علم المسيح

ثانياً: العالم الوثني يتهيَّأ



ثانياً: العالم الوثني يتهيَّأ

ثانياً:
العالم الوثني يتهيَّأ

حينما
نتكلَّم عن الوثنية لا ينبغي أن ننسى أنها بشرية أجدادنا، كنَّا مهما كنَّا،
مصريين أو هنوداً أو إنجليزاً أو فرنسيين أو أمريكاناً أو أسيويين، وهي أيضاً كانت
تحت عناية الله، وإن لم يتوفَّر لها مساعدة علوية لتهذيب أخلاقها أو لإنارة الطريق
أمامها للتقدُّم الروحي. ولكنها أبدت في مُجْمَلها محاولات جبَّارة للتعرُّف على
الله إنما بوسائلها البدائية. فآلهة المصريين وآلهة اليونان وغيرهم كلُّها كانت
محاولات للتقرُّب من الإله الواحد. وبالرغم من حرمانها من كل ما تمتَّع به اليهود
من تدخلات الله سواء بالأنبياء أو الملهمين، وبالرغم من أنها بلغت هي أيضاً الحد
الأقصى في جهالاتها، لكنها سعت حثيثاً للتعرُّف على الحقيقة، حتى أوتي لهم في
النهاية أن يتعرَّفوا على المسيَّا في الوقت الذي لم يتعرَّف عليه اليهود. فكرازة
بولس الرسول بالمسيحية في كل مدن آسيا واليونان وروما أدَّت إلى تقدُّم الإنجيل
بين الأُمم بأسرع مما تقدَّم به الإنجيل في إسرائيل ذاتها.

وهكذا
استطاعت الوثنية أن تلاحق إسرائيل في تعرُّفها على الله الواحد والإيمان والحق عن
طريق المسيح، وتختزل ألفين من السنين عاشتها إسرائيل قبلها مدلَّلة تحت عناية الله
الخاصة جداً وإرشاد أنبيائها وتهذيب الناموس. وأوضح وصف توصف به محاولات الوثنية
في تقرُّبها وعبادتها لآلهتها ما وصفها به بولس الرسول: ” أنتم تعبدون
إلهاً مجهولاً”
(أع 23: 17)، وهذا ما قاله المسيح للسامرية: “أنتم
تسجدون لما لستم تعلمون” (يو 22: 4). والملاحَظ في مستوى التعليم وسرعة
الاستجابة أن السامرية أبدت استعداداً أسرع وأقوى وأصدق في تقبُّلها للمسيَّا
والحق الإلهي والعبادة الصحيحة من نيقوديموس عضو السنهدرين. والمُعلِّم كان واحداً
وهو المسيح!!

والمحاولات
الجادة والصارخة إلى حد تقطيع أجسادهم بالسكاكين، التي كانت تقدِّمها الوثنية في
عبادتها لله، توضِّح إلى أي مدى من الجدِّية والإخلاص والتضحية بلغت الأُمم في
سبيل التقرُّب إلى الله ولكن بوسائل خاطئة. كما كانت تُعبِّر أيضاً عن الإحساس
بالبعد عن الله. وكانوا يجيزون أولادهم في النار وأحياناً يذبحونهم إمعاناً في
التقرُّب الصادق، ولكن عن جهالة. فالإنسان هو الإنسان نازعٌ دائماً نحو خالقه
طالبٌ الحق، ولكن يعوزه الطريق. والأوضاع التي واجهها المسيح في تقابله مع
الوثنيين في إسرائيل توضِّح مدى توقيرهم لله والحق إذا ما أحسُّوا به. فسلوك قائد
المائة وهو روماني وثني تجاه المسيح جعل المسيح يشهد لصدق إيمانه: “الحق أقول
لكم: لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا” (مت 8: 510).
وقصة المرأة الكنعانية وهي وثنية، التي صارت أمثولة بيننا، تبكِّت إيماننا وتُخجل
تواضعنا، كيف كان ردُّها على المسيح وهو يقول لها: “ليس حسناً أن يؤخذ خبز
البنين ويُعطى للكلاب” فترد عليه: “نعم يا سيد. والكلاب أيضاً تأكل من
الفُتات الذي يسقط من مائدة أربابها” مما جعله يشهد أيضاً لإيمانها: “يا
امرأة، عظيم إيمانكِ! ليكن لك كما تريدين. فشُفيت ابنتها من تلك الساعة.” (مت
28: 15)

ويعوزني
ضيق المساحة أن أحكي للقارئ عن الشخصية المهيبة للمدعو ملكي صادق والملقَّب كاهن
الله العلي، النموذج الأعلى للكهنوت، الذي جاء المسيح على مستواه! وهو أصلاً ظهر
كصديق لإبراهيم ومشير له، الذي عَضَدَ إبراهيم بخبز وخمر بمفهومهما السرِّي جداً
وباركه، وتقبَّل هو من إبراهيم العشور كنائب عن الله. هذا يخشى القلم أن يصفه
“بالوثنية” وهو المحسوب رأساً روحياً بحد ذاته، الذي كان موجوداً قبل
إبراهيم، وهو لا يمتُّ لا لإبراهيم ولا للعبرانيين بصلة.

كذلك
يثرون حمو موسى كاهن مديان الذي عَضَدَ موسى وأعطاه ابنته، وكان له كما كان ملكي
صادق لإبراهيم. أشخاص أمميون متفوِّقون عن نظرائهم من اليهود في الإيمان والإخلاص
لله. وراعوث الموآبية التي تشرَّفت أن يأتي المسيح من نسلها، وأرملة صرفة صيدا
التي عالت إيليا النبي وهو مُطارَد، وحيرام ملك صور الصديق الحميم لداود الذي
لولاه ما بنى سليمان هيكلاً لله. وملكة سبأ التي جاءت من أقصى الجنوب لترى سليمان
وتسمع حكمته. ونعمان السرياني ضابط أرام الذي تخطَّى حدود العداوة لإسرائيل وجاء
من بلاده البعيدة يطلب صلاة نبي في إسرائيل.

بل
ويكفي العالم الوثني أن يُنجب شخصية كأيوب الصدِّيق الذي صار مثلاً في فم الله
للإيمان والصبر والشكر والحكمة. وهوذا بلعام بن بعور النبي الذي كان يرى رؤى
القدير وهو مطروح مفتوح العينين، الذي التزم بأوامر الله ولم يخرج عمَّا أعطاه أن
يتكلَّم به حرفاً واحداً، بالرغم من الوعد والوعيد.

كل
هؤلاء أشخاص تألَّقوا في سماء الوثنية في العهد القديم، تفتخر بهم البشرية التي
أنجبتهم وهي بلا إله ولا أنبياء!! وعندنا أيضاً أشخاص إذا ارتفعنا إلى مستوى مواهب
الحكمة والمعرفة والعقل المتقن في وسط الوثنية، لا نعدم منهم جبابرة ذوي قامات
وهامات شامخة ينحني تحت ضياء فلسفتها وبلاغتها وحكمتها هامات أعظم العلماء في
حاضرنا. لم يكن يعوزهم إلاَّ ختم الروح القدس والتعرُّف على سر الحق فقط. وهم على
مستوى أعاظم أنبياء إسرائيل: سقراط وأفلاطون وأرسطو وبندار وسوفوكليس وشيشرون
وفرجيل وسينكا وبلوتارخ، هؤلاء محسوبون كمنح ممتازة فوق العادة للعالم الوثني من
قِبَلِ الله! يهذِّبون عالمهم أدبيًّا وفكريًّا وخُلقيًّا حتى لا يتعوَّق أو
يتأخَّر عالمهم عن حركة التدبير العام للعالم كله ليصلحوا لاستقبال النور الإلهي.
وهؤلاء الحكماء جميعاً هم شهود “الكلمة”، نبع الحكمة العقلية في
عصر الظلام، كشعاع من نور ألقاه “الكلمة” في عقولهم ليضيء من
بُعد بالحكمة والبلاغة والفلسفة والفن والجمال والمعرفة والأدب والشعر، بصور نادرة
المثال تحكي عن قمة المواهب المنسكبة عليهم مجَّاناً والتي ملأت كل روما وبلاد
اليونان، ولم يكن يعوزها إلاَّ سر الروح، وكأنما كانوا يمهِّدون لأقدام بولس
الرسول ليرسي فوقها سر المسيح. ولمَّا دخلتهم المسيحية أخصبوها واستناروا وأناروا.
وهكذا جاءت المسيحية لترث أمجاد العالم الوثني ليدخل ضمن نسيجها الروحي. وهكذا
اقتسمت المسيحية العالم لنفسها: اليهود بميراثهم الزاخر بكنوز الحكمة الإلهية،
واليونان بلغتهم المتقنة وفنونهم وآدابهم، والرومان بقانونهم وأنظمتهم السياسية
وحكومتهم المتقنة ضبطاً وإدارة.

ويوم
كتب بيلاطس البنطي عنوان المسيح المصلوب فوق رأسه بالثلاث لغات: اليهودية
واليونانية واللاتينية، كان ذلك إيذاناً برفع العداوة بينهم ودخولهم في شركة
المصلوب، لقيادة العالم الجديد باتجاهاته الجديدة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى