علم المسيح

23- التجربة (مت 4: 1-10)



23- التجربة (مت 4: 1-10)

23- التجربة (مت 4: 110)

أول ما يسترعينا في هذه القصة أن الروح هو روح المسيح:
[فروحه هو الذي اقتاده إلى

البرية](
[1])، [وبآن واحد نقول: إن
روح الله هو الذي اقتاده إلى البرية.](
[2])

(أ)”
ثم أُصعد يسوع إلى البرية “من الروح ليُجرَّب” من إبليس”:

إذن،
فالتجربة أساساً موضوعة في تدبير الله كجزء من منهج رسالة المسيح وخدمته قبل دخوله
في بدء الخدمة. ولذا فهي تختص أساساً بالخدمة، إذ يستحيل أن ينزل المسيح إلى
الخدمة والشيطان حرٌّ طليق يعبث بالناس ويعطِّل عمل المسيح! بمعنى أنه لَزِمَ
أولاً أن يُربَط الشيطان ويُنْزَع سلاحه الكامل الذي اعتمد عليه والذي جعله يطمئن
على بيته وهو الإنسان؛ بعد أن يتغلَّب المسيح على الشيطان “القوي”
ويربطه لأن المسيح هو “الأقوى”
وهنا الروح القدس وارد بمعنى أن المسيح
يحمل اللاهوت فهو أقوى ليس بالروح القدس، ولكن الروح القدس مرافق للاهوته لأنه
الابن بشهادة الآب، وهذا هو سر قوته الفائقة على قوة الشيطان
حينئذ تبدأ جولة المسيح في مواجهة
الشيطان في الناس الذين تسلَّط عليهم إلى أن يتقابلا أخيراً عند الصليب.

(ب)”
فبعدما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلةً، جاع أخيراً”:

واضح
أن الصوم يجيء هنا كأول وأساس لعملية التجربة. والمعنى واضح أن التجربة ستبدأ من
الجسد أي بصفة أن المسيح حامل البشرية. فبالتالي من حق الشيطان أن يتقدَّم ويجرِّب
المسيح. لذلك لزم للمسيح أن يُعِدَّ جسده أو بشريته للتجربة بالصوم. أمَّا جوع
المسيح بعد هذه المدة فهو إثبات قاطع أن الجسد
الذي يحمله انتهت طاقته في احتمال الانقطاع الكلِّي عن الأكل والشرب عند هذا

الحد.

وعند
هذا الحد تقدَّم الشيطان، لأنها أضعف لحظة للمسيح فيها يستخدم الشيطان الضغط على
الجسد بالجوع والعطش ليقدِّم تجربته. فالجوع يُنشئ “شهوة” للطعام جارفة،
ومن “الشهوة” سابقاً أُسْقِطَ آدم وامرأته. فالشيطان متمرِّس في إسقاط
الإنسان بعراكه مع شهوة الجسد، وهذا هو أول أسلحة الشيطان الكاملة. فتقدَّم
الشيطان رافعاً سلاحه.

 

(ج)”
فتقدَّم إليه المجرِّب وقال له: إن كنت ابن الله فَقُلْ أن تصير هذه الحجارة
خبزاً”:

هنا
استغل الشيطان فرصة الجوع والعطش الشديد ليحرِّك فكر المسيح أن يعمل عملاً يتنافى
مع رسالته ويستخدم لاهوته في إشباع جوعه بدلاً من إشباع جوع مَنْ جاء ليخلِّصهم.
وهنا يكون المسيح قد خضع لمشيئة نفسه بإيحاء من الشيطان، وهي مخالفة صريحة مباشرة
لقانون المسيَّا والخلاص: “لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة
الذي أرسلني” (يو 38: 6). وقد وضع الشيطان تجربته في قالب مناسب غاية
المناسبة. فمنذ قليل وبعد المعمودية جاء الصوت من السماء يؤكِّد أنه ابن الله. فما
المانع أن يتأكِّد هو من هذه الحقيقة، وبسلطان ابن الله يحوِّل الحجارة خبزاً؟
وهكذا يكون الشيطان قد حبك التجربة لتخلخل علاقة المسيح بالآب السماوي وتوحي
للمسيح أن يستقل بإرادته عن مشيئة الآب. وعلى هذا الخبث كان رد المسيح
لينزع سلاح الشيطان الكامل في العمل على استقلال مشيئة الإنسان عن مشيئة الله أو
ابن الله عن الآب!

(د)” فأجاب وقال: مكتوبٌ ليس بالخبز وحده يحيا
الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله”:

هنا
التجاء المسيح وهو ابن الله إلى كلمة الله توضيحٌ لمصدر “الأقوى” عند
المسيح، وهو “سلطان الكلمة” التي بها انتزع سلاح الشيطان الكامل الذي
يقوم على استخدام مشيئة الإنسان بعيداً عن مشيئة الله، أو الابن عن الآب، لتكميل
شهوة الجسد. فالخبز مهما كان ليس هو مصدر حياة الإنسان، بل كلمة الله التي تخرج من
فمه لتُحيي وتُميت.

يُلاحَظ هنا أن رد المسيح: “بكلمة الله التي تخرج من
فمه” (انظر: تث 3: 8) هي بعينها لو
طبقناها على التوراة ككل تصير “كل وصايا الله”.
حيث الاتجاه التعليمي يكون الطاعة لوصايا الله وإرادته،
وهي التي عبَّر عنها المسيح بقوله: “طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني
وأُتمِّم عمله.” (يو
34: 4)

فالشيطان
يستغل الجوع ويُظهر عطفه لئلاَّ يموت الإنسان، مُحرِّضاً إيَّاه ليعمل الخطأ
والممنوع (يسرق مثلاً) لكي يحيا ولا يموت، وردَّ المسيح أن الحياة ليست من الخبز
بل الحياة في كلمة الله.

وهنا
انتهى الشيطان من التجربة القائمة على شهوة الجسد بتكسير سلاحه وانتزاعه. فابتدأ
يصوِّب التجربة الثانية، وهي قائمة على رد المسيح أنَّ بكلمة الله يحيا الإنسان. فهنا تقدَّم الشيطان بمشروعه الثاني
القائم على الاعتماد على كلمة
الله.

(ه)”
ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدَّسة، وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه
مكتوبٌ: أنه
يوصي ملائكته بك،
فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجرٍ رجلك”:

وهذا
وارد حقا في المزمور (91: 11و12).

وهنا
يستخدم الشيطان سلاحه القائم على أساس استخدام كلمة الله للفخار والمجد الذاتي.
فسلاح الشيطان هنا مصوَّب نحو كلمة الله لكي يجعلها أساس التجربة. فبهذه المناسبة
نجد سلاح العدو من نفس صنف سلاح الفرِّيسيين الذين طلبوا من المسيح آية، فكان ردّه
أنه لا تُعطى لهم آية إلاَّ آية يونان النبي، والتي كانت قائمة على استخدام كلمة
الله لتبكيت أهل نينوى وإنذارهم بالهلاك إن لم
يتوبوا. هذا هو سلاح الكلمة الأقوى. فكان رد
المسيح:

(و)”
قال له يسوع: مكتوبٌ أيضاً: لا تجرِّب الرب إلهك”:

هنا
القوة الأقوى انبرت لتحطيم سلاح العدو بسلطان الكلمة نفسه لتظل كلمة الله ضد العدو
قادرة أن تحطِّم أسلحته وفخاخه على أساس أن عدم تجربة الله يستند على الثقة بالله.
وهنا تقدَّم الشيطان بسلاحه الأخير، مصوِّباً إياه نحو رسالة المسيح القائمة على
أساس تحمُّل الآلام والصَّلْب والموت لخلاص العالم، وهي أيضاً مشيئة الله الآب.

(ز)”
ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبلٍ عالٍ جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال
له: أُعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي”:

هنا
سلاح العدو مصوَّب ضد “الآب” نفسه الذي أرسل الابن لخلاص العالم مبذولاً
على الصليب. فقدَّم الشيطان مشروعه في المقابل: أن يكسب العالم كله لحسابه لو عصى
الآب وأطاع الشيطان. وهو بهذا يتجنَّب الآلام والصليب. ولذلك كان رد المسيح حاسماً
وقاطعاً ضد تجربته.

(ح)” حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان! لأنه مكتوبٌ:
للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد”:

على
أساس أن نوال مُلك العالم من دون الله خيانة لله. لذلك فهذا الرد الإلهي يستند على
الأمانة المطلقة لله.

كانت
التجربة الأخيرة التي قدَّمها الشيطان هي نفسها التي كان قد سقط فيها الشيطان
نفسه؛ إذ عصى الله قديماً فأُسقط من رتبته التي كانت رئاسته العُليا على بقية
الملائكة، وأخذ رئاسته السُّفلى على العالم المادي، وذلك بمشيئة الله كمجرِّب أو
كحزب معارضة ضد تعاليم الله، وليمكنه أن يستولي
إن استطاع على الإنسان الذي خلقه الله على صورته
لكي يعبده، والله عالم أنه سيستعيده بقدر ما يكتشف الإنسان الحق. وهكذا انتقلت
رئاسة الشيطان من وضعها الإيجابي الروحي العالي
قبل سقوطه إلى وضعها المادي الأسفل والسالبي، وبدل
أن كانت للخير كخادم لله صارت للشر كمقاوِم ومجرِّب ولكن تحت انضباط الله. هنا
المسيح صوَّب سلاحه الأقوى والغالب لتحطيم سلاح الشيطان الأخير، ذلك بالرجوع إلى
الله مصدر السلطات والمجازاة والعطايا، بأنه يتحتَّم السجود لله وحده والطاعة
الكاملة مع العبادة، مذكِّراً الشيطان بجريمته.

إلى
هنا يكون المسيح قد حطَّم سلاح العدو الكامل وبالتالي ربطه، حيث الرباط والتقييد
هنا هو نتيجة حتمية لتحطيم سلاحه الكامل الذي اعتمد عليه، وهو أنواع المراوغة
ووسائل الخداع لإسقاط الإنسان بعيداً عن الله ووصاياه.

(ط)”
وينهب أمتعته”:
(مت
29: 12)

وبعد
أن ينتزع سلاحه ويربطه “ينهب أمتعته” وهنا عملية الخدمة بطولها، حيث كان
عمل المسيح مُرَكَّزاً بصورة أساسية ومُلفِتة إلى إخراج الشيطان بقوة واقتدار
وسلطان. ففضح الشيطان وحرَّر مئات وربما ألوفاً من الذين كان قد استولى عليهم
الشيطان وصاروا من ممتلكاته أو أمتعته التي يتمتَّع ويتسلَّى بتعذيبها كخليقة الله
التي وقعت في يده فريسة.

وهكذا
ينكشف منهج المسيح بوضوح كيف نزع أسلحته قبل بداية الخدمة وقيَّده، فلم يَعُدْ له قدرة على مواجهة المسيح. ثم نزل المسيح إلى بيت
الشيطان الذي اختبأ فيه هو والأشخاص الذين
استولى عليهم وسكن فيهم سُكنى المتاع والاستمتاع، وهناك أخرجه عنوة وفضحه.
وهذه أمثلة من صراخه:

+
“وإذا هما قد صرخا قائلين: ما لنا ولك يا يسوع ابن الله؟ أجئت إلى هنا قبل
الوقت لتعذِّبنا؟” (مت 29: 8)

+
“آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري. أتيت لتهلكنا. أنا أعرفك مَنْ أنت: قدوس
الله.” (مر 24: 1)

+
“أستحلفك بالله أن لا تعذبني.” (مر 7: 5)

+
“أطلب منك أن لا تعذبني.” (لو 28: 8)

وبهذا
كله كان المسيح يرد على الشيطان فيما عمله في خليقة الله التي أهانها وعذَّبها:
“والمعذَّبون من أرواحٍ نجسةٍ. وكانوا يبرأون.” (لو 18: 6)

هذا
طبعاً مضافاً إليه كشف المسيح لأفكار الشيطان وأعماله في سلوك الناس وتلويث
عبادتهم.

بقيت
في حركات الشيطان وأعماله عملية واحدة لها علاقة هنا بالتجربة “في البرية”
إذ السؤال: لماذا ذهب المسيح بنفسه مُقاداً بالروح إلى “البرية”
ليُجرَّب من إبليس؟ والجواب قدَّمه المسيح في موضع آخر هكذا:

(ي)”
إذا خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء، يطلب راحة ولا يجد.
ثم يقول: أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده فارغاً مكنوساً مزيَّناً.
ثُمَّ يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أُخر أشر منه، فتدخل وتسكن هناك، فتصير أواخر ذلك
الإنسان أشرَّ من أوائله. هكذا يكون أيضاً لهذا الجيل الشرير”
(مت 12: 4345)

واضح
هنا أن البرية هي المكان المفضَّل للعدو الذي يجعله مركز تجمعه وراحته. فالمسيح
بذهابه إلى البرية، دخل إلى الشيطان في عقر داره بصفته الأقوى، ونازله وانتزع
أسلحته وربطه ونزل إلى الخدمة ونهب أمتعته.

(ك)”
ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين”
(لو 13: 4)

واضح
من هذه الآية، أنه بعد أن فقد الشيطان جولته مع المسيح وخرج منهزماً ومربوطاً،
فارقه إلى حين، بمعنى فارقه ليتقابل معه على الصليب؛ حيث أنهى المسيح معه جولته
الأخيرة وانتزع كل سلطانه المؤسَّس على الخطية التي هي آخر أسلحته وأمضاها:

+
“مسامحاً لكم بجميع الخطايا، إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان
ضدًّا لنا، وقد رَفَعَهُ من الوسط (بيننا وبين الله) مسمِّراً إياه بالصليب، إذ
جرَّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهاراً، ظافراً بهم فيه.” (كو 2: 1315)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى