علم المسيح

أشفية يسوع



أشفية يسوع

أشفية يسوع

.
هناك مآثر أخرى كانت تتجلى من خلالها، في ذات الوقت، قدرة ذاك النبي المحدث، فتبعث
على القلق والتساؤل. فإن وقع كلامه، في المجامع، لم يكن للناس مصدر يقين وحسب، بل
كان يبدو كأنه يملك طاقات أخرى من عالم الغيب، وليس من المستبعد أن يكون نبأ
المعجزة التي صنعها في قانا، قبل شهرين، قد انتشر في جميع تلك الأنحاء.. وكان هناك
قائد من قواد أنتيباس الوالي، له ابن في كفرناحوم قد أشرف على الموت. فخطر له أن
يستنجد بيسوع. وكان يسوع، يوم ذاك، في قانا. ميمما ضفاف البحيرة. فصعد القائد
للقائه. ولا بد أنه ذهب باكرا، فوق جواده، متحديا الهواجر، فوصل، في الساعة
السابعة إلى القرية الجاثمة فوق الهضاب. ودنا إلى النبي ملتمسا منه أن ” ينز
ل ويشفي الغلام “. ولكن هل كان من الضروري أن ينزل؟.. أو ليس لقدرة الله أن
تنفذ من مسافة سبعة أميال؟.. ولسوف يستغيث بالمسيح، وفي نفس الأوضاع، قائد. آخر،
أعظم إيماناً من قائد المائة هذا، ويصيح قائلا: ” قل كلمة فقط فيبرأ فتاي!
“. وكشف يسوع لسائله هزال إيمانه، قائلا: ” أو لا تؤمنون ما لم تعاينوا
العجائب والآيات؟.. ” ولكن المسيح شفوق، والوقت قصير. وألح الوالد متوسلا:
” انزل يا سيدي قبل أن يموت ولدي! ” فقال له يسوع: ” اذهب، فإن
ابنك حي!”. بأية لهجة نطق المسيح بهذه الكلمات؟.. مهما يكن من أمر، فقد حل
الإيمان بغتة في قلب ذاك الرجل الذي إنما جاء إلى يسوع كإلى ملاذ أخير. فامتطى
جواده ثانية وعاد أدراجه. ووافى الليل، وبموافاته ابتدأ يوم جديد. (لأن النهار،
عند اليهود، يبدأ في مساء اليوم الفائت)، وإذا به يصادف في الطريق، عند ضفة
البحيرة أو في أحد الشعاب، رجاله، وقد هرعوا لملاقاته: ” الولد في قيد
الحياة! “. فاستخبرهم عن الساعة التي تماثل فيها، فقالوا: ” أمس، الساعة
السابعة فارقته الحمى! “. أجل! هي الساعة التي قال له فيها يسوع: ” ابنك
حي! ” (يوحنا 4: 45-54)

 

إن
السلطة التي أقرها الناس ليسوع في تعليمه، كان إذن يمارسها في أعماله أيضاً. وكانت
تسمو بفعلها عن مألوف الناس. فالأمراض المستحوذة على الأجسام كانت تخضع له، كما
كان يعنو له – وهو أشد دهاء من المرض – ذاك الشر الآخر الذي يفترس النفوس.. ففي
غضون السبت الذي قضاه في كفرناحوم – والذي يتيح لنا الإنجيل استبناءه بوجه دقيق –
نرى المسيح، في مشهد صاعق، يواجه ثانية ذاك العدو الذي كان قد أبلى به، في عزلة
جبل الأربعين. فالمسيح كان قد انتهى من تفسير آيات الكتاب وكان يخيم على الحاضرين
انتباه صامت، إذ انفجرت فجأة جلبة صراخ بددت الخشوع.. إنه إنسان يصيح!.. من مألوف
قوات الظلام إنها تهوى الحضور في الأماكن المقدسة، وكأنها تجد في توتر القوى
النفسية ما يوافق أغراضها. وكان الرابيون يعلمون أن الأبالسة تهرع في السبوت إلى
المجامع، وتجثم على ركب المؤمنين. ثم أليست الديورة، على توالي الأجيال، هي
الأمكنة التي كثرت فيها وساوس الشيطان؟

 

. مس
من الشيطان! ما هي، يا ترى، تلك الظاهرة التي أورد لنا البشيران لوقا ومرقس
أحداثها، بأسلوب شديد الوقع؟ (لوقا 4: 33-37؛ مرقس 1: 23-28). إنه لم يحن الوقت
لتحليل مقوماتها. كل ما هنالك أن وصف ذاك المشهد الإنجيلي القصير، يبعث في النفس
إحساسا قويا بالحقيقة. فهو، بلا مراء، صراع ناشب بين القوة الروحية التي راحت تخبط
الممسوس أرضا، وتصيح بحنجرته، والإله الإنسان الذي وقف وقفة المعاند الغلاب، في
منتهى السكينة والجلال! وزفر الشيطان بصوت المعترى، قائلا: “آه، مالنا ولك يا
يسوع الناصري؟ أو جئت لتهلكنا؟ لقد عرفت من أنت. إنك قدوس الله!”. لقد أطلقها
عثارا تلك اللفظة الأخيرة! أو يتلفظ بأسم الجلالة.. وداخل المجمع أيضا؟ لا بد أن
التقاة، من بين الحاضرين، اندفعوا يمزقون ثيابهم، وقد كلحت. من الذعر وجوههم. وأما
المسيح فما كان إلا أن نطق ببضع كلمات، فعاد كل شيء إلى نصابه. فزجره قائلا:
” صه! واخرج من الرجل “؛ فصرع الرجل صرعة أخيرة، وتداعى إلى الأرض في
صرخة عظيمة. وانتهى كل شيء بتقهقر الروح النجس. وأما الحضور فقد استحوذ عليهم
الذعر وطفقوا يتساءلون: ” ما هذا الكلام؟.. إنه يأمر الأرواح النجسة بسلطان
وقدرة، فتطيعه! ” هناك أحداث أخرى جرت أيضا في ” يوم كفرناحوم ”
(متى 8: 14 -17؛ مرقس 9: 1 2-34؛ لوقا 4: 38-41). وقد أثبتها البشير مرقس خصوصا،
فكان، في وصفها، من الدقة، بحيث يخيل إلى القارىء أنه يطالع ذكرى مباشرة من ذكريات
سمعان بطرس معلمه؛ وهو الذي أوحى، ولاشك، إلى مرقس بمضمون إنجيله. فقد صادف
المسيح، على ضفاف البحيرة، التلاميذ الثلاثة الآخرين، الذين كان قد استهوى قلبهم،
عند المعبر. وإذ انتهى يسوع من تناول الفرائض الدينية، في مجمع كفرناحوم، دعي إلى
تناول الطعام في بيت أحدهم؛ وهو بطرس الذي كان قد أنبأه، بأسلوب خفي، أنه سوف يصبح
” صفا ” أي الصخرة. وقبل الشروع في صلوات البركة الطقسية التي كان يقدس
بها كل طعام، جاء بطرس وهمس في أذن يسوع: إن حماته طريحة الفراش، فهل بالإمكان
إسعافها؟ لم يكن ذلك طلبا صريحا بل تلميحا لطيفا.. ما كانت تلك الحمى التي أخذت
ببردائها حماة بطرس؟ لقد كانت الملاريا من الأمراض السارية في وادي الأردن، يساعد
على انتشارها تفاقم البعوض في غدران كفرناحوم. وكانت الحمى المالطية كثيرة التفشي
أيضا في الشرق، تتميز بسوراتها الحادة، وانحنى يسوع فوق البسط التي كانت المرأة
ملقاة عليها، وأخذ بيدها، وأمر الحمى ففارقتها منصاعة، فنهضت في الحال، وطفقت تخدم
ضيف صهرها، ذاك الذي عافاها من مرضها..

 

.
وسرى خبر تلك الخوارق، في كفرناحوم.في غضون فترة ما بعد الظهر كلها. ولا بدع، فإن
تلك الساعات التي تفرضها راحة السبت، هي أنسب الأوقات للمحادثات الطويلة، وتناقل
الأخبار. فما إن أمسى المساء حتى ما بات في القرية إنسان إلا ودفعته رغبته إلى
مكاثبة المنزل الذي نزل فيه المسيح، واستطلاع الأخبار. وكانت شريعة السبت تقضى
باعتزال كل عمل، في ذاك النهار، حتى ولو كان مجرد نقل مريض إلى، عند أقدام المعلم.
(وجل ما رخص فيه الرابيون، حمل حقيبة صغيرة..). فما إن غابت الشمس، حوالي الساعة
السابعة، من وراء الروابي حتى تدفقت الجموع على المنزل، وقد أتوا بمرضاهم ومصابيهم
من كل حدب وصوب. فكان يسوع يضع يديه عليهم تارة، ويأمر تارة أخرى، ويفيض على ا
لناس من دلائل عطفه وآيات قدرته. وإننا لنتخيله وقد ازدحمت من حوله الجموع صاخبة
مستهامة، وهو لا يني ملبيا. آمالها، ومقيماً عند حسن ظنها. فالقوة التي كانت له،
ما بذلها يوما إلا في سبيل الناس،. وهكذا منذ أول اتصال جرى بينه، وبين الشعب،
تجلى ما كان يرحب به، قلبه من رحمة لا حدود لها

 

. في
الغداة، عندما عاد الشعب إلى التجمهر حول منزله، عبثاً طلب فلم يوجد. لقد نهض قبل
الفجر، وراح ينشدُ، في غيابة أخريات الليل، منُعنزلا عن الناس. وإننا لنقرأ من
خلال رواية مرقس، الدهشة على وجه سمعان بطرس والآخرين: لقد اختفى المعلّم المنتصر!
وعندما تعقبوه وجدوه يصلي في أحد الوديان المخفيةّ عن الأبصار، ووجهه إلى البحيرة
في هدأة مياهها اللؤلؤية، عند الصباح. ولسوف يكون ذلك دأبه، مراراً كثيرة، وكلّ
مرّة كان يأتي بعمل خارق (بعد تكثير الخبز، مثلا). وإنما كان غرضه، من ذلك، ألا
يترك للمندفعين مجالاً للتطرّف في غلوائهم، لأن يستعيد قوّته في جوار الله. أو لم
يصرّح للتلاميذ، في يومه الأخير، ساعة خذلوه: ” ولست وحدي لأن الآب معي!
” (يوحنا 16: 32) وقال له بطرس: ” الجميع يطلبونك! “، ومعنى كلامه:
” علام. الانسحاب؟ “. ولكنّ المسيح أبى أن يرجع، وقد نالت كفرناحوم
نصيبها لهذه المرّة. وكان من الضروريّ أن يتوسعّ نطاق هذه الرسالة التي كانت قد
طلعت طلائعها، فتمتدّ إلى مناطق أخرى، ويصيب الجميع مبادئها الجوهرية.. وهكذا
ابتدأت، في سيرة المسيح العلنية، المرحلة الثانية

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى