علم المسيح

27- الصلاة الربَّانية



27- الصلاة الربَّانية

27- الصلاة الربَّانية

حينما
سمع التلاميذ المسيح وهو يصلِّي! “وإذ كان يصلِّي في موضع لمَّا فرغ قال واحد
من تلاميذه يا رب علِّمنا أن نصلِّي كما علَّم يوحنا أيضاً تلاميذه” (لو 1:
11)، حينئذ دخلت رغبة الصلاة في قلوبهم دون ضغط أو إلزام. وهذه هي فلسفة المسيح في
تعليم الصلاة بل وتعليم كل شيء: أن تأتي الرغبة أولاً من الداخل بالروح، وهذا يعني
في فن التربية تفتُّح الوعي الداخلي للحقيقة، حيث يصبح التعليم ليس من الخارج ولا
بإلزام، بل من الداخل وبحرية الرغبة الشخصية. فقد اشتاق التلاميذ أن يصلُّوا لما
سمعوا المسيح يصلِّي، وطلبوا هم أن يعلِّمهم الصلاة وليس أن المسيح هو الذي فرض
عليهم الصلاة. وهكذا كانت حياتهم الروحية تنمو من الداخل وبالمشيئة الحرَّة. أمَّا
عمل المسيح ودوره في أمر الصلاة فهو أن يعرِّفهم بضرورتها وأنَّ لا غِنَى عنها،
وكيف يصلُّون صلاة صحيحة تحوي كل عناصر الصلاة اللائقة بالله، بمعنى أهمية
مضمونها. وليس هذا فقط، بل وأعطاهم مثلاً قيِّماً جداً شرح فيه طبيعة الصلاة
المستجابة عند الله: ذلك في مَثَل صديق نصف الليل (لو 11: 513)، الذي
ذهب إلى صديقه في هذا الميعاد المتأخِّر ليطلب ثلاث خبزات لضيف حلَّ عنده، فلمَّا
تمنَّع الصديق محتجاً بأن الليل قد انتصف وأولاده في حضنه
ويبدو أن الوقت كان شتاءً أيضاً أخذ السائل يلح لشدة عوزه، فاستجاب
الصديق أخيراً من أجل لجاجته وقام وأعطاه قدر حاجته. وهكذا قدَّم المسيح في هذا
المَثَل اللجاجة كأهم عناصر طبيعة الصلاة لتكون مستجابة. فالله ولو أنه سامع
الصلاة ولكن يُسرُّ باللجاجة. وشفعها في موضع آخر بقوله: “ينبغي أن يُصلَّى
كل حين ولا يُملَّ” (لو 1: 18). وقد علَّق على مَثَل صديق نصف الليل قائلاً:
“اسألوا تُعطوْا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم. لأن كل مَنْ يسأل يأخذ
ومَنْ يطلب يجد ومَنْ يقرع يُفتح له” (لو 11: 9و10)، وهي ثلاث درجات للصلاة.
وقدَّم المسيح نصيحته الروحية الثمينة في إعطاء نموذج للصلاة التي تبني النفس
وتشبع الروح وتكوِّن علاقة وطيدة مع الله: “وأمَّا أنت فمتى صليت فادخل إلى
مخدعك وأغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك
علانية. وحينما تصلُّون لا تكرِّروا الكلام باطلاً كالأمم، فإنهم يظنون أنه بكثرة
كلامهم يُستجاب لهم. فلا تتشبَّهوا بهم لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن
تسألوه” (مت 6: 68). وبهذا يكون المسيح قد استجاب لسؤالهم: “عرِّفنا
يا رب كيف نصلِّي”!!
وابتدأ المسيح يعطيهم نموذجاً يحمل العناصر الكاملة
للصلاة كما يجب أن نقدِّمها إلى الآب السماوي.

أبانا الذي في السموات”:

فأول
ما تحوي صلاة “أبانا الذي”، هو مخاطبة الله: “أبانا”، لأن
المسيح جعلنا أبناءً له محبوبين، إذ وحَّدنا في شخصه كابن الله. فنحن نخاطب الله
بدالة البنين وكأننا نطلب باسم المسيح ابنه المحبوب. ويُلاحَظ أننا نتكلَّم في
الصلاة هنا بالجمع، لأن وقوفنا أمام الله لا يكون كأننا وحدنا، لأن المسيح جمعنا
كأعضاء في جسده ووحَّدنا في نفسه لنخاطب الله باعتباره “أبانا”.

والصلاة
هنا مقدَّمة لله الآب بنوع الدالة الجديدة في المسيح الذي جعلنا أبناءً ولنا صفة
خاصة عند الآب “وأمَّا كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله
أي المؤمنون باسمه” (يو 12: 1). لذلك فقولنا له يا أبانا يوحي لنا بأننا
مسموعون لديه على مستوى الأولاد، ولكن لا يمكن أن يفارقنا الشعور أننا خليقة الله،
نحن على الأرض وهو في السماء، فحينما نرفع أعيننا إلى فوق ونخاطبه: “أبانا
الذي في السموات”، نشعر بوجوده الكلِّي في السماء وعلى الأرض، كما نشعر
بالصلة التي تربطنا بالله وتجعل حياتنا منظورة وقلوبنا مرفوعة إليه.

ليتقدَّس اسمك”:

ألوف ألوف
وربوات ربوات الملائكة يقدِّسون اسم الله، فحينما أعطانا المسيح هذا الحق الإلهي
أن نقدِّس اسم الله، فمعنى هذا أنه أعطى لنا حق الدخول في الخدمة مع الملائكة
وكافة الروحانيين في السموات. وخدمة تقديس اسم الله والهتاف: “قدوس قدوس
قدوس” هو أصلاً كان وقفاً على السمائيين وحدهم، ولكن لما نزل الابن القدوس
إلى أرضنا واشترك في لحمنا وعظمنا أخذنا هذا الحق السمائي، ودخلت الأرض بلسان
الإنسان المفدي في المسيح في خدمة مجد الله القدوس بالتسبيح المتواتر. فنحن في
المسيح الابن المبارك القدوس اختارنا فيه الله وباركنا بكل بركة روحية في
السماويات للقصد الواحد الوحيد المبارك أن ندخل في حق البنوَّة مع المسيح لله،
لنقف أمامه بلا لوم في القداسة لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب
يسوع (انظر: أف 1: 36).

فكون
المسيح يعطينا الحق أن نقف أمام الله الآب “لنقدِّس اسمه” بالتسبيح المتواتر،
فهذا معناه أنه قد حلَّت علينا كل بركة روحية في السماويات من أجل المسيح الذي
احتوانا في جسده، ليكون لنا الجراءة والقدوم إلى الآب به كل حين مسبِّحين مهلِّلين
مادحين شاكرين ممجِّدين إلى أبد الآبدين. على أن كل فم استطاع أن يصيغ نفسه صياغة
ليكون أداة تقديس لاسم الآب على الدوام وبلا انقطاع سواء بالصوت المسموع أو في
القلب الملتهب بالمجد، هذا يكون قد تقدَّس وصار كآنية الهيكل لأنه يحمل الاسم على
الدوام. فطوبى للفم الذي حمل الاسم القدوس بالتقديس الليل والنهار لأنه يكون قد
صار عضواً في هيكل الرب.

ليأتِ ملكوتك”:

كانت
كرازة المسيح الأُولى هي المناداة بالملكوت، وحينما قال إن الملكوت قد اقترب فلأن
الرب صار قريباً. فهو بالحقيقة الملك الآتي وهو الملكوت، فحينما علَّمنا أن ننادي
الآب السماوي ونطلب أن يأتي ملكوته، فهو بهذا يكون قد أدخلنا في شركة استعلان
مجيئه، لأن الذين يطلبون مجيء الملكوت من أعماق الروح وبكل القلب، يُسجَّلون أنهم
أصحاب الحق في دخوله عند مجيئه. فمَنْ ذا الذي يسمع ذلك ولا يهتف من عمق أعماق
القلب بالليل والنهار ولا يكف ولا يمل. وهذا عينه هو الذي أراده المسيح لنا ليكون
لنا هذا النصيب المبارك أن نكون في لقياه عند مجيئه، ونكون من المدعوين والأصحاب.

لتكن مشيئتك”:

إن
أعظم دعاء دعا به بولس الرسول لأهل كولوسي: “لم نَزَلْ مصلِّين وطالبين
لأجلكم أن تمتلئوا من معرفة مشيئته في كل حكمة وفهم روحي” (كو 9: 1). فالذي
يعرف مشيئة الله يعرف الله والله يعرفه، والذي يمتلئ من معرفة مشيئة الله يمتلئ من
معرفة الله والله يملأه بمعرفته. هكذا كل مَنْ ينادي لتكن مشيئة الله فمشيئة الله
حتماً تكون له، كموسى الذي توسَّل لدى الله يهوه العظيم: ” فالآن إن كنتُ
قد وجدتُ نعمة في عينيك فعلِّمني طريقك حتى أعرفك لكي أجد نعمة في عينيك.. فقال:
وجهي يسير فأريحك. فقال له: إن لم يَسِرْ وجهك فلا تصعدنا من ههنا”
(خر
33: 1315). والآن هكذا علمنا المسيح أن نتوسَّل بكل توسُّل أن تكون
لنا مشيئة الله قائدة لنا ورائدة لطريقنا، تعلِّمنا طريق الله، حتى نعرف الآب.
فهذه منتهى مسرَّة الله الذي حتماً يكون الرد عليها كما ردَّ على موسى بكل سخاء
الأبوَّة: “وجهي يسير فأريحك”! إذن، فطلبتنا التي ينبغي أن لا تزول من
فمنا وقلبنا وروحنا الليل والنهار هي: ” لتكن مشيئتك”، لأنها
تعني تماماً “علِّمني طريقك حتى أعرفك” وتعطينا الوعد “وجهي يسير
فأريحك” فمَنْ يصدِّق أن بهذا الدعاء الواحد: ” لتكن مشيئتك”
نفوز بحضرة الله السائرة أمامنا، تعرِّفنا الطريق وتعرِّفنا الله. فمَنْ ذا الذي
لا يعرف هذا ولا يصرخ من كل كيان روحه وقلبه أن: ” فلتكن مشيئتك”
فعرِّفني الطريق، وعرِّفني ذاتك: ” وإن لم يسر وجهك (أمامنا) فلا تصعدنا
من ههنا”!!

كما في السماء كذلك على
الأرض”:

لقد
سمع إشعياء هذا وعاين وارتعبت نفسه فيه: “في سنة وفاة عُزِّيا الملك رأيت
السيد جالساً على كرسيٍّ عالٍ ومرتفعٍ وأذياله تملأُ الهيكل، السرافيم واقفون
فوقه.. وهذا نادى ذاك وقال: قدوسٌ قدوسٌ قدوسٌ رب الجنود مجده ملءُ كل الأرض.
فاهتزَّت أساسات العتب من صوت الصارخ وامتلأَ البيت دخاناً. فقلتُ (إشعياء): ويلٌ لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا
ساكنٌ بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ قد
رأتا الملك ربَّ الجنود.” (إش
6: 15)

هكذا
صار إلى لحظة “كما في السماء كذلك على الأرض” فمَنْ يطيق؟ ولولا أن
المسيح علَّمنا أن نطلب هذا، وهو ضمين سترنا من بهاء عظمة مجده، والحاجز عنَّا
ضجَّة القوات السمائية التي صوتها يزعزع لا أساسات كل الأرض وحسب بل وسماء
السموات، لما احتملنا ذلك. ولكن لولا أنها مشيئة الله الآب القدوس أن نطلب أن يكون
لنا على الأرض كما هو في السموات، ما لقننا المسيح هذا الدعاء الذي ترتعب منه
القوات في السموات العلا. لأنه يبدو أن فرحة الآب بنا والتنازل إلى أرضنا عنده أشد
مسرَّة من ضجة الشاروبيم وهتاف الساروفيم. ألم يُرسل ابنه ليتجسَّس على حالنا ويعدَّ له مكاناً بيننا فأعطى اسم ابنه كالعربون: “ويُدعى اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله
معنا

وإن
كان قد قيل عن الابن: “أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُرِرْتُ” (مز 8: 40)،
فماذا يكون لنا حينما نصنع هذه المشيئة يا تُرى؟!

وإن
قال المسيح: “طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأُتمِّم عمله” (يو 34:
4)، فماذا تصير مشيئته في حياتنا يا تُرى؟!

خبزنا الذي للغد أعطنا
اليوم”:

كلمة “الغد”
واضحة باليونانية
™pioÚsion، وترجمتها بالإنجليزية
واضحة كذلك
belonging to the
morrow
وتعني: “الذي للغد” [1])،وترجمها الآباء الكنسيون الكبار إلى “الخبز
الجوهري”. والذي يزكِّي أن الخبز الذي نطلبه هو الخبز الجوهري أو الروحي أو
السمائي هو أن المسيح قد أعطى وصية أن: “لا تطلبوا أنتم ما تأكلون” (لو
29: 12)، وأيضاً: “اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية
الذي يعطيكم ابن الإنسان، لأن هذا الله الآب قد ختمه” (يو 27: 6). كذلك:
“أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء، لأن خبز الله هو النازل من السماء
الواهب حياة للعالم.. أنا هو خبز الحياة مَنْ يُقبل إليَّ لا يجوع” (يو 6:
32و33و35). علماً بأن الخبز المادي يعطيه الله للخليقة كلها بدون سؤال: “لأن
أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها” (مت 32: 6). والمدهش حقا أن
المسيح نفسه، وفي تعليمه عن الصلاة وعن طبيعة الصلاة يقول: “فمَنْ منكم وهو
أب يسأله ابنه خبزاً أفيعطيه حجراً؟.. فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن
تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس
للذين يسألونه (خبزاً)؟” (لو 11: 11
13). فمن غير المعقول بعد تأكيد المسيح المتكرِّر أن
الخبز عنده هو الخبز السماوي والحقيقي ومعطي الحياة والروح القدس، أن نحوِّله نحن
إلى الخبز البائد. وهذا هو الذي حدث في تجربة الشيطان للمسيح حينما قال له: إن كنت
ابن الله فقل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً، فكان رد المسيح عليه وهو جائع حقا:
“ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت 4:
4). إذن، فكأننا نُدخل أنفسنا في تجربة إن طلبنا خبز الجسد!

إذن،
فقد وضح المعنى أشد وضوح، فحاجتنا “اليوم” وكل يوم ليست إلى خبز
حنطة يُخبز في التنور نأكله ونموت، ولكن الحاجة يا إخوة أشد الحاجة في شقاء يومنا
وموتنا الذي نموته كل يوم هي إلى خبز حي نأكله ولا نموت!! نأكله في شقائنا هذا
لنحيا حياة لا يقربها شقاء ولا موت!! خبزاً نأكله فتنفتح أعيننا على الحياة وتلتهب
قلوبنا فينا بحضرة المسيح ونقوم نبشِّر بالقيامة والخلاص: “فلما اتكأ معهما
(تلميذي عمواس) أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى..
فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم.. وهم يقولون: إن الرب قام
بالحقيقة..” (لو 30: 2434)

ولكن
أليس هذا عجباً أنه حتى خبز الحياة الأبدية، يعطينا المسيح الحق أن نطلبه ليقتحم
يومنا وموتنا، ليحوِّل يومنا الزمني إلى يوم من أيام ابن الإنسان كيوم عمواس!! ما
هذا؟ إن صلاة “أبانا الذي في السموات” قد سلَّمنا إياها المسيح كمفتاح
سرِّي: نغيِّر بها واقعنا كله! حتى “خبز اليوم” إذ نأكله بحضرة المسيح
نعيِّد للقيامة ونحيا الخلاص والملكوت!! وهكذا فوصية “خبز الغد” تعود
بدورها وتصير هي هي “ليأتِ ملكوتك” بل وتعييداً مستمراً لمجيئه!! وهكذا
كلُّ مَنْ يصلِّي “أبانا الذي..” ويدخل بروحه وقلبه وفكره إلى “خبز
الغد” عليه أن يُحلِّق ويطير بالروح ويعبر يومه وزمانه ليحطَّ على الخلود،
ليذوق طعام الحق وترياق عدم الموت، ويعود ليبشِّر بالحياة وبسرِّ الخبز النازل من
السماء!

واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر
نحن أيضاً للمذنبين إلينا”:

عقدة
الإنسان المستعصية كيف يغفر ذنوب الآخرين تجاهه حيث تقف الذات والخصال وميراث
الأحقاد، وسرعة الانفعال وعدم التفريط في الحقوق، والغضب، وحب الانتقام، وعدم
الاحتمال، وادِّعاء التأديب. كلها تتجمَّع معاً لتجعل مغفرة أخطاء الآخرين أو
تعدِّياتهم أو مساسهم بحقوقنا أو استهتارهم بقيمنا أمراً أصعب مما يتصوَّره
الإنسان.

فلو
أدرك الإنسان أن نصف هذه العوامل المهيِّجة للنقمة وعدم غفران ذنب الآخرين هو
ميراث حيواني وحشي، والنصف الآخر هو من دس الشيطان للقضاء على حياة الإنسان
ومستقبله، إن لم يكن بالمرض وإتلاف الأعصاب فبالدينونة الأخيرة وغضب الله؛ فأي
مكسب للإنسان من كتم حقده في قلبه حتى يمزِّقه؟ لذلك تأتي طلبة الصلاة متضمِّنة أن
نغفر ذنوب الآخرين حتى يغفر الله لنا ذنوبنا كعملية إنقاذ من الموت والهلاك
الأبدي.

هنا
نرى أن الوضع انقلب بالنسبة لطلب: ” خبز الغد” ليأتي
اليوم”،
حيث الخلود يقتحم الزمن، أما هنا فالزمن هو الذي يقتحم الخلود!!
مَنْ يصدِّق؟؟ فالفعل الذي نأتيه زمنياً بأن نكون قد غفرنا للمذنبين إلينا على
واقع الساعة واليوم، نأخذها وثيقة موثَّقة ونطير بها بجُرأة كمَنْ عمل عملاً
سماوياً، نخترق به حاجز الخلود لنتراءى أمام الله ونطلب بالمقابل فعلاً أبدياً، إذ
نطلب غفران خطايانا من لَدُنْ الله!! الذي في معناه هو هو قوام الحياة الأبدية!
فما هذا الأمر؟ أنشتري بالفعل الزمني فعلاً خالداً أبدياً؟ نعم. ثم ما سرُّ هذه
المقايضة العجيبة البديعة المُغرية جداً؟

اسمع
يا صديقي وَعِ! فالذي استطاع أن يغفر الخطايا
كل الخطايا للآخرين كل الآخرين، الخطايا التي تخص
ذاته وكرامته واسمه وشهرته ووظيفته وحَسَبه ونَسَبه وماله وعياله وممتلكاته
وحياته، هو في حقيقته إنسان تحدَّى العالم وصُلب له! هو حقاً وبالحقيقة إنسان
“ليس من هذا العالم” فإن كان قد صار ليس من هذا العالم، فقد بلغ قامة
الصليب والمصلوب: “(هؤلاء) ليسوا من العالم، كما أني أنا لست من العالم”
(يو 14: 17). إذن، فكيف يحسب الله عليه خطية؟

واضح
أن مَنْ استطاع أن يغفر للناس، كل الناس، خطاياهم من نحوه، فقد تعانق فعلاً مع
صليب الموت والمصلوب الميت!! “ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم،
قدِّسهم في حقِّك” (يو 16: 17و17)، لقد تعانق مع المصلوب وصار شريكاً له في
قوله: “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو 34: 23)،
فكيف تُحسب عليه خطية؟

فانظر
يا صديقي وانتبه، إن هذه الطلبة أو هذا الفعل العجيب، أي طلب مغفرة خطاياك، هو
العمل الوحيد الذي يأتيه الإنسان من ذاته وينال به شركة سهلة في استحقاقات المصلوب،
دون أي جهد أو اجتهاد، دون أن يعتمد على علو علم أو عمق معرفة، أو صوم أو صلاة، أو
سهر أو مشقَّة، ولا يستغرق أزمنة ولا أياماً، كما لا يحتاج إلى معلِّم أو مرشد أو
حكيم. هو عمل تأتيه في لحظة من لحظات يقظة النفس، وأنت رافع رأسك وقلبك وروحك
ويديك نحو السماء، مُمسكاً بالإنجيل وقابضاً بالروح على زمام الروح، وهاتفاً باسم
الله الحي أن تغفر كل الخطايا لكل الناس!

ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا
من الشرير”:

هنا
بدأ المسيح يلقِّنهم “صرخة الاستغاثة”، يفزعون بها إلى الله لحظة
الخطر عند مجيء ساعة التجربة العتيدة أن تأتي على العالم لتبتلي كل ذي جسد. وهذه
الصرخة تحمل سر النجاة، إن أحسن الإنسان لحظة نُطْقها، فهي صرخة فعَّالة قبل أن
تقع التجربة!!

لا تُدْخِلنا” فنحن ندرأ
التجربة بصراخنا للقادر أن ينجِّي. ولكن إن توانينا، باغتنا العدو وأصاب منَّا
مقتلاً: “فاخضعوا لله، قاوموا إبليس فيهرب منكم، اقتربوا إلى الله فيقترب
إليكم” (يع 7: 4و8). فنحن نقترب إلى الله حقاً وفعلاً بصراخنا إليه أمام
التجربة، فإن اقتربنا إلى الله بصراخنا، ابتعد العدو مدحوراً وولَّى هارباً، هذه
الكلمات صادقة ومملوءة حقاً!!!

والله
لا يُدخلنا التجربة إلاَّ إذا تعالينا وتكبَّرنا وانتفخت ذواتنا ونسينا ضعفنا
واستغنينا عن الله. بطرس الرسول وقف هذا
الموقف: “إن شكَّ فيك الجميع فأنا لا أشك أبداً” (مت 33: 26)، “يا
 رب
إني مستعد أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى
الموت” (لو 33: 22). هكذا انتفخ بطرس وكأنه
سينقذ المسيح ويسنده في محنته ويشاركه في سجنه وآلامه. والآن ماذا يعمل
المسيح أمام هذه
المكابرة؟ لو تركه
هكذا فسوف يأكله الشيطان، ولكن بطرس طيِّب وحلو، فماذا يعمل الرب؟ لقد
عمل عملين: الأول أنه أدخله التجربة: “يا بطرس: لا يصيح الديك اليوم قبل أن تُنكر ثلاث مرَّات أنك تعرفني” (لو 34: 22). والعمل الثاني سرِّي:
“ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك.” (لو
32: 22)

إذن،
فقول الصلاة: “لا تدخلنا في تجربة” هي بعينها احفظنا من الاعتداد بالذات
والكبرياء والتعالي على الله وعلى الناس. ومعروف أن الله لا يجرِّب أحداً ولكن
الإنسان هو المسئول عن التجربة التي يدخل فيها، فهو الذي يجلبها على نفسه:
“لا يقل أحد إذا جُرِّب إني أُجرَّب من قِبَل الله، لأن الله غير مجرَّب
بالشرور، وهو لا يجرِّب أحداً. ولكن كل واحد يُجرَّب إذا انجذب وانخدع من
شهوته.” (يع 1: 13و14)

§     
بمعنى
أن الله لا يدخلنا التجربة إلاَّ إذا كنا سبباً لها.

§     
وهو
حينما يدخلنا التجربة يتشفَّع المسيح فينا حتى لا يفنى إيماننا.

§     
وإذا
دخلنا التجربة لا يمكن أن يسمح الله أن تفصلنا عنه.

§     
ومهما
كانت خسائر التجربة فالرب يعوِّض عن كل خسارة. وحياة أيوب تشهد بهذا.

§     
والله
أحياناً يسمح بأن يسوق الشيطان علينا بالتجربة لنتعلَّم الاتضاع.

§     
والمسيح نفسه قيل إنه تعلَّم الطاعة مما تألَّم به، ليس عن
تجربة بل عن

بذل.

§     
والله
لمَّا يُرسل علينا الآلام مهما كانت صعبة، فهي ليست تجربة؛ بل تمحيص لإيماننا
وتزكية لصبرنا ورجائنا.

§     
والآلام
بالنسبة للإنسان المسيحي هي نوع من طعامه اليومي لأنها مربحة لحياته:
“.. أننا موضوعون لهذا.” (1تس 3: 3)

§     
القديس
بولس صلَّى ثلاث مرَّات أن تُرفع عنه التجربة فكان رد الله: “تكفيك نعمتي لأن
قوتي في الضعف تُكْمَل.” (2كو 9: 12)

لكن نجنا من الشرير”:

إن
أنسب وقت للشيطان ليضرب الإنسان هو حينما يقع في تجربة، حيث تتضايق نفسه وتتمرَّر
عيشته وينغلق فكره وصدره. فهنا الشك في رحمة الله، والتذمُّر على عدله، ورفض
نصيبه، وفقدان البصر، وانعدام الرجاء. وهذه بالتالي تدخله في أخطر الحالات: اليأس
من رحمة الله، والتسليم للشيطان؛ حيث الوقوع في المحظورات القاتلة من خمر
ومخدَّرات ونجاسات، حتى يسقط في القاع وتلتف عليه شبكة الشيطان. هنا صراخ الإنسان
ليرمي خطورة التجربة على رحمة الله لكي يتدخَّل وينجِّيه من تربُّص الشيطان
وأفكاره ومشوراته السوداء. لأن التجربة من الخارج محكومة، ولكن إن دخلت في الداخل
فهي أصعب من أن يضبطها الإنسان، إذ تحتاج إلى معونة سماوية. هنا التوسُّل يلزم أن
يكون عن وعي وإصرار ورجاء بالاستجابة وانتظار سرعة التدخُّل من الله: “ادعني
في يوم الضيق أنقذك فتمجِّدني!!” (مز 15: 50)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى