علم المسيح

88- البذار التي تنمو وصاحبها ينام ويقوم وإذ هي سنبل



88- البذار التي تنمو وصاحبها ينام ويقوم وإذ هي سنبل

88- البذار التي تنمو وصاحبها ينام ويقوم وإذ هي سنبل

اختزال
شديد لعملية زراعة القمح في الأرض الجيدة، فهي لا تخرج عن أن الفلاح يلقي البذار
على الأرض المحروثة، ويسحِّفها بالسحافة حتى يخبِّئها في باطن الخطوط كي لا تأكلها
الطيور، ثم ينزل المطر، وينمو القمح أولاً نباتاً أخضر بديع الشكل واللون، ثم يحبل
طرف الساق وتظهر فيه السنبلة، ثم تنتفخ السنبلة وتمتلئ حبًّا في السنبل وهو القمح
بعينه، ثم يُرسل الفلاح المنجل ليحصد ويجمع في البيدر. قصة قصيرة ملآنة
بالتلميحات: فباذر البذرة هو التلميذ الذي ذهب ليكرز بالملكوت، والكلمة تنزل
وتستقر في القلوب الطيبة بعيداً عن الطيور والعيون والشهوات فتنمو في هدوء. يذهب
الكارز ويستمر في زراعته، وينام ويقوم وإذا بالكلمة في القلوب تنمو ويظهر جمالها
في الكلام والسلوك، بعدها يتحوَّل الجمال إلى ثمر حديث عن ذات الملكوت الذي زرع.
وهكذا بالكلمة تَبْيَضّ الحقول، ويأتي الحاصد السماوي يحصد للملكوت.

وهكذا كان المسيح حينما ينظر إلى السبعين الذين أرسلهم، كان
يرى حقول النعمة التي ابيضَّت في كل أنحاء العالم، وصارت بانتظار الملائكة
الحصَّادين ليجمعوا ويرسلوا إلى المظال الأبدية. ومن هذه الرواية يمكننا أن نحكم
على مقدار سعادة المسيح وهو يسير مع السبعين يخطِّط لأجيال الحنطة وملء الملكوت.

 

89-”
جئت لألقي ناراً على الأرض” (لو 49: 12)،

“ولي
صبغة أصطبغها” (لو 50: 12)،

“ما
جئت لألقي سلاماً بل انقساماً” (لو 51: 12)

ألقي
ناراً:

هي
كلمة الرب. هكذا عرفها الأنبياء: “أليست هكذا كلمتي كنار، يقول الرب، وكمطرقة
تحطِّم الصخر” (إر 29: 23). والكلمة والروح لهما خاصية النار! إذا تعرَّضت
لهما طبيعة الإنسان مع طواعية تسري فيها سريان النار الطيبة ذات التمييز والإفراز
بين ما هو للحريق وما هو للتطهير. وهي نار لا تُطفأ لأنها عمل النعمة، ولا يُثني
النعمة عن العمل إلاَّ اكتمالها. فتظل الكلمة والروح يعملان في الإنسان الذي أوقع
نفسه صريعاً لفعلهما حتى يبيض أكثر من الثلج! ويقول المسيح: ” جئت لألقي
ناراً على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت”؟
بمعنى هذه مشيئتي أن تمسك النار
في قلوب خاصتي ومحبيَّ لأني جئت من أجل هذا، والكلمة تُضرم الروح فلا يبقى منها
إلاَّ الذهب المصهور، هذا هو فكر ق. بطرس: “لكي تكون تزكية إيمانكم، وهي أثمن
من الذهب الفاني، مع أنه يُمتحن بالنار، توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان
يسوع المسيح” (1بط 7: 1). وما قول المعمدان عن المعمودية إنه سيعمِّدكم
“بالروح القدس ونار” (مت 11: 3) إلاَّ فعل الإحراق للتطهير. فنار الله
تأكل المضادين وتقدِّس المختارين.

صبغة
المعمودية بالدم:

ولي صبغة (بابتزما أي معمودية
b£ptisma)
اصطبغها (أعتمد بها
baptisqÁnai)، وكيف أنحصر حتى تُكْمَل” (لو 50: 12)؟ هكذا بعد أن وصف
المسيح كيف جاء وكلمته معه كنار يكمِّل بها عمله حتى النهاية، دخل بعدها للتو في
تكميل عمله على الصليب، وكيف بدم صليبه يعمِّد الجسد ليدخل به الموتَ ملفوفاً
بالحياة ومدَّثِرَاً بالنور، فارتعبت منه جحافل الظلمة، وسلطان الموت ألقى سلاحه.
وبقي في الموت محفوظاً بالحياة إلى أن أكمل مدة العقوبة وقام.

والمعنى
أن المسيح جاء لتطهير البشرية بنار الكلمة والروح ودم صليبه!

ومن
هذا نستخلص جوهر القضية التي يقصدها: إن عمله سواء بالكلمة أو تكميله على الصليب
لا يمت للفهم الفكري أو العمل الظاهري بصلة، بل هو في العمق الضارب في قلب الطبيعة
البشرية التي دخل إليها عن طريق الكلمة الإلهية النافذة، كما يقول بولس الرسول:
“لأن كلمة الله حيَّة وفعَّالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق
النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميِّزة أفكار القلب ونياته” (عب 4: 12و13).
فتصوَّر عزيزي القارئ، أن يكون لكلمة الله أيضاً القوة الحارقة التي للنار الإلهية
التي تميِّز بين الحق والباطل! الحق تجلِّيه والباطل تلغيه. كذلك فإن عمل المسيح
على الصليب ليس هو مجرَّد آلام يجوزها كما يظن بعض الناس، وكأنها آلام ظاهرية
وفداء ظاهري، ولكن هنا يُلبس المسيح عملية الآلام والصلب والموت ثوب الدم للتعميد، حتى يجوز الجسد نقع الموت بكامله حتى القاع
وهو مغطَّى بدم
الحياة.

لذلك
قيل إن الموت ما أمكن أن يمسك فيه: “الذي أقامه الله ناقضاً أوجاع الموت، إذ
لم يكن ممكناً أن يُمسَك منه” (أع 24: 2). إلى هذا العمق وصل خلاصنا من
الخطية والموت!!

إذن،
فالمسيح لم يأتِ بالمعجزات والآيات ليخلِّص الناس، ولا عن طريق البحث والنقاش
والتعليم وإظهار القوة والجبروت، بل سلَّم نفسه لأوجاع الموت وشرب كأسه وانصبغ
بفعله، لكي يرفع ثقله عن الإنسان كما ترفع النار زغل الذهب. فالخلاص كلَّف
المخلِّص أن يصطبغ بدم صليبه الذي سكبه حتى أسلم الروح! لذلك سبق ونبَّه تلاميذه
أنه لم يأتِ ليلقي سلاماً على الأرض، بل انقساماً وألماً وعناءً وموتاً زعافاً.
خاض معركتها بنفسه وترك لنا أن لا نجزع من أن نقتدي به ونحمل ذات الصليب لنبلغ ذات
الغاية. ولكن، وبروح المحبة التي سكبها علينا، يُخرج من الألم راحة، ومن العناء
سعادة، ومن الموت حياة. أمَّا الانقسام فهو يعمل من أجل تنحية الباطل وتكميل
الوحدة بالنهاية. فهو ألقى انقساماً يثمر وحدة، لا سلاماً يثمر انقساماً. هذه كانت
نظرة المسيح للمسيحية في العالم.

90- ملكوت الله
لا يأتي بمراقبة

كان
هذا ردًّا على سؤال سأله الفريسيون: “متى يأتي ملكوت الله” “أجابهم
وقال: لا يأتي ملكوت الله بمراقبة. ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك، لأن ها
ملكوت الله داخلكم” (لو 17: 2022). ليس معنى هذا الكلام أن
المسيح قال للفرِّيسيين إن ملكوت الله داخلهم، ولكن القصد من الكلام أن ملكوت الله
يظهر في داخل الإنسان وليس خارجه. فمعنى التعبير الصحيح هو: “لأن ملكوت الله
يكون داخلكم. هذا لو قبلتموه”. بمعنى أنه من الخطأ انتظار ملكوت الله كعمل
خارج الإنسان، بل هو في حقيقته استعلان لوجود الله داخل الإنسان، هذا هو ملكوت
الله. فالإنسان لا يربطه بالمكان “ههنا أو هناك” أو بالزمان الآن أو في
المستقبل؛ لأن ظهوره يلغي من الإنسان الإحساس الشديد بالمكان والزمان: “لأنهم
ليسوا من العالم، كما أني أنا لست من العالم، لست أسأل أن تأخذهم (من المكان) من
العالم، بل أن تحفظهم (قلوبهم) من الشرير” (يو 17: 14و15). وقد عبَّر المسيح
عن حلول ملكوت الله في الإنسان عندما قال للآب: “وعرَّفتهم اسمك (وهذا هو
الملكوت) وسأعرِّفهم، ليكون فيهم (ملكوت السموات) الحب الذي أحببتني به (قبل إنشاء
العالم)، وأكون أنا فيهم” (يو 26: 17). وحينما علَّمنا المسيح صلاة
“أبانا الذي” أعطانا أن نطلب الملكوت: “ليأتِ ملكوتك” هنا
مجيء الملكوت يكون داخل القلب. وظهور ملكوت الله في القلب لا يأتي بمراقبة، بل
ظهوره يكون مفاجأة، كما قال، كظهور البرق في السماء ليملأها من أقصاها إلى أقصاها.
حيث يكون فيه الفرح الذي لا يُنطق به، والحب الإلهي الملتهب، ونسيان الذات والدنيا وكل ما فيها، حيث يصرخ الإنسان: قد
كمل!!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى