علم المسيح

الثلاثاء



الثلاثاء

الثلاثاء

. جرب
الأمور في اليوم التالي – بادي الآمر – مجراها اليوم السابق فقد احتشدت الجموع،
ثانية، حول يسوع، لنصت إلي كلامه. وإذ كان جالساً باحة النساء، قبالة الخزانة التي
يلقي فيها الأغنياء تقادمهم علانية، ” وكان عدد تلك الخزانات ثلاث عشرة، لكل
منها غرض معين “، وأشار بإصبعه إلي امرأة، دلت ثيابها علي ترملها، وأفصحت عن
إملاقها، دنت إلي الخزانة بتودة وأتضاع، وألقت فيها فلسين. فقال: ” في
الحقيقة أقول لكم: إن كان هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من الجميع. لان هؤلاء
جميعاً ألقوا تقادم فضالتهم، وأما هذه فمما هي بحاجة إليه: إنها ألقت كل
معيشتها!” (مرقس 12: 41، لوقا 21: 1-4). هناك رسم من أقدم الرسوم الفنية
المسيحية، وهو فسيفساء من الجبل السادس، في إحدى كنائس رافينا، يمثل مشهد الأرملة.
والحقيقة أن ليس هناك شئ يعبر بمثل هذا الاقتضاب، ويمثل هذا الكمال، عن روح المسيح!

 

ثم
أقبل الخصوم ثانية بمكايدهم وأحابيلهم. فقد كانوا له، أبداً، بالمرصاد، ينفذون
إليه وفوداً من أهل الوشاية والتحدي. ولقد تواطأ علي ذاك المشاغب جميع أرباب
السلطة والجاه، وعقدوا عليه جبهة موحدة. فالفريسيون يكرهون الصدوقيين، ولكنهم
تهادنوا علي يسوع ليوقعوا به. والفريسيون مع الصدوقيين يبغضون الهيرودسيين لأنهم
يسرفون ولائهم لرومة ولعملائها ولا الربع. ولكن مرحبا بكل حليف لهم في ذاك الصراع،
والغاية تبرر الوسيلة!

 

.
والهيرودسون هؤلاء هم الذين افتتحوا الهجوم. فدنوا إليه، والعسل يقطر من شفاههم،
وقالوا: ” يا معلم، نحن نعلم أنك بالصواب تتكلم وتعلم ولا تحابي الوجوه، بل
تعلم بالحق طريق الله. قل لنا: أيجوز لنا أن ندفع الجزية لقيصر أم لا “.
ماهرة هذه الأحبولة أيضاُ!..فإما التسليم بجزية المستعمر البغيض والتعرض لسخط
الشعب، وأما النصيحة بالرفض والتعرض للوشاية وعند الرومانيين. فكيفما وقع
الاختيار، فهو – لا محالة – خاسر! ولكن المسيح أجابهم، فكان جوابه ثاقباً، لاذعاً:
” أروني نقد الجزية!..”. العملة التي كانوا يسكونها، عهد ذاك في فلسطين،
لم تكن لتتعدى القطع النحاسي الصغير، وأما العملة الذهبية والفضية، فكانوا يستوردونها
من روما، وكانت نادرة، بعض الشيء، ولذلك وجب أن يرسل في طلب أحدها. وكان علي
الدينار الفضي رسم الإمبراطور، أي – علي الأرجح – رسم طيباريس ” طيباريس
كلوديس نيرون، أوغسطس قيصر “. فقال لهم يسوع: ” لمن هذه الصورة؟ وهذه
الكتابة؟” فقالوا. ” لقيصر!” فقال: ” ردوا ما لقيصر لقيصر وما
لله لله!” (متي 22: 15-22، مرقس 12: 13-17، لوقا 20: 20-26). ولقد توسع
القديس بولي في عرض هذه النظرية (رومة 13: 1-7)، ونحا نحوه – من بعده – جمهرة من
اللاهوتيين، توسموا فيها مع الرسول دليلاً علي شرعية السلطان الزمنية. بيد أن
العبرة التي تبرز منها بجلاء أعظم، إنما هي العود، مرة أخري، إلي إثبات المبدأ
القائل بأن المهمة الحقيقة، في حياه الإنسان، هي التماس معرفة الله، واقتناء ملكوت
السماء

 

. لم
يسع الهيرودسيين، بعد تلك الضربة، إلا أن يلزموا الصمت، معجبين ببراعة يسوع. فناب
عنهم الصدوقيون في مواصلة الهجوم. والصدوقييون من ذوي العناية بالفلسفة واللاهوت،
وكانت لهم، في إسرائيل، مكانة مرموقة. وكان هؤلاء ” الرشدون ” يزعمون
التمسك بالشريعة الموسوية، علي ألا يضاف إليها شئ أخر

 

.
وأما مذهبهم في الإنسان، والحياة الأخرى، فكانوا يقتصرون فيه علي ما أقرته البشرية
قبل ألفي سنة، ويضعون موضع الشبهة جميع ما الحق بالعقيدة من توسيع وتطوير. وقد جاء
في سفر أعمال الرسل أنهم كانوا ينكرون الملائكة والأرواح وقيامة الأموات. وكان هذا
المعتقد الأخير يبدو لهم سخيفاً، مع أنه كان مرتكزاً علي شهادة أيوب وأشعيا
ودانيال.. لقد كان عليهم آذن أن يضعوا يسوع موضع السخرية.و كان الشرع، عند اليهود،
يقضي علي شقيق الزوج بأن يتزوج امرأة أخيه إذا توفي عن غير عقب، ” ويقيم
نسلاً لأخيه “. فإذا مات سبعة أخوة. بعد أن تعاقبوا كلهم علي الوفاء لامرأة
كبيرهم بالفريضة الشرعية، فامرأة من من السبعة تكون في القيامة؟ مشكلة كانت – علي
سخفها – تقض مضاجع الفقهاء في إسرائيل! وقد ورد في التلمود خير يهودي مات له أثنا
عشر شقيقاً. وإّ ترتب عليه أن يفي لأرامل أخوته بما يقضي به الشرع، قرر أن يدخل
بكل منهن شهراً، فاجتمع له – بعد ثلاثة أعوام – ستة وثلاثون ولداً!.. لقد كان في
طريقه معالجتهم لهذا المعتقد العظيم {أي الاعتقاد بقيامة الأموات} – وهو من اوجه
ما جاد به الوحي في إسرائيل – كثير من الإسفاف، بل من البذاءة! ومع ذلك فلم يبخل
عليهم يسوع بالجواب، بل أنشأ يبين لهم – في إيضاح جديد – أن الأجساد، من بعد
القيامة سوف يخلع عليها من صفات المجد، ما يصفي جوهرها من علائق المادة، وشوائب
الضعف. ” ولسوف يتناول القديس بولس هذه الفكرة ويتوسع فيها بأروع تعبير}، ثم
استشهد يسوع بكلام موسي، مثبتاً لهم أنها سوف تأتي ساعة يجلد فيها الناس كلهم أمام
وجه الخالدين! (متي 22: 23-33، مرقس 12: 18-27، لوقا20: 27 – 40)

 

أفحم
الصدوقيون، فناوبهم الفريسيون علي جبهة الحجاج. والواقع أن الفريسيون ما كانوا
ليأسفوا علي ما ألحقه يسوع بالصدوقيين خصومهم، من خسف، بل لقد صفق له بعضهم، وإن
تكن قد استبهمت عليهم قضية حشر الأجساد.. ولكن كان لابد من محاولة التمكن من يسوع
في عقر داره. فابتدروه بسؤال كان قد طرحه عليه – من قبل – رجل

 

.
أولئك السكان الذين هم أمته. والذين لن يجد إلي إقناعهم سبيلاً. وأذا بالنبوة
المخيفة تنطلق من شفتيه، ثانية: ” أورشليم! أورشليم! يا قاتلة الأنبياء.
وراجمة المرسلين إليها! كم مرة شئت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت
جناحيها، ولم تريدوا. فهوذا بيتكم يترك لكم خراباً!.. فإني أقول لكم: ” إنكم
لن تروني من الآن، حتي تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب! ” (متي 23: 37-38،
لوقا 13: 34-35)

 

سر
تصلب إسرائيل، نقع عليه مرة أخري! فتلك الآية الأخيرة سوف يعلق عليها القديس بولس
تعليقاً رائعاً في الفصل الحادي عشر من رسالته إلي الرومانيين. أ<ل! لقد ”
تصاب ” إسرائيل، علي حد ما هو مكتوب: “أعطاهم الله روح سبات، عيوناً لكي
لا يبصروا، وأذاناً لكي لا يسمعوا..” بيد أن ” عثرة “إسرائيل، قد
أفضت إلي تحقيق أغراض العناية الربانية. فهي، إذ سببت مصرع المسيح، قد أتمت للناس
خلاصهم. ” فالتصلب إنما حصل لجانب من إسرائيل، إلي أن يدخل مجموع الأمم
” في طاعة الأيمان “. فلا بد إذن من أن يأتي يوم يرتد فيه إسرائيل، علي
وقع الأناشيد! فإن كان إنتباذهم مصالحة للعالم، فماذا يكون قبولهم الإ حياة للأموات؟..
” فإن الله قد أغلق علي الجميع في المعصية لكي يرحم الجميع!.. فيا لعمق غني
الله وحكمته وعلمه!” (رومة: 11)

 

. بيد
أن يسوع لم يكن ليشهد في تلك اللحظة، رؤيا الشعب الإسرائيلي مصالحاً في المجد، في
الحقب الأخيرة، بل رؤيا الكوارث الرهيبة، المفصلة، المحدقة به في الزمان الحاضر!..
مال النهار، فخرج يسوع من الهيكل مع تلاميذه، وجازت الفرقة الصغيرة باب المدينة،
ذاهبة في محاذاة دعائم الحرم، تلك الضخمة التي رفعها هيردوس إفساحاً لرقعة البناء
واذا نظرت اليوم إلي تلك الجدران من جهة وادي قدرون، إي من الملحظ الذي كان فيه يسوع
في تلك اللحظة، وقعت في نفسك موقعاً عميقاً من القدرة والجلال: حجارة عملاقة،
متناشبة علي غير نظام، نطل من شقوقها أعشاب صلبة وشجيرات. وتشرد منها – في زرقة
السماء الشديدة – بيض الحمائم المعششة في تحاربيها..فقال له واحد من تلاميذه:
” يا معلم! تطلع! يا للحجارة ويا للأبنية!”. وأثني آخرون علي قواعد
الهيكل ونفائسه. فأجابهم يسوع: ” أتشاهدون هذه الأبنية العظيمة؟ ألا ترون هذا
كله؟..الحق أقول لكم: ” إنها ستأتي أيام لا يترك فيها، مما ترون، حجر علي حجر
إلا ينقض! ” (متي 24: 1-2، مرقس 13: 1-2، لوقا 21: 5-6)

 

.
وأستغرب التلاميذ إلحاح المعلم في الإنذار بتلك النوزال، فطفقوا يستوضحون أمرها.
وكانوا قد وصلوا إلي منكب الجبل. وأمسوا بمعزل عن الناس أفليس تلك الأمور المدهشة
هي علامة منتهي الدهر، ومجئ ابن البشر في مجده. ومتي يكون ذلك كله؟..” أجل، سوف
تكون هناك آيات بينات للذين يدركون! ولسوف يظهر مسحاء دجالون، يركبون الأمة مراكب
التهلكة، وسوف تكون زلازل، وعجائب في السماء، وفي الناس أوبئة ومجاعات: وأما هم
أتباعه، فلسوف تكون لهم آية أيضاً: أنهم سوف يضطهدون، ويسلمون إلي المحافل،
ويجلدون بالسياط، ولا بد لهم من أ، يشهدوا للمسيح بعذابهم وبتاريخ جهادهم بيد ا،
المسيح سوف يفرغ علي شفاههم حكمة لن تقوي مناصبوهم علي مقاومتها: لأنهم لن يكونوا
هم المتكلمين، بل الروح القدس “: (متي 24: 30-4، مرقس 13: 3-13، لوقا 21:
7-19). ومتي أخذ ينشر الإنجيل في الأرض فليعلموا عندئذ أن خراب أورشليم قد اقترب،
فيحيط بها الجنود. ويفتحونها عنوة، وينقضونها، ويرفعون في عقر مقدسها الصم،،
” تلك الرجاسة القاضية ” التي أنبأ بها دانيال النبي! يا لها من ساعات
رهيبة! ” فالذين في اليهودية، فليهربوا عندئذ إلي الجبال، والذي علي السطح
فلا ينزل، ولا يدخل بيته ليأخذ منه شيئاً، فأن تلك الأيام انتقام فيها يتم جميع ما
هو مكتوب، ويل للمرضعات والحوامل!.. ولسوف يحل إذ ذاك من الكوارث ما لم يكن مثله
منذ بدء الخليقة، ولن يكون، ولسوفيكون ضيق عظيم في هذا البلد، وسخط علي هذا الشعب،
فيسقطون بحد السيف، ويسبون إلي جميع الأمم، ويدوس الكفرة أورشليم إلي أن تتم أزمنة
الأمم ” (متي 24: 15-22، مرقس 13: 14 – 20، لوقا 21: 20 -24)

 

أربعين
سنة من بعد هذا الكلام، في مطلع نيسان سنة 70، كان الجيش الروماني يحاصر المدينة
المقدسة، بكتائبه الأربع، ومرتزقته من أهل سورية ونوميدية: ستين ألف مقاتل مجهزين
بأجود العتاد! وكان يقود الجيش تيطس بن فسبسيانس، وكان قد اعتلي عرش الإمبراطورية،
قبل ستة أشهر، في إثر انقلاب قامت به الكتائب المصرية: وكان مصراً علي الفوز،
وبحاجة إلي أن يجعل من أكاليل غاره، دعامة عرشه. وأما إسرائيل، فكان آخر الولاة
الرومانيين قد داسو كرامته، وساموه من الذل ألواناً، فانتفض الشعب المختار انتفاضة
توهم، في خيلاته، أنها سوف تكون في جانب رومة مثل الطعنة المعجزة التي سددها
المكابيون إلي الجيوش اليونانية، فرح يصلي جيوش الإمبراطورية حرباً ضارية، وإن
غوغائية.

 

. هل
هو الزمان الذي أنبأ به المسيح.. لقد كانت ” الآيات ” قد تحققت، وليس
فقط تلك الغرائب الفلكية، والزلازل الأرضية التي ذكرها افلافيس يوسيفس في تاريخه،
بل الأنبياء الكذبة أيضاً، والمسحاء الدجالون: وكان قد تفاقم عددهم، وكثر بينهم
الأغنياء والمشعوذون. ولا بدع، فأنه ليس من مختل إلا ويجري في إثره أتباع!..

 

أو لم
يتفق لأحد المتهوسين المصريين أنه حشد الجماهير يوماً في جبل الزيتون، وطفق يؤكد
لهم أنه يستطيع – بإشارة من بنانه – أن يهدم أسوار المدينة؟.. وقد ظهر أيضاَ
” نبي ” أخر، اسمه يشوع بن حنان – وكان رجلاً أمياً من الريف – وراح ينادي
في الشوارع والساحات، قائلاً: ” أقوال من الرياح الأربع! أقول علي أورشليم!
أقول علي جميع الشعب!”

 

إلا
أن بعضاً من أولئك القادة كانوا أكثر خطراً: منهم جماعه ” الخنجرين “،
وكانوا قد خلفوا ” الغيورين ” في سياستهم، وكان علي رأسهم قائد غريب
الأطوار، مقدام جهنمي، يدعي يوحنا الجشقالي، وكانوا يعملون علي فرض طغيانهم بشفار
الحناجر.. وأما المنازعات الضارية، والأحزاب المتطاحنة، والحروب، الفتن، فقد
خبرتها المدينة خبرة واسعة! وكان الصدوقيون والفريسيون والزيلوتيون – حتى أثناء
الحصار – يتناحرون داخل الأسوار. فمنهم من أقاموا في برج داود. ومنهم من طوقوا
الهيكل واحتلوا أوفيل وبيت حسدا، ومنهم أخيراً من تحصنوا داخل الحرم. واجتاحت
الفضائح كل مكان، وهب الخنجريون – وهم الذين أعلنوا الفتنة تأييداً لحرمه الله
والشريعة! – يسبون النساء اليهوديات، وينتهكون الأعراض، ويستبيحون القتل والاغتيال
سبيلاً إلي الانتقام ومطية للكسب والجشع. وكان تيطس يرابط في جبل سكوبس، ومنه يوجه
الزحف علي المدينة بصورة منتظمة. وكان اليهود – بادئ الأمر – علي ثقة من قوتهم:
يعدون عشرة آلاف محارب يهودي، وخمسة آلاف أدومي من المرتزقة المغاوير. وكانت
المدينة تبدو لقاطنيها حصناً أعز من أن ينال، وقد أحدق بها ثلاثة أطواق من
الأسوار، وقام علي خفارتها تسعون برجاً. وكان في المدينة. فشلاَ عن ذلك، أربع مئة
منجنيق، كان اليهود قد ابتزوها – قبل فترة من إحدى الكتائب الرومانية. وتم الوفاق،
نوعاً ما، داخل المدينة، فصمدت في وجه الحصار. بيد أن الرومان، إن لم يحرزوا بقوة
سواعدهم إلا انتصارات بطيئة، فقد صادفوا في الجوع – ذاك الذي تنبأ به المسيح
أيضاً! – حليفاً أشد وبالاً وأسرع فتكاً! فلقد كانت المدينة تغص بسكانها، وقد
داهمها العدو مداهمة سريعة – وهذا أيضاً أنذر به المسيح! – فانحجز فيها حجاج الفصح
مع عدد كبير من لاجئ الأقاليم. وضرب عليها تيطس جداراً محصناً – طوله 8 كيلوا
مترات – قطع عليها جميع الموارد. فاضطرب الجنود إلي التقوت من سلبهم، وكل الذين
حاولوا الإفلات من ذاك الجحيم، وقعوا في متارس الأعداء: أما النساء فكان الرومان
يبترون أيديهن، ويردونهن إلي المدينة، وأما الرجال فكانوا يصلبونهم علي مشهد من
مواطنيهم. وقد اندلعت يوماً أمعاء أحد المصلوبين، تحت وقر النقود الذهبية لتي كان
قد خبأها في أحشائه، فأخذ الرومان، مذ ذاك يبقرون بطون المساجين عن يد معاونيهم في
الجيش من بدو وزنوج! واشتدت وطأة الجوع، فاضطر الأهلون إلي ارتكاب ما لا ينعت من
الفظائع. فقد استروح بعض الجنود، يوماً، رائحة شواء منبعثة من أحد المنازل،
فولجوه، فتقدمت إليهم امرأة بطبق من فضة، وهي تنطلق في ضحكة جنوبية: وإذا فوق
الطبق أشلاء طفل!

 

.
واستمرت ذاك الهول مئة يوم. واقتحم الرومان الجدار الثالث فالثاني، وما استسلمت
أورشليم! وراح الرومان يحتلون الأحياء بيتاً بيتاً حتى خيل إليهم أن ليس هناك من
قوة تمكنهم من الإجهاز علي تلك المدينة العصية. وكان أهلها قد أمسوا من الجوع
أطيافاً، وجثثاً مهزولة، وظلوا مع ذلك، يجدون إلي الجلاد سبيلاً. ولما أخذت
الأنطونيا، أصبح الهيكل معقلهم الوحيد، يردون من ورائه زحف الرمان الشامل. وتردد
تيطس في إضرام النار، ” تلك المعجزة الرائعة ” – علي حد ما وصفها تاقيطس
– أفيكون دمارها عن يده؟.. وكن لما لم يعد له أي حيلة في حطم المقاومة، أشعل
النيران عند أبواب الهيكل، فالتهب الأرز النفيس، وسال الذهب والفضة، وانهار رواق
سليمان، إذ ذاك اقتحم العصاه ألسنة النيران المندلعة – وعلي رأسهم يوحنا الجشقالي
– وذوا، عن طريق جسر التروبيين، بالمدينة العالية، وقد باتت مفزعهم الأخير.
فتعقبتهم الخيالة النوية عدواً فوق الأزقة المنحدره، مكتسحين كل شئ في طريقهم، ما
بين دحرجة الجماجم المحصودة..

 

.
ولما استوسق النصر لتيطس، هب بتدبر مع أركان جيشه طريقه الحد من الدمار. فولج
المقدس، وتقدم إلي الجند بإطفاء النار. ولكنهم لم يعوا من أو مراه شيئاً، وقد
استفرسهم طول الانتظار، وضراوة القتال. فأمعنوا في اليهود قتلاً وسيبياً، وذبحوا
الكهنة عند باحات الهيكل. وكان الجنود الرمانيون ومرتزقتهم من البدو بحملون
المشاعل، ويذكون الحرائق، ويعيشون في المدينة دماراً لم يعد له من عائدة سوي أنه
كان تنفيذاً لحكم القدر، وتحقيقاً لأغراض السماء! وقد قال الروماني المنتصر: ”
لقد كانت وطأة يد الله علي ذاك الشعب من الوضوح بحيث كان من الكفر أن نعفي
عنه!”.. وانسحب تاركاً إسرائيل الأولون قد لجأوا إلي بلا، في شرقي الأردن،
وكانوا قد عرفوا – قبل فوات الأوان – أن يتبصروا في طلائع الكارثة، وكانوا كلما
ترامت إليهم الأنباء المخفية، يتذكرون أقوال المعلم النبوية.. قد تحققت جميعها!
” الحق أقول لكم “: ” إ، هذا الجيل لن يزول، ما لم يتم الكل!
السماء والأرض تزولان. وأما كلامي فلا يزول البتة! ” (لوقا 21: 33)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى