علم المسيح

72- العودة إلى كفرناحوم و"مَنْ هو الأعظم"



72- العودة إلى كفرناحوم و”مَنْ هو الأعظم”

72- العودة إلى كفرناحوم و”مَنْ هو الأعظم”

ولمَّا
جاءوا إلى كفرناحوم سألهم المسيح: بماذا كانوا يتكلَّمون فيما بينهم في الطريق؟ إذ
علم المسيح بالروح أنهم كانوا يتشاحنون على مَنْ هو أعظم. ويبدو لنا أن كل مشاحنة
من هذا النوع كانت بين بطرس ويهوذا الإسخريوطي، لأن يهوذا كان هو الأكبر سناً،
وبحسب الطقس اليهودي كان الأكبر سناً هو المتقدِّم في كل شيء وخاصة على المائدة.
ولأن المائدة كانت في الزمان السالف مستديرة (طبلية)، فكان رأس العائلة أي الأب
يجلس، وأكبر الأولاد عن يمينه باعتباره مَنْ يخلف أباه في كل شيء، والأصغر جداً
يجلس عن شمال الأب وكأنه في حضنه والأقرب إلى قلبه. ولكن كان بطرس يعتمد في
الأولوية أو العظمة على ثقة المسيح، أما يهوذا فكان ينازعه في ذلك لأن الصندوق كان
معه، فهو الأَولى بالثقة، ولكن الكل كانوا يعرفونه أنه يسرق كل ما يوضع فيه. لذلك
كان المنطق مع يهوذا، ولكن الحق مع بطرس: أمَّا عند المسيح فكانت الوداعة
والتواضع، وكانت تعوز الاثنين. لذلك لم ينحز المسيح لا لبطرس ولا ليهوذا، بل أعطى
الاثنين درساً كانا في احتياج إليه.

+”
فجلس (المسيح) ونادى الاثني عشر وقال لهم: إذا أراد أحد أن يكون أولاً
(عند الله والمسيح) فيكون آخر الكل وخادماً
للكل. فأخذ ولداً وأقامه في وسطهم ثم احتضنه وقال لهم: مَنْ قَبِلَ واحداً من
أولاد مثل هذا باسمي يقبلني، ومَنْ قَبِلني فليس يقبلني أنا بل يقبل الذي
أرسلني”

(مر 9: 3537)

كلنا
نعلم أن المسيح قال: “تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 29:
11)، كان هذا استعلاناً لروح الطفولة التي كان يتحلَّى بها المسيح كابن الله حقا.
ولكن وداعة وتواضع الطفولة لها حكمة وسلطان الله. فلمَّا احتضن المسيح الطفل كأب،
كان يُعطي أجمل وأبهى صورة للآب السماوي والابن الوحيد المحبوب في حضنه:
“الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر” (يو 18: 1)، فأصبح الدخول
الرسمي إلى الآب هو بروح الابن أي الوداعة والاتضاع. ومن ذا الذي له القدرة على
قبول الولد إلاَّ الأب الذي أعد له حضنه! هنا المسيح يدخل في سر وحدانية الروح
التي في المحبة الإلهية، التي جعلت من الآب والابن وحدة واحدة لا تنفصم. فروح
الطفولة الطاهرة هي وحدها القادرة أن تجمع الابن بالآب والآب بالابن. فالوديع
والمتواضع هو بشبه المسيح. والوداعة والاتضاع لمَّا تتحلَّى بالحكمة تضاهي
الألوهة. وعلى هذا القياس، يكون مَنْ يقبل ولداً يكون قد قبل المسيح، ومَنْ قَبِلَ
المسيح قَبِلَ الآب حتماً وبالضرورة. وبهذا إن سادت روح الطفولة في الكنيسة ساد
الحب، وسر البنوَّة والأبوَّة التي لله، من أجل هذا ألحَّ المسيح علينا:
“تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” وللمثل الذي صنعه المسيح مدلول
أخلاقي آخر هام، وهو أن الولد بالرغم من إنه يحسب نفسه أقل وأصغر وأحقر الجميع
إلاَّ أن إحساسه ووجدانه يُحسب أمام الله أنه أعظم من الكل. هنا أعظم مثل هادئ
قدَّمه المسيح للتلاميذ لإنكار الذات، حيث يتبخَّر ويتلاشى أي استحقاق لأي فضيلة
أو امتياز مهما كان مادياً أو روحياً.

إذن،
فليس ما يعمله الإنسان هو الذي يرفعه ويعلِّيه على الآخرين، بل الروح الذي يعمل
به باسم المسيح.
فالروح والضمير والإحساس الداخلي للإنسان هو الذي يحكم على
العمل وليس العمل ذاته، كبر أو صغر. فكون العمل يُعمل بروح أنه باسم المسيح وليس
باسمي أو باسم أحد آخر، يكون مقبولاً عند الله والمسيح، لأنه معمول باسمه وله.
ومثل هذه الروح تكون مقبولة ومرضية عند الله. بهذا يكون المفروض في التلاميذ وفي
المسيحيين عموماً أن العمل الذي يعملونه يكون باسم المسيح وبروح إنكار الذات.
حينئذ تكون الأعمال كلها متساوية، لأنها معمولة بروح واحد من أجل اسم واحد هو اسم
المسيح. فلا مجال للأعظم في الإيمان المسيحي، لأن مقياس العمل غائب وحلَّ محله
مقياس الروح الواحد والاسم الواحد.

مقالات ذات صلة

73- المسيح
يقف ضد الانقسامات العقائدية

تبدأ
الرواية بدون مقدِّمات وبدون ربط بالكلام السابق، مما يجعلها تقليداً ثميناً
محفوظاً بذاته وضعه ق. مرقس هنا في هذا الموضع على أساس واحد مع الرواية السابقة
كونها من يقبل ولداً “باسمي”، فالجزء المشترك بين الروايتين هذه
والسابقة هو في “اسمي”.

ولكن
الرواية هنا خطيرة، فهي تتعرَّض لمبدأ حرمان العقائد بعضها لبعض على أساس أنه
طالما ليس يتبعنا نحرمه “فمنعناه لأنه ليس يتبعنا” (مر 38: 9). وهنا
انبرى المسيح بغيرة ظاهرة يُخطِّئ هذا المنهج في المعاملات مع الآخرين، ويضع أساس
التعامل بين العقائد ذات العمل الواحد باسم المسيح. فقال يسوع: “لا تمنعوه
لأنه ليس أحد يصنع قوة باسمي ويستطيع سريعاً أن يقول عليَّ شراً” (مر
39: 9). إذن، فشرط الإخاء والتسامح والتعاون بين العقائد يقوم على أساس أن الكل
يقول قولاً صالحاً أميناً عن المسيح. والكل يعمل عملاً واحداً، سواء إخراج شياطين
أو شفاء أمراض أو تعليماً صالحاً باسم المسيح. إذن، يكون الكل في هذه الحالة يخدم
المسيح واسمه.

ثم
يصرِّح المسيح بالقانون الذي يضبط التعامل بين العقائد في (مر 40: 9) هكذا: ”
لأن مَنْ ليس علينا فهو معنا”. أي طالما صاحب المبدأ أو العقيدة لا
يعمل ضدنا ولا ضد ما نعمله أو نقوله أو نؤمن به فهو بالضرورة معنا، حيث يكون الذي
يربطنا معاً هو الذي نعمل لحسابه ونخدمه كلانا وهو المسيح. هذا يُحسب أخطر مبدأ
يحكم الجماعة المسيحية، الذي لمَّا تجاوزوه وكسروه، انكسرت وحدة الجماعة إلى عقائد
منقسمة على بعضها تعادي بعضها البعض، وكل واحد يعمل ضد الآخر باسم
المسيح؛
مع أن الكل يخدمه بأمانة، وهذا خروج عن المسيح جملة، فكيف يستقيم
الأمر؟

إنه
عار على الكنيسة وعار على أصحاب الإيمان، بل وهي مهانة كبرى للإيمان والمسيح، أن
كل عقيدة تكون أمينة للمسيح وتعادي عقيدة أخرى وهي أمينة للمسيح أيضاً، فهنا
العداء هو للمسيح. فالعقائد الأساسية القائمة اليوم تقول قولاً صالحاً في المسيح
وتعبده بالروح والقلب بكل أمانة وصدق، فكيف نبرِّر الانقسام والعداوة الحادثة بين
الثلاثة؟ هل هذه العداوة أو القطيعة أو الانفصال الجذري الحادث بينها هو من أجل
المسيح؟ هل هو لصالح المسيح؟ هل هو لصالح الشعب، والشعب معروف أينما كان وتحت أي
شعار كان، أنه هو شعب المسيح!!؟

إن
مبدأ المسيح: “مَنْ ليس علينا فهو معنا” ومَنْ يقول قولاً صالحاً في
المسيح وبإيمان صالح هو معنا، ينبغي أن يُلزم الكنيسة بأن تكون عقيدة واحدة وإيماناً واحداً، لأن الكل مخلص للمسيح الواحد.

وحتى
الذين ليسوا معنا في عبادة المسيح الواحد، لا يصح ولا يجوز أن نعاديهم ولا نفرزهم
من محبتنا، لأن قانون: “أحبوا أعداءكم” يقف سدًّا منيعاً ضد أي عداوة
لأي إنسان مهما كانت عداوته. فالمحبة من عندنا قائمة على أساس البذل والعطاء خلواً
من تعويض أو مبادلة المثل بالمثل.

يا
لحزننا العظيم أن مبدأ المسيح: “مَنْ ليس علينا فهو معنا” مكسور في
كنيسة المسيح، وهذا تسبب في تحطيم المحبة على الأرض. فالمسيح هو محبة بلا قيود ولا
شروط.

+
“فأجابه يوحنا قائلاً: يا معلِّم، رأينا واحداً يُخرج شياطين باسمك وهو ليس
يتبعنا، فمنعناه لأنه ليس يتبعنا. فقال يسوع: لا تمنعوه، لأنه ليس أحدٌ يصنع قوة
باسمي ويستطيع سريعاً أن يقول علىَّ شرًّا. لأن مَنْ ليس علينا فهو معنا.”
(مر 9: 3840)

هذا
ما يواجه الكنيسة أمس واليوم. الكنيسة ممزَّقة بتيار المنع والحرم والقطيعة بين
العقائد. وهنا لأول مرَّة في الأناجيل نجد القديس يوحنا يقوم بدور قيادي ويطرح
قضية خطيرة على المسيح.

فمنعناه لأنه ليس
يتبعنا”:

كررها
القديس لوقا كما هي أخذاً بتقليد ق. مرقس حرفياً. وهذه هي قضية اليوم والأمس والغد
وبعد غد: المنع والحرم والعداوة والقطيعة للعقائد التي تخدم باسم المسيح لمنفعة
وشفاء وتعليم الشعب باستخدام “اسم المسيح” أي سلطانه الشخصي وقوته
وهويته ولاهوته. قضية هي قضية الكنيسة الآن!! أين أنت يا يوحنا؟ بل أين أنتَ يا رب
من الكنيسة اليوم؟ فقد مَنَعَتْ وقَطَعَتْ وحرمتْ وآذتْ وَلَعنتْ بعضُها البعضَ،
والكل يخدم الاسم المبارك، ويعبد بالروح والحق ويتبع من كل القلب، والشعب يدفع
الثمن، والمسيح مطعون في القلب، وكل الجسد يدمي متألِّماً، والكل قانع وراضٍ على
هذه الجريمة في حق المسيح وجسده واسمه.

من أجل اسم المسيح انقسمت الكنيسة وتشاجرت، وباسم المسيح
أقامت
المجامع للحرم والاضطهاد. الكل يقول: لأنهم ليسوا
يتبعوننا، والكل يتبع
المسيح!!

لقد
أخذوا بعكس مبدأ المسيح، وهو مبدأ لا يجوز أصلاً إلاَّ على الشياطين: “مَنْ
ليس معنا فهو علينا” حيث مَنْ ليس مع المسيح هم الذين قال عنهم المسيح:
“هذه ساعتكم وسلطان الظلمة.” (لو 35: 22)

هذه
هي قضية الكنيسة اليوم مرفوعة باسم المسيح ليقضي فيها المسيح، فإمَّا تُعطَى كل
كنيسة له وإلاَّ قضت على نفسها. فإما العودة إلى الوحدة والمحبة والقلب الواحد تحت اسم المسيح الواحد، وإلاَّ
تَفَتُّت بالعداوة والأحقاد ثم
زوال.

لمَّا
طرح يوحنا قضية المنع تحت الاسم المبارك، حَكَم المسيح كقاضي العدل بحكم أن لا
تمنعوهم. فالاسم لا يفرِّق بل يوحِّد، ولا يخلق أحقاداً وعداواتٍ ومراراتٍ، بل
يخلق الحب والحنان وعودة القلب على القلب: “لئلاَّ آتي وأضرب الأرض
بلعن” (ملا 6: 4)!!

يا
قارئي المبارك، أتوسَّل إليك أن تقف معي، بل تقف مع المسيح، بل تقف مع الإنجيل
والحق. لقد تعاهد الشرَّاح السطحيون ذوو الميول المنحازة فشرحوا هذه القضية
المسيحية الكنسية الخطيرة بأنها لا تزيد عن كونها تعزيم على الشياطين غير قانوني!!
واستطاعوا أن يهربوا من المسيح والإنجيل والحق ويحوِّلوا قول المسيح الرب الإله
القاضي بالعدل: ” مَنْ ليس عليَّ فهو معي” إلى قضية إخراج شياطين غير قانوني، ولاذوا بالفرار من غضب المسيح
وحكمه: ” مَنْ لا يجمع معي فهو يفرِّق” (مت
30: 12، لو
23: 11).

أتوسَّل
إليك، أيها القارئ، أن تردَّ للمسيح حقَّه وترفع رأس الإنجيل وصدقه وتنادي معي:
إمَّا الوحدة الكنسية، وإلاَّ لعنة التفريق والخراب المحتَّم.

 

74- الإستار
في بطن السمكة

كان
شهر آذار الموافق عندنا لشهر مارس هو الشهر الذي تُجبى فيه الجباية الخاصة
بالهيكل. وتصادفت زيارة المسيح لكفرناحوم أن جاءت في شهر آذار. وجاء الجباة إلى
بيت بطرس لعلمهم أن المعلِّم كان قد نزل فيه وباعتبار أن بطرس هو المتكلِّم باسم
الجماعة. وكان قد فات على زمن الدفع مدَّة، فسألوا بطرس: لماذا لم يدفع معلِّمكم
الجزية؟ وكان المعروف عن المسيح والتلاميذ أنهم كانوا يدفعون كل ما يُطلب منهم.
ولكن هذه الجزية بالذات كان رجال الدين معفيين منها، لهذا كان السؤال حرجاً
باعتبار أن المسيح قد عُرف أنه المسيَّا أو هكذا يُقال، فهل يدفع الجزية؟

وكان بطرس في هذه الأيام وبعد الاستعلان الذي أخذه من الآب
السماوي، مفعماً بمشاعر التأكيد أن المسيح هو المسيَّا، وقد رأى وعاين كل العلامات
التي تُثبت تأكيده. فكان متحرِّجاً من أن يسأل المسيح، فدخل البيت وهو صامت
ومرتبك، فبادره المسيح وكأنه قد عرف كل شيء: “ماذا تظن يا سمعان؟ مِمَّنْ
يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمِنْ بنيهم أم من الأجانب؟” (مت 25:
17). أجاب بطرس: طبعاً من الأجانب، فأجاب المسيح: “فإذاً البنون أحرار”
(مت 26: 17). أمَّا ضيقة بطرس وارتباكه فكانت بسبب أنه لا يوجد مقدار هذه القيمة
لا عنده ولا عند المسيح! ولكن أسعفه المسيح بالحل، إذ أمره أن يعود إلى مهنته
لحظة، ويرمي صنارته، وقد أوصى المسيح السمك أن يقدِّموا الجزية للمعلِّم ولبطرس.
فخرجت السمكة وفي فمها إستاراً
المبلغ بالكامل وحتى السمك كان
يطيعه ويقدِّم المطلوب.

ولكن
لماذا هذه القصة في هذا الموضع بالذات؟ فالمسيح هنا كان يتكلَّم عن مصدر إنكار
الذات حتى يصبح العمل صحيحاً. والجزية جزية الملك العظيم (أبيه) ومن غير المفروض
أن تؤخذ من البنين بل من الغرباء. فهنا المسيح خضع للنظام السائد مع أنه
“الكاهن الأعظم”، وجعل نفسه واحداً من الغرباء. فعملية الإستار ودفع
الجزية تحكي عن الإخلاء الذي أخلى به المسيح نفسه ليأخذ شكل العبد. كان عمل المسيح
هذا يحكي عن المبدأ إننا ليست لنا حقوق ولكن علينا واجبات! وطوبى لمن يتخلَّى عن
الحق الذي له ليعمل الواجب الذي عليه: “حقي عند الرب” (إش 4: 49)! كذلك
فإن هذه القصة أوردها الإنجيل بدقائقها، ليس من أجل معجزة السمكة، ولكن ليكشف
مقدار استعداد المسيح لطاعة النظام الاجتماعي السائد دون تذمُّر، حتى ولو
كان على غير وجه حق. كذلك واضح جداً من هذه القصة أن المسيح والتلاميذ كانوا
مُعدمين مالياً يعيشون بالكفاف مما يتبقَّى في الصندوق بعد سرقته بواسطة يهوذا
أولاً بأول.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى