علم المسيح

حضور المسيح



حضور المسيح

حضور المسيح

. كان
علي يسوع أن يعود إلي أبيه، وعلي الناس أن يحرموا رؤيته. ولكنه، وإن غاب، فقد ثبتت
رسالته، وكان علي التلاميذ أن يذيعوها في الأرض، تنفيذاً لما أمروا به. بعد بضعة
أجيال، كان بذار الحقيقة كالحنطة التي في مثل الإنجيل، قد ألقي في جميع حقول الإمبراطورية،
وأخذ يحمل حصاداً عجاباً، وإذا بتعليم ذاك المقهور، في أقل من ثلاث مائة سنة، قد
اجتاح العالم. وذلك، لعمري، سر آخر يعجب به التاريخ، ويشهد للمسيح بطريقة أخري

 

. لكن
ألم يترك المسيح، حين صعوده إلي السماء، سوي رسالته؟ إن الإنسان، إذا زال عن وجه
الدنيا، لا يبقى منه سوي ذكري وبضع كلمات مدونة أو مرددة، وأعظم العباقرة، إذا
استذكرهم الناس من خلال مآثرهم أو تعاليمهم، بدوا كأنهم رسوم متحجرة. وأما الله
الحي، فالذي خلد منه علي الأرض إنما هو حضوره، فضلاً عن تعليمه. فالمسيحية، من حيث
هي إيمان، ليست انتحال مذهب فلسفي، بل هي أكثر من ذلك: اتحاد بالمسيح يقضي باندماج
الذات في نموذجها: وما يدعوه المسيحيون “نعمة”، إنما هو امتداد حياة
الله المتجسد، في كل منا

 

. في
النص الإنجيلي الذي يروي حياة يسوع الثانية، نقع علي حادث غاية في البسطاء، ولكنه
حافل بثروة روحية مضمرة. وقد رواه البشير لوقا (24: 13 – 35) وأثبته البشير مرقس
(16: 12). وهو حادث ظهور المسيح، في طريق عمواس، لاثنين من تلاميذه، خاملي الذكر،
رجلين من بين الناس. وقد باتا في الكنيسة، بعد الرسل الاثني عشر والنساء الفاضلات،
أول الأعضاء الذين نجد لهم في العهد الجديد ذكراً مبسطاً. ولعل المسيح ما آثرهما
بذاك الكشف الخاص، إلا لأنهما كانا كباقي الناس، ولأنهما كانا باكورة وصورة مسبقة
لكل خافت الذكر في قطيع المسيح. لقد أحبا يسوع من مجامع نفسيهما، ولكنهما لم يفهما
رسالته فهماً كاملاً، فباتا يحملانها علي مفهومها الزمني. وكان اسم أحدهما كلوبا
وهذا جل ما نعرف عنهما

 

.
كانا ذاهبين، والغم ملء فؤادهما، مما شاهداه من مأساة الصليب. هل كانت عمواس –
القرية التي كانا شاخصين إليها، – هي مسقط رأسهما؟ وهل كانا راجعين لاستعادة
مهامهما اليومية، – تلك المهام التافهة التي يعني بها الآدميون – بعد أن فشلت
المغامرة الكبرى التي كانت قد انتزعتهما فترة من الزمن، من مألوف حياتهما، وسمت
بهما فوق ذاتيتهما؟ يتجادل اليوم في تحديد موقع عمواس الإنجيل. فالبعض يجعلونها في
” القبيبة”، وهي قرية تبعد عن أورشليم نحو ستين غلوة (12 كيلو متراً
تقريباً)، وهو الرقم الذي أثبته البشير لوقا.. والآخرون يجعلونها في
“عمواس” الحالية (أي نيقوبولس القديمة)، مراعين في ذلك أقدم التقاليد،
إلا أن عمواس الحالية تبعد عن أورشليم 160 غلوة (30 كيلو متراً)، وفي ذلك ما يجعل
مستعبداً سفر التلميذين ذهاباً وإياباً في ذات النهار. وعمواس هذه هي اليوم، عند
حواشي أكمة يمتد منها النظر إلي حقول يافا، قرية صغيرة وضاءة، شبيهة بكثير من
القرى الأخرى، يسروها وجميزها ومنازلها المكعبة البيضاء، وساقيتها الصغيرة
المتعرجة في قاع واد أغبر. ويقوم في الأطرون، علي مقربة من القرية، دير للرهبان
الترابيست، لم يكتفوا بأداء شهادة العبادة المسيحية، حيث ريما ظهر المسيح، بل
حولوا، بكدهم، تلك البقعة المقفرة إلي جنة زاهية بالكروم وأشجار البرتقال
والزيتون، وبسطوا، بأعراق جبينهم، فوق هاتيك الآكام الصهباء، وشاحاً من السبل
الأشقر، وإنه ليتبادر إلي الذهن صورة البركة الإلهية، دليلاً حياً علي أن النعمة
قد عرجت بذاك المكان

 

.
“وفيما هما يتحدثان ويتباحثان، دنا إليهما يسوع نفسه، وأخذ يسير معهما. إلا
أن أعينهما قد أمسكت عن معرفته، فقال لهما: “ما هذه الأقوال التي تتبادلانها
في طريقكما؟”، فوقفا واجمين. ثم أجاب واحد منهما، اسمه كلوبا، وقال له:
“أو تكون الغريب الوحيد في أورشليم الذي يجهل ما جري فيها، في هذه
الأيام!” فقال لهما: “وما هو؟” فقالوا له: ما يتعلق بيسوع الناصري
الذي كان نبياً مقتدراً في الفعل والقول، أمام الله وأما الشعب كله، كيف أسلمه
رؤساء الكهنة وحكامنا للقضاء عليه بالموت، وصلبوه. وكنا نؤمل، نحن، أنه هو الذي
يفتدي إسرائيل. ولكن، مع هذا كله، فاليوم هو الثالث لوقوع تلك الحوادث. بيد أن
نسوة منا قد أذهلننا، فإنهن بكرن جداً إلي القبر، ولم يجدن جسده، بل جئن يخبرن أن
ملائكة قد ظهروا لهن، وقالوا إنه حي. فمضي نفر منا إلي القبر، فوجدوا الأشياء علي
ما قالت النساء، أما هو فلم يروه!”

 

.
فقال لهما: “ما أقصر أبصاركما، وما أبطأ قلوبكما في الإيمان بكل ما نطقت به
الأنبياء! أما كان ينبغي للمسيح أن يكابد هذه الآلام، ويدخل إلي مجده؟”. ثم
فسر لهما ما يختص به في الأسفار كلها ذاهباً من موسى إلي جميع الأنبياء

 

.
واقتربوا من القرية التي كانا يقصدانها، فتظاهر أنه قاصد إلي مكان أبعد، فألحا
عليه، قائلين: “أقم معنا، فإن المساء مقبل، والنهار قد مال، فدخل ليمكث
معهما. ولما اتكأ معهما، أخذ الخبز، وبارك وكسر وناولهما، فانفتحت أعينهما
وعرفاه.. ولكنه غاب عنهما. فقالا أحدهما للآخر: “أو لم تكن قلوبنا مضطرمة
فينا، إذ كان يخاطبنا في الطريق، ويفسر لنا الكتب!”. وقاما علي الفور، ورجعا
إلي أورشليم، فوجدا الأحد عشر ومن معهم، مجتمعين، وهم يقولون: “لقد نهض الرب
حقاً وظهر لسمعان”، فأخذا هما يخبران بما جري في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر
الخبز (لوقا 24: 15 – 35)

 

. نود
أن نغادر صورة المسيح، عند هذا المشهد الرائع ببساطة، والذي برع رامبراندت في
تمثيله في اللوحة الصغيرة المحفوظة في اللوفر: غرفة يغمرها الظل، ويبدو فيها النور
مشعاً من المسيح نفسه. وعلي المائدة، وسط السماط الأبيض، الخبز الذي سيفيض عليه
المسيح بركة مقدسة. ويري المسيح في دعاء، وذانك البائسان، في اللحظة التي تنبهت
فيها روحهما، أحدهما في حركة انكفاء والآخر في عبادة وخشوع. بعد لحظة سوف يتواري
الزائر العجيب، بيد أن كل شئ، في ذاك المشهد، ينبئ بأن حضوره، وإن كان محجوباً، سوف
يظل راهناً، وأن ذاك الضرم الذي سعي في كيانهما، إذ كان يخاطبهما، سوف ينشب، إلي
الأبد، في قلوب المؤمنين

 

. ذاك
التأجج في القلب، هل هو إلا دلالة ذاك الحضور؟.. فهو الذي صور للشهداء أن يبذلوا
حياتهم، بحسب الجسد، في سبيل حياة أخرى أكثر خلوداً! وهو الذي ساند أعاظم الصوفيين
في بطولاتهم اللهيبة، ومآسيهم الصامتة. وهو الذي يحمله أصغر المؤمنين في ذاته، كل
مرة يلقي نفسه، بعد تناول “الخبز”، أوفر قوة، وأكثر سخاء، وأشد تلهباً.
ولسوف تتوالى علي شفاه أتباع المسيح، عبر الأجيال، تعابير ذاك الحضور: “زريعة
الحب الخفية”، “والوهدة التي لا قرار لها”، متنوعة في الأداء،
متفقة علي الواقع. ولسوف يقول بولس: “أنا حي! ولكن لا أنا بل المسيح حي
في!”. ومنذ ألفي سنة تقريباً، جمهور لا يحصى من الرجال والنساء قد حدثوا عن
ذاك الحضور. وكأنه أشد الحقائق رسوخاً. فيسوع، من بعد صعوده، لا يزال ذاك الكائن
البشري الحي الذي أحبته قلوب، في زمانه، ولا تزال تنبض بحبه قلوب أخري. بعد أجيال
مديدة

 

. لقد
كتب المؤرخ الألماني ولهوسن: “نوجس أن رسالة المسيح لم تستوف أجلها، بل صرمت
منذ مطلعها”، ربما صح ذلك، ضمن الحيز الإنساني. ولكن تلك الرسالة إنما هي،
بالضبط، من تلك التي لا يستطيع الموت ولا الإخفاق أن يصرمها: فهي تواصل سعيها في
نفوس أتباعه

 

.
قبيل أن يتواري يسوع عن أنظار تلاميذه، أودعهم هذه الكلمات التي اختتم بها البشير
متى إنجيله: “ها أنا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر!”. كان المسيح،
سحابة الثلاثين شهراً التي وقفها لتحقيق رسالته في الأرض، قد تأتي في إعداد أولئك
الرجال الذين انتدبهم لخلافته. انتخبهم، هذبهم، نظم أحوالهم. وهبهم أجود ما في
قلبه. فكان عليهم، منذ تلك اللحظة أن يشهدوا للحق الذي أكرموه به

 

!
وسوف لن يخلفوا بمهمتهم

. وإن
تاريخ الإله الحي يمتد – مذ ذاك – في تاريخ “الجسد السري” الذي يحييه
المسيح بحضوره، أي في تلك الحقيقة الرائعة، الناشبة في قلب الدهور: كنيسة يسوع
المسيح

ونحن
نشهد بذلك.. أمين

 

(1) “كانت
نظرية “اختلاس الجسد” رائجة في الجيل الثامن عشر، تبناها صموئيل
ريماروس، إلا أن نقاد القرن التاسع عشر، حتى أشدهم تحرراً (شتروس مثلاً) قد عدلوا
عنها عدولاً نهائياً

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى