علم المسيح

الفصل الخامس



الفصل الخامس

الفصل
الخامس

عودة المسيح
إلى الجليل عبر السامرة
(يو 4)

10- المرأة
السامرية والعبادة بالروح والحق

+” أصغيتُ إلى الذين لم يسألوا. وُجدت من الذين لم
يطلبوني. قلت
هأنذا
هأنذا لأُمة لم تُسمَّ باسمي” (إش 1: 65)
([1])

لقد
تحسَّنت أفكار الجليليين عن القيمة العالية التي للمسيح بعد أن رأوا وسمعوا كلماته
ومحاوراته وآياته في أُورشليم، وفي نفس الوقت شعر المسيح بمقاومة الفرِّيسيين
تزداد في اليهودية لمَّا رأوا تقاطر الجموع عليه. ففضَّل أن يذهب إلى الجليل،
الأكثر هدوءاً والمناسب لتعليمه، فشعب الجليل كان فعلاً أكثر بساطة وقبولاً. لذلك
عوَّل على الانطلاق إلى هناك من أقصر الطرق عبر السامرة. وتتطلَّب الرحلة ثلاثة
أيام على القدم لأن المسافة أكثر من 60 ميلاً. وكان من الطبيعي أن يكرز بالرسالة
في عبوره السامرة، فالبلاد أصلاً هي إسرائيل قبل أن تنقلب العبادة فيها ويتبدَّد
الشعب. والسامريون كانوا ينتظرون تغييراً
لحالهم أيضاً، لأن انتظار المسيَّا دخل في إيمانهم بدون الفكرة السياسية ومقاومة

الرومان.

مقالات ذات صلة

وكان
زمان الصيف قد ولَّى ومعه الخريف أيضاً، وجاء زمان الزراعة أي بذر البذور وهي مدة
بين أكتوبر حتى منتصف ديسمبر. فنحن الآن في نوفمبر، وبلغ المسيح منطقة شكيم
الخصبة، وكان التعب قد أخذ منه كل مأخذ من طول الترحال، فجلس على فم البئر وكانت
الظهيرة.

وكان
البئر بئر يعقوب، جلس وحده بعد أن أرسل تلاميذه ليشتروا طعاماً، ولو أن كل ما
يُباع من السامريين هو نجس، إلاَّ أنهم تغاضوا عن هذا لشدة التعب والحاجة.

وبينما
هو جالس على البئر جاءت امرأة سامرية لتستقي ماءً في جرّتها، فطلب منها ماءً
ليشرب، وكان ذلك بالأكثر محاولة انتهاز الفرصة ليكلِّمها عن الخلاص الذي ينتظرونه،
فلمَّا تمنَّعت وأبدت عجبها كيف يطلب منها ماءً وهو رجل يهودي وهي امرأة سامرية
فالمفارقة في التقليد شديدة ومانعة أجاب يسوع وقال لها: ” لو كنتِ
تعلمين عطية الله ومَنْ هو الذي يقول لكِ أعطيني لأشرب لطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ
ماءً حيًّا”.

دعوة
المسيح للتعرُّف عليه هي خطوة حاسمة لقبول الخلاص، فالتدريج يأتي هكذا: إن كل الذين عرفوه أظهر لهم ذاته أو حقيقة ذاته، فآمنوا
به، وهؤلاء هم المختارون منذ البدء!

فالمسيح
يعرض نفسه دائماً أبداً لكي
نتعرَّف عليه ويتمنَّى ذلك. وهذا واضح جداً في قصة هذه المرأة المختارة التي اعتنى
الإنجيل
أن يقدِّمها لنا كدعوة يقدِّمها المسيح للأُمم في شخص السامرية،
لتنال فيه الاختيار والتبنِّي أيضاً.

وهنا يستهويها المسيح بعطية الله لأنها تفوق تصوُّرها،
ويتمادى في ترغيبها لتتعرَّف عليه، ذلك الذي تنبع منه أنهار ماء حي تفيض إلى حياة
أبدية. فأُخذت المرأة من سخاء العرض وَسَعَتْ وراء
العطية، ونجح المسيح في استدراج الخاطئ لقبول الحياة. وفي صدق الطفولة وبراءتها
طلبت منه هذا الماء العجيب:

«يا
سيِّدُ أعطني هذا الماء، لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي”!

لقد
صوَّرت لنفسها هذا الماء الذي إن شرب منه أحد لا يعطش فيغنيه عن سعي الذهاب إلى
ينابيع مياه معطشة. لقد صوَّرت لنفسها الخلاص كما يطيقه عقل بشر، ورسمت لنفسها
الحياة الأبدية بعالم يهرب منه الحزن والكآبة والتنهُّد. وهكذا تكون قد نجحت
بامتياز، وما عاد إلاَّ أن يَفُكَّ المسيح لها المعادلة، ولكن لابد من تصفية
الماضي.

«قال
لها يسوع: اذهبي وادعي زوجكِ وتعالي إلى ههنا”:

لا
يزال هنا المسيح يركِّز عليها هي نفسها، وما دعوة الزوج إلاَّ دعوة الماضي للظهور
والتصحيح! فالجديد في المسيح لا يُلبَس على عتيق، والروح لا يستقر في القلب إلاَّ
بعد تطهير. والعجيب أن المرأة كانت من الألمعية وحصافة الفكر وصفاء الرؤية حتى
أدركت القصد على التو، وتوافق ضميرها مع ضمير المسيح فكشفت في الحال عن نجاسة
الماضي وعار السيرة وفضيحة السريرة. لقد كانت في عرفها فرصة العمر، بل لحظة
القَدَر للخلاص من حمأة الطين والنجاة بالحياة من ظلمة الموت!

«أجابت
المرأة وقالت: ليس لي زوجٌ. قال لها يسوع: حسناً قُلتِ ليس لي زوجٌ، لأنه كان لكِ خمسةُ أزواجٍ، والذي لكِ الآن ليس هو زوجكِ. هذا
قُلتِ بالصدق”!

لقد
استطاعت هذه المرأة وهي في مستوى الحضيض والمذلَّة أن تفوز من المسيح بشهادة
“الصدق”، لقد نجحت بامتياز حينما استجابت لدعوته وطلبت هذا الماء الذي
وعد به!! وها هي هنا تفوز بشهادة “الصدق” عندما أقرَّت عن حالها بأمانة.
والإنجيل بهذا وذاك يعرض علينا إمكانية الخاطئ كيف “ينجح بامتياز”
في قبول دعوة المسيح للخلاص حتى دون أن يدري عمقها أو علوها، ثم كيف يمكن أن يبلغ
شهادة “الأمانة” بكشف عاره وذلة حاله، فيفوز من المسيح بشهادة
“الصدق أمام الله في اعترافه” وهو لا يزال في نجاسة حاله وبؤس حياته!

لقد
استحسن المسيح جرأة المرأة وبارك اعترافها” حسناً قُلتِ”، مما
أثلج صدر المسيح وأوعز إليه أن يفتح لها أول باب على نفسه لترى منه: ” مَنْ
هو الذي يقول لكِ أعطيني لأشرب”،
إذ بادرها هو ببقية اعترافها الذي قالت: ” لأنه كان لكِ خمسة أزواج والذي لكِ
الآن ليس هو زوجكِ”.
وكأنه
يقول لها أنا فاحص الكلى وكاشف السرائر والقلوب، فأعمال الظلمة جميعها عندي محصاة.

والمسيح بكشفه سر مأساة السامرية أمام عينيها إنما يوحي إليها بقدرته على محوها،
وها هو يكمِّل اعترافها من عنده ليستعيد لها
صحة نفسها لتعود مبرَّأة القلب والضمير مفتوحة العينين. فبادرته المرأة في

الحال:

«قالت
له المرأة: يا سيِّدُ أرى أنك نبيٌّ”!

لقد أحسنت الرؤية بأقصى ما هو مستطاع، كآخر درجة يفوز بها
أعظم متصوّف محترف في فحص “الإنسان” يسوع المسيح قبل أن يسعفه الرب
بالاستعلان الكلِّي ليُدرِك فيه ما لا يُدرَك. لقد أدركت المرأة القوة الخفية وراء
الذي يكلِّمها، أحسَّتها وتأكَّدت منها، ولكن لم تستطع أن تحيط بها. ولكن واضح
التدرج الذي سارت فيه هذه المرأة الموهوبة: فرأته أولاً رجلاً يهوديًّا لا
يليق به أن يتكلَّم مع امرأة سامرية، وكأنه بحديثه يخدش عفتها!! ولمَّا تنازلت
واستجابت وطلبت منه هذا الماء الذي مَنْ يشرب منه لا يعطش رأته “السيد”
القادر أن يعطي، ولمَّا كشفت ما وراء قلبها رأته “نبيًّا”. لقد
استراحت نفسها أخيراً إليه وإلى حديثه، فهل يدلّني على أي مكان أعود فيه إلى الله
تائبة لأعبده بروحي؟

مَنْ
يصدِّق أن هذه النفس العفنة تنقلب بهذه السرعة إلى تائبة تطلب مكاناً أميناً
تتعبَّد فيه، مكاناً يسمع فيه الله صوتها ويقبل دموعها وندامتها. أمر لا يشغل
إلاَّ بال الأتقياء؛ ولكن في حضرة المسيح يصير الخاطئ تقيًّا، والمريض الكسيح يحمل
سريره ويذهب إلى بيته صحيحاً عفيًّا. هكذا تجرَّأت المرأة وطرحت هواجسها أمام
المسيح:

«آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أُورشليم
الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه”.

المعروف
أن يعقوب إسرائيل أبا الأسباط عَبَدَ الله في جبل جرزيم قرب مدينة شكيم: “ثم
أتى يعقوب سالماً (من رحلة فدان أرام ليأخذ من
بنات لابان زوجة له) إلى مدينة شكيم التي في أرض
كنعان. حين جاء من فدان أرام ونزل أمام المدينة، وابتاع
قطعة الحقل التي نصب فيها خيمته من يد بني
حمور أبي شكيم بمئة قسيطة. وأقام
هناك مذبحاً ودعاه إيل إله إسرائيل” (تك 33: 1820). وهكذا فإن في
توراة السامريين مكتوب أن المذبح الذي أُقيم
للعبادة الأُولى كان على جبل جرزيم، حيث وضعوا اسم هذا الجبل عوضاً عن جبل عيبال
في الآية (تث 27: 48). والسامرية بقولها هذا تضع التقليد السامري
المؤكَّد عندها في مواجهة التعليم اليهودي غير المستند على وثائق. والذي يزيد صدق
كلام
السامريين في نظرهم هو أن السامرة
كلها كانت هي أولاً بلاد إسرائيل وكانت عاصمتها شكيم! بالقرب من مدينة السامرة
التي تحوَّل اسمها أيام هيرودس إلى سبسطية نسبة إلى أغسطس قيصر (على أن
كلمة أغسطس باللاتينية التي تعني صاحب السمو يقابلها باليونانية كلمة سبستوس). وقد
بُني فيها بالفعل فيما سبق هيكلٌ منافس لهيكل أُورشليم
(
[2]) الذي هدمه اليهودي المدعو يوحنا هركانوس أحد المكابيين سنة 128 ق.م، ولكن
ظل السامريون يعبدون في نفس المكان ويقيمون الفصح والصلاة في مواعيدها ويتجهون
نحوه بالصلاة كقبلة إذا كانوا بعيدين عنه. صورة حزينة لحيرة الإنسان أين يعبد
ومَنْ يعبد. السجود لله.

«قال
لها يسوع:

يا
امرأة، صدِّقيني أنه تأتي ساعةٌ، لا في هذا الجبل، ولا في أُورشليم تسجدون
للآب”.

هذه
هي البشارة المفرحة للعهد الجديد، وهذه الساعة هي ساعة المسيح الجالس أمامها، لأنه
بذبيحة المسيح وصليبه أُلغيت الذبائح وأُلغيت الهياكل، وصار المسيح هو الذبيحة
الروحانية الوحيدة على المذبح الناطق السمائي في هيكل الله غير المصنوع بالأيادي،
الذي أقامه الرب لا إنسان، حيث العبادة والسجود بالروح والحق لله آب الجميع.

واضح
هنا جد الوضوح أن المسيح يدعو السامرية والعالم كله إلى العبادة الموحَّدة لله
“آب الجميع”،
ردًّا على قولها: “آباؤنا سجدوا في هذا
الجبل” فلم يَعُدْ بعد فرصة لتعصُّب البشر لعبادة غير الله، ولا تعصُّب لمكان
وبلاد وهياكل من حجارة، فهيكل السماء يجمع البشر جميعاً كأبناء للآب الواحد دون نزيل
أو غريب. فطوبى لهذه المرأة التي بسببها انكشفت لنا العبادة الواحدة الحقة بالروح
الواحد للآب الواحد في السماء، نقدِّمها أينما كنَّا ومهما كنَّا، وسامع الصلاة في
السماء يسمع ويجيب. وهذا حق منتهى الحق، لأنه
إن كانت العبادة والسجود بالروح والحق، فالله أبو
الأرواح جميعاً قابل
الجميع، وليس ما يميِّز روحاً عن روح إلاَّ بمقدار الحق الذي تلتزمه في حياتها وفي
عبادتها.

ولا
يمكن أن نتغاضى عن قول المسيح للسامرية: “صدِّقيني”، فالقول هنا قول حق
وإن زالت السماء والأرض فهو لا يزول.

ولكن
يعود المسيح ويكشف أصل العبادة ومصدرها وكيف بدأت على الأرض وكيف تنتهي في السماء،
فيقول: ” أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أمَّا نحن فنسجد لما نعلم، لأن
الخلاص هو من اليهود”
(يو 22: 4). المسيح هنا يستدرك القول لئلاَّ تتوه
عبادة يهوه العظيم بين أُورشليم وجرزيم قبل أن تبطل هذه وتلك في هذه الساعة التي
أتت. فعبادة اليهود المقدَّمة ليهوه العظيم هي وحدها المؤهَّلة لتتوقَّف على الأرض
لتنتقل إلى السماء، بانتقال واقع العبادة من السجود بالجسد إلى السجود بالروح
والحق، لارتقاء البشرية في المسيح بموته وقيامته إلى بشرية قائمة من الموت،
لتستوطن السماء كخليقة جديدة بالروح والحق.

ويقول:
ولكن تأتي ساعةٌ، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح
والحق”.

المسيح
هنا يعلن إعلاناً للعالم كله ولكل إنسان أن عبادة الله بالجسد قد انتهت هذه
الساعة، فهي ساعة التحوُّل العظمى من خليقة عاشت تحت ثقل الجسد وشقائه، إلى خليقة
مدعوَّة من الله لتبدأ حياتها وإيمانها وعبادتها وسجودها بالروح لا بالجسد.

لقد
نزل الكلمة ابن الله إلى العالم ولَبِسَ جسد البشرية مع عقوبة الموت واللعنة على
الصليب. ومات بالجسد والبشرية كلها فيه لينفض عنها كل ما لحقها من الآثام، وينفض
عنها عقوبة الموت ذاتها، ثم قام بالجسد والبشرية فيه مبرَّأة ومبرَّرة ببر طاعته
للآب حتى الموت. وهكذا انتقلت البشرية في المسيح من حالة شقاء الخطية إلى حالة
نقاء الروح، من خليقة ترابية تحيا في شقاء العالم بالجسد محكومة بالخطية والموت،
إلى خليقة جديدة روحية قائمة من بين الأموات غير مستعبدة للخطية ومحرَّرة من سلطان
الموت، مصالحة مع الله، تحيا بالروح وتعبد وتسجد لله بالروح والحق، وتنتظر
الانطلاق إلى موطنها النهائي في السماء مع الله.

وهكذا
كشفت لنا قصة السامرية عن وضع البشرية الذي جاء المسيح ليفتتحه في نفسه كخليقة
جديدة روحانية مدعوَّة للعبادة لله الآب بالروح والحق.

ويقول:
لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له”.

هكذا
يعلن المسيح على الملأ أن العبادة لله والسجود له ليست هي بعد مطلباً بشريًّا يسعى
إليه الإنسان طائعاً أو مجبراً، بل هي مطلب سماوي من فم الآب ومن كل قلبه ومشيئته.
فليس للإنسان بعد أن يضع شروطها وواجباتها، بل هو الله الذي يدعو ويطلب ولا يطالب
إلاَّ بنقاوة القلب وعبادة صادقة بالروح والحق. فلم تَعُدْ عبادات، بل عبادة
واحدة؛ ولا بأشكال وطرائق مختلفة، بل بالروح الواحد الصادق الذي يتحرَّك بالحق.

ويقول:
الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا”.

المسيح
يعلن هنا إعلاناً واضحاً صريحاً أن العبادة والسجود بالجسد قد انقضى زمانها، وإن
كانت في السابق لها أنظمتها وطقوسها فلأن الله لم يكن قد استُعلن بعد، وكانت
ماهيته مخفية عن عقول بني البشر. فكان الإنسان يعبِّر عن شعوره من نحو الله بالجسد
والجسديات. ولكن الآن يعلن المسيح أن الله روح، فروح الإنسان هي المنوط بها
التعبُّد والسجود والتقرُّب إلى الله: “وأمَّا أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك
وأغلق بابك، وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء
يجازيك علانية.” (مت 6: 6)

كل
هذا يوضِّح أن المسيح إنما يفتتح عهداً جديداً للإنسان فيه تأخذ العبادة ويأخذ
السجود وضعه الروحي الصادق. والذي يقصده المسيح من العبادة والسجود لله بالروح
والحق هو أن تكون لنا علاقة حيَّة مع الله الآب بروحنا مهما كان وضعنا، سواء كنا
ساجدين أو راكعين أو واقفين. فليس وضع الجسد هو الذي يحدِّد السجود، بل حالة الروح
المرتفع والملتصق بالله وحده.

كانت
هذه النقلة بالنسبة للسامرية كبيرة لم تستطع أن تستوعبها، فاستغاثت بمَنْ يوضِّح
لها هذه العبادة الجديدة العالية:

«قالت
له المرأة:

أنا
أعلم أن مسيَّا
الذي يُقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذاك يخبرنا
بكل شيء”.

كان
من أثر إحساس السامرية بالمسيح أن نضح عليها الشعور الطاغي بقربه. لقد أوحى إليها
المسيح بكلامه وحكمته وعطفه الأبوي بروح المسيَّا الآتي. وكان هذا بطبيعة الحال هو
الانفتاح القلبي بعينه الذي بدأ فيها دون أن تدري فأدخلها في مجاله.

لقد
أربكها كلام ذلك النبي اليهودي، كيف وهو يهودي يقول إنه لن تكون عبادة في
أُورشليم؟ إنه يتكلَّم بأعلى مما ينطقه نبي، إنه يتخطَّى أُورشليم والهيكل في
أُورشليم. فمَنْ يكون؟ وقفت السامرية أمام المسيح حائرة: ألا يكون هو المسيَّا
نفسه؟

«قال
لها يسوع: “أنا هو” الذي أُكلِّمكِ”!

لقد
أعلن المسيح ذاته لمَّا عرفته، فلم يكن المسيح قادراً أن يحجز إعلانه عن نفسه بعد
ما تلاقت هكذا معه عن قرب. لقد بلغت الحقيقة وتوقفت عند حدودها تستقرئ في الجالس
أمامها صدق ما بلغت. فأصدقها حدسها وأفاض عليها من نوره. فبقوله: “أنا
هو” يكون قد كشف عن أنه “مسيَّا” الذي تترجَّاه ويهوه الذي لا يمكن
أن تراه. إذن، فليس هو الآتي ليرد المُلك لإسرائيل ويُخرج الرومان من الديار، بل هو الذي جاء ليرتفع بالإنسان يهوديًّا أو
سامريًّا أو أُمميًّا من مستوى الجسد إلى مستوى الروح، ليسجد الجميع لله بالروح
والحق كطلب الله، ويرتفع الإنسان عامة بالعبادة من هياكل الأرض المنصوبة بالأيادي
والحجارة إلى هيكل الله الحي في السماء الذي نصبه الله لا إنسان!

لقد
سقط عن السامرية ثوبها المدنَّس من الجسد لمَّا انفتحت عيناها ورأت المسيح، لقد
ولَّت عنها شياطين الظلمة في الحال ولفَّها نور
المسيح. نعم لقد لَبِسَتْ الأُمم فرحتها يوم لَبِسَتْ السامرية ثوب
الخلاص.

وذهبت السامرية مسرعة تدعو كل مدينتها أن يأتوا ويروا
ويسمعوا المسيَّا!!

عودة
التلاميذ ورؤية المسيح للملكوت القادم:

بعد
أن أعلن المسيح أنه هو المسيَّا للمرأة السامرية، جاء التلاميذ ورأوا المسيح معها
فتعجَّبوا أنه يتكلَّم مع امرأة سامرية. ثم ذهبت السامرية تنادي مدينتها، وبدأت
المدينة تتقاطر من بعيد فرادى وجماعات، وبَدَتْ الجموع الزاحفة بملابسها البيضاء
وكأنها حقول ابيضَّت للحصاد:

«وفي أثناء ذلك سأله تلاميذه قائلين:

يا معلِّم كُل. فقال لهم: أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه
أنتم”.

ولمَّا
لم يفهموا الكلام إذ ظنوا أن أحداً أحضر له طعاماً ليأكل، قال أيضاً:

«طعامي
أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأُتمِّم عمله”.

وهنا
ابتدأ المسيح يغيِّر مجرى الكلام ونفسه مفعمة بفرحة خلاص مدينة وانفتاحها على
الملكوت القادم، وعينه على أفواج الشعب السامري وهو يزحف من بعيد ويتقاطر مجموعات.
فقال لتلاميذه وهو يعني الملكوت القادم:

«أما
تقولون إنه يكون أربعة أشهر (نحن في ديسمبر أو قبله بقليل) ثم يأتي الحصاد، ها أنا
أقول لكم: ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول إنها قد ابيضَّت للحصاد (عن الشعب وهو
يتسابق في المجيء)، والحاصد (التلاميذ) يأخذ أجرةً ويجمع ثمراً للحياة الأبدية،
لكي يفرح الزارع والحاصد معاً،

لأنه
في هذا يصدق القول: إن واحداً يزرع وآخر يحصد. أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا
فيه. آخرون تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم”.

كانت
رنَّة صوت المسيح بالفرح من أجل الثمر المتكاثر، ولكن كان يشوبها إحساس بالحزن، إذ
ينبغي أن تقع حبَّة الحنطة أولاً وتموت حتى يُرى هذا الحصاد الوفير. فقد تراءت
أمامه أحزانه القادمة وكأنها هي التي ستوفِّر للحصاد وجوده وللحصَّادين عملهم.
أمَّا قوله لتلاميذه لي طعام لآكل لستم تعرفونه، لكن عرفه إشعياء: ” ومن
تعب نفسه يرى ويشبع”
(إش 11: 53). فها هي حقول الحصاد القادم طعام نفسه
حتى الشبع!!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى