علم المسيح

بذار الكنيسة: أيام الجليل



بذار الكنيسة: أيام الجليل

بذار الكنيسة: أيام
الجليل

.
تتكوّن أرض الجليل، في أجمل بقاعها، من أتربة رسوبية حمراء. فإذا ما شق فيها
المحراث أثلاما، خلْتها، فوق جلدتها، كلوماً دامية. ثم هي، بعد حين، بساط مفُوِّى.
فإَذا ما التفعًتْ زاهية بالحنطة، تغشاها بسنابلها الناضجة (وقد تعلو هامة الرجل)،
فهي أشبه ببرْدة من الأرجوان موشّاة بالذهب. إن أتربة روسيّا السوداء، وسهول الصين
الصفراء قد توحي، إلى حدّ أبعد، بمثل ذاك الإحساس بالخصب المرَيع. وأما سهل عزر
يلون وجنيسارت فلا أدري أي رمز خفيّ يقيم فيه الصلة ما بين ثروة الحنطة، وذكرى
اللحم والدم

 

. في
تلك التربة المحظوظة اثر البذار أن يلقي بذار تعليمه؛ وتلك المنطقة التي درجت فيها
حداثته، والتي عرض فيها ملامح العمل الذي أزمعه، سوف يثبت على عهدها أشهراً
طويلة.. ولسوف يقضي أكثر من ثلثي رسالته في نطاق تلك السهول وتلك الهضاب، وتلك
البحيرة التي غدا فيها صيّادا للناس. وأما الأقاليم الثلاثة الأخرى، فاثنان منها
لن يجتاز بهما إلاّ اجتيازاً سريعا، وهما السامرة وبيرية. وأما اليهودية فسوف يقف
لها سعيه الأخير، ويخصّها بمذاق العلقم وعطش النزاع وعود الصليب.. وهكذا، فإن
المشاهد الجليلية، في الانجيل، يغمرها جوّ من النور الهادىء. ولا شك أن يسوع قد
خبر طعم السعادة فوق تلك الآكام، وعند تلك الشواطىء ا لسا جية

مقالات ذات صلة

 

.
الجليل ولاية صغيرة جداَ عرضُها، من الشرق إلى الغرب، أربعون كيلومتراً؛ وتمتدّ
طولاً، من الشمال إلى الجنوب، إلى نحو ثمانين كيلومتراً. ولم يكن عدد سكانها
ليتجاوز الثلاث مئة ألف نسمة. فيجب أن نتصوّر رسالة المسيح محصورة ضمن نطاق ضيقّ
جدّاً؟ وفي ذلك ما يعلل، نوعاً ما، سرعة اشتهاره

 

.
إلاّ أن الجليل، على ضيق رقعته، متنوّع الآفاق. فبين جليل الجبال العالية، وجليل
الهضاب، ومنطقة البحيرة الساحلية، فروق بينة. وتنتظم خريطة البلد، على شيء من
الإبهام، حول محورين: فمن جهة، السهلُ الطويلُ الذي يمرّ به سيَلْ قيسون التاريخي،
والذي يمتدّ عند سفح تلك السلسلة المنتهية، عند البحر، برأس الكرمل؛ ومن جهة أخرى،
مجرى الأردن، في الداخل

 

:
والأقليم كله على جانب عظيم من الثروة. “فهو – على حدّ قول إفلافيوس يوسيفوس
– خصبً، في جميع أرجائه، تكسوه الأشجار، على أصنافها، ويستحثّ إلي العمل أقلّ
الناس نشاطاً. ولذلك فهو مستغَلّ في جملته، لا تكاد تعثر فيه علي أرض بور. وتكثر
فيه المدن والقرى، من وفرة الميرة فيه “. فخصب التربة، ورطوبة المناخ، وغزارة
المياه المنحسرة من حرمون، كل ذلك بات من مقوّمات ثروة قد تبدو عجيبة، في بلد من
بلاد الشرق المتوسّطي. وقد أثر عن الرابيين قوًلهم، بشئ من الإطناب

 

!
” إن إقاتة فيلق برمتّه، بزيتون الجليل، أيسر من إعالة طفل واحد في سائر
مناطق إسرائيل “. ولا تنحصر محاصيل البلاد في الزيتون؛ بل هناك الحنطة
والشعير والكرمة والنخيل ونباتات أخرى متنوعة، تنمو بوفرة نادرة. ويؤكد يوسيفوس أن
التين يؤكل، في الجليل، مدة عشرة أشهر

 

.
بالإمكان إذن أن نتصوّر المسيح – وهو يخطب في الجموع المزدحمة من حوله – في مثل
هذا الإطار، وقد بات اليوم، كما كان أيام المسيح، تقريباً، بمرتفعاته المكسوّة
بالشقاّر والأقحوان، وحقوله الصغيرة المتشابكة، ودساكره البيضاء المبذورة بين
الآكام.. وأماّ البحيرة، فقد ثبتت صورتها الطبيعيةّ على حالها عهد المسيح (20 كم
×10 كم)، وبقي لها اليوم ما كان يشُاهد لها من انعكاسات فوق صفحة مياهها الشفاّفة؛
وباتت رمال شواطئها – بحصبائها السوداء، وما يخالطها من أصداف صغيرة بيضاء –
لينّةً وثرةً، مثل تلك التي وطئتها أقدام المسيح. إلاّ أن هناك شيئاً قد تبدّل:
فقد كانت ضفافها أكثسكّاناً منها اليوم، يقوم فيها عدد ضخم من القرى المزدهرة، لم
يبق منها اليوم إلاّ مدينة طبرية. وأماّ المواقع الإنجيلية الأخرى فقد بادت ولم
يدم لها من معالم سوى رسوم شاخصة، وخيام للبدو، وخصاص من قصب.. لقد كانت تلك
المنطقة، عهد كان يتجوّل فيها المسيح مع أتباعه، شبه ” الشاطىء الأزرق ”
في فرنسا، أو صورةً تضاهي تلك البحيرات الإيطالية (كوم، كارد) حيث المدن والقصور
والقرى تنتثر بواجهاتها البيضاء، بحذاء ماء صافية

 

. لقد
لبث المسيح إذن، في الجليل، من أواخر أيار سنة 28 إلى حزيران سنة 290 وتلك – بموجب
التقويم اليهودي – فترة أطول مما هي في تقويمنا. وذلك بأن الأشهر القمرية تتألف من
ثمانية وعشرين يوماً. فكان لا بدّ، إذ ذاك، من إضافة شهر، كل ثلاث سنين، في أواخر
الشتاء، ما بين آذار ونيسان، لإزالة الفرق بين التوقيت القمري والتوقيت الشمسي.
والواقع أن عام 29، قد وقع فيه أحد تلك الأشهر الإضافية، فبات أطول من مألوف
الأعوام. وهكذا قضى المسيح أكثر من 50. يوم، يتجوّل في أرجاء المنطقة. وكان، أغلب
الأحيان، يسعى ولا شك على قدميه، وأحيانأ يستعين بركوبة: فإن هناك أسفاراً باتت
أسرع ممّا يطيقه المشاة. وأمّا في المناطق الساحلية، فكان يعمد كثيراً إلى زوارق
تلاميذه الصيّادين. وإذا استثنينا رحلة سريعة إلى أورشليم، فالمسيح لم يغادر وطنه،
سحابة تلك الفترة كلّها، إِلاّ مرّتين: مرّة، ذهب فيها إلى صور وصيدا، الحاضرتين
الفينيقيتن، ومرة أخرى شخص فيها إلى المرتفعات الشّجرة، حيث قامت قيصرية، عاصمة
فيلبس. رحلتان قصيرتان (فالمسافة بيى كفرناحوم وصور، أقل من 75 كيلومتراً)، لا
تزال حوافزهما طيّ المجهول. وربما دعت إليهما مقتضيات الفطنة؛ أو – ما هو أبسط من
ذلك – الرغبة في تجنّب قيظ السواحل. وعلى كل، فهاتان الرحلتان لم تقطعا، على رسالة
الإنجيل، سياقها

 

. كان
الجليليون الذين وجّه المسيح إليهم الدعوة، من الفلاّ حين المكفيّين، أو من
الصيادين العائشين في خفض من عمل شباكهم؛ كلهّم من أهل الجدّ والكدح. وقد جاءت
شهادة يوسيفوس مطابقة لما ورد عنهم، في الكتاب المقدّ س، عهدَ المكابّيين، لا
أنّهم كانوا رجال بأس منذ الطفولة، يقذفون الرعب في قلوب أعداء الحق له. أجل، لقد
كان بإمكان أهل اليهوديّة أن يمتهنوا أولئك الريفيين، ويهزأوا من خشونة لهجتهم،
ورطانة لفظهم، ويحتقروا جهلهم لأساليب المماحكة الكلامية.. ولقد جاء في أقوال أهل
أورشليم: ” إذا ابتغيت الثروة، فاذهب شمالاً، وأما العلم فاطلبه جنوبا!
“. إلاّ أن أهل الجليل، مع ذلك كله، كانوا يملكون من المناقب ما تُصاغ به
الأمم القوية، ويُصار به إلى المآثر الكبرى. ولقد كان للمسيح شأن في توجيه الدعوة
أوّلاً إلى مواطنيه، وقد ثبت في يقينه أن البذار لن يذهب هدراً في تربة بلاده
الطيبّة. وإنما تجب الإشارة إلى أن المسيح لم يكن ليأمن كل خطر من توجيه كرازته
إلى قوم من ذوي النفوس الساذجة والبأس الشديد، كانوا -. في القرن السابق – قدً
تصدّوا بهمةّ عالية للغزُاة الوثنيين الزاحفين عليهم من الساحل. فلقد كان يخشى
ألاّ يؤانسوا في ملكوت الله سوى ضربٍ من ضروب الصولة الزمنية، وفي المسيح سوى ملك
مظفرّ! ولذلك فسوف نرى المسيح يعُنى كل العناية بألاّ يركَب مواطنوه مثل ذاك
الشطط. ولقد رضي بمجازفة تمكّنَ معها من إيثار تلك القلوب البسيطة على ذوي العلم
والتعصب من أهل اليهودية.. وكان مأثوراً، في التعاليم الربّينبةّ: ” أنّ
الثروة أقلّ قيمة من الشرف في نظر الجليليين “؛ ولذلك فما كان جليليّا ذاك
الذي باع معلّمه بقبضة من المال

 

لقد
تمّ إذن انتخاب التربة المعدّ ة للبذار. ويبدو أن يسوع أراد أن يجعل من هذه الحقبة
الجليلية موسما لإرساء جذور الكنيسة. فهو، في الوقت نفسه، يعرض جوهر تعليمه،
ويستميل إليه تلك الجموع المولعة التي سوف يتألّف منها جمهور المؤمنين، ويخرجُ لها
– بفضل معجزة سهلة التفسير – صورة أولى عن الإفخارستيّا. ثم نراه يعمل على حصر
نطاق نشاطه، شيئا فشيئا، منقطعاً لانتخاب تلاميذه وتنشئتهم. وأمّا في اليهودية، –
فيً المرحلة الثانيةً من حياته – فسوف تتحقق الناحية القربانية من رسالته. من
البديهي أن تأسيس الكنيسة لن يهتمّ نهائيّأَ إلاّ بذبيحة الجلجلة. بيد أن جوهر
كيانها وعقيدتها، إنما أنجِز إعلانهُ في حقبة الجليل. أوَ لم يصرح المسيح، في تلك
الفترة، وفي أحد أمثاله: ” هكذا ملكوت الله كأن إنساناً يلقى البذار على
الأرض؛ وينام ويقوم، ليلاً ونهاراً، والبذار يطلع وينمو، وهولا يعلم كيف؟ ”
(مرقس 4: 26)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى