علم المسيح

النصر علي الموت



النصر علي الموت

النصر علي الموت

سناء
فجر الأحد

..
نود لو نملك لسان الشعراء، لكي نروي، منذ الآن، حدثاً هو أروع الأحداث وأغربها،
الحدث الذي إنما هو “مركز التاريخ برمته”، كما قال بوسية. وهنا، كما في
الساعة التي تحدثنا فيها عن الميلاد وروائعه، ينبعث فينا، من أغوار الماضي، عالم
من الذكريات. فصح طفولتنا! فصح أريافنا، يوم كانت تبعثنا من الفراش رنة الأجراس
القوية، وتقذف في كياننا لا أدري أي شعور مباغت بالطمأنينة، ولا أدري أي فرح عفوي
راهن. إن أكثر الناس إلحاداً يشتركون فيه، وأشد التقاويم علمنة تسجله كيوم عطلة
إضافية، احتفاء بذاك العيد، ذكري الوعد الخالد

 

مقالات ذات صلة

.
انقضت الراحة السبتية، مساء السبت، مع غروب الشمس. وغدا حلالاً، في صبيحة الأحد،
الذهاب والإياب من غير ما حرج، والعناية – إن أمكنت العناية بعد – بذاك الجسد الذي
وجب الإسراع في مغادرته في القبر، قبل يومين

 

.
ماذا فعل تلاميذ يسوع، منذ كارثة الاعتقال؟ لقد هلعوا كلهم واحتجزوا، ما خلا يوحنا
الذي أقدم علي الذهاب إلي الجلجثة. ويروي تقليد أن يعقوب قد لاذ بمدفن من مدافن
يوشافاط، وهو قبو منحوت في عدوة الوادي، ويشاهد ذاك المكمن، حتى اليوم، مزيناً
برواق من الأعمدة “الدورية”، ويعرف باسم “قبر عزير”. ونقرأ في
الإنجيل المنحول، المسمي ” بإنجيل بطرس”: “أما أنا ورفاقي، فكنا قد
اختبأنا، والأسى ملء الفؤاد، لأنهم كانوا يلاحقوننا ملاحقة المجرمين، بمحاولة
إحراق الهيكل. وكنا نصوم جالسين في الدموع والحداد.. “، وقد صور لنا البشير مرقس
التلاميذ “وهم ينوحون ويبكون” (مرقس 16: 10). وهل كان بوسعهم غير ذلك؟
فلقد تلاشت آمالهم البشرية كلها، وأخذ البعض يعد العدة للرجوع إلي الجليل. وكان
المسيح قد أنبأهم قائلاً: “كلكم ستضعفون بسببي، لأنه مكتوب: “أضرب
الراعي فتتبدد الخراف” (مرقس 14: 27)

 

وأما
المريمات وسالومة وحنة امرأة سوزي فقد تصدين للواقعة كما تتصدى النساء. فقد رجعن
إلي عملهن، وتعهدن ما هو من صلاحياتهن. وعندما انقضي السبت أخذن يعددن طيوباً
وعطوراً، ولعلهن قمن يسحقن بالفهر، في الأجران، أخلاطاً من الناردين والمر والعود.
وأما في يوم السبت فقد استرحن بمقتضى الشريعة (لوقا 23: 56). فعندما انقضي يوم
الرب، مساء السبت، لم يخرجن للفور: فقد كانت الجلجثة من أماكن الشؤم التي لا يحب
الناس ارتيادها ليلاً. ولكنهن عند شق الفجر (وذلك مما لاحظه الإنجيل) يممن جهة
القبر، حيث كان يرقد – عند ظنهن – ذاك الذي أحببنه. وإننا لنتصور تلك الصحوة المشرقة
من صحوات نيسان، الحافلة بذاك النقاء العذري الذي يفرغه الربيع علي الآفاق
الفلسطينية. فمن جهة الشرق، ومن فوق سطوح المدينة، يميل بياض الأفق إلي غبرة
اللؤلؤ، بينما في الغرب، ينجاب الليل رويداً، مخلفاً فوق الآكام أهداب وشاحه
الليلي الأغبر. هو الفجر “ذو العينين الرماديتين” الذي تغني به فرجيل،
و”السحر ذو الأنامل الوردية” الذي أحبه هوميروس، الشاعر العتيق. وإنه
ليبدو، في تلك اللحظات القصيرة المحظوظة، أن الطبيعة كلها تزخر بالأمل الزاهي،
فيختلج في قلب الإنسان – مهما رثت حاله – دعاء نعمة الله..

 

. لقد
روي الإنجيليون الأربعة، كل بأسلوبه الخاص، كيف وجد القبر فارغاً، عند وصول النساء
الفاضلات. وقد أجمعوا كلهم علي القول إن تلك الأحداث الخارقة قد انكشفت للنساء
أولاً: ولا بدع، فالمرأة أجرأ، وأخضع لحبها منها لفطنتها، وأقدر علي اكتناه تلك
الأحداث التي يخفق العقل في تحليلها، وتدركها البديهة الأنثوية بقوة ويقين عجيبين.
وعلي كل، فقد وجدت تلك النساء من ثقتهن وبديهتهن خير دليل

 

.
وسمون إلي القبر، وهن من جري أحداث ما قبل الأمس، علي جانب كبير من الاضطراب
والأسى. لقد امتلكن خوفهن، ولكنهن استفرغن في ذلك كل شجاعتهن. وفيما هن في الطريق،
عند بزوغ الفجر، مادت الأرض مرة أخري، وسمع دوي كهدير الرعد، وكأنه منبعث، من قريب
جداً، من المدينة نفسها، من جوار أورشليم: “زلزال عظيم”، علي حد تعبير
البشير متى

 

. من
كان أولئك الأوفياء البواسل؟ جميع الوثائق، بلا استثناء، تذكر في المحل الأول،
مريم المجدلية، بنت قرية مجدلا، تلك التي أخرج يسوع منها سبعة أرواح، فوقفت له، مذ
ذاك، حياتها. ويتفرد البشير يوحنا بتدوين اسمها، بينما يجتزئ الإنجيليون الآخرون
بالتلميح إليها. ويبدو أنها استبقت النساء الأخر في جريها، يهيب بها إيمان وأمل
يعدوان المخلوق. وكان في إثرها مريم أخري، أم يعقوب، وسالومة وحنة: وفد صغير، لم
يكن، ولا شك، ليتجاوز الخمس أو الست.. “وكن يقلن بعضهن لبعض: “من يدحرج
لنا الحجر عن باب القبر؟” (مرقس 16: 1 – 3). وتضيف بعض المخطوطات القديمة عن
الحجر: “أن عشرين رجلاً بالجهد يستطيعون زحزحته

 

.
فلما بلغن الموضع، “وجدن الحجر قد دحرج عن باب القبر” (لوقا 24: 2).
وأما الجسد فلم يكن في الداخل مسجى في مثواه! ماذا جري؟”ملاك الرب كان قد
انحدر من السماء – علي حد قول البشير متى – وأتي ودحرج الحجر”، فالزلزال الذي
سمع أزيزه عند الفجر، هو الذي كان قد أحدثه!” وكان منظره كالبرق، ولباسه أبيض
باهراً كالثلج” ولمنظره “ارتعد الحراس من الذعر وصاروا كالأموات”
(متى 28: 2 – 4). من تلك المعجزة هذا ما رواه الإنجيل. وأما المشهد الخارق الذي
انبعث فيه يسوع من القبر، والحراس عند أقدامه مصروعون أرضاَ – كما مثله موريلو،
بين جم من الفنانين، في لوحته الكبرى “القيامة” – فالإنجيل لا يعرض له
إلا تلميحاً، بوجيز الكلام، وبكثير من الزهد والترصن

 

.
وأما النسوة الفاضلات فقد أذهلهن اختفاء الجثة، وانسحاب الحراس، وتملكهن الاضطراب
والخوف. بيد أن المجدلية – وكانت، ولا ريب، أكثرهن رشاقة – (وفي ذلك كله ما يشعر
بشبابها)، أسرعت تحمل النبأ إلي التلاميذ (يوحنا 20: 2). وتلبث النساء الأخر
بالموضع، بعضهن داخل القبر، والبعض عند مدخله. وما كانت سوي لحظة قلق، و”إذا
برجلين عليهما ثياب براقة قد وقفا بهن!”. فأطرقن بوجوههن إلي الأرض مذعورات،
فقالا لهن: “لم تطلبن بين الأموات من هو حي! إنه ليس ههنا! إنه قد قام!..
تذكرن ما قال لكن، إذ كان بعد في الجليل: إنه ينبغي لابن البشر أن يسلم إلي أيدي
الخطاة ويصلب، وينهض في اليوم الثالث” (لوقا 24: 4 – 7). إن متى ومرقس لا
يذكران سوي ملاك واحد: ولكن فحوى الرؤيا هو هو: فالمسيح قد قام

 

في
تلك الأثناء، كانت المجدلية قد انتهت إلي الرسل، وأفضت إليهم بالخبر. ثم أقبلت
النساء الأخر يحملن نفس الشهادة، في غمرة من الاضطراب والنشوة يسهل فهمها. وقد
أشار مرقس ولوقا، بلا مواربة، إلي أن الرسل قد قابلوا تلك الأنباء، أولاً، بالشك
والتريب، مشتبهين في تلك الأراجيف النسوية: “أقاويل! وترهات!.. “، لكن
بطرس أراد أن يتثبت الأمر، فأسرع راكضاً إلي القبر، ورافقه تلميذ آخر، هو يوحنا
ولا شك – وقد أغفل اسمه تواضعاً. وإذ كان أسرع من بطرس في الجري، وصل إلي القبر
أولاً (يوحنا 20: 4): أجل! كل ما حدث به النساء كان صحيحاً! فاللفائف مطروحة
أرضاً، والحجر مدحرج.. ووصل بطرس، وتحقق نفس الأمور. فانهدت مشاعرهما، وأوجسا في
ذاتيهما اجتياح الإيمان مداهماً. إنهما لم يفهما بعد، من شدة الهلع، أن أقوال
الكتاب قد تحققت، وأن وعد المعلم بالقيامة قد تنفذ، ولكن تعزية دفينة قد استوطنت،
منذ تلك اللحظة، قلبيهما.

 

!
وبقي القبر موحشاً. كلا! فالمجدلية قد لبثت بقربه. فذاك الحب الفائق الذي اجتذبها
إلي القبر قبل الناس، قد حال أيضاَ بينها وبين مغادرته. هل درت أن يسوع قد نهض
حقاً؟ ربما لا.. إنها لا تحفل بشئ، ولكنها تبكي! إذ ذاك تبدلت الرؤيا إلي شهادة:
فقد رأت ملاكين بثياب بيض، داخل القبر، وقد استوي أحدهما عند موضع الرأس، والآخر
عند القدمين. فقالا لها: “يا إمرأة، لم تبكين؟” فقالت لهما: “أخذوا
سيدي، ولا أدري أين وضعوه!”. فقالت هذا، وحانت منها التفاتة إلي الوراء، فإذا
برجل – لم تعرفه – قد وقف بها، وسالها قائلاً: “يا امرأة، لم تبكين؟ ومن
تريدين؟” قالت، وقد توهمت أنه بستاني المقبرة: “يا سيدي! إن كنت أنت قد
ذهبت به، فقل لي أين وضعته، وأنا آخذه”، إذ ذاك ألقي إليها المجهول بكلمة
واحدة: “مريم!” فتفرست فيه، وقد اخترق فؤادها، وهرولت إليه، متمتعة
بالعبرية: “رابوني!” (أي يا معلم!). لقد اجتاحتها الحقيقة في جميع
كيانها. أجل! لقد قام يسوع

 

!
مشهد أخاذ يملك القلب بحقيقته الراهنة العجيبة. ولكن ما معني الكلمة الغامضة التي
وجهها يسوع إلي المجدلية (وريما أدركتها أو حاولت أن تدركها): “لا تلمسيني!
فإني لم أصعد بعد إلي أبي!”؟.. مهما يكن فإن الغرض الروحي من ذاك الظهور واضح
كل الوضوح.. فتلك الكلمة التي استطاعت، وحدها، أن تقنع المجدلية، وتبعث في قلبها
يقين الإيمان، أي مسيحي لم يحلم بسماعها؟.. تلك الكلمة التي ينادينا بها الله منذ
الأزل، والتي نتصامم عن سماعها

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى