علم المسيح

تنشئة الرسل



تنشئة الرسل

تنشئة الرسل

.
يبدو أن المسيح، في الحقبة الأخيرة من مقامه في الجليل، قد تفرّغ، بوجه أخصّ،
لتنشئة الرسل. ولربما شعر أنه لن يُصيب، فيما بعد، مُتّسعاً من الوقت لتلك المهمّة
الأساسية؛ فكان لا بدّ اذن أن يكون مطمئناً إليهم، يوم تنفجر المأساة، ويحين أوان
الحصاد..

.
ولذلك نرى المسيح يدفعهم، فجأة، في ميدان العمل، ثمانية أشهر أو عشرة من بعد
انتدابهم؛ وكأن المسيح قد أراد لهم فترة اختبار تُعدّهم للمهمةّ التى سوف تترقّبهم
يوم لن – يكون هو الى جانبهم. (لوقا 9: 1-6؛ مرقس 6: 6-13؛ متى 10: 5 – 16و 11: 1)

 

.
أرسلهم اثنين اثنين؛ ولسوف ينطلق المبشرون هكذا دائماً، في أوائل تاريخ الكنيسة،
وذلك عن فطنة، لكي يكون الواحد عوناً للآخر ورقيباً عليه، يحرزه من الوقوع في
سَرَف النشوة التي تطغى على الخطيب، إذا كان وحيداً إزاء الجماهير.. منذ تلك
اللحظة، استحق ” الرسل ” لقبهم، فكانت بداية مؤسسة جديدة لم يعرف لها
نظير في التاريخ. ” وأعطاهم سلطاناً على الأرواح النجسة! اشفوا المرضى،
أقيموا الموتى طهّروا البُرص، اطردوا الشياطين “. لقد تنازل عن سلطانه الخاص
لأولئك الذين باتوا يمثّلونه، مع ما كان فيَ ذلك التنازل من انتقاص نفوذه. بيد أنه
حدّد لهم نطاق مهمّتهم وأهدافها: فصرفهم عن التبشير بالمسيح – وكيف يبشرون به،
ومعرفتهم له قاصرة؟ – الى الكرازة بالتوبة فقط، و” بأن ملكوت الله قريب
“. وأزالهم عن العناية بالوثنيين، والأمم، والسامريين، وتقدّ م إليهم ”
بالذهاب إلى الخراف الضالة من بيت اسرائيل ”

 

. وقد
اهتم يسوع لوضع النهح الذي لا بدّ من التقيّد به، في عمل الرسالة، ولا سيما الفقر؛
وهو من الصفات اللازمة الي يجب أن يكونوا فيها قسوة للآخر’ن. وكان من عادة
المسافرين أن يحتملوا معهم، – للاستبدال – قمصاناً ومناطق؛ ثم عصاً ومزوداً،
وحذاءً احتياطياً، ومعطفاً، بعض الأحيان. وأمّا هم، تلاميذ ذاك الفقير، فعليهم
ألاّ يرتبكوا في مثل ذلك: ” لا تقتنوا ذهباً ولا فضّة ولا نحاساً فيَ
همايينكم، ولا مزوداً للطريق، ولا ثوبين ولا حذاءً ولا عصاً “. ولكن أين
يجدون رزقهم؟ هناك عناية ساهرة. فإذا دخلوا قريةً، فعليهم أن يلتمسوا فيها بيتاً
أهلا” لأن يضيفهم. فإنّ إيواء رسل الله من المكرُمات. فإذا طردوهم – ولا
غرابة في ذلك، فإن حياة الرسالة تحفّ بها الصعاب؛ ولسوف يكونون ” كالحملان
بين الذئاب “؛ ولسوف يقُاتلَون، ويجلدون، ويجرّون إلى السجون – فلا عليهم،
آنذاك، بل فلينصرفوا نافضين غبار أرجلهم، عند عتبة ذاك البيت الصّدود. هكذا، منذ
اللحظة التي رسم فيها للكنيسة مبادئ رسالتها، وضع لها شرطاً أساسياً: ألا وهو
الفقر والتجرّد

 

. لم
تستغرق تلك الرسالة، على ما يبدو، فترة طويلة؛ وما كانت، في الواقع، سوى تجربة
تمهيدية. وأغلب الظن أنهم انطلقوا لها في شباط 29، واجتمعوا حول المعلّم، من جديد،
قي شهر نيسان، عهْد جرت معجزة الخبز. ومذ ذاك انقطع لتلقينهم مبادىء عقيدته
الأساسية، تلقيناًُ محكماً. ويبدو أن معظم تعليمه، في تلك الفترة، بات موجّهاً إلى
الاثني عشر، بصورة خاصة؛ فهو لا ينفك يفسّر لهم فكرته تفسيراً مفصّلاً، ويبين لهم
ما استعصى منها على مداركهم. ولم يكن ذلك بالأمر الهين؛ فالأناجيل كلّها – ولا
سيما إنجيل مرقس: لم تسَتر ماعاناه المسيح في سبيل فضّ تلك الدروع الجسيئة ضمن
العادات المطبقة والأوهام المستحكمة.. كانوا كلّهم، ذات يوم، في الزورق. فأفضوا
الى أحد الشواطىء، بقرب مدينة فيها، ولا شك، بعض العناصر الوثنية. فأشفق التلاميذ
ألاّ يجدوا فيها خبزاَ مصنوعاً بمقتضى المراسيم الشرعية. فقال لهم يسوع:
“إياكم وخمير الفريسيين، والصدوقيينين، وخمير هيرودس..!ا. فما تبادر الى
ذهنهم إلا شأن مَعدِتهم! ما عساهم يأكلون، إذا لم يجدوا في المنطقة سوى خبز ”
منجّس “؟.. فاضْطرُ يسوع إلى تذكيرهم بأنهم ما افتقروا يوماً الى طعام!
فانكشف لهم، إذ ذاك، أن خمير الفريسيين إنما هو رياؤهم، وتمسّكهم العقيم بالناموس؛
وخمير الهيرودسيين إنما هو كبرياؤهم وتضجّعهم في التقاليد الرخيصة؛ وخمير هيرودس
إنما هو الفحش والعنف. (مرقس 8: 14-21؛ متى 15: 5 – 12؛ لوقا 12: 1)

 

يتبينّ
من خلال هذه النوادر، ما تميزّ به تعليم المسسيح من بلاغة وواقعية وانطباق على
شؤون الحياة. فهو بعيد كل البعد عن الأسلوب ” التدريسي ” الذي نهجهُ
الفلاسفة؛ وعن الجدل الدقيق الذي نقع عليه في المحاورات السقراطية. فالمبدأ الصحيح
الذي استندت إليه طريقة المسيح، انما هو التزام قاعدة الصواب: ولذلك فقد جاء
تعليمه منسجماً مع الانسان انسجاماً رائعاً. فأي عائدة ترجى من إقامة الشعائر
الوضوئية، اذا كان القلب مدنساً بالخطيئة؟.. ولمَ يعمدَُ الى تطهير ” الكؤوس
والجرار وقصاع النحاس والأسرّة “، إذا كانت النفوس مريضة، وأسمى فرائض
الشريعة الموسويةّ مزدراة من غير ما حرج؟.. إن طهارة الأطعمة، مهما بدت خطيرة في
نظر تُقاة اليهود، لا توازنُ بنقاوة الضمير: ” ليس شئ مما هو خارج

 

.
الإنسان، يمكنه، إذا دخل الإنسان، ان ينجّسه! لأنه لا يبلغ إلى قلبه، بل يذهب إلى
الجوف، ومنه إلى المرحاض. إن ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجسّ الإنسان. لأنها من
الداخل، من قلوب الناس، تنبعث الأفكار الرديئة: الفجور والسرقة والقتل والزفى
والطمع والخبث والمكر والعهارة والحسد والاغتياب والكبرياء والحماقة ” (مرقس
7: 1 -23؛ متى15: 1- 20)

 

. ما
هو إذن ذاك التعليم الذي طالب يسوع بإيثاره على جميع الفرائض؛ ألا إنه في منتهى
البساطة، وينحصر كلّه في كلمات يسيرة، ويساعد على اكتناهه بعض أمثال نيرة. وأوّل
ما ألزم به المسيح أتباعه، حبّ وتضحية مطلقان: ” من أحبّ أباً أو أمّاً
أكثرمني فلا يستحقني ” (متى 10: 37) فإن إرادة الله أن يهب له المرسلُ ذاته
من غير قيد، وأن يقف له كل لحظة من لحظات حياته: فإذا ما سقطت عن الرُسل هموم
المادة، وانتفت عنهم ضرورة التخيرّ بين ربيّن: اللّه والمال، تهيأ لهم أن ينقطعوا
انقطاعاً ثاماً للواحد الصمد

 

. ان
ما نادى به المسيح، بإلحاح مذهل، بل أكثر من مناداته بحب اللّه – وحبّ اللّه شرعة
عفوية – إنما هو حبّ الناس، بل فريضة المحبّة الشاملة. وقد عاد إلى التذكير بها،
في توصياته الأخيرة، ليلة أسلْمَ إلى الصلب: ” هذه هي وصيتي: أن يحب بعضكم
بعضاً كما أحببتكم أنا! ” (يوحنا 15: 12). وقد أثر عن المسيح ” حديث
“، بذات المعنى، في صيغة رائعة: ” إذا رأيت أخَاك، فقد رأيت إلهك!

 

!
إنما سلاح الكنيسة المحبة. وليست المعارك الدنيوية هي التي سجّلت لها في التاريخ
أجدى انتصاراتها. فلئن تبينّ، مع تراخي الزمن، أن الفتوحات الصليبية باتت عبثاً
عقيماً، فإنه لا يضيع سدىً بذلُ رسول متواضع، ولا إشعاع محبّة فيَ قلب راهبة.
فالمحبّة إنما هي دليل حضور اللّه ووسيلته: ” أقول لكم الحق، إذا اتفق اثنان
منكم على الأرض، في أي شيء يطلبانه، فإنه يكون لهما من قبل أبي الذي في السماوات.
فإنه حيثما اتجمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فأنا أكون هناك فيما بينهم ” (متى
18: 19). وإننا نسمع صدى هذا الوعد، في ” حديث ” آخر، عُثر عليه في
مخطوطة مصرية من ورق الردي: ” حيثما وجد اثنان، فالله معهما “. وينبغي
ألاّ يضعوا حدا للصفح، بعضهم عن بعض، حتى وان أخطأ أحدهم ” ليس فقط سبع مرات،
بل سبعين مرة سبع مرات ‍‍” (متى 18: 21 – 22). وليحرزوا من التشبهّ بذاك
العبد القاسي، الذي سامحه لمجده بديونه، فراح يعنّف غرماءه، ويأخذ بخناقهم. (متى
18: 23 – 35؛ لوقا 17: 3 – 4). ولا بدّ من الاقتصاد والاعتدال حتى في تأديب أصحاب
الكبائر المشتهرة. فلا يحكم عليهم إلاّ بعد أن يصُار إلى تونيبهم في السرّ، ثم
بحضور شاهدين أو ثلاثة. (متى 18: 15 – 20) وينبغي أن يعاملوا بالحسنى من هم على
غير دينهم؛ فلربما تاهوا عن جادّة الحق، عن نيةّ سليمة. وقد جاء في الانجيل أن
يوحنا صادف إنساناً يخرج الشياطين باسم يسوع، فثارت حفيظته. فقال له يسوع: ”
من ليس علينا، فهو لنا؛ فإنه ما من أحد يصنع آيةً باسمي، ويقدر، بعدئذ، أن يقول
فيّ سوءًا” (مرقس 9: 38-40؛ لوقا 9: 49-50). فلتبحث الكنيسة، إذن عّما يجمع،
وليس عمّا يفرّق

 

. في
مثل هذ5الأحاديث – وكثير غيرها – كان يصادف التلاميذ لنفوسهم تهذيباً، ولمهمّتهم
العتيدة تأهّباً، ولعزائمهم قوّةً، تؤهّلهم، في الأجَل المسمىّ، لمواصلة العمل
الذي بدأه المسيح، ولإشاعة تعاليمه إلى أبعد نطاق. ” إنكم ملح الأرض! ”
(لوقا 6 1: 34- ه 3؛ مرقس 9: 49؛ متى5: 13). عبارة شهيرة، ردّدها المسيح على مسامع
تلاميذه، وقد باتت تنطبق على أحوالهم أكثر من انطباقها على جمهور ” خطبة
الجبل “. والواقع أنه ليس من خطر أنكى على الكنيسة، من أن تتحيفّها التفاهة
في جزء من أجزائها: والأزمات الضخمة التي كابدتها المسيحية، عبر الأجيال، باعِثهُا
الدفين إنما هو تنكرّ المسيحيين لشرعتهم الأصلية

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى