علم المسيح

54- التسابق الذميم على المتكآت الأُولى



54- التسابق الذميم على المتكآت الأُولى

54- التسابق الذميم على المتكآت الأُولى

منظر لدعوة
عشاء مثالية أقامها سيد وهي دعوة الملكوت عينها

في
ذات الوليمة التي شفى فيها المريض المستسقي، لاحظ المسيح كيف أن المدعوين كانوا
يختارون لأنفسهم المتكآت الأُولى، فابتدأ يعلِّم عن آداب الجلوس على المائدة:
“متى دُعيت من أحد إلى عُرس فلا تتكئ في المتكأ الأول، لعلَّ أكرم منك يكون
قد دُعي منه. فيأتي (ذلك) الذي دعاك وإيَّاه ويقول لك: أعطِ مكاناً لهذا. فحينئذ
تبتدئ بخجل تأخذ الموضع الأخير. بل متى دُعيت فاذهب واتكئ في الموضع الأخير، حتى
إذا جاء الذي دعاك يقول لك: يا صديق، ارتفع إلى فوق. حينئذ يكون لك مجدٌ أمام
المتكئين معك” (لو 14: 810). وهنا أعطي المسيح المثل المسيحي
السائد الآن: ” مَنْ يرفع نفسه يتضع ومَنْ يضع نفسه يرتفع” (لو
11: 14). فالعين التي تتثبَّت على الملكوت لا تعود تطيق كرامات الدنيا، والذي
يبتغي الملكوت لا يطلب الرُّقي أو المراقي الدنيوية. فلاحَظ أحد المدعوين كيف أن
المسيح يفكِّر في الملكوت، وبذكاء رفع صوته: “طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت
الله” (لو 15: 14)، وهكذا فتح للمسيح الباب ليحكي عن خبز الملكوت ومن الذي
سيذوق ويتنعَّم به، فكان المسيح فيه مبدعاً حقا: إذ صوَّر دعوة لعشاء عظيم صنعه
رجل عظيم
وكل شيء هنا بالتورية وأرسل عبده يدعو المدعوين وكان الداعي على مستوى المنادى بالملكوت
والمدعوون على مستوى الفرِّيسيين
ويقول لهم قد أُعدَّ كل شيء
تعالوا.. فاعتذر الأول لأنه اشترى حقلاً لتوِّه وهو مضطر أن يذهب وينظره للمعاينة،
وطلب منه بأدب المتضعين أن يعفيه. وآخر اعتذر بأنه كان قد اشترى خمسة أزواج بقر
وأنه ماضٍ ليمتحنها، وطلب بالأدب إياه أن يعفيه. وآخر كان قد تزوَّج حديثاً وعذره
معه. وكأنَّ العشاء العظيم وحتى هذا العظيم نفسه صانع العشاء بغير ذي بال بالنسبة
للمهام التي انشغلوا بها أو شغلوا بها أنفسهم، سيّان. فذهب العبد الحائر يُخبر
سيده، فغضب ذلك السيد العظيم لأن الأمر يخصه قبل أن يخص العشاء، فقال ذلك السيد
لعبده: اخرج عاجلاً إلى الشوارع في المدينة وأزقتها، أَدْخِل إلى هنا المساكين والجدع والعرج والعمي، فذهب وصنع وأتى يقول:
قد صار كما أمرت، ولكن يوجد
أيضاً مكان شاغر. فقال السيد للعبد: اخرج إلى
الطرق والسياجات خارج المدينة في العشوائيات وألزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي! وهنا
رفع المسيح نظره نحو الجالسين وأخرج من صدره سر ملكوته
المُعدّ!! “
لأني أقول لكم: إنه ليس واحد من أُولئك الرجال المدعوين
يذوق عشائي!!” (لو 24: 14)

وهكذا
أصاب الفرِّيسيين ومَنْ هم على شاكلتهم كونهم مشغولين بمهامهم الدنيوية عن صميم
غاية الدين! بل وأعطوا الداعي وصاحب الملكوت القفا دون الوجه. وكيف أن دعوة
الملكوت التي أطلقها المسيح لم تُصب أسماعهم ولا لقيت هوى في نفوسهم!

أمَّا
المدعوون الجُدد فلم يُحسب حسابهم على مدى سنين التوراة كلها، إذ أسقطت التوراة كل
الأُمم من حسابها؛ ولكن أخيراً جاءتهم الدعوة على عجل، لأن أصحاب الملكوت رفضوها.
رفضوا الملكوت لأنهم أحبوا الدنيا وخيراتها لمَّا استغلوا اسمه وتاجروا بالدين
وتعظَّموا بعظمة العالم وسحقوا تحت أرجلهم الفقراء والمساكين، فامتلأ العالم من
المسحوقين والمظلومين. أمَّا أُولئك فقد استوفوا الخيرات من الدنيا، وهؤلاء
استوفوا من الدنيا البلايا.

55-
التلاميذ يفركون سنابل القمح ويأكلونها في السبت

كان
أول سبت بعد عيد الفصح، لأن هذا معنى القراءة الصحيحة بحسب ما حقَّقه ق. لوقا
وعبَّر عنه هكذا: “وفي السبت الثاني بعد الأول اجتاز بين الزروع” (لو 1:
6). فالسبت الأول في التوراة هو بلا نزاع السبت الذي يأتي في الفصح، فالسبت الثاني
هو أول سبت يأتي بعد الفصح.

ويقول
القديس متى: “فجاع تلاميذه وابتدأوا يقطفون سنابل ويأكلون” (مت 1: 12)،
وواضح جداً السبب: فقد حضر المسيح وتلاميذه المجمع هذا السبت بعد العيد، ولمَّا
خرجوا من المجمع لم يدعوهم أحدٌ ليأكلوا في بيته. والآن نحن في أواخر إبريل،
والقمح أخرج سنابله ناضجة، ولكن طرية يصلح أكلها بشهية. كانوا يقطفونها ويفركونها
بين راحتي أيديهم وينفخون القش ويأكلون الحب
 وهي عادة أهل فلسطين وكان الفرِّيسيون يتربَّصون بهم من
بعيد، فلمَّا اقتربوا راجعوهم: “لماذا تفعلون ما لا يحل فعله في
السبوت؟” (لو 2: 6) (ولكن هذه التهمة موجهة أصلاً وطبعاً للمسيح شخصياً)،
فأجاب المسيح نافياً عن تلاميذه أن يكون فعلهم خطأ وهم في حضرته، وإليك الشرح مع
رجاء التأني والفهم: استحضر المسيح من الذاكرة التي تعي التوراة والمزامير
والأنبياء جميعاً كيف أن داود لمَّا جاع دخل خيمة الاجتماع التي هي بمثابة الهيكل
هو وأتباعه، وطلبوا من الكاهن المكلَّف بتقديم خبز الوجوه الساخن كل أسبوع أن
يعطيهم من الخبز الذي خرج لتوِّه من فوق المذبح، وهو خبز الوجوه المقدَّس، فأعطى
داود، فأكل داود ومَنْ معه ما لا يحل أكله إلاَّ للكهنة فقط، ويبدو أن ذلك كان
أيضاً في يوم السبت.

كان
الدفاع إلى هنا فيه الكفاية، فهنا كسر للناموس وطقس الهيكل والمقدَّسات وداود لم
يدخل تحت ملامة الناموس.

ثم
عاد وأعطى معلومة أخرى أخطر، وهي أن كهنة الهيكل كان عليهم جميع أعمال الهيكل من
ذبح وسلخ وشيّ وتنظيف ورفع أثقال وغسيل من كل صنف، فكانوا كلهم يدنِّسون الهيكل
والسبت وهم أبرياء.

وهنا
يرتفع المسيح مرَّة واحدة برؤيا سماوية لموقع تلاميذه من داود والكهنة في الهيكل
إلى وجودهم في حضرته وهو الحامل لحضرة الله ووجوده! “ههنا أعظم من
الهيكل” (مت 6: 12)، “فإن ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً” (مت 8:
12)، “إني أريد رحمة لا ذبيحة” (هو 6: 6). لقد وُضِعَ السبت ليظل يعمل
إلى أن يأتي رب السبت ليعلن ما وراء السبت وما بعده!

 

56- التطهير
بالغسل في الظاهر

كان
مظهر التلاميذ وهم يعيشون حريتهم مع المسيح موضع ملاحقة ومراقبة واتهام دائم من
طرف الكتبة والفرِّيسيين، الذين كانوا يقيسون حركاتهم وتصرفاتهم على جدول الناموس
بهوامشه ونوافله. وكان هذا يعطيهم الفرص الكثيرة لنقد المسيح نفسه. فانتهزوا فرصة
الجمع الكثير الملتف حول المسيح وفجَّروا سؤالهم لينالوا من صحة تعاليم المسيح
واحترامه للناموس وتقاليد الشيوخ! “حينئذ جاء إلى يسوع كتبة وفريسيون الذين
من أُورشليم قائلين: لماذا يتعدَّى تلاميذك تقليد الشيوخ. فإنهم لا يغسلون أيديهم
حينما يأكلون خبزاً” (مت 15: 1و2). أمَّا المسيح فوجدها فرصة ليتَّهمهم هم
أنفسهم في هيكل تعليمهم وحياتهم كلها مؤكِّداً أن تقواهم ظاهرية وريائية. ومن واقع حياتهم أثبت لهم أنهم يحرِّفون ناموس الله
المقدَّس ويتهرَّبون من الملامة بتخريجات كلامية هكذا:

+
“فأجاب وقال لهم: وأنتم أيضاً، لماذا تتعدَّوْن وصية الله بسبب تقليدكم؟ فإن
الله أوصى قائلاً: أكرم أباك وأُمك، ومَنْ يشتم أباً أو أمًّا فليمت موتاً. وأمَّا
أنتم فتقولون: مَنْ قال لأبيه أو أُمه قربان هو الذي تنتفع به مني (بمعنى أن
المساعدة التي أقدِّمها لك سأقدِّمها في الهيكل)
(فأصبح حرًّا) فلا يُكرِم أباه أو أُمه. فقد أبطلتم
وصية الله بسبب تقليدكم! يا مراؤون، حسناً
تنبأ عنكم إشعياء قائلاً: يقترب إليَّ هذا الشعب بفمه، ويكرمني بشفتيه، وأمَّا
قلبه
فمبتعد عني بعيداً. وباطلاً يعبدونني وهم يعلِّمون تعاليم هي وصايا
الناس.” (مت 15: 39)

وهكذا
بعد أن أسكت المسيح الفرِّيسيين وفضح تعليمهم ورياءهم، استدار نحو الجمع وابتدأ
يشرح لهم كيف أن غسل اليد والأشياء لا يُطهِّر في الحقيقة، وأن الطهارة الحقيقية
هي طهارة القلب، والغسل الحقيقي هو غسل الضمير! (وواضح أن اليهود كانوا يخلطون بين
طهارة العبادة التي هي القداسة، وبين غسل اليد مما يعلق بها من الأوساخ). وأن
الفرِّيسيين بتعاليمهم إنما يتوهون عن التقوى اليهودية الصادقة، وأنهم ينحرفون
بالعبادة إلى شكليات تحت أكوام من الممارسات الظاهرية: “ثم دعا الجمع وقال
لهم: اسمعوا وافهموا. ليس ما يدخل الفم ينجِّس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هذا
ينجِّس الإنسان” (مت 15: 10و11). وهكذا لم يستخدم المسيح قط التهاون مع
الانتقادات التي كانوا يقدِّمونها ضد المسيح وتلاميذه، ولم يحاول التقليل من شأنها
أو خلق الأعذار أو الاستثناءات، بل استخدم الهدم المباشر وبقسوة لكل تخريجاتهم.
وفي نفس الوقت كان يرتفع بالناموس عن النوافل، ويكشف ما استبطنه من العمق الروحي
الذي رفع من شأن تعليم المسيح للدرجة التي أخرس بها الفريسيين.

فلما
أخبره التلاميذ أن الفرِّيسيين لمَّا سمعوا هذا غضبوا: “أتعلم أن الفرِّيسيين
لمَّا سمعوا القول نفروا” (مت 12: 15)، أي امتعضوا وذهبوا بعيداً. فكان رد
المسيح يحمل عدم الاكتراث برضاهم ونفورهم: “فأجاب وقال: كل غرس لم يغرسه أبي
السماوي يُقلع. اتركوهم هم عميان قادة عميان” (مت 13: 15). وقد كان، فقد سقط هيكل
الفرِّيسيين التعليمي عن آخره.

ولكن
لم يكن تعليم المسيح هنا القائم على الطهارة الداخلية وعدم نجاسة الأشياء في ذاتها
سهلاً، فقد ظل التلاميذ يسقطون فيه حتى بعد أن سندهم الروح القدس. فبطرس الرسول
رفض أن يذهب لرجل أُممي ليبشِّره بالخلاص، مما اضطر الله للإعلان له برؤيا وعلى
ثلاث مرَّات حتى يقتنع
كما قال هو “أن لا أقول عن إنسان ما إنه دنس
أو نجس” (أع 28: 10). فالتعليم اليهودي
ومن أيدي الفرِّيسيين كان كالكي على الجلد لا يزيله إلاَّ خلقة
جديدة.

لذلك
لمَّا اختلى التلاميذ بالمسيح سألوه عن معنى التطهير الداخلي هذا وعدم قيمة الغسل
الخارجي، مما أثار دهشة المسيح، أنهم إلى الآن وبعد هذه الحياة والتعاليم كلها، لم
يفهموا حقيقة الطهارة والنجاسة: “فقال يسوع: هل أنتم أيضاً حتى الآن غير
فاهمين؟ ألا تفهمون بعد أن كل ما يدخل الفم يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج؟
وأمَّا ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر، وذاك ينجِّس الإنسان. لأن من القلب تخرج
أفكار شريرة: قتل زنى فسق سرقة شهادة زور تجديف. هذه هي التي تنجِّس الإنسان. وأمَّا الأكل بأيدٍ غير مغسولة فلا ينجِّس الإنسان(
[1]).”
(مت 15: 16
20)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى