغاية الرسالة
والإرسالية، فمن أجل هذا جاء. ومن أوضح الأمور في هذه الصلاة أنها تكشف عن سر قوة
المعجزة في المسيح، ليس كأنها قوة ممنوحة له، بل قوة الابن عاملة بقوة الآب، إذ
لمَّا أكمل التعبير عن ظروف هذه المعجزة بهذه الصلاة المسموعة من كل الجموع:
صرخ بصوت عظيم: لعازر، هَلُمَّ خارجاً” (يو 43: 11)، كمَنْ
يأمر الموت أن يترك فريسته، والهاوية تنكسر مصاريعها، ليخرج سجين الرجاء كاستجابة
فورية لإرادة الابن الوحيد. أدرك المسيح هذا مقدَّماً وشكر الآب قبل أن يقوم لعازر
لأنه كان بحكم الذي قام!!

 

105- إجراءات
عاجلة في السنهدرين بسبب إقامة لعازر من الموت

شاع خبر إقامة المسيح للعازر من الموت بسرعة البرق، وتناقلت
أُورشليم بما فيها السنهدرين والكتبة والفرِّيسيون الخبر، فأحدث زلزلة في قلوب
الواجفين من خطر ازدياد سلطان المسيح للدرجة التي تنضم له كل جماهير الشعب. فكثير
من الشعب قد آمن بالفعل بدعوة المسيح الإلهية وأنه مُرسل حقا من الله. وفي المقابل
كان خبر إقامة لعازر من الموت حافزاً للغيورين على مصلحة اليهود السياسية ليقوموا
قومتهم، فاجتمعوا مع رؤساء الكهنة وبدأ الحوار الملتهب: “ماذا نصنع؟ فإن هذا
الإنسان يعمل آيات كثيرة. إن تركناه هكذا يؤمنالجميع به، فيأتي الرومانيون ويأخذون
موضعنا وأُمتنا” (يو 11: 47و48). وهكذا حوَّلوا كرازة المسيح بالملكوت
والحياة الأبدية إلى قضية وطنية خطرة، وأدمجوا أعمال المسيح في ملف قضية الخيانة
العظمى للأمة اليهودية. وأمسك رئيس الكهنة بهذا الخيط، وأخرج منه نبوَّة ليكرِّس
بها قتل المسيح على مستوى ضحية تنجو بها الأُمة اليهودية، وكأنه نبي الهلاك:
“فقال لهم واحد منهم، وهو قيافا، كان رئيساً للكهنة في تلك السنة: أنتم لستم
تعرفون شيئاً. ولا تفكِّرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأُمة
كلها” (يو 11: 49-51). وقد نجح الشيطان في استخدام رئيس الكهنة لتلك السنة
ليُخرِج النبوَّة معكوسة، تبدو جيدة وكأنها من الله، وهي من صنع الشيطان، ليُهلك
مسيَّا اليهود وشعب اليهود معاً. وقد استحسنوا هذه النبوَّة لأنها تفي بالتخلُّص
من المسيح.

وهكذا
كان هذا اليوم هو اليوم الأول في تقديم أول خطة مسببة تخرج من المجمع مع نبوَّة من
فم رئيس الكهنة قابلة للتنفيذ لقتل المسيح: “فمن ذلك اليوم تشاوروا
ليقتلوه” (يو 53: 11). وكان ذلك قبل عيد الفصح، وقد صدرت الأوامر بالقبض عليه
حال مجيئه إلى العيد في أورشليم.

 

106- المسيح
في أفرايم

المسيح
يعلِّم حتمية موته!

إزاء
التربُّص الذي احتاط بالمسيح في أُورشليم، لم يعد يمشي بين اليهود علانية، بل مضى
إلى الكورة القريبة من البرية التي يقال لها أفرايم ومكث هناك. وهي تبعد عن
أُورشليم نحو 20 ميلاً رومانياً(
[1]). وهي قرية خاملة الذكر في جبال
اليهودية.

وابتعاده
عن مخاطر الكتبة والفرِّيسيين وفخاخ السنهدرين لم يكن لإطالة حياته أو خدمته، ولكن
لاكتمال عمله وشهادته التي بعدها سيُسلِّم نفسه طواعية، لأن تعليمه لابد أن يختمه
ببذل حياته على الصليب. على أن ميعاد الصليب يتحدَّد باكتمال الخدمة فقط.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى