علم المسيح

رسم وملامح يسُوع



رسم وملامح يسُوع

رسم وملامح يسُوع

.
وقبل كل شيء، نودّ لو نعرف وجهه! فهل بالإمكان أن نتمثّل ملامح ذاك الإنسان الذي
يغير في وجداننا عالماً من المشاعر، فنفرغ عليها من الودّ ما نفرغه على ملامح كائن
أليف؟.. إننا لا نجد في الإنجيل أي إشارة إلى أوصاف المسيح. ولقد حاول البعض الاستناد
إلى أحد نصوص إنجيل لوقا (19: 1– 4)، حيث الكلام عن زكّا، عشاّر أريحا. فقد ورد عن
هذا الرجل أنه ” كان يطلب أن يرى من هو يسوع، ولم يستطع بسبب الجمع، لأنه كان
قصير القامة “. بيد أنه من الشطط والتمحّل في التفسير أن ننسب قصر القامة إلى
يسوع؛ فالموصوف بالقصر، إنما هو زكّا، بلا مراء؛ وقد راح، من بعد ذلك، يتسلقّ
جميزّة لكي يرى يسوع. وأمّا أن نتبينّ جمال المسيح وجلال قوامه من بعض آيات أخرى،
كتلك التي ورد فيها خبر المجدلية، يوم عرفته من بين المدعوّين، فأقبلت تفيض الطيب!
على قدميه، أو خبر المرأة التي ميّزته من الجمع، فرفعت صوتها بالثناء والتبجيل
(لوقا 21: 27)، فذلك أيضاً من قبيل التعنّت في التفسير

 

. من
الثابت إذن أننا لا نملك عن المسيح صورة من صنع الناس، فيها قدرٌ، ولو زهيد، من
معالم الصحّة. ومع ذلك فقد شاع منها، عبر التاريخ، عدد كبير!.. فهنالك مثلاً، ذاك
الحجر الكريم – وهو من التحف القديمة – الذي حُمل من القسطنطينية إلى روما، في عهد
النهضة، والذي ترك أثراً في كثير من رسوم المسيح الجانبية.. وإننا لنجد قرابة –
تكاد تكون شبهاً – بين هذا النموذج ولوحة منسوبة إلى جان فان إيك، ثم بينه وبين
نوط منحوت، من القرن السادس عشر، هو اليوم في بواتييه

 

.
وهناك تقاليد شبه أسطورية قد اعتقدت بوجود صور منسوبة إلى مصادر إعجازية. من ذلك،
أن الرسل، أن بعد صعود المسيح، رغبوا إلى البشير لوقا -وكان رساّماً- أن يضع لهم
صورة تخلّد وجه المسيح. وقضى لوقا ثلاثة أيام في الصوم والصلاة، تأهباً لعمله. وإذ
همّ فيه، ظهر وجهه القدوس، على اللوحة البيضاء، بطريقة معجزة. ومن ذلك أيضاً أن
المرأة التي أبرأها يسوع من نزف دمها، راحت تلتمس من يرسم لها ملامح ذاك الذي
أنقذها. وكان الفرق كل مرّة، بين الرسم والنموذج، بحيث أوشكت أن تفقد الأمل. إذ
ذاك رثى لها المسيح، رجاء يلتمس عندها طعاماً؛ ومسح وجهه بمنديل فرسخت عليه قسماته.
وليس من يجهل قصّة فيرونيكا – وهي، في نظر بعض التقاليد، ذات المرأة النازفة- تلك
التي رافقت المسيح فيَ طريقه الوجيع إلى الجلجلة، ومسحت وجهه المتصبّب عرقاً ودما
بمنديل ارتسمت عليه صورته الخالدة.. وكانُ يحفظ أيضا، في كنيسة الانتقال، في موسكو،
منديل آخر: وذلك أن الأبجر، ملك الرها، بعد أن حاول عبثاً أن يقنع يسوع باللجوء
إلى ولايته، أنفذ إلى فلسطين فنانا، يرسم صورة ذاك الذي طارت إليه شهرته. بيد أن
الفنان أخذ بروعة الإله المتجسد، فما استطاع إلى التصوير سبيلاً. إذ ذاك أدنى
المسيح رداء الرسّام من وجهه، فثبتت فيه ملامحه، أروع من أن تجود بمثلها يد
الإنسان..

 

!
أساطير، ولا شك! ولكنها لا تخلو من أن تترك في القلب أثراً، وتوحي إلى العقل رمزاَ
بيّناً: وهو أن المسيح لا يستودع صورته إلا قلوب الذين يحبّونه. أجل، إنها لا تعود
بشيء، على التاريخ، كل تلك الأقاصيص!.. ولكنها مسيحيةّ في روحها

 

. ليس
بالإمكان أن نكون أكثر اطمئناناً إلى أولئك الشهود الذين ادّعوا – عبر الأجيال –
أن يزوّدوا الناس بمعلومات لها صلة بأوصاف المسيح الخارجية. ففي سنة 550، قام
أنطونيوس البليزنسي بحج إلى القدس؛ وأكّد أنه شاهد فيها، من المسيح، ” أثر
قدم جميلة صغيرة نحيلة “، وأنه اطِلع على لوحة رسمت فيها صورة السيد، إبّان
حياته، فبدا فيها ” ذا قامة نصف، ووجه وسيم، وشعر مجعّد شيئاً، ويدٍ أنيقة،
وأنامل مستطيلة ”

 

.
ويروى أنً أندراوس الكريتي قد وقف، في الجيل الثامن، على الصورة التي رسمها لوقا
الإنجيلي؛ وقد بدا فيها المسيح ” بحاجبين متصلين، ووجه مستطيل، ورأس مُنحْن،
وقامة متناسقة “. وأمّا إيفانيسُ – وهو راهب يوناني، عاش بعُيد ذلك – فقد بات
في وسعه أن يغُرق في الإيضاح، فإذا قامة المسيح ستة أقدام، وأنفه طويل، وبشرَته
” بلون الحنطة ” وحاجباه أسودان، وبشرته أصهب، وإذا به أيضا.. كثير
الشبه بأمه! وأما يوحنا الدمشقي – في القرن الثامن – ونيقيفورس كلسّتس – وقد كتب
في القرن الرابع عشر، نقلاً عن رواية من القرن العاشر- فلا نرى لشهادتهما، في هذا
الشأن، قيمةً أوثق

 

.
أبرز وثيقة، في هذه السلسلة، إنما هي ” رسالةٌ من لنتولس “، ما عُرِف
لها وجود إلاّ في القرن الرابع عشر، حيث تمّ لها رواج عظيم. فالمزعوم ”
بوبليس لينتولس ” (؟) – وهو، في نظر نفسه، ” والي أورشليم ” (؟) –
قد وجّه إلى ” مجلس روما وشعبها ” (وهذا تعبير جمهوري لم يكن طيباريوس
ليأنس إليه) رسالة”، جاء فيها، عن ملامح يسوع، أوصاف دقيقة. بيد أن هذه
الأوصاف، على ما فيها من مسحة شعرية، وما يتميزّ به بعضها من ملاحظة نفسية عميقة،
لا تستند إلى التاريخ بوجه من الوجوه: ” له وجه وقور، من نظر إليه أحبّه
وهابه، في آن واحد (وصف عميق)؛ له شعر بلون البندق البالغ، سبط إلى حدّ الأذنينً،
مع انعكاسات زرقاوية طفيفة، ومنسدل على الكتفين. وله بشرة زاهية، وأنف وفم لا عيب
فيهما. وله لحية وافرة، بلون شعر رأسه، قصيرة، مشعوبة عند أسفل الذقن. وقامة فارعة،
منتصبة، ويدان وذراعان غاية في العجب “. وينتهي الوصف بآية من الكتاب، هي –
ولا شك، مفتاح سرّ الرسالة؛ إنه أبهى بني البشر! ” (مز45: 3)؛ ولا بدّ أن
الرسالة كلهّا قد وضعت لتفسيرها والتعليق عليها

 

.
أمّا الحقيقة فقد صرّح بها غير واحد من آباء الكنيسة: إيرناوس، أسقف ليون، وقد عاش
في أواخر القرن الثاني، وانتسب، عن طريق بوليكرُبس، إلى الفوج الأوّل من مسيحي
أفسس، وقد اكتفى بأن قال: ” إن صورة المسيِح الجسدية قد خفيت عناّ! “،
والقديس أوغسطينوس الذي صرّح مُقرّاَ: ” أمّا قسمات المسيح، فنجهلها كل
الجهل! “. فإذا ذكرنا ما كانت عليه اليهودية الحنيفة من التشدّد في تحريم
صورة الإنسان، زال العجب، واتضح لنا تعذّر العثور على أيةّ صورة صحيحة من صور
المسيح. وأمّا أن نتوقع! من أصحاب الأناجيل – وهم شهود عيان – أن يثبتوا لنا أوصاف
مظهره الإنساني، فذلك وهم وجهل بنفسيتهم وقصدهم: أو ليس من الإشارات البليغة، أن
الوصف الوحيد الذي نعثر عليه في الأناجيل الأربعة، إنما هو ذاك الذي تناول المسيح
– بأسلوب تلميحي مقتضب – في روعة تجليّه؟

 

..
ففي مثل هذه الأوضاع، نرى من العبث أن نعود إلى ذاك الجدل الذي اضطربت له الكنيسة،
لا سيما في آجالها الأولى، لمعرفة هل كان المسيح جميلاً أم قبيحاً؟ فلقد ذهب
القديس يوستينوس الشهيد إلى أنه كان ” بلا منظر ولا جمال، حقير المنظر “،
ورأى إيرناوس (ذاك الذي أقرّ بأننا لا نعرف شيئاً عن صورة، المسيح الجسدية)، أنه
كان ” ضعيف البنية “، وأوريجانيس أنه كان ” قصيراً ودميما “،
وكومديانس أنه كان ” شبه عبدٍ، ذا طلعةٍ زريه! “، وذهبت بعض الأساطير
إلى وصفه بالبرًص.. بيد أننا نجد، إلى جانب هؤلاء الآخذين بنظرية ” قبح
المسيح “، عددا من المفسّرين الآخرين القائلين بجماله، منهم غوريغوريوس
النيُصي، ويوحنا الذهبي الفم، وأمبروسيس وايرونيمس، وكثير غيرهم.

 

.
صراعات لا تجدي فتيلاً! فبين المسيحيين الأقدمين وبيننا اليوم، تباين عظيم في وجهة
النظر: فالناحية التصويرية لم تكن لتستدعي اهتمامهم، ولا بوجه من الوجوه. ولقد
أعرب اكليمنضس الإسكندري عن حقيقة عميقة، حيث قال: ” نحن الذين نرغب في
الجمال الراهن، لا نؤنس جمالاٌ إلاّ في المخلّص “، ونجد فيَ ” أعمال
بطرس ” -وهو كتاب منحول – نفس المعنى، في تعبير متناقض: ” لقد كان جميلا
وقبيحاً معاً! “.. والحقيقة أن أصحاب كلٍ من هذين المذهبين، ما توخّوا سوى
تدعيم ما جاء في الكتاب من نبوءات ماسويةّ. فاستند البعض إلى الآية التي اعتمدها
لنتولسُ المزعوم: ” إنه أبهى بني البشر؛ وقد انسكبت النعمة على شفتيه ”
(مز45)، وإلى أشباهها في الأسفار القانونية وغير القانونية، واستشهد البعض الآخر
بالفصل 53 من نبوءة أشعياء، حيث الكلام عن المسيح المتألّم: ” مزدرى ومخذول
من الناس، رجل أوجاع ومتمرس بالعاهات، ومثل أولئك الذين يستر الوجه عن مرآهم مزدرى
فلم نعبأ به “، وببعض النصوص الأخرى المقاربة، منها المزمور 22 حيث نقع على
وصف ذاك الذي ” ثقُبت يداه ورجلاه، وأحْصيت عظامه ” فكان مثل ”
دودة الأرض، لا كإنسان “.. فتعارض هذين المذهبين في المسيح قد انعكس في ذاك
الجدل ” الجمالي “؛ إلا أننا لا نجد، في ذلك كله، ما يقرّبنا من معرفة
أوصاف المسيح

 

.
فأنىّ لنا، إذن، أن نرُضي ذاك الارتقاب الذي لا بدّ أنه يختلج في قرارة الكثير من
قلوب المسيحيين؟ إن الرغبة في معرفة أوصاف المسيح الجسدية لهي أعمق من أن تكون
مجرّد فضول باطل. إنها، نوعاً ما، وجه من أجلّ وجوه الإكرام، نؤدّ يه لذاك الذي –
وهو إله – اتخذ صورة بشرية، ملغياً بذلك ما نهت عنه الشريعة الموسوية، من أنُ
يمثلَ الله بصورة إنسان

 

. بقي
الفن! وما أعمق كلام من تجرّأ وقال: ” إن مسيح الفن – إذا تحقق لهذه اللفظة
أسمى معانيها – إنما هو مسيح الإيمان. فهو، في نظرنا، المسيح الحقيقي، الذي يقضي
على حجب الظواهر، فينجلي شعاع من الضياء الباطن. ولا بدّ من الإقرار بأن لكلّ شعب
حقهّ في التماس ما ينسجم مع كيانه، من صور المسيح. وقد كتب البطريرك فوتيسُ، في
القرن التاسع: ” إن قسمات المسيح عند الرومان تختلف عن ملامحه عند اليونان أو
الهنود أو الأحباش. فكل أمّة من هذه الأمم تؤكد أن المسيح إنما تجلىّ لها في
ملامحها القومية الخاصة “. فأن يرسم المسيح صينيّاً أو زنجيّاً فذاك مماّ لا
يغيظ إلاّ الذين جهلوا حقيقة الرسالة الماسوية. أجل، لقد كان المسيح يهوديّ الأصل؛
ومن المرجحّ أن تكون قد رسخت في وجهه – مدة حياته الأرضية- ملامح الشعب المختار.
بيد أن ذاك الانتساب الذي يدخل في نطاق السرّ المهيمن على مصير إسرائيل، لا يستوعب
رسالة المسيح كلّها. فإن معنى حياته في موته! ولقد مات المسيح من أجل قضية سامية
في شمولها، وبموته فدى البشرية كلهّا وصار منها. ومنذ تلك اللحظة، حقّ لكل إنسان
أن يعرف ذاته من خلال ذات المسيح

 

لقد
صدق الذين -منذ أقدم العصور- قالوا بالمسيح ” إنسانا شبيها بالبشر ”
(فيلبي 2: 7)، وأنه ” لم يكن يتميزّ بشيء عن غيره ” (سيلقيِسُ المقاوم
للدين المسيحي)، و” أن له وجهاً كوجه جميع بني آدم ” (يوحنا الدمشقي،
القرن الثامن). وهناك نصّ، نسُب طويلاً إلى كبريانس، أسقف قرطاجة، في القرن الثالث،
نجد فيه الكلمة الفصل، في بحثنا هذا: ” قال يسوع: سوف ترونني في ذواتكم، كما
يرى الإنسان وجهه في مرآة “. ففي نظر التاريخ، كما في نظر الدين، ليست قيمة
المسيح في مظهره الخارجي، بل في ما بذله آلاف المسيحيين، منذ ألفي سنة، في سبيل

 

.
التشبه به. إنهم على يقين أنهم لن يشاهدوا المسيح “وجهاً إلى وجه “-على
حدّ تعبير بولس الرسول – إلاّ في يوم الدين. بيد أن الذين يرومون مشاهدته، إذ ذاك،
كما هو، يجب أن يكونوا، منذ الآن، قد أصبحوا ” شبيهين به ” (يوحنا 3: 2)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى