علم المسيح

إقامة لعازر



إقامة لعازر

إقامة لعازر

.
وكان في بيت عنيا – قرية مريم ومرثا- مريض اسمه لعازر، وهو أخوهما. فأوفدت الأختان
إلَى يسوع، تقولان: ” يا رب، إن الذي تحبه مريض! “: نداء رقيق، واستنجاد
موُرّى! لقد كانتا تعرفان يسوع حق المعرفة، وتعلمان أن كلمة واحدة رصينة أوقع في
قلبه من جميع التوسلات البكّاءة.. فهل كان المسيح قد توغّل في وادي الأردن، أو في
منطقة النجاد الشرقية؟.. أم هل أخطر المريض فجأة من بعد أن قفل الرسول؟.. الواقع
أن المسيح لبث أيضاً يومين قبل أن يجمع على المسير، فمات لعازر في أثنائهما. ولكن
يسوع كان واثقاً من قدرَته، وكان له في موت صديقه شأن: ” هذا المرض ليس
للموت، بل لمجد الله! ”

 

.
فلمّا وقف التلاميذ على قرار معلمهم بالرجوع إلى اليهودية، بل بالشخوص إلى بيت
عنيا، في ضواحي أورشليم، استغربوا قائلين: ” رابي! منذ حين كان اليهود يطلبون
رجمك، وتعود إلى هناك؟ ” (لقد كانت إذن من مستلزمات الفطنة تلك الرحلة إلى
” بيرية “). فهدّأ المسيح من رُوعِهم: لَمْ توُلّ بعد ساعات النهار،
والليل لم يدهم الأرض. فما بالهم خائفين وهم سائرون بعد في وضَح النور؟ ولكنّ ذلك
لم يكن ليبدّد تماماً مخاوف أولئك الضعفاء. وواصل يسوع كلامه: ” إنّ لعازر
صديقنا قد رقد، إلاّ أثي أنطلق لأوقظه! “. ففكرّ التلاميذ قائلين: ” ليس
من بأس على المريض على المريض أن ينام “، ومعنى كلامهم أن ليس من حاجة إلى أن
تزعج نفسك بالذهاب إليه. وقد جاء في بعض الأقوال المأثورة في فلسطين: ” من
نام فقد تعافى! “. فكان لا بدّ إذن من مصارحتهم بالنبأ: ” لعازر قد مات.
وأنا من أجلكم أفرح بأني لم أكن هناك، لكي تؤمنوا بما ستعاينون “. ثم قال،
حازماً: ” هلصّوا بنا إليه! “. فلما رآه توما -الملقّب بالتوأم – مزمعاً
الرحيل، قال للتلاميذ الآخرين: ” فلنمض نحن أيضاً لنموت معه! ”

 

..
توما!.. لله درّه! عبارته الوجيزة الجريئة حافلة بالحب والسخاء إن لم تكن حافلة
بالإيمان. أجل، إنه ذاك الذي سوف يطالب بلمس جراح المسيح، لكي يؤمن بقيامته. بيد
أننا نُكْبرُ له أنه تزعّم الصحابة في ظرف لم يكن ليخلو من المحاذير. وتلك هي
المرّةَ الوحيدة، نراه فيها ينتحل الزعامة. فلقد اعتاد بطرس ألاّ يترك لآخر حقّ
الإدلاء بالكلام الفصل. فهل كان غائباً، يوم ذاك؟ أم هل تخلف عن الرحلة إلى ”
بيرية “؟.. لقد افترض ذلك، واستدل عليه بما وقع في الأناجيل المؤتلفة من
إغفال حدث بمثل هذه الخطورة. فالبشير يوحنا قد تفرد بتدوينه مسهباً في الفصل
الحادي عشر من إنجيله. فإذا عرفنا أن الكرازة الأولى قد استندت استناداً وثيقاً
إلى ذكريات بطرس، تبين لنا أن إغفال متى ومرقس ولوقا لتلك المعجزة، ربما كان سببه
غياب بطرس (2)..

 

. لما
وصل يسوع إلى بيت عنيا، كان لعازر قد أودع القبر منذ أربعة أيام وإذا كان بيت عنيا
لا تبعد عن أورشليم أكثر من خمس عشرة غلوة، فقد أقبل كثير من اليهود على مرثا
ومريم يؤدون لهما فروض التعازي. فلما سمعت مرثا بقدوم يسوع، هبت لإستقباله؛ وبقيت
مريم جالسة في البيت. فقالت مرثا ليسوع: ” يا سيدي، لو كنت ههنا لما مات أخي.
لكني أعلم أنك الآن أيضاً، مهما سألت الله، فالله يعطيك “. فقال لها يسوع:
” سيقوم أخوك! “؛ فقالت له مرثا: ” أنا أعلم أنه سوف يقوم وقت
القيامة، في اليوم الأخير! ” قال هلا يسوع: ” أنا اليقيامة والحياة! من
آمن بي، وإن مات، فسيحيا. أتؤمنين بهذا؟ ” قالت: ” نعم، يا سيدي! أنا
مؤمنة أنك أنت المسيح ابن الله، الآتي إلى العالم! ”

 

.
قالت، ومضت تدعو أختها، وأسرّت إليها قاثلة: ” المعلّم ههنا، وهو يدعوك!
“. فلمّا سمعت نهضت مسرعة، وجاءت إليه. فلقا انتهت إلى حيث كان يسوع، خرت على
قدميه، وقالت له: ” يا سيدي، لو كنت ههنا لما مات أخي “. فلما رآها يسوع
تبكي، ارتعش في روحه، واضطرب، ثم قال: ” أين وضعتموه؟ “؛ قالوا له:
” يا سيدّ، هلمّ وانظر! “. فبكى يسوع، فجعل اليهود يقولون: ”
أنظروا كم كان يحبهّ! “. قال بعضهم: ” ألم يكن في وسعه، هو الذي فتح
عيني الأعمى، أن يجعل هذا أيضا لا يموت؟ ”

 

.
فارتعش يسوع أيضاً فُي نفسه، وجاء القبر – وكان مغارة- وقد وضع عليه حجر. فقال
يسوع: ” إرفعوا الحجر! “. فقالت له مرتا، أخت الميت: ” لقد أنتن،
يا سيدّي، فإن له أربعة أيام! “. قال لها يسوع: ” أما قلت لك أنكِ إن
امنت، ترين مجد الله! “. فرفعوا الحجر. فرفع يسوع عينيه إلىَ ما فوق، وقال:
” يا أبت! أشكر لك أنك سمعت لي! لقد كنت أنا عالماً بأنك تسمع لي على الدوام.
وإنما تكلّمت هكذا، من أجل الجمع المحيط بي، حتى يؤمنوا أنك أنت أرسلتني “.
قال هذا وصرخ بصوت جهير: ” لعازر، هلم خارجا! “، فخرج الميت، ويداه
ورجلاه مربوطات بلفائف، ووجهه مغثطّىً بمنديل. فقال لهم يسوع: ” حلوّه،
وأطلقوا سبيله! ” (يوحنا 11: 17-44)

 

. إن
وصف هذا المشهد، في إنجيل يوحنا، له من الحقيقة والدقة والقوّة ما هو خليق
بالإعجاب. وبإمكان كل روائي أن يلاحظ أن أوصاف الشقيقتين – مرتا ومريم – في إنجيل
يوحنا، شديدة الشبه بالملامح النفسية التي أثبتها لهما البشير لوقا، في إنجيله.
فالواحدة أجرأ في التعبير عن رأيها؛ مؤمنة، ولا ريب؛ ولكنها من رهط النساء
القوياّت اللواتي لا يكرهن المجابهة أحياناً. وأما الأخرى فوديعة، واعية، غارقة في
الثقة والخضوع.. هذا وقد أغفل البشير لوقا أعجوبة ” ألإحياء ” هذه؛ كما
أغفل البشير يوحنا مقام المسيح في بيت عنيا؛ وفي ذلك دليل واضح على صحة الشهادتين
في تطابقهما، وعلى أننا بإزاء أحداث راهنة، وأشخاص حيةّ.. وليس وصف نفسية المسيح
بأقلّ دقة؛ وقد رأيناه يضطرب اضطراب البشر، لموت صديقه، ويذرف الدموع، (وتلك هي،
إلى جانب العبرة الي انهمرت من مقلتيه، يوم تبّأ بسوء منقلب أورشليم (لوقا 19:
41)، الدموع الوحيدة التي يذكرها الإنجيل)؛ ويرتعش تلك الارتعاشة السريةّ، قبل أن
يأتى بالمعجزة، وكأنّ حضور الإله فيه قد أرهب الجسد!.. وثمة أيضاً تفاصيل واقعية
أخرى لم تَخْفَ عن الإنجيلي، من مثل الملاحظة التي أفصحت عنها مرثا، المرأة
العملية: ” لقد أنتن!.. ”

 

.
وأمّا من الناجة الأثرية فليس ثمة كبير غناء. ففي قرية ” العازرية “،
التي تحتل اليوم موقع بيت عنيا، وتحفظ، ضمن اسمها بالذات، ذكرى الأعجوبه، يوجد
قبر، يقال – على غير مستند وثيق – إنه القبر الذي خرج منه لعازر مستجيبأ لنداء
المسيح. وعلى كل فمثل تلك القبور متوفّرة جداً في فلسطين. وهي بعيدة كل البعد عن
تلك النواويس القديمة التي كثيراً ما عمد الرسّامون إلى إثباتها، في تصوير ذاك
المشهد. فالقبور، في فلسطين، كانت تحفَر في الصخر، غرفة صغيرة تتقدمها غالبا حجرة
تمهيدية، ويغلق عليها بحجر عظيم كان يدحرج على بابها. وكانوا يودعونها الجثُث، من
غير نعش، ملفوفة بلفائف، ومضمّخة بشتىّ العطور والأطياب. فنحن نتصوّر ما كانت قد
أصبحت رائحة الجثة بعد أربعة أيام!.. مشهد من أشهر المشاهد الانجيلية. ويبدو أن
معجزة ” الإحياء ” هذه قد تركت في المخيلّة المسيحيه وقعاً أشدّ أثرا من
سائر ” الإحياءات ” الأخرى التي صنعها المسيح في الجليل، وربما كان
السبب، في ذلك، ما تميزت به رواية المعجزة، في انجيل يوحنا، من روعة فنيّة،
وملاحظات ذات بال. وهذه الحادثة، في موقعها من سياق الإنجيل الرابع، قد بات لها
شأن أوّل. وليس فقط لأن وقائعها هي التي حملت اليهود –على ما جاء في الانجيل – على
اتخاذ القرار الحاسم بالقضاء على يسوع (وذلك ما كان قد توقّعه توما، على ما يبدو)،
– وكأنّ المسيح قد تعمدّ تحقيق تلك المعجزة، عند أبواب المدينة، وبمحضر من شهود
كثيرين لكي يِقع ما كان لا بدّ واقعا! – بل لأنّ تلك الأحداَث قد اكتسَبت أيضاً
معنىَ يفوق الطبيعة. فالكلمات التي صرّح بها يسوع بقوله: ” أنا القيامة
والحياة! “، – وذلك بضعة أيام قبل الأسبوع الفاجع الذي استشهد فيه – إنما قد
حفلت بأبلغ دلالاتها. فموت لعازر لم يكن سوى ” عبور “، وحدث لم يقطع
عليه مجرى الحياة. فالذين امنوا قد وعدوا النورَ حتى من وراء مَغَاليق الظلام.
وإحياء لعازر إنما هو – في ان واحد – أبلغ دليل على ألوهية المسيح، وإيذان بتلك
المعجزة الأخرى وذاك النصر المبين الذي سوف يحرز به الغلبة على الموت

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى