علم المسيح

السامرية والماء الحي



السامرية والماء الحي

السامرية والماء
الحي

. في
إثر اعتقال يوحنا، قرر يسوع أن يغادر اليهودية، ويعود إلى وطنه. وكان قد نمى إليه
” أن الفريسيين قد سمعوا بأنه يصير ويعمد تلاميذ أكثر من يوحنا ” (يوحنا
4: 1). فنحن نوجس، من خلال هذه العبارة الصغيرة، الريب والمقاومات التي بدأت تتعرض
لرسالة المسيح العلنية وهي بعد في المهد. ولم تكن بعد قد حانت ساعة التصدي لها
بوجه مكشوف.. هذا وكانت الشرطة، في ولاية أنتيباس، تبدو أقل تريباً منها في مدينة
الكهان. كل ذلك قد أهاب بيسوع إلى أن ينفصل عن أورشليم

 

.
ولكن، ما الذي دفعه إلى إيثار طريق الهضاب على طريق الغور، في إيابه إلى الجليل؟
لا شك أنه إنما أراد محايدة القيظ الشديد الذي يتراسب في الوادي المحصور، ابتداء
من شهر أيار. على كل، قد أدى اختياره لتلك الطريق إلى وقوع حادثة هي من أروع وأهم
حوادث الإنجيل، تكون شبه حلقة تمهيدية بين فترة الآيات الأولى، وحقبة البشارة
العلنية

مقالات ذات صلة

 

. إن
الطريق من بيت إيل إلى شكيم فالسامرة فعين جنين، تستمر في المناطق العالية من تلك
البلاد. وهي تجتاز بكثير من العقبات والمواقع المشمسة الرمضاء؛ ولكن الريح تهب
فيها، عند المساء، هبوب ذاك النسيم العليل الذي كان بوعز يذري فيه القمح فوق البيدر..
ولا شك أن الأغبرة الكثيفة كانت في أيام المسيح، كاليوم، تفرش تحت أقدام المسافر،
بساطا وثيرا، وفي ذات الوقت، تصيب حلقه بأوار بطئ. وكانت الرحلة من أورشليم إلى
بحيرة طبرية، على تلك الطريق، تدوم لا أقل من ثلاثة أيام

 

! بيد
أن اختيار ذاك السبيل قد يحمل على الاستغراب.. فهو يمر بالسامرة؛ ولم يكن اليهود
ليقدموا على المرور بها إلا بعد روية وتفكير. لا شك أن الفصح كان قد انقضى على
مروره ردح وأن السامريين كانوا قد غادروا مراصدهم على أول الطريق، حيث كانوا
يتربصون بالحجاج الوافدين إلى أورشليم، في فترة العيد، ليلحقوا بهم عكس مظاهر
الترحيب والتأهيل! ولا غرابة في ذلك، فقد كانت الخصومة القائمة بينهم وبين اليهود،
قد تحولت، منذ زمن بعيد، إلى كراهية راسخة. وذلك منذ عهد الانشقاق الذي حل في
الشعب اليهودي سنة 935 ق. م.، فور موت سليمان، وتوزع الأمة إلى مملكة صغيرة قامت
في الجنوب (مملكة يهوذا)، ومملكة كبيرة، في الشمال، انضم إليها معظم القبائل
(مملكة إسرائيل). وما عتمت المعضلات الدينية والسياسية أن أفسدت الصلات بين
المملكتين. وفي سنة 880ق. م. بنى عمري، أحد ملوك إسرائيل، مدينة السامرة، وجعلها
عاصمة المملكة الشمالية،. فوق مشرف يطل على جميع تلك البقعة حتى البحر الذي يبدو
لألاؤه، عند المغيب، من خلال فرجة فسيحة بين الهضاب. وعندما هدم سرجون الأشوري،
سنة 733 ق. م.، عاصمة السامريين، وشرد معظم أهليها في المنافي، لم يكن ذلك ليلقي
في قلوب إخوانهم من أهل الجنوب، أقل عاطفة من الشفقة والرثاء.ثم إن
الأشوريين..أحلوا محل الإسرائليين المشردين، خليطا من الشعوب الوثنية، مستقدما من
أربعة أطراف الإمبراطورية الأشورية؛ فطغت على عبادة الله الأحد، في أرض السامرة،
عبادات وثنية مختلطة المصادر. وأما ” اليهود “، سكان مملكة يهوذا، في
الجنوب، فقد ظلوا متشددين في إيمانهم، وقطعوا كل علاقة بأولئك السامريين ”
الأنجاس “، وقد باتوا، منذ ذلك العهد، في نظرهم، مثل الوثنيين وأقبح.. وكان
الرابيون يرددون في أقوالهم: ” إن ماء السامريين أنجسن من دم الخنزير!
“.. كان يجب إذن أن يكون اليهودي متلهبا من العطش، لكي يطلب إلى السامريين من
مائهم

 

! في
اليوم التالي، كان يسوع وتلاميذه قد قطعوا مسافة 50كيلومترا، فأفضوا إلى ضواحي
شكيم، ذاك الموقع التاريخي القديم، موطن الآباء والقضاة، حيث كان يعقوب قد وهب
ابنه يوسف أرضا آوى فيها ضريحه، وحيث كان يشوع قد حشد الشعب المختار، في احتفال
مهيب، ليقطع وإياهم، مع الله، عهدا على الأمانة والوفاء.. يا لها من ذكريات أمسى
لها الآن في قلب كل يهودي وفي، طعم العلقم

 

. في
الموضع الذي كانت قائمة فوقه المدينة التاريخية القديمة، عند الشعب الواقع، على
ارتفاع 70 5 مترا، بين جبلي عيبال وجرزيم، لم يكن قد بقي، إذ ذاك، سوى قرية موات
تدعى سيخار. وكان أهلوها، مع تراخي الزمن، ما انفكوا ينزحون عنها التماسا للرزق في
المنخفضات المجاورة حيث قامت مدينة جديدة، ازدهرت على أيام فسبسيانس، وأطلق عليها
اسم ” إفلافيا نيا بوليس “؛ وهي، اليوم، نابلس، ملاذ البقية الباقية من السامريين
المنشقين، يعيشون فيها طائفة صغيرة لا يتجاوز عدد أفرادها المائتين

 

. إن
نص الإنجيل الرابع هو من الدقة في وصف المكان، بحيث استطاع رينان أن يقول: ”
إنه ما تمكن أن يروي مثل هذا، سوى يهودي من فلسطين، قد ألف التردد إلى مدخل وادي
شكيم “. بمثل تلك الدقة تميز توقيت الرواية أيضا: فقد كانت الساعة السادسة
عندما بلع الموكب إلى مدخل سيخار. وبين أن الذي خرج من أورشليم صباحا، مشيا على
الأقدام، لا بد أن يوافي المكان، عند ظهر اليوم التالي

 

. هي
الهجيرة! فالسهل المحصود كان، ولا بد، يضج، في لظى الشمس، بأصوات صراراته
المتنادية؛ وتحت القناطر القديمة، لم يبق، في حفائر السيول الجافة، سوى ركامات من
الحصباء، يتخللها، على غير توقع، بعض الأشجار. وكان يسوع قد أعيا من المسير، فجلس
ريثما يذهب التلاميذ إلى القرية لشراء بعض القوت. وكان هناك بئر، متقادمة العهد،
ذات حرمة عظيمة، معروفة عند القوم باسم ” بئر يعقوب “. عند موضع البئر،
وفوق أنقاض كنيسة قسطنطينية، شرع في تشييد كنيسة، قبل سنة 1914، لم ينجز بناؤها
حتى اليوم. ويضم البئر معبد جوفي، يوافيك فيه الكاهن المكلف بالحراسة، بشمعة مضاءة
فوق طبق. فإذا أحدر الطبق في البئر، بواسطة حبل طويل، تبين لك عمق تلك الحفرة
السحيقة – 32 مترا – يلمع، في قاعها، الماء الذي التمسه يسوع

 

إن
للآبار شعرا طالما اهتزت له أفئدة الرحل في الأقطار المجدبة. ولا بدع، فالشرقي، في
ساعات القيظ، يحلم بقطرة الماء الزهيدة، ويحن حنينا إلى تلك الأكواز الناضجة، وما
يتبرد فيها من سائل ثمين. فإذا ما فتح ” صاحب العين ” مغلاق الماء، هبطت
النساء سريعا، والجرار فوق رؤوسهن. لواحدة من أولئك النساء، الواردات إلى بئر
يعقوب، قال المسيح: ” أعطيني لأشرب! ”

 

. طلب
ليس فيه ما يثير العجب. ومع ذلك فقد بدا على جانب من الغرابة بل أوشك أن يكون مستهجناً،
بسبب الأعراف اليهودية، لذلك العهد. فلقد كان مستقبحاً عند معلمي الناموس، أن
يخاطب الرجل امرأة، في العلن.. ففي الشارع حتى وإن كانت زوجته، أو أخته أو ابنته،
وذلك تفاديا من قالة الناس. ثم هل كان ليهودي صميم، من أتباع العلي، أن يخوض فى
الحديث مع سامرية كافرة، فيبدو كأنه يضيف بذلك معثرة على معثرة؟.. للمرة الأولى –
ولن تكون الأخيرة- نرى المسيح يتصدى، مطمئنا، لتقاليد وأعراف ومقتضيات لم تكن –
على ما بات لها عند الناس من حرمة- سوى مظهر من مظاهر التعصب اليهودي الذميم

 

.
وسرعان ما انعقد المشهد؟ وقد أفرغ عليه البشير يوحنا، في روايته النابضة، رونقا
رائعاً من الحياة: ” كيف تطلب مني لتشرب، وأنت يهودي، وأنا إمرأة سامرية؟
“. جريئة، لعمري، تلك المرأة! تعرف كيف تجيب الرجال، وفي الصوت ذرة من
الوقاحة. ولكن يسوع لم يخدع بلهجتها: ” لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو هذا
الذي يقول لك: أعطيني لأشرب، لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا! “. وتلقى الدهشة
في صوت السامرية مزيدا من الاحترام، فتجبب: ” يا سيد ” – ولكنها تستسلم
بعد- ” لا دلو لك والبئر عميقة، فمن أين لك الماء الحي! العلك أعظم من أبينا
يعقوب ا الذي أعطانا البئر، وشرب منها هو وبنود ومواشيه؟ “. لقد كان
نيقوديموس، هو أيضا، قد عمد إلى سؤال، مثل هذا، عقلاني وترابي. فأجاب يسوع بهدوء،
قائلا: “كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا؛ ولكن من يشرب من الماء الذي
أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد! “. الماء الحي! ذاك الذي يبرد قلب الإنسان،
كلما جففته لوائح الشقاء والخطيئة؛ ذاك الذي ” ينبع إلى حياة الأبدية “،
والذي كان يرتاح المسيحيون الأقدمون إلى إثبات رموزه على نواميسهم، وكأنه الوعد
بالسعادة..

 

.
ألعل السامرية أوجست معنى السر، أم أرادت أن تكفي نفسها بعض العناء؟.. قالت:
” يا سيد، أعطني هذا الماء، لكي لا أعطش، ولا آتي إلى هنا لأستقي “. إذ
ذاك أسقط عنها المسيح ما كانت تتدرع به من أقنعة مزيفة، وانفتحت له سبل الظفر بها.
نحن نتصور نظرته إليها، كما كان قد نظر، من قبل، إلى نثنائيل! قال لها: ”
اذهبي، وادعي زوجك، وتعالي إلى ههنا”. أجابت: ” ليس لي زوج! “.
إنها توارب لتخفي خزيها. قال لها: ” حسناً قلت: ليس لي زوج! لأنه كان لك خمسة
أزواج، والذي لك الآن ليس زوجك. هذا قلت بالصدق!”. حسبها! لقد استسلمت! وإذا
بها تغمغم قائلة! ” يا سيد! أرى أنك نبي ”

 

ما
أقربها إلى الإنسانية وإلى الحقيقة هذه الخاطئة التي تنكشف لنا طويتها انكشافا
تاما، من خلال هذا الحوار القصير! وقاحة ثم اضطراب، ثم، في أعماق قلبها – شأن كل
النساء – ذاك الخضوع، وذاك الانصياع لا للبراهين، بل لما انكشف من قصة حياتها، ثم
ذاك الانقلاب الباطن الناجم من شعورها بأن هناك نظرا قد اخترق سريرتها. ولقد
اصطفاها المسيح – هي المرأة المنحطة، نوعا ما- لكي يفضي إليها ببعض من أخطر أسرار
الرسالة التي باتت تترقبه. فلقد بدت كأنها تفصح له عما يراودها من تلبية دعوته،
والانضمام إلى دين إسرائيل، وتأدية فرائض العبادة، ليس فوث جبل جريزيم، بل في
أورشليم. إذ ذاك أجابها المسيح بتصريح جوهري: ” أجل؟ إن الخلاص من اليهود
يأتي لا، لأنه من ذريتهم يولد المسيح.ولكنها قد أتت الساعة التي ينبغي أن تتقلص
فيها ديانتهم القومية، وتحل محلها ديانة عالمية، يعبد فيها الآب بالروح والحق.. هل
استوعبت حاملة الماء الآتية من سيخار، ذاك الدرس الذي استوت فيه رسالة المسيح دفعة
واحدة على الصعيد الذي سوف تتحقق فيه. لا بد أنها فهمت شيئاً من ذلك. فلقد أجابت
أن تلك الأشياء سوف تكشف للعالم، عند مجئ المسيح. أجل! إنها لا تجهل هذا. إذ ذاك
أسر إليها المسيح، هي الخاطئة والغريبة، بما لم يكن قد باح به، حتى ذاك، بأسلوب
جازم: ” المسيح؟.. أنا الذي يكلمك هو!”

 

وانتهى
المشهد عند هذا الحد، وما بقي من شئ إلا وقد قيل. وعاد التلاميذ بما تيسر لهم من
خبز وزيتون وجبن. ماذا؟ أفالمعلم يخاطب هذه المخلوقة؟ لقد فكروا بذلك في أنفسهم،
وإن لم يجرؤوا على الجهر به. أما يسوع فقد كان لم يزل بعد تحت تأثير ذاك اللقاء..
إنه لجميل الظفر في معركة النفوس. والنعجة الضالة غالية على قلب الراعي. وعندما
قدم له الطعام، قال: ” أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم.. طعامي أن أعمل
مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله.. ”

 

.
واقبل أهل سيخار على يسوع يحوطونه، متعطشين إلى كلامه، وقد نادت بهم المرأة؛
فاستلفت المسيح أنظار تلاميذه إلى أولئك الذين جاءوا ينتظرون الكلمة..أجل، سوف
ينمو حصاد النفوس، كما تنمو الحنطة أوان الربيع، في السهل المجاور. وهؤلاء
التلاميذ –وكلهم من أهل الريف الجليلي- هم أدرى الناس بمواسم الزرع ومواقيت نضوجه؛
أفلم يدركوا أن الساعة قد اقتربت لإعمال المنجل في تلك الحصائد البشرية

. بعد
أن مكث يسوع يومين عند السامريين، تابع سيره شطر الشمال

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى