علم المسيح

تمهيد:



تمهيد:

تمهيد:

ما قبل ميلاد المسيح

حياة
المسيح هي “حياة” رسمها الله لإنسان هو يسوع المسيح، يحمل اسمه
وصورته، ليصنع مشيئته ويتمِّم عمله. تبدأ بدايتها حتماً من السماء إنما مخفية، لا
عن قصد بل عن اضطرار. والاضطرار حتَّمه قصور وعي الإنسان عن إدراك الإلهيات
ورؤيتها، فأُخفيت عنه إلى أن ينفتح وعيه فيدركها من نفسه. فإن أدركها صار شريكاً
فيها لأنها أُرسلت وجاءت من أجله؛ وهي حق، والحق دائماً كل مَنْ أدركه ووعاه يكون
قد احتواه.

وقد
تضافرت كلٌّ من السماء والأرض في الإعداد لظهور المسيح، ولكل وجه منهما دور، هو
متعة للتأمُّل، متقن غاية الإتقان، يكشف عن تدبير سمائي محكم ليعبِّر عن مقاصد
الله وحبِّه للإنسان، الأمر الذي يوفِّر للإنسان الأمل الوثيق والرجاء الحي بنهاية
سعيدة في شخص المسيح تعوِّضه عن أحزانه وشقائه في هذا الدهر. فالمسيح بحد ذاته
تعبير عن محبة الله، وعن مشيئته المباركة لإدخال السرور والفرح في قلب الإنسان.

 

الوجه
الأول:

السماء تتهيَّأ لنزول الابن

لقد
تبارى مؤلفو قصة “حياة المسيح” فيما سلف من العصور لكي تأتي مطابقة
تماماً لما سجَّلته الأناجيل الأربعة بدءًا من الميلاد وعبوراً بالعماد، وبعدها
مرحلة الكرازة أي الخدمة والتعليم، ثم تُختم بالصَّلب والموت ويلي
ذلك لمحة عن أخبار القيامة.

ولكن
الآن وقد تفتَّح الوعي المسيحي، وازدادت معرفة الإنسان، وازدادت بالتالي طموحاته
في معرفة الأمور الفائقة، فبات الإنسان متعطِّشاً أن يعرف ما يخص المسيح في وجوده
السابق على ميلاده. وقد أعطانا إنجيل القديس يوحنا، وهو الرابع بين الأناجيل، لمحة
عن حياة المسيح في وجوده السابق على ميلاده إنما في اختصار شديد فيقول:

+
“في البدء كان الكلمة،
والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة
الله، هذا كان في البدء عند الله.” (يو 1: 1و2)

 وبعدها
يدخل على الميلاد فيقول: “والكلمة صار جسداً.” (يو 14: 1)

وبالرغم
من ذلك الاختصار والغموض، فنحن نشكر الله على ذلك كثيراً، إذ أن هذا هو أول شعاع
من نور المعرفة الإلهية وصل إلى وعينا فيما يخص وجود المسيح السابق على ميلاده،
موضِّحاً أن هناك بدءًا آخر عند الله فيما يخص أمور الله غير البدء الزمني الذي
تحدَّد بالخلق. والبدء الذي يخص أمور الله هو أيضاً البدء الإعلاني أو بدء
استعلان الله لنا،
فهو بدء يخصّنا أيضاً ولكن في الأمور التي لله.

هنا
نبدأ في وضع سيرة المسيح التي هي في أصلها محاولة لاستعلانه فيما يخصُّه من أمور
الله، وهذا يخصّنا أيضاً، لأن هذه السيرة استعلان معرفة تختص بحياتنا ومستقبلنا.
بمعنى أنها محاولة لمعرفة حقيقته الإلهية المخفية وراء شخصيته الإنسانية، والتي
تبدو في كثير من مراحلها أنها صورة إنسانية عادية، وهي في الحقيقة أكثر من ذلك
بكثير. لذلك فمحاولة كشف حقيقة المسيح فيما يخص الله فيه، تدخل مباشرة في مفهوم
الاستعلان. فالاستعلان هو كشف حقائق المسيح التي تفوق الأمور العادية للإنسان وهي
كثيرة وقوية.

على
أن إنجيل القديس يوحنا لم يَعْبُرْ على تعريف المسيح “بالكلمة”
الذي كان عند الله دون أن يشير إلى أعماله الإلهية قبل التجسُّد، وإن كانت في عمق
الزمن، فقد سجَّل لنا أن الكلمة هو الذي خلق العالم أو أن الله خلق العالم “بالكلمة”:
” كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة والحياة كانت
نور الناس”
(يو 1: 3و4)

وهكذا، وفي الحال، يرتفع مفهومنا عن طبيعة “الكلمة”
أنها منزَّهة عن
الخليقة، وهذا ينعكس بدوره على “الكلمة
المتجسِّد” أي المسيح، فبالرغم من أنه أخذ جسداً وصار في الهيئة كإنسان إلاَّ
أنه ظلَّ يسمو فوق الخليقة، إذ يُحسب أنه “الكلمة” خالق الجميع.
ويبتدئ تجسُّده يأخذ معنىً قوياً عميقاً بديعاً كونه نزل إلى خليقته ليفديها، لا
ليتحوَّل إليها؛ بل ليرفعها إليه. وأخذ جسداً منها بقصد أن يلتحم بها، حتى بهذا
الجسد يصير شريك آلامها وموتها، ثم بلاهوته يرفعها من الموت بقيامته ويعطيها
الحياة ويورِّثها ميراثه في المجد.

كيف
جاء المسيح إلى التجسُّد أو كيف صار إنساناً؟

لكي
يأخذ ابن الله “الكلمة” جسداً ليظهر فيه كان لابد أن يتخلَّى عن
أمجاد لاهوته التي لا تحتملها أعين البشر ولا إدراكهم. فالحواس البشرية وقوة
الإدراك عند الإنسان محصورة في محيط الماديات. لذلك فحينما كان الله يتكلَّم مع
الأنبياء كانوا يدخلون في حالة غيبوبة أو إغماءة ليتخلَّصوا من حدود الجسديات
وإدراكاتها العقلية؛ لكي يتسنَّى لهم أن يروا ما هو فائق عن حواس النظر، ويسمعوا
ما هو فائق عن حواس السمع، وأن يدركوا ما هو أعلى من إدراكات العقل والفكر البشري.
وهكذا كانوا يتقبَّلون إعلانات الله وتوجيهاته ووصاياه ليوصِّلوها للشعب. ولكن
الله هذه المرَّة أراد أن يتصل هو بالناس بنفسه، ويكلِّمهم ويفتح مداركهم،
ويقنعهم بأمور الله أي أموره الخاصة بلا واسطة؛ فكان لابد أن يكون على مستوى
حواسهم وإدراكاتهم، وله كل ما لهم حتى لا يستغربوه أو يرتعبوا منه.

فكان
أهم وأخطر عمل قام به “الكلمة” قبل التجسُّد أنه أخفى أو تخلَّى
عن كل مظاهر ألوهيته. وكان هذا التخلِّي عن أمجاده الظاهرة التي ترعب الإنسان هي
البداية الحقيقية الرسمية في رسالة الله بواسطة “الكلمة”
المتجسِّد أي المسيح. إذ جعلته للتو قادراً أن يأخذ جسداً ويحل فيه بكامل كيانه
وطبيعته الإلهية دون أن يكون ظاهراً في شيء من لاهوته. وهكذا ظهر “الكلمة”
ابن الله الروح الكامل المطلق في جسد إنسان وصار إنساناً كاملاً دون أن يلحظه
إلاَّ الذين اشتركوا في أسرار ظهوره بالميلاد. ودور الإخلاء هذا الذي أكمله ابن
الله في نفسه من وضعه الإلهي الروحاني الفائق إلى حالة قابلة للتجسُّد كان هو
كما قلنا بدء عمل الله في السماء في الخفاء لخلاص الإنسان.

وعندنا
آيتان رائدتان تحكيان عن هذا العمل الإلهي العظيم:

الآية
الأُولى:
تكشف
عن تصميم الله الآب على بدء خلاص الإنسان بعملية فدية عظمى يتحمَّلها كل من الله
الآب والابن دون تكليف الإنسان بأي جهد، وفيها تظهر محبة الله للعالم كله. والآية
واردة في إنجيل القديس يوحنا على فم المسيح:

+” لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد،
لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية. لأنه لم يُرسل الله ابنه
إلى العالم ليدين العالم، بل ليَخْلُص به العالم”
(يو 3: 16و17)

الآية
الثانية:
وردت
بالوحي الإلهي على لسان بولس الرسول، وتكشف بوضوح وباستعلان عن عمل “الابن الكلمة
قبل أن ينزل إلى العالم كيف أخلى ذاته:

+ “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً:
الذي إذ كان في صورة الله، لم يَحسِبْ
خُلسَةً أن يكون
معادلاً لله (كالابن). لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبدٍ، صائراً في شبه
الناس. وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسانٍ،
وضع نفسه
وأطاع (أباه) حتى الموت موت الصليب.” (في 2: 5-8)

واضح
هنا أن الله الآب بذل ابنه الذي تجسَّد، بأن قدَّمه للموت بسبب حب الله للعالم،
حتى يُخلِّص ويفدي كل إنسان يقبل الفدية الشخصية التي قُدِّمت عنه من أجل نفسه
وحياته. أمَّا الابن فأطاع مشيئة الآب وقَبِلَ أن يبذل نفسه على الصليب ويموت من
أجل خلاص العالم حبًّا في الإنسان، كل إنسان، كل مَنْ يقبل؛ إذ قدَّم الابن نفسه
في طاعة الآب حتى الموت موت الصليب من أجل كل مَنْ يؤمن.

وبهذا انتهى دور السماء: الآب والابن؛ الآب شاء، والابن
قَبِلَ تنفيذ

المشيئة، الذي على أساسه بدأت الأرض تتحرَّك لاستقبال هذا الحدث الإلهي العظيم.

ملاحظة
هامة:

الموضوع
الخاص بالآب والابن والروح القدس في الله الواحد شرحناها في مواضع كثيرة. وباختصار
شديد، هي صفات الذات الإلهية الواحدة الفاعلة والفعَّالة في الخلق، التي استُعلنت
لنا في صفات الأبوَّة الذاتية والبنوَّة الذاتية والحياة الأبدية في الله. وهي
الصفات التي انبعثت منها كل أبوَّة وكل بنوَّة وكل حياة في الخليقة. والمثل الحي
على ذلك أن كل ذات بشرية كاملة هي بنوَّة وأبوَّة وحياة، فكل إنسان هو ابن وأب بآن
واحد وهو حي له روح. هذه الثلاثة هي واحد في كل ذات بشرية واحدة، لذلك قيل إن الله
خلق الإنسان على صورته، ولأن الذات البشرية متغيرة وزائلة لزم الزواج لبقاء الذات
البشرية. أمَّا ذات الله فليس بمتغيِّرة ولا
زائلة، فامتنع أن يكون لله زوجة لأنه باق حي هو كما هو منذ الأزل وإلى

الأبد.

 

الوجه
الثاني:

الأرض تتهيَّأ لاستقبال الابن متجسِّداً

ثلاث
فئات أساسية على الأرض قامت كل منها بدورها دون أن تدري في الإعداد للكلمة
المتجسِّد الآتي إلى العالم:

أولاً:
اليهود في العالم.

ثانياً:
العالم الوثني.

ثالثاً:
اليونان والامبراطورية الرومانية.

أولاً:
اليهود في العالم

نحاول
الآن وضع خريطة روحية إن صحَّ هذا التعبير للعالم بكل
فئاته ذات الصلة بمجيء المسيح وذلك قبل مجيئه،
واضعين نصب أعيننا العوامل الإيجابية والتطلُّعات الناجحة عند كل
الطوائف، ذاكرين ما يمكن أن نعتبره أنه كان إعداداً
إيجابياً لتقبُّل البشارة بالإنجيل وميلاد المسيحية
في العالم.

فإذا
ابتدأنا باليهود فأمامنا المعيار الروحي الذي عبَّر به المسيح نفسه عن وضع الأُمة
اليهودية في العالم كمتقبِّلة لمجيء المسيح بقوله للسامرية: “الخلاص هو من
اليهود” (يو 22: 4)، حيث كانت تمثِّل المرأة السامرية أمامه العالم الوثني
المتعطِّش لله وانتظار المسيَّا، كقول السامرية بالرغم من حالها الذي كان صورة
صادقة مفضوحة لحال الوثنية كلها آنئذ، كما يتضح في هذا الحوار:

المسيح:

أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أمَّا نحن (اليهود) فنسجد
لما نعلم لأن الخلاص هو من اليهود.

ولكن تأتي ساعة وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون
للآب بالروح والحق،

لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له، الله روح، والذين
يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.

السامرية:

أنا
أعلم أن مسيَّا الذي يُقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء.

المسيح:

أنا
الذي أُكلِّمك هو!” (يو 4: 2226)

 

كانت
اليهودية في وسط ظلام العالم الوثني، كالعُلَّيقة([1])
المشتعلة بالنار، تضيء ولا تحترق، تضيء بمعرفتها ليهوه العظيم (الله)، ولكن
لا تحترق بالرغم من الجو الفاسد الوثني الذي يحيط بها. فكان ناموسها المقدَّس محل
رهبة واحترام في العالم كله، والذي كان يمهِّد لاستقبال المسيحية التي كانت قد
قاربت أن تعطي صرختها الأولى بميلاد المسيح.

بدأت
اليهودية بإبراهيم الذي صار رمزاً للإيمان في كل العالم، وبنفر قليل تغرَّب
إسرائيل في مصر حيث تثقَّف هذا الشعب بثقافة أعظم دولة في العالم آنئذ، فتوفَّرت
له عناصر تكوين أُمة، أخذت صورتها في داخل مصر كأُمة مهاجرة استقت من علوم
المصريين وثقافتهم وآدابهم وأسرارهم في تنظيم حياة الأفراد والشعب والحكومة. ثم
تدرَّب فيها أقوى شخصية ظهرت في التاريخ: موسى العملاق الذي تربَّى في بيت فرعون
نفسه ونَقَلَ من الملوكية المصرية ما نَقَل من أسرار عملت كلها بعد ذلك لحساب يهوه
الله. ولمَّا جاء زمن خروجها (إسرائيل) كانت قد أخذت صورتها الكاملة كأُمة متماسكة
وُلِدت يوم هجرتها، لتعولها في البرية يد الله أربعين سنة وتُزيح عنها ما لصق بها
من نجاسات الوثنية و”أرجاس المصريين”. وبجيل جديد وُلِد لها في هذا
المعزل الأخلاقي، دخلت اليهودية كنعان لترث أُمماً كثيرة وتقوم على أنقاض شعوب
بلعتها وأذابتها في جسمها.

بَلَغَتْ
اليهودية أوج عظمتها أيام داود الملك المختار من الله والموهوب “مرنِّم
إسرائيل الحلو” (2صم 1: 23)، واضع أناشيد الأُمة لتصبح أعظم تراث حضاري ديني
في العالم، يكفي لبناء روح أُمة بل وكل الأُمم، وهو لا يزال نبع المسيحية العتيق
الذي لم يَأْسَن([2])
ماؤه، كل مَنْ استقاه ارتوى بروح الله، وكأنه ينبع من مرتفعات الله السرِّية
لينحدر منها جديداً كل يوم.

وبهذا،
وبغير هذا، فاليهودية كانت مدرسة العالم صاحبة ثقافة وضعها لها الله على يد
أنبيائه، لتظل مصباح العالم ليهتدي به الإنسان المتغرِّب على الأرض
فكانت وهي لا تدري تحمل للعالم سهماً من نور يتغلغل أعماقها وأجيالها، ينتقل من
جيل إلى جيل حاملاً بركات إبراهيم وعهد الله معه كوعد إلهي: أن بنسله تتبارك كل
أُمم الأرض فكان اليهود يعيشون وكأنهم يعيشون من أجل العالم، محتفظين
بهذا السهم المضيء في أيامهم المشرقة كما في سنيِّهم الحزينة تحت السبي والتأديب،
ليستودعوه بالنهاية في حضن الأُمم.

أمَّا
حُرَّاس هذا الوعد الإلهي فكانوا نخبة من أعظم ما أنجبت الأرض من رجال: موسى
المشرِّع الأول في العالم والقائد العظيم الذي قاد أُمَّة من مليونين ويزيد([3])
في صحراء جرداء وبرية بلا ماء ولا غذاء لأربعين سنة، في رحلة احتُسبت أقوى
منجزات الإنسان في الترحال على وجه الأرض ومن بعد موسى جاء داود
النبي المُلْهَم الذي ارتفع بمستوى مملكته حتى صارت المملكة الروحية الأُولى في
العالم التي يقودها الله، وكأن الله فيها يجلس على عرشه غير المنظور فتخلَّدت
“مملكة أبينا داود” لتصبح الصورة المصغَّرة لملكوت الله الذي باتت تحلم
به الشعوب. ومن نسل داود تعيَّن النسل الموعود بحسب الجسد أن يجلس على كرسيه إلى
الأبد. وينتقل ثقل النور من داود إلى إشعياء عظيم الأنبياء الذي نسَّق نبوَّاته
لِتَصْلُحَ أن تكون تاريخاً حيًّا نبويًّا قبل التاريخ، تؤرِّخ بالروح للمسيَّا
الموعود، النسل المقدَّس، وتخصَّص في أن يصف أيامه أيام المسيَّا
منذ أن حُبل به في البطن وذُكر اسمه بفم الله وذُكرت أيامه المشرقة ورئاسته للسلام
الذي بلا نهاية: “مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام.. على كرسيِّ
داود وعلى مملكته ليثبِّتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلى الأبد”
(إش 9: 6و7). ووصفه كيف تعظَّم وارتفع بحكمته وعلمه وروحه، ثم دخل ليل أحزانه
التي ختمها بالموت على الصليب. وهكذا حُسب إشعياء أنه النبي الإنجيلي. كما أنجبت
إسرائيل إيليا، وإن كان الأسبق على إشعياء، ولكنه اضطلع بروحه أخيراً في المعمدان
ليكون السابق الصابغ للمسيَّا. وقد حضر من وراء حُجب الزمان السحيق ومعه موسى
يوم تجلِّي المسيح على جبل تابور إيليا عن الأنبياء، وموسى عن
الناموس؛ يُسَلِّمان معاً ليد المسيَّا كل الميراث والتراث والمواعيد: التوراة
والناموس بيد موسى، والأنبياء جميعاً بيد إيليا، لأن مسيَّا الذي جاء ليكمِّل،
يكمِّل ما عمله موسى وما تنبأ به الأنبياء! وهكذا حُفظت الوديعة بأفضل وأبرع حُرَّاس
الموعد، إلى أن حطَّ سهم النور فوق قدوس إسرائيل.

ولكن
السنين أنهكت هذه الأُمة خاصة بسبب طولها وامتدادها، وقسوة الأيام التي مرَّت بها
بين الشعوب التي آلت إلى ضعف لها وأمراض استعصت على جميع الأنبياء، فشرورهم كانت
مريعة ومرعبة: جافوا يهوه إلههم وأعطوه الظهر والقفا دون الوجه: “طول النهار
بسطت يديَّ إلى شعب معاند ومقاوم” (رو 21: 10، انظر أيضاً إش 2: 65)،
وتباعد قلب الأُمة عن الله، فتباعد عنها الله حتى أصبحت أُمة بلا إله!! بالرغم من
كل المظاهر الادِّعائية المتلبِّسة بالتقوى والتديُّن الكاذب.

ومن
محاسن أعمال داود التي يذكرها له التاريخ حتى اليوم أنه جعل أُورشليم مدينة ذات
صبغة ملكية إلهية: “مدينة الملك العظيم” وهيكلها “بيت الله”
يحج إليها يهود العالم من جميع أقطاره وأرجائه، يأتونها كفريضة دهرية ليقدِّموا
خضوعهم ليهوه إلههم الخاص ملك الملوك ورب الأرباب. يتملأون من بركاتها وقداستها
وترابها وحجارتها وعمرها الخالد المديد، زاداً يتزوَّدون به كل سنة وإلى مدى
العمر. وكان اليهودي لا يتراءى أمام الله فارغاً، فكانت أُورشليم عاصمة الغِنَى
والمجد لكل العالم. وبالرغم من هذا الامتداد الذي أجراه الملوك الأوائل والاتساعات
بين الشعوب، حافظ اليهود على عزلتهم الشديدة وبأضيق حدود يحتملها شعب وتطبِّقها
أُمة، سواء في لغتهم الخاصة أو اتصالاتهم الضيقة وعاداتهم الغريبة؛ فكان هذا من
الأسباب التي أبقت على كيان اليهود كأُمة حتى اليوم، بالرغم من تشرذمهم في كل
أقطار العالم، والسبي الذي عانته الأُمة بكاملها لسبعين سنة، إذ كان ناموسهم
بمثابة السياج الذي استحال على كل قوى العالم أن تخترقه. فحينما كان الوثني يحمل
آلهته معه بين أمتعته في ترحاله، كان اليهودي يسعى إلى يهوه في أُورشليم من أقاصي
الدنيا. وهذا ضَمِنَ احتفاظ اليهود بتمركزهم في مدينة وطنهم ليقارب بين أُلفتهم
ووحدتهم معاً مهما تعدَّدت لغاتهم وأوطانهم التي سكنوا فيها. هذا صار واضحاً، لأن
بابل التي سبتهم سبياً مريراً وحرمتهم من ديارهم، ما برحت أن انحطَّت عظمتها
للتراب ودفنت مدنيتها مع كنوزها وهياكلها، فلم يَعُدْ لها وجودٌ إلاَّ بالذكرى على
صفحات التاريخ. بينما نجد اليهود يجدِّدون كيانهم إثر كل كارثة ويعيشون تاريخهم
ومجدهم وعبادتهم حتى وإن جار عليهم الزمان.

وهكذا
حفظت إسرائيل في جسمها وكيانها تاريخها وكل وعودها، وبقيت رغم آلاف السنين التي
عبرت عليها شاهدة على معاملات الله، حافظة للمواعيد، وإن لم تنتفع بها. ولكن تدهور
إسرائيل لم يؤهِّلها لحكم ذاتها وسط الأُمم التي أحاطتها والتي ارتفع قرنها عليها.
فشاء الله أن تدخل إسرائيل تحت عبودية وانضباط الامبراطورية الرومانية. فغزاها
بومبي سنة 63 ق.م وهي السنة التي وُلِدَ فيها أغسطس قيصر، وعيَّن لهم بومبي ملكاً
أدومياً هو “هيرودس”، وأولاده من بعده، كما دخل بعد ذلك حكم الولاة
الرومانيين ممَّا زاد سخط اليهود، لأن بدخولهم تحت الامبراطورية الرومانية دخلوا
تحت قبضة الوثنية عدوِّهم الألد. فباتوا يئنُّون، وأهاج ذلك فيهم شعور الانتظار
والترقُّب للمسيَّا رجائهم الأخير.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى