علم المسيح

عيد المظال



عيد المظال

عيد المظال

. كان
عيد المظال من أبهى الأعياد المذكورة في التقويم اليهودي. فهو، في نظر يوسيفوس
” العيد الأعظم والأقدس “؛ فإذا قيل ” العيد ” فهم أنه عيد
المظالّ. وكان يستقطر إلى أورشليم، في الخامس عشر من تشري (تشرين الأوّل)، جموعاً
غفيرة، وإن لم تكن لتضاهي احتشادات الفصح. فالسنة الزراعية تكون، إذ ذاك، قد
انتهت، والغلال قد خُزِنت، وقطاف، العنب قد أُنْجز، والسنة المدنية قد استهلّت في
الأوّل من تشرين، جَارية، في ذلك، مجرى نظام الدورة الزراعية. ويكون الناس، خمسة
أيام قبل العيد، قد احتفلوا، في جوّ من الحزن والصوم، بعيد التكفير (” يوم
كبوّر “) وأطلقوا في الصحراء التيس الرمزي، مثقلاًً بأوزار الشعب الإسرائيلي.
فإذا أقبل عيد المظال، أقبلت معه النشوة والأفراح؛ وكيف لا وهو ذكرى مُقام
العبرانيين في الصحراء، بعد إذ أعتق موسى العظيم شعبه من نير الفراعنة، وأخرجه من
مصر، وأعدّ ه لأمجاده المقبلة، ومصيره الخارق

 

.
وكانت المدينة، مدة ثمانية أيام، تزدان بأحلى زينتها؛ فكان على كل إسرائيلي –
بأمرِ صريح من سفر الاويين (اصحاح 23)، واستذكاراً للمتاهات الطويلة، وقادشَ،
والمواقف في الصحراء- أن يغادر منزله مدة أسبوع كامل، ويسكن في خيام أو خصاص.
فكانت أسطحة البيوت والساحات العامة، وجوارُ الهيكل، والهضابَ القريبة، وكل البقعة
تحفل بتلك البيوت الخفيفة، وتزدان بأغصان متعانقة، من الصنوبر والزيتون والآس
والنخيل. هذا ولم يكن أصحاب الرزق، من الناس، ليكرهوا المقام بقرب غلالهم ودنانهم،
وحجبَ اللصوص عن قضاء أوطارهم. وأمّا الحُجّاج القادمون من أطراف البلاد، فكانوا
يصادفون في تلك المخيّمات الطريفة، عند فترة الاعتدال المناخي، لهوَةً مستحبة بعد
حقبة الأشغال المضنية

 

.
وكانوا طبعاً، من طرف النهار إلى طرفه الآخر، أي من الساعة التاسعة حتى الثالثة
والنصف -لأن النهار الطقسي يبدأ عند ذبيحة المساء – يسفكون دماء الأضاحي في الفناء
المقدس، فتتصاعد، من مذبح المحرقات، روائح الشحوم المشوية، وتسطع في جوار الهيكل
كريهةً ولكن مرضية – في نظرهم – عند الله. وكانوا يشتركون في الحفلات، وفي أيديهم
أغصان من الشجر، بحسب فرائض الشرع: ” خذوا لكم ثمر أشجار نضيرة، وسعف نخل،
وأغصان أشجار أثيثة، وصفصافاً نهرياً، وافرحوا أمام الرب إلهكم ” (لاويين
23). فكان يصادف في الشوارع حجاج، وفي يمناهم صحبة من أغصان اللبخ الخضراء، وفي
الأخرى ثمرة من ثمار الأترنج، (وهما من النباتات التي عثر على رسومها في الدياميس
اليهودية). وكان يعتقد أن مقدار الإيمان بمقدار ضخامة اللبخة أو مقدار الأترنجة.
وكانت لبخة بعض الفريسيين من الضخامة بحيث كانوا يضطرون إلى إسنادها إلى مناكبهم.
وكان الناس يلوحون بتلك الأغصان المباركة، أثناء الحفلات، في الاتجاهات الأربعة،
ويصدحون بالأناشيد القديمة والتافات الطقسية: ” هليل!.. هليل!.. هللويا..
المجد لله!.. ”

 

.
فإذا أقبل هذا العيد اقترح على يسوع ” إخوتهُ ” – وربما بعضٌ من تلاميذه
– أن يصعد إلى أورشليم. فرفض، بادىء ذي بدء، وأرسلهم وحدهبم أمامه؛ ولقد أبى، ولا
شك، دخول المدينة في شبه احتفال شعبي، لئلا يؤول ذلك إلى تأويل رسالته بما يمالىء
أحلام الماسويةّ اليهودية. بيد أن المسيح، قبل انقضاء الأسبوع المقدّس، شخص إلى
المدينة شخوصاً مستتراَ، وبدأ فيها كرازته

 

! في
وسط ذاك الحشد المتهلل، حتى النشوة، بذكريات أمجاده الدينية، استهل المسيح رسالته
للحاضرة المقدسة. وكان، كسائر الحجّاج، يرقد تحت المظلّة التقليدية، وقد رفعوها
له، بمعزل عن المدينة، عند جبل الزيتون. وكان يحضر الحفلات الليلية المقامة
بمناسبة العيد. وربما اشترك في حفلة الماء، وهي حفلة رائعة التنظيم. يذهب فيها
رجال إسرائيل، في موكب طويل مهيب، يتقدّمهم الحبر الأعظم، وسدنة الهيكل، في حلُل
بهيةّ، إلى بركة سلوام، لاستقاء الماء المعدّة للسكيب المقدّس. وكان ينعم برؤية
الهيكل، في غمرة أضوائه، والشمعدانين الشاهقين، -وعلوهما خمسون ذراعاً- الشاخصين
إلى السماء بلهبتهما القطرانية، وألوف المشاعل، بين أيدي الجماهير، تحلوَلك لها
ليالي البدر. وكان يسمع، قبل انبثاق النهار، صداح الأبواق الفضيةّ، ينفح فيها،
أربعاً، اثنان من الكهنة العازفين: فالنفير الأول عند صياح الديك، والثاني، فوق
درج الهيكل، عند المرقاة العاشرة، والثالث عند مدخل باحة النساء، وأمّا النفير
الرابع فكان النافخ يمشي به حى عتبة المُصلىّ. ولم يكن أحد ليستغرق استغراق يسوع
فى صلاة الضحى: ” كما كان أباؤنا قديماً يتجهون وجهة الشرق، إذكانوا يعبدون
الشمس عند شروقها، نحن الآن نتتَجه إليك أيها السيدّ، لأننا إنما نحن لك، اللّهم!
“. لقدكانت كل تلك الشعائر تنطوي، ولا شك، على رموز؛ فسكب الماء كان، في
نظرجميع اليهود، أكثر من مجرّد إجراء سحريّ لاستمطار السماء على الأراضي العطشى؛
والسبعون ثوراً التي كان العيد يقتضي تقريبها فوق المذابح، كانت ترمز إلى دخول
السبعين أمةّ وثنية في طاعة إسرائيل.. بيد أن المسيح كان لا بدّ أن يتناول تلك
الرموز، ويستنبط منها دروساً جديدة

 

. لم
يبقَ قدوم يسوع إلى أورشليم، حدثأ مطوياً. فشفاء المخلعّ عند البركة ذات الخمسة
الأروقة، قبل بضعة أشهر، لم يكن بعد قد غرب عن ذهن الناس. هذا ولم يكن الجليل
بعيداً جداً، فانطلقت منه، ولا شك، أصداء مآثره، يحملها الحجّاج الاقليميوّن
الوافدون إلى صهيون للعيد. وقد أثبت البشير يوحنا، في إنجيله، بكثير من الدقة،
الأحداث التي بعثها ظهور يسوع فوراً، في العاصمة: ” كان اليهود يطلبونه في
العيد، ويقولون: ” أين هو؟ “. وكان في الجموع كثير من المهامسة في شأنه.
فمنهم من كان يقول: ” إنه صالح! “، ومنهم من يقول: ” كلاّ؟ ولكنه
يضلّ الجمع! ” (يوحنا 7: 11 -12). ولا ريب أن حزب الفريسسيين كان قد بدأ، كما
في الجليل، يستعيد سلسلة شكاويه: فيسوع لا يصوم، ولا ُيحكم فرائض الوضوء، ويخالط
الوثنيين والعشاّرين والزواني، ويلحق بشريعة السبت تعدّيات لا تطاق!.. ومع ذلك فما
إن شرع يسوع في الكلام حتى ساد الجمهورَ اليهوديّ ماكان قد ساد أهل الجليل من
إعجاب: ” وكان اليهود يتعجبّون قائلين: ” كيف هذا الرجل يعرف الكتب ولم
يتعلّم؟ ” (يوحنا 15: 7)

 

.
وكان الناس يتوافدون لسماعه، وهو يتكلّم تحت أروقة الهيكل: ” إن تعليمي ليس
مني، بل ممنّ أرسلني. إن شاء أحد أن يعمل مشيئته، يعرف هل هذا التعليم هو منه، أم
أنا أتكلّم من عند نفسي.. ” (يوحنا 7: 16 – 17). ذاك ما كان قد صرّح به، من
قبل، في كلامه عن ” خبز الحياة “: فإنه لا إيمان بالله إلاّ عن طريق
المسيح، ولا يفقه كلام الله إلا، الذي استودع يسوعَ ذاته.. وهكذا اتخذ يسوعُ كلّ
حدث من أحداث العيد وسيلة للتعبير عن فكرته، وكلّ جزئية من جزئياّته موضوع رمز:
فذاك الماء الذي اغترفه الحبر الأعظم من بركة سلوام، بمغرفة ذهبية، وراح يسكبه في
طست فضي فوق مذبح المحرقات، قد أوحى اليه بفكرة مياه أخرى، تلك ” المياه
الحيةّ ” التي ذكرها، يوماً، للسامريةّ، والتي جاء في إرميا لومُ الشعب
الكافر الذي انصرف عنها (ارميا 2: 13). وإذا بالمسيح يرفع صوته قائلاً: ” إن
عطش أحد، فليأت إليّ ويشرب! من آمن بي، فستجري من جوفه، كما قال الكتاب، أنهار ماء
حيّ ” (يوحنا 7: 37 – 38). ثم تلك اللهبة المتفجّرة في جوف الليل، فوق قمة
الشماعد الليترجية، أفليست هي التي أوحت إليه بذاك التشبيه الشهير: ” أنا نور
العالم: من تبعني فلا يمشي في الظلام، بل يكون له نور الحياة! ” (يوحنا 8:
12)

 

.
وكان الجمع، كلّما استرسل المسيح في كلامه، يمعن في التجادل: ” وإذ سمع بعض
الجمع هذا الكلام، قالوا: ” لا جرم أن هذا هو النبيّ “؛ وقال آخرون:
” بل هو المسيح! “؛ وقال غيرهم: ” أمن الجليل يأتي المسيح؟.. أفلم
يقل الكتاب: إنه من نسل داود، ومن بيت لحم، بلدة داود، يأتي المسيح؟، فنشب في
الجمع انشقاق بسببه ” (يوحنا 7: 40 – 43). ومع ذلك، ” فقد آمن به كثيرون
من الجمع؛ وكانوا يقولون: ” متى جاء المسيح، فهل تراه يعمل آياتٍ أكثر من
هذا؟” (يوحنا 7: 31) مذ ذاك أخذ رؤساء الكهنة يتناذرونه موجسين منه خيفة؛
وراحوا يحيكون له، قبل انقضاء اليوم الثالث من بدء كرازته في أورشليم، مكيدة
الأحقاد والضغائن. ولكأننا نراهم – من خلال تلك الصفحات النابضة، من إنجيل يوحنا –
أولئك الزعماء الدينيين، وقد بثوّا في الجمع عيونهم يترصدون يسوع ويمدّونهم بخبر
أقواله وفعاله، وهبّوا يحُدّون له ما يسُمىّ ” إضبارة ” في لغة جميع
شُرَط العالم. بيد أنهم تورّعوا، بادىء الأمر، من الركون إلى القوة. ولعلهّم
ارتدعوا برادع المهابة أو الإشفاق من مصادمة الرأي العام؛ ولا ريب أيضاً أنهم
أحجموا، بوازعٍ من ضميرهم: فلقد كان من بين الفريسين، ولا شك، نفوس قويمة

 

.
إلاّ أنهم ما عتّموا أن لمسوا، في مثل ذاك التلكّوء، مضرّة. فلقد طفق الناس
يتحادثون، في شوارع المدينة، قائلين: ” إنه يتكلّم في الجهر، ولا يقولون له
شيئاً. ألعلّ الرؤساء قد أيقنوا أنه المسيح؟ ” (يوحنا 7: 26). فارتأوا أن
يوقعوا به. وأنفذوا إليه شُرطا ليختلطوا بجمهور المستمعين، ويلقوا القبض، في أوّل
سانحة، على ذاك المسيح المزعوم. ولكنهم رجعوا صفر اليدين. فقالوا لهم: ” لمَ
لمْ تأتوا به؟ “، فأجاب الشُرط: ما تكلّم إنسان قط مثل هذا الإنسان!.. ”
(يوحنا 7: 46). إذن فقد أخذ حُرّاس الهيكل أيضأ يستقيدون لسطوة ذاك الجليلي!..

 

..
هكذا منذ اللحظة التي وطىء فيها المسيح أرض اليهودية، أخذت تتضافر العناصر التي
كان لا بدّ أن تفضي إلى الفاجعة. وذاك الذي وُصف بأنه ” هدف للخلاف “،
راح يبذر القلق منذ اللحظة الأولى. ولسوفََ يستحيل ذاك القلق، بعد ستة أشهر، إلى
حقد قتّال، ومصرع مضرجّ بالدم.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى