علم المسيح

هذا جسدي



هذا جسدي

هذا جسدي!..

وإذ
كان العشاء عند نهايته، قام يسوع بمأثرة، ونطق بكلمات أفرغت علي الذبيحة الفصحية
القديمة معني جديداً، وسوف تستوفي بها مأساة الغد مراميها. وإليك أحداث هذا المشهد
القصير / في نظامها كما ورد وصفها – مع تباين طفيف – في الأناجيل المؤتلفة، وكما
أيدها وعلق عليها القديس بولس، في رسالته إلي الكورنثيين (لوقا 22: 19 – 20، مرقس
14: 22 – 24، متي 26: 26 – 28): ” أخذ يسوع خبزاً وشكر وبارك وكسر وأعطي
تلاميذه قائلاً: ” خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يبذل لأجلكم “. ثم أخذ
الكأس وشكر وبرك، وأعطي تلاميذه قائلاً: أشربوا من هذا كلكم. هذه الكأس هي العهد
الجديد بدمي المهراق من أجلكم، ومن أجل كثيرين، لمغفرة الخطايا. اصنعوا هذا
لذكري!”.

 

حيال
هذه الأسطر التي تنطوي علي آخر وصية ليسوع قبل موته، هل يستطيع المؤمن إلا أن يلوذ
بالصمت والعبادة؟ ز أيا كان تفسيرها، أبمعني ” الحضور ” الحقيقي – كما
تعتقد الكنسية لكاثوليكية والأرثوذكسية – أم بمعني الحضور الرمزي والتذكاري – كما
يذهب معظم كنائس ” الإصلاح ” – فهي، بلا منازع، أعلي شاهق في حياة
المسيح، والذروة التي أفضت فيها الشهادة إلي التضحية الطوعية، وتلخص فيها سر ذاك الذي
لم يكن فقط معلماً فذاً، بل الضحية المقربة لأجل خلاص الناس.

 

لم
تكن ثمة فقط بركة طعام عادية، كما كان شائعاً عند اليهود وقد جاء في فرائض
الاسينيين: ” إذا أحضروا الخبز للأكل والخمر للشرب، فليبسط الكاهن يده – قبل
سائر القوم – وليبارك باكورة الخبز والخمر ” وأما الصلة الجوهرية التي أقامها
المسيح بين الخبز وجسده، وبين الخمر ودمه، فمن البين أنه لم يكن ليعهدها واحد من
معاصريه. فكلمات المسيح – في معناها الحصري – تفيد أن المؤمن، مهما قل استحقاقه،
إنما يأخذ جسد المسيح ودمه، كل مرة يأكل من ذاك الخبز وذاك الخمر: فالتحول الجوهري
أمر مستقل عن مؤهلات من يترك في تلك الوليمة المقدسة. ولو ” تناول ”
يهوذا ” وهكذا غير وارد “، لأخذ جسد الرب ودمه هذا وليس من المردود أن
تكون فكرة ” الولائم لمقدسة ” هذه، مما يرتبط بتراث إنساني عريق جداً.
بيد أن ” التناول ” المسيحي، ليس له إي صلة بتلك الإجراءات السحرية التي
تكفل لأتباعها الخلاص، بمجرد أزد أرداهم ما يتوهمونه ” عنصرا” إلهياً
{في ذلك إشارة إلي ما كان شائعاً، عند بعض الشعوب البدائية، وفي بعض المذاهب
الأوفية والديونيسية، من عادة ” الولائم المقدسة ” الرامزة إلي اتحاد
الإنسان بالألوهية. (المترجم)}.. فاتحاد المؤمن باله، في ” التناول المسيحي
” لا يتم بالأكل المادي فحسب، بل بالنية والنقاوة والمحبة، حقيقة الأكل ثانية
– ولا ريب – بيد أن واقعة المادي الصفيق يذوب اتحاد بالله. هل كان بإمكان
التلاميذ، إّ سمعوا المعلم يقول لهم: ” هذا هو جسدي! “، إلا يتذكروا تلك
الكلمات البعيدة التي كانوا قد وجدوها ” صعبة “، آنذاك، يوم قال لهم:
أنا خبز الحياة!.. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلي الأبد، فالخبز الذي سأعطيه
أنا، هو جسدي لأجل حياة العالم!.. “. ولكن كم كانت بارزة، في تلك الخطبة،
مراميها الروحية وأغراضها المعنوية! ولكم نحيت عنها كل نزعة إلي أخذها بالتأويل
السحري! فانه لا يشترك في ” خبز الحياة ” إلا الذي ” سمع صوت الأب،
ورضي بتعليمه، وآمن بيسوع!..”. فتلك الدعوة إلي الضرورة التجدد الباطن لمن
ينبغي الاتحاد بالله، لم يكن التلاميذ ليذهبوا عنها، في هذه اللحظة التي عاد فيها
المسيح – بأسلوب أكثر هيبة وتشديداً – إلي تكرار ما كان قد نطق به سالفاً من أقوال
غريبة: ” إن جسدي مأكل حق، ودمي مشرب حق! فمن يأكل جسدي ويشرب دمي، يثبت في،
وأنا فيه “.

 

فمن
هذه الأعمال وهذه الأقوال، نشأ سر الإفخارستيا، علي حد مل أخذت به الكنيسة. ”
والسر – كما عرف به أحد اللاهوتيين، في عبارة بارعة – إنما هو ترقيه المحسوس إلي
عالم الروح، والطبيعة إلي عالم النعمة “، وتؤكد الكنيسة أن جسد المسيح موجود
حقيقة تحت أغراض الخبز والخمر، وقد استحال جوهرهما إلي جوهر جسد المسيح بصورة
معجزة. وذاك هو خلاصة ما يسمونه، في لغة اللاهوت، ” التحول الجوهري “.
وأما كيف نفسر وجود جسد المسيح تحت أغراض الخبز والخمر وجوداً راهناً، وشبيهاً –
نوعاً ما – بوجود النفس في الجسد، وإن لم تكن محلياً، بالمعني المتعارف، فذلك شأن
من شئون اللاهوت. ويشهد التاريخ أن هذه العقيدة، كما تفهمها الكنيسة اليوم، عريقة
جداً في المسيحية. فالرسالة الأولي التي كتبها القديس بولس الرسول إلي الكورنثيين،
سنة 57 تومئ إليها كما إلي شكل طقسى مقرر عند الجماعات المسيحية الأولي، ونقع في
الرسالة علي النص يبدو أنه يؤيد تأييداً واضحاً التفسير الذي ثبت عليه التقليد، في
فهم ذاك الطقس الديني بمعناه الواقعي الراهن وبمراميه الروحية معاً: ” كلما
أكلتم من هذا الخبز، وشربتهم من هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلي أن يجئ. ومن ثم،
فأي إنسان يأكل خبز الرب أو يشرب كأسه بلا استحقاق، يكون مجرماً إلي جسد الرب
ودمه. فليختبر الإنسان إذن نفسه، عندئذ فقط فليأكل من الخبز ويشرب دينونه لنفسه،
إذ لم يميز جسد الرب ” (1كورنثس 11: 26- 29).هذا، وقد عثر في مدفن لوقينا، في
دياميس القديس كلستس الرومانية، علي رسم سمكة {السمكة، عند المسيحيين الأقدمين، هي
من رموز المسيح. فالأحرف التي تتألف منها كلمة
IXOYE اليونانية ” معناها (و معناها السمكة)، هي مطالع الكلمات
التي تعني: يسوع المسيح ابن الله المخلص} تقل سلتي خبز، وتشاهد بوضوح، ما بين
الأرغفة المدورة، ومن خلال السلة، زجاجة خمر أحمر. ويرقي هذا الرسم الرامز إلي سر
الإفخارستيا، إلي ما قبل السنة 150، علي الأرجح.

 

هكذا راحت
الكنيسة، جيلاً بعد جيل، تجدد ما صنعه يسوع في العشاء الأخير، وتزود المؤمنين
بالخبز الذي يتحدون فيه بالإله الحي. وكل كاهن يرفع يده مباركاً الخبز والخمر،
يخلد ذكري ذاك الذي قال لتلاميذه يوماً – وقد أيقن أن الموت يتربص به: ” هذا
هو جسدي!.. هذا هو دمي!..”

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى