علم المسيح

الإثنين



الإثنين

الإثنين

. في
الغد عاد يسوع إلي المدينة، ” وكان كل يوم يعلم في الهيكل وكان روساء الكهنة
والكتبة ووجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه. بيد أنهم لم يجدوا إلي ذلك سبيلاً لآن
الشعب كله كانوا يستمعون إليه في شغف ” (لوقا 19: 47-48)

 

و كان
يسود المدينة في مثل تلك المواسم، هرج عظيم. فقوافل الحجيج كانت تشخص إلي هيكل
الله، من جميع المنافذ، والضيوف يزحمون في المنازل والخيام تنبعث من الأرض، وسط
الكروم والزيتون، في الحدائق المجاورة، وفوق الهضاب والروابي. وكان التررخس هيردوس
أنتيباس قد وافي المدينة من الجليل والوالي الروماني، بنطيس ببلاطس، قد وصل من
قيصرية. وكان قد اعتاد المقام في أورشليم في موسم الفصح، تدعيماً للحامية
الرومانية المرابطة في ” الانطونيا ” وتحفظاً من تلك الجماهير اليهودية،
السريعة إلي الفتنة والشعب. وكانت آمراته قد رافقته إلي أورشليم بدافع الفضول. وكانت
دروب العاصمة الضيقة ولا سيما الأحياء المطفية بالهيكل، تغص بالجماهير، مصطفقة
مزدحمة، ساطعة الروائح، ينبعث منها – مع جلبه الناس، وثغاء الحملان – ” نشيد
المراقي ” موقعا علي نغم ” ظبية الصبح ”

 

. إن
تعاقب أحداث هذه الأيام، يبدو في الإنجيل علي جانب من الوضوح، ولا سيما في إنجيل
مرقس، ومع إننا لا ندري لماذا حشد معظم الأحداث في نهار الثلاثاء. فليس من العسير
أن نتتبع سياق الوقائع، في خطوطها الأساسية. فيسوع قد غادر، باكراً مبيت ليلته –
ولعله منزل أحد أصدقائه ” بيت لعاذر؟ أو سمعان الأبرص؟ ” أو لعله أيضا
بستان جتسماني، حيث سنراه، عشية الخميس – وأوفي الهيكل حيث كان المؤمنون قد أخلدوا
إلي الصلاة.. ثم أنشأ تعليمه، ما كان يطرح عليه من أسئلة، وما كان يجري حوله من
أحداث

 

فقي
صبيحة الاثنين، إذ كان بعد في الطريق، جرت حادثة، من تلك الحوادث، علي جانب من
الغربة، وقد دونها متي ومرقس، بشيء من الاختلاف. فقد رأي شجرة تين، علي الطريق،
فدنا إليها ” وكان قد جاع ” لعله يصيب فيها ثمراً، فلم يجد آلا ورقا
فقط، فقال لها: ” لا تكن فيك ثمرة إلي الأبد لا يأكلن أحد ثمرة منك إلي الأبد
” (متي 21: 18 – 19، مرقس 11: 12 – 15)..غريبة هذه اللعنة ولكم سال، في تفسيرها،
من مداد.. فهل يعقل أن يحمل التين في الربيع؟ لقد تجادلوا في ذلك: فقد ورد في
التلمود أن بعضهم أكلوا التين ثاني عيد الفصح، ومنهم من أكلوا في آذار.. ومهما يكن
من أمر فإن مرقس قد حسم المعضلة بقوله ” إنه لم يكن أوان التين {علي افتراض
أن هذه الكلمات ليست من زيادات ناسخ منطقي). فما الحكمة اذن من تلك اللعنة التي
تحققت في الحال؟ فالتينة قد يبست من ساعتها ” بحسب رواية متي ” – أو في
الليلة التالية ” بحسب رواية مرقس، وقد ذكر أن التلاميذ ألفوها يابسة غداة
الغد “. إننا بإزراء نموذج فريد ” أقلة في الأناجيل القانونية ”
مما يمكن أن نسنيه ” معجزة اقتصاصية ” {وأما في الأناجيل المنحولة فنقع
علي مثلها} والغريب أنها تضم شجرة، بل شجرة محترمة، لم يكن من واجبها أن تحمل
أكلاً في ذاك الربيع الباكر.. إن في ذلك لعبرة لم يلبث المسيح أن استخلصها. فقد
سأله التلاميذ، مستغربين ” كيف يبست التينة علي الفور؟ “، فأجابهم:
” الحق أقول لكم، إن كان لكم إيماناً ولا تترددون، لا تفعلون ما فعلت بالتينة
فقط، بل إن قلتم أيضاً لهذا الجبل: قم من ههنا واهبط في البحر، فإنه يكون ذلك. وكل
ما تسألونه في الصلاة تنالونه ” (متي 21: 21، مرقس 11: 23).

 

. بيد
أن هناك أيضاً تفسيراً نبوياً يمكن الأخذ به. فحادثة التينة هي – علي ما يبدو – من
جملة تلك المآني الرمزية – الطريقة أحياناً – التي كان يعمد إليها الملهمون
العظام، للإنذار بالكوارث. من ذلك ما صنعه ارميا، يوم ابتاع جرة من عند الخزاف،
وراح ضارباً بها الأرض، علي مشهد من الملأ (ارميا 19)، وما صنعه حزقيال، يوم أمر
الموسى علي رأسه ولحيته (حزقيال 5). فالتينة الملعونة هي، ولا شك – في نظر
الإنجيليين – إسرائيل، تلك الشجرة المورقة طقوساً وشعائر العارية من ثمار الحب
الراهن، ولسوف يشير إليه المسيح، في هذا النهار عينه، إشارة جلية، بأمثال ثلاثة

 

.
” كان لرجل ابنان. فدنا إلي الأول وقال له: ” يا بني، أذهب اليوم واعمل
في الكرم “، فأجاب وقال: ” لا أريد ثم ندم وذهب ‍‍” ودنا إلي
الأخر، وقال له القول نفسه. فأجاب وقال: ” هاءنذا أذهب، يا سيدي “، ولم
يذهب. فأي الاثنين فعل إرادة الأب؟”. لقد علق بوسوية علي هذا النص، فاستخلص
منه درساً نفسياً سديداً قال: ” إن أصحاب الكباثر هم، في الغالب، أدني إلي
التوبة من أصحاب التأدب الهزيل العقيم ‍‍‍” والمسيح أدري بما يكمن، حتى قي
قلب المسيحي الأفضل، من توان وثورة ولكنه يؤثر ألف مرة الخاطئ التائب، علي المنافق
المتظاهر بالطاعة، ونفسه تضج بالعصيان. ألا فاسمع، بل إسرائيل: ” إن العشارين
والزواني يسبقونكم إلي ملكوت الله ‍” (متي 21: 28 – 32)

 

.
ويبدو أن تصلب إسرائيل قد أمسي، عند المسيح، شغله الشاغر. فهو الذي أشجاه، أمس،
حتى البكاء وهو الذي ما زال يساوره، بلا انقطاع ويقذف في قلبه ذاك العذاب الفسيح
الذي يتمرس به كل حب خائب. وقد رجع، في غصون ذاك النهار، إلي استعمال مثل الكرامة:
فهل كان بالإمكان أن يخطئوا فيهم مراميه، أولئك اليهود المتضلعون من
الكتاب؟..” كرم الله هو آل إسرائيل..”، علي حد ما جاء في نص معروف من
نبوءة أشعيا، كرم كان يتوقع منه خمر شهي، فما جاء إلا بالحصرم.. ثم أولئك الكرامون
الذين سلمهم رب الكرم أجود ما في رزقة، ومعصرته وبرجه، فلما انتهي أوان القطاف،
أبو أن يدفعوا الغلال، بل هبوا يعنفون موفدي سيدهم، إلي أن أوقعوا آخر الأمر،
بوريثه وابنه الحبيب، فأولئك الكرامون، من ذا، من بين الحضور، لم يعرفهم؟ لقد كان
التلميح من الشفوف، بحيث انبعث من الجمع أصول تقول: ” معاذ الله ”
احتجاجاً علي ما جاء في خلاصة كلامه، من أن رب الكلام سوف يزيل أولئك القتلة،
ويدفع الكرم إلي آخرين. فأبي يسوع إلا أن يفصح عن فكرته ” فحدق إليهم – وما
كان أروع ذاك الوجه الرهيب – وصاح مستشهداً بالمزمور (118: 22): ” وأما قرأتم
قط في الكتب: إن الحجر الذي رذله البناوون. هو صار رأساً للزاوية؟.. أقول لكم:
” إن ملكوت الله ينزع منكم ويدفع إلي أمة تستثمره ” (متي 21: 23 – 33-46،
مرقس 12: 1 -12، لوقا 20: 9-19)

 

.
ولكأن المسيح، منذ تلك اللحظة، قد صمم ألا يعمد من بعد إلي التأني فأنشأ يتحدى
الرأي العام تحدياً متعمداً، ويحمل مواطنيه علي مواجهه مسئولياتهم مواجهة كاملة..
بوسعهم، ولا شك، أن برفضوا دعوة الله إلي الاشتراك في مأدبة العرس، وأن يؤثروا
الانصراف إلي أشغالهم ومهاسهم وأن يقدم بعضهم علي اغتيال موفدي الملك أجل، وإنما
يجب ألا يستقربوا بعد ذلك، أن يدعي غيرهم إلي احتلال محلهم إلي موائد العرس، وأن
يبحث عن شعوب الأرض قاطبة، وحيثما اتفق من الدروب، فيؤخذوا في تلك الشباك الرحيبة.
التي سوف تقذفها في الكون بشارة الإنجيل (متي 22: 1-14)

 

. لم
يكن ذاك التعليم ليهودي في الفراغ، بل كان يبعث في الجماهير المتراصة في باحات
الهيكل تموجات عنيفة. وكان المجلس الأعلى ما زال عند قاره بإهلاك يسوع، لا بل أمسي
أحرص علي تنفيذه من أي يوم مضي. بيد أنه كان يهيب إلقاء القبض عليه، وهو في وسط
أتباعه والمعجبين به، فأخلد إلي الحيلة، وأنقذ إليه وفداً يقول له: ” بأي
سلطان تفعل هذا؟ ومن خولك هذا السلطان لتفعله؟” أجل ما هذه الفضيحة التي أقدم
عليها في الهيكل، ومن صرفه في قلب موائد البدالين، ومجاثم الحمام وفي شتم الأمة الإسرائيلية
جهاراً؟.. سؤال ختال!.. فإن قال إنه فعل ذلك بصفته ألهاً، وبتفويض من الله، فقد
وقع في تهمة التجديف، وإن نكل وتهرب، فتلك ضربة نجلاء في جانب سطوته.. ولكن
المسيح، وإن لم يألف الهبوط إلي أساليب المماحكة الربينية، فقد كان يعمد إليها
أحياناً، لا بل كان يفرغ عليها شيئاً من دعابة أهل الريف. فقال لهم: ”
أحياناً لي إليكم سؤالاً واحداً. أجبيوني عنه فأقول لكم: بأي سلطان أفعل هذا.
معمودية يوحنا، من السماء أم من الناس؟ أجبيوني!”. فجعلوا يفكرون في أنفسهم
قائلين: ” إن قلنا من السماء، قال: فلم إذن لم تؤمنوا به، وإن قلنا من الناس،
رجمنا الشعب كلهم لأنهم يعدون يوحنا نبياً “، فأجابوا يسوع وقالوا: ” لا
نعلم! “، فقال لهم هو أيضاُ ” ” ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل
هذا ” (متي 21: 23-27، مرقس 11: 27-33، لوقا 20: 1-8). من البديهي أن خصوم
يسوع، في إثر تلك المصاولات، كانوا بزدادون إصراراً علي قتله. ولقد هموا، بعد
سماعهم مثل الكرامين القتلة، أن يلقوا القبض عليه، وقد أدركوا حتى الإدراك أنه
أنما عناهم به، ولكنهم خافوا من الجمع (لوقا 20: 19)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى