علم المسيح

حياته البشرية



حياته البشرية

حياته البشرية

.
يبدو المسيح إذن، من خلال صفحات الإنجيل، إنساناً كالناس، وواحداً من أفراد ذاك
الشعب البسيط، الذي راح ينشد فيه أتباعه، وحاذياً حذو بيئته في نمط المعيشة،
وطرائق الأكل واللبس. ولا يعني ذلك أننا بحاجة -تقصّياً للصحة التاريخية- إلى أن
نغرُق في الحطّ من صورته، ونتخيلّه –كما جاء في عبارة متطرّفة- ” ابن جارية
من الرعاع “. فهو، إلى الملامح التي ظهرت فيها بساطته، قد جمع مخايل تلك
العظمة التي تجلىّ للناس جلالها. وإلى جانب صورة العامل المتواضع، يجب أن ترسخ في
الذهن، ليتم التوازن، صورة الرجل الشافي، والنبي، وصانع المعجزات؛ بل صورة ذاك
الذي تجلىّ في مجده، أمام بطرس ويعقوب ويوحنا، فوق أحد المشارف

 

.
يسوغ لنا كل السواغ، ومن غير أن نهبط إلى ذرائع ” الترميم ” الرخيص، أن
نستعين على تمثَلّ المسيح، بما يتوفّر لنا من ملاحظة العادات والأعراف المرعيةّ
اليوم في بلاد فلسطين؛ بل علينا أن نستفيد مماّ لا يزال محفوظا، في الشرق، قبل أن
تقضي عليه ألوان الحضارة الدخيلة..

 

. لم
يكن الاسم الذي حمله من الأسماء النادرة: ” يشوع “. وهي لفظة عبرية،
معناها ” الله يخلّص ” أو” الله خلاص ” أو ” الله يعين
“؛ وهي نفس لفظة يشوع في العهد القديم. وقد أصبحت باليونانية إيسوس. وأما
لفظة ” الناصري “، فهي لقب من الألقاب التي جرت العادة – لذلك العهد –
في إلحاقها بالاسم، على سبيل التعيين والتمييز [نعرف، مثلاً، أن سمعان أحد تلاميذ
المسيح قد لقب بالغيور، وتوما بالتوأم، وسمعان بكيفا]

 

. أما
ثيابه فما كانت لتختلف كثيراً عما يلبسه اليوم أهل الريف في فلسطين. فعلى الرأس
منديل معصوب حول الجبين، يتدلى حتى المنكبين، ويعرف بالكوفية. وأكبر الظن أنه كان
يرخي شعر رأسه ولحيته. وكان يرتدي برداء من كتان تتدلى من أطرافها – بموجب الشريعة
الموسوية – أهداب زرق (وهي التي لمستها المرأة المنزوفة). وكانت العادة أن يتمنطق
المرء بمناطق ثلاث: الأولى لحزم الثياب، والثانية لها جيوب لحفظ الدراهم. وأما
الثالثة، فمنطقة طولها 15 متراً، كان يعمد إليها في الأسفار. وأما أقدامهم فكانوا
ينتعلون لها نعالاً بسيطة تربط بسيور (تلك التي قال المعمدان إنه غير أهل لأن
يحلها..)

 

.
وكان يسوع، في تجولاته، يتضيف هذا أو ذاك من الناس. والضيافة، في الشرق، عادة
موروثة لا تزال حتى اليوم قائمة على نطاق واسع. واكن المضيف يجهز لضيفه، في إحدى
غرف المنزل، أو على أحد السطوح، فراشاً من قش، أو رجاحة من مسد، أو مجرد جلد أو
حصيرة أو طنفسة. وكان الناس يأنسون إلى النوم في الحقول، يستعذبون، فيها، طراوة
الليل بعد قيظ النهار؛ فكانوا يغيظون رؤوسهم بطرف من عباءاتهم ويسسلمون لعذوبة
الرقاد، في جنح ذاك الصمت الآهل باختلاجات الآلاف المؤلفة من النجوم، إلى أن
تتفجّر، مع الصبح، ” هتافات الرعيان بقرب المناهل “. وأمّا القوت فكان
يسوع يصيب معظمه في المضافات. هذا وقد كان للمسيح وتلاميذه كيسهم المشترك (ذاك
الذي كان الاسخريوطي قيّماً عليه، بحسب ما جاء في إنجيل يوحنا 12: 29). وكان بعض
أصدقائهم من الرجال الأثرياء، ولا سيما من النساء الموسرات ” يبذلون من
أموالهم في خدمته ” (لوقا 8: 3). وعلى كلٍ فما كانوا ليبذلوا، في سبيل
معيشتهم، نفقات باهظة. فالجليليون، من أهل الريف، كانوا يقتصرون من الطعام على
الخبز والألبان والخضار والفواكه، ثم، طبعاً، على الأسماك؛ وكان الماء هو الشراب المألوف
في الأوساط المكفيةّ؛ فإذا أوْلموا عمدوا إلى الخمرة أو إلى صنف من أصناف الجعة
المستخرجة من الفواكه والحبوب. وليس من المستبعد أن يكون يسوع قد اشترك -أحيانا-
في بعض تلك المآدب التي ُيحبّ الشرقيون فيها البذخ، أو في بعض الولائم المأتميّة،
حيث كان يُقتصر على تناول العدس..

 

. كل
شيء، في الإنجيل يوحي الشعور بتلك الحياة البسيطة التي باتت حرّة من عقالات
الفاقة، ولكن ليس بفضل ثروة مقتناة، بل بفضل التجرّد والقناعة

 

.
هناك معضلة أشد إثارة للجدل. وهي معضلة اللغات التي نطق بها المسيح. ففي أيامه،
ومن قبل قرنين تقريباً، كانت اللغة الآرامية هي اللغة الذائعة في فلسطين.
والآراميون هم ذاك الفرع الشمالي من الساميين، الذي إتخد له، في إثر إرتحالات
وهجرات غامضة التاريخ، مقرّاً رئيسياً شمالي الهلال الخصيب، عند سفوح جبال طورس.
هناك، في حرّان، أقام إبراهيم فترة طويلة، بعد أن نزح عن أور الكلدانين؛ وإلى تلك
البقعة أيضا – ” أرض الاباء “- رجع اسحق ويعقوب يلتمسان لهما زوجتين.
وكان العبرانيون يلخّصون أقدم تقاليدهم بقولهم: ” إن أبي كان آراميّا تائها
“.. (تثنية 26: 5). إننا نعثر عليهم، في كل منعطف من منعطفات التاريخ المقدّس،
أولئك الرحّل، وقد باتوا ذخائر لا تنفد من اًلقبائل المتنقلة، الزاحفة زحفاً لا
يعرف الملل. وقد صادف الملوك العبرانيوّن –من القرن التاسع حتى القرن السابع (ق.
م.) – في التصدّي لهم، عناء كبيراً. وأصبح التسرّب الآرامي من بعد الأثر، في جميع
أنحاء سوريا وفلسطين، وعلاقاتُ أولئك الدائبين قي الرحل، بسكّان ما بين النهرين،
من اتساع المدى بحيث انتشرت لغتهم انتشاراً عظيماً، في جميع البقعة الممتدة.، بين
سيناء وطورس، ومن هناك حتى الخليج الفارسي. وقد أقرّها الإسرائيليون، بعد الجلاء،
لغة قومية متداولة. فليس من جدال في أن المسيح قد تكلّم اللغة الآرامية؛ وقد ورد
في الإنجيل، بالآرامية، عبارات خرجت من فمه: ” أباّ ” (الآب)؛ ”
إفثا ” (انفتح)؛ ” لمّا شبقتي ” (لماذا تركتني)؛ ” طاليثا
قومي ” (أيتها الفتاة انهضي)؛ وهناك أيضاً ألوان بديعية يتجلىّ فيها الطابع الآرامي،
من مثل العبارة الشهيرة: ” أنت كيفا! “. وهناك أخيراَ، في كلام المسيح،
من أنماط الإيقاع، والجرس، والتوزيع، ما يتصل – بلا منازع – بأساليب البيان
الآرامي

 

.
ولكن ألم يكن المسيح مطّلعاً على غير هذا اللسان؟ بلى، على الأرجح. وحسبنا عود على
ما جاء في إنجيل لوقا (4: 16)، من أن المسيح ” دخل المجمع، ونشر سفر أشعيا،
وقرأ فيه.. “، ليتّضح لنا أنه كان، ولا شك، يتقن اللغة العبرية. وكانت
العبرية قد أمست من اللغات الميتة، من بعد أن حلّت الآرامية محلّها – نهائياً- منذ
القرن الرابع ق. م. بيد أنها كانت ما برحت مستعملة في طقوس العبادة، شأنها، في
ذلك، شأن اللغة اللاتينية التي صمدت في وجه اللغات القوميّة، بفضل ما استخدمت له
من الشؤون الليترجية. وكانت العبرية هي ” اللغة المقدسة “، يلم بها كل
يهودي، أثناء دراسته في المجمع، ويستخدمها أساساً لكل ثقافة

 

هناك
لغة ثالثة، كانت أيضاً على جانب عظيم من الشيوع: وهي اللغة اليونانية. فمنذ عهد
الفنوحات التي قام بها الاسكندر، واستقرار الممالك الهلينية، باتت لغة اليونان –
وكانت قد تغيرت بالنسبة إلى أفلاطون! – في سائر الشرق، والعالم المتوسطي، هي لغة
التفاهم الدولي، شأنها، في ذلك، شأن اللغة الإنجليزية اليوم، وشأن البابلية حوالي السنة
20.ق.م. فإلى اللغة الآرامية التي لبثت – في الشرق الأدنى – لغة الشعب، انضافت
اللغة اليونانية، وشاع استعمالها في شئون التجارة والدبلوماسية والفكر. وكان موظفو
الدولة الرومانية، في تلك الأصقاع، ينطقون بها. ومع أن المتشددين من علماء الناموس
كانوا ينددون بها، قائلين: ” من لقن أبناءه اليونانية فهو شر ممن يطعمهم
خنزيراً “، فقد كان عسيراً أن يستغنى عنها. فهل ملك يسوع اللغة اليونانية؟
ليس في الإنجيل ما يشير إلى ذلك إشارة ثابتة؛ وعلى كل، لا نجد أثراً للهينية في
كلامه. إلا أننا نلاحظ، في الاستنطاق الذي قام به بيلاطس ن ما يبعث على الشعور بأن
الحوار، بين المسيح والوالي، إنما جري من غير ترجمان، بين رجلين يفهم أحدهما لغة
الآخر فهماً محكماً. ولكن ذلك مجرد إشارة..

 

. ومن
ثم فليس هناك ما يسوغ القول بأن يسوع كان من ” أهل الثقافة “، بما لهذه
اللفظة من مفهوم عصري. إنه من الثابت، ولا شك، أن بعضاً من ألمع الفقهاء في
إسرائيل، قد خرجوا من بيئة شعبية وضيعة، حيث كانوا يزاولون مهنة يدوية بسيطة،
فأصبحوا أقطاباً في علم الناموس، وهو، في نظر اليهود، أسمى درجات المعرفة. ولكن
ذلك إنما استقام لهم بفضل ما بذلوه من جهد جاهد. وقد مر بنا أن ليس هناك ما يشير
إلى أن يسوع، في سني حداثته، قد تبحرّ كثيراً في العلوم. فإذا تصفحنا الإنجيل اتضح
لنا أن فكرته لمْ تتخطّ الحيزّ الذي انحصرت فيه اهتمامات النفوس الدينّة، من أهل
عصره وبلده. أجل، إن في كلامه تلميحات عفوية إلى أحداث العهد القديم، واستشهادات
بالكتب المقدّسة؛ بل هو، إلى ذلك، في حواراته مع الفريسيين، قويّ الحجةّ، محكم
الجواب، واقف على أساليب الجدل. ولكنه كان يأبى أن يجارى الفقهاء في ميدانهم، بل
كان يتمكن منهم باللجوء إلى مؤديّات العقل السليم، ومقتضيات شريعته ” الجديدة
“، وقد باتت، في معظم الأحيان، تعبيراً عن فرائض السنُةّ الطبيعيةّ. ومن
العجب أنه كان يجمع إلى أهبة نفسية للاستطلاع الدائب،!الوعي الشامل، حِكمةً لا
تمتّ بصلة إلى أساليب الثقافة المدرسية. له، في الكلام، أسلوب فريد، ولهجة فذّة.
وذلك، في كيانه، من النواحي التي يسطع فيها، ليس فقط ما لا أجرؤ على تسميته ”
عبقرية ” – لأن العبقرية من أوصاف الأرض – بل شبه إشراق سماوي يصبح معه العقل
البشريّ مشِعّاً بسنى الروح القدس

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى