علم المسيح

مقاطعة في الإمبراطورية روما وفلسطين



مقاطعة في الإمبراطورية روما وفلسطين

مقاطعة في
الإمبراطورية روما وفلسطين

. كان
قد انقضى زهاء قرن، منذ يوم فرضت الجيوش الرومانية على الشرق سيادتها، وضمت إلى
المغانم الضخمة التي سطا عليها أبناء الذئبة، تلك البقعة الصغيرة، بقعة أرض كنعان.
ففي سنة 63 ق. م.كان بومبيس قد اخترق الأسوار المقدسة المحيطة بأورشليم، وسط سيل
من الدماء، وبعد حصار دام ثلاثة أشهر. وقد عمدت السياسة الرومانية، في آسيا، كما
في كل مكان، إلى ذاك المزيج المتعادل من اللين والقوة، الذي بات نموذجاً فذا في
أساليب الاستعمار. فقد حفظ للحواضر الهلينية استقلالها، وهي ” المدن
العشر”، وفي كثير من البلدان، تركت السلالات القومية على عروشها، وكلفت
بالسهر على الأمن وعلى جباية الضرائب. وأما في فلسطين، فإذ ثبت عجز السلالة
الأسمونية (هم سلالة المكابيين) عن الانسجام ومخططات السياسة الكبرى، أقامت روما،
لليهود، أسياداً جدداً، من صلب أسرة بدوية، كانت قد أظهرت أطيب صفات المرونة
الدبلوماسية، عهد الفتن القومية التي نشبت بين بومبيس وقيصر. ففي 40 ق.م، كان
هيرودس بن أنتيباتر، أحد المقربين في البلاط، يتأهب لأن يضع على رأسه تاج داود،
وذلك بمجرد قرار من مرقس أنطونيوس وأكتافيوس وليبدوس. وأضطرب شعب الله، مدة أثنين
وثلاثين سنة، أن ينساق لعصا ذاك الأدومي، شبه البربري، الذي كان آباؤه غلفاً قبل
زهاء قرن، والذي لم تكن أبهته الراهنة لتحجب عن الناس أساليبه التعسفية وطباعه
الشرسة

 

! في
العهد الذي نهض فيه يسوع لرسالته كان كثير من مباني هيرودس لا يزال بعد قائماً في
فلسطين. ولا جرم أن استتباب الأمن، مدة 69 سنة، ينشئ ازدهاراً راسخاً، حتى وإن
ارتكز الأمن على الإرهاب. لقد كانت منشآت ذاك البناء العظيم، إذ ذاك، في أوج سناها..
فقد كان له قصر من الرخام، غربي المدينة؛ والقلعة التي دعاها ” أنطو نيا
“، تملقاً لولي نعمته أنطونيوس؛ وعلى بعد أربعة أميال من صهيون، وفوق قمة جبل
” الهيروديون “، وهو الحصن الذي أعده لنفسه ضريحاً. بيد أن الهيكل، ما
بين شتى المباني الأخرى، كان، ولا شك، فخر ملكه ودرة منشأته. وقد جاء أرحب من هيكل
سليمان، ومنيفاً عليه أناقة عظيمة بعدد أساطنته وضخامتها، وببهرجة زخارفه. وكان،
في أيام المسيح، لم يزل بعد قيد الإنشاء، ولم يفرغ من بنائه إلا ثلاثين عاماً بعد
موت المسيح، أي بضعة أعوام قبل أن يهدم، سنة 70 م، إلى الأبد

 

.
ومعلوم أن هيرودس لم يكن له حرية التصرف إلا ما تكرم به عليه أسياده. فكانت سياسته
الخارجية موجهة بتوجيهات روما، وجيشه تحت تصرف أوغسطس في جميع الأحوال. وكان – إلى
ذلك كله – قد أجري اتفاق صريح على أن يكون لسلطته صفة شخصية محضة، فلا تنتقل إلى
ورثته إلا بموافقة الإمبراطور

 

.
وذلك ما تحقق في سنة 4 ق. م.، عندما انتقل هيرودس إلى ربه، حاملا في يده أمام
محكمة القدير، كتاب جرائمه. وكان قد بقي له، من أبنائه الكثيرين، هيرودس فيلبس
الأول، وهيرودس أنتيباس، وأرخيلاوس، وهيرودس فيلبس الثاني؛ وكانوا قد نجوا من سيفه.
هذا وكان ابنه أرسطوبولس، الذي كان قد أوقع به في السنة 7 ق. م. قد ترك خلفا، سوف
يصبح هيرودس أغريبا الأول

 

. لقد
كان هيرودس يعلل النفس بالحفاظ على وحدة مملكته. ولكن ما إن حملت جثته إلى ”
الهيروديون “، فوق محمل من ذهب مرصع بالحجارة الكريمة، يواكبه الجيش وأفراد
الأسرة المالكة، وفي أيديهم الطيوب، حتى انفجر الخلاف بين الورثة. فعمد الإمبراطور
إلى الخطة التي توسم فيها أعظم مراعاة للمصالح الرومانية: وهي تجزئ الدولة
الهيرودية، إلى دويلات أصغر، وإمارات بحجم الكف

 

. في
الوقت الذي برز فيه المسيح لرسالته، كان أبناء هيرودس الأربعة كلهم في قيد الحياة،
وإنما لم بكن لأحدهم سلطة راهنة. أما البكر – هيرودس فيلبس الأول – فكان قد تخلي
عن العرش تنحية صريحة؛ فراح يعلل النفس، بعد فوات المملكة، بتولي رئاسة الكهنوت.
ولكنه، عوض أن يكافأ على ترقبه الطويل، بالتاج الأبيض والمدرعة المقدسة، اللذين
هما من شارات رئيس الكهنة، ورمز وظيفته، رآهما ينتقلان، على التوالي، إلى أخوال
أمه، فإلى جده، فإلى أحد عمومته، وهو لا يزال كاهنا بسيطا، عرضة لاستهزاء هيروديا،
زوجته الطموح. وأما هيرودس فيلبس الثاني، وهيرودس أنتيباس، فكانا متجاورين على
ضفاف بحيرة جنيسارت.. أحدهما واليا على غولانيتيدية وتراخونيستيدية، وبتانية،
وبانياس؛ والآخر على الجليل وبيريه. بل كانا على اتفاق! وتلك –في الأسرة
الهيرودوسية- صفة تسترعي الانتباه. وكان فيلبس رجلا بسيطا وادعاً يعيش، في مقاطعته،
عيشة الملاكين، ولا يغادرها إلا لما كان يقضي به الشرع من رحلات الحج إلى الهيكل.
وكان يهتم للقضايا العلمية، ولا سيما للجغرافية؛ وقد بحث في ينابيع الأردن. وأما
هيرودس أنتيباس – وهو الذي يكتفي الإنجيل بتسميته ” هيرودس “، في روايته
لمصرع المعمدان – فقد كان، في ميوله، أقل رزانة من أخيه. وإذ كان أكثر ثراء من
شقيقه فقد كان له جيش وبريد. وعرف بهوايته للمآدب والنساء

 

.
وكانا كلاهما يطمحان إلى مواصلة ما بدأ فيه أبوهما؛ بيد أن وسائلهما لم تكن على
جانب من الوفرة. وقد أراد كل منهما أن يملك مدينته في جوار تلك البحيرة الرائعة
التي كان الرابيون يقولون فيها: ” إن الله قد اصطفاها لراحته “. فبنى
أنتيباس حاضرته على حفافي المياه تتكسر عند أقدام صروحها، وسماها طبرية، تنويها بإجلاله
لطيباريوس، سيد العالم، يوم ذاك. وأما أخوه فقد أضاف إلى عاصمته (وكان اسمها
بانياس، فدعاها ” قيصرية فيلبس “) عاصمة جديدة، اختار لها، شرقي مصب
الأردن، عند البحيرة، أكمة جميلة، تبردها ريح الشمال. هناك انتصبت ” بيت صيدا
الجديدة “، يهيمن عليها شيء من الكآبة، بسبب حجارتها النسفية السوداء. وقد
دعاها ” يوليادا ” إكراما لذكر”آل يوليا “، تلك الأسرة
الرومانية التي أخرجت قيصر الدنيا، فكان لها ذلك شرفا سنيا)

 

.
وأما أرخيلاوس فكان في بادئ الأمر قد استولى على أجمل، حصة من أرض فلسطين..أي على
السامرة، وأدومية، واليهودية مع عاصمتها أورشليم. ولكن أرخيلاوس كان قد ورث عن
أبيه الشراسة والعنف من دون الذكاء؛ وعوض أن يعمل بنصيحة أوغسطس، ولي نعمته، في
التزام التأني، راح يستبد ويتعسف، خالعا الأحبار عن مناصبهم تحكما، معملا السيف
والنار في أقل بادرة من بوادر التشكي، مرابيا على الناس في الضرائب عنتا واعتباطا..
ففي السنة العاشرة من ولايته -السادسة بعد المسيح – ذهب وفد من يهود فلسطين إلى
روما يشكون إلى الإمبراطور مظلمتهم من استبداد أرخيلاوس وعنفه وشراسته؛ فغضب
أوغسطس، وأزله عن عرشه، ونفاه إلى مدينة فينا في بلاد غاليا، وقطع عنه موارده. وحل
محله، منذ ذاك، على اليهودية، وال روماني

 

.
كانت فلسطين إذن، في عهد المسيح، مجزأة إلى ثلاثة أجزاء. وذلك، لعمري، أكثر مما
تطيقه رقعة صغيرة لا تعدو مساحتها 28 ألف كيلومتر مربع، حتى وإن ضمت إليها أرجاء
كبيرة من صحاري شرقي الأردن وأرض أدوم. وأما عدد سكانها فلم يكن ليتخطى المليون
نفسا. بيد أن ذاك التعقيد السياسي -الذي يشعر به الإنجيل إلى حد بعيد- يجب ألا
يحمل أحدا على الوهم في حقيقته: فإنه لم يكن ليقع شيء في تلك الولايات، إلا بإذن
روما. فقد كان والي اليهودية، من صرحه الذي في قيصرية الساحل، يشرف على كل شيء، إشرافا
محكما، ” من دان إلى بئر سبع “، كما كان يقال قديما. وكان للولاة
الرومانيين، في ذلك العهد، حقوق واسعة: في يدهم الجيش والخراج والعدالة والشرطة؛
ولهم وحدهم الحق على الموت والحياة. وكان لوالي سورية -مبدئيا- حق الإشراف على
والي اليهودية وأدوم والسامرة. ولكنه في الواقع، لم يكن ليتدخل إلا في أحوال الخطر
الداهم

 

. في
الوقت الذي ظهر فيه يسوع علانية، كان واليا على سورية بومبونيس فلاكس، أحد شركاء
طيباريوس، قديما، في المراغات. وأما اليهودية فكان عليها بنتيس بيلاطس، خامس
ولاتها. هؤلاء الموظفون الكبار الذين كانوا يحكمون الأقاليم باسم الإمبراطور،
كانوا بعيدين كل البعد عن نمط أولئك “القناصل ” و” المعتمدين
“، الذين كان همهم الشاغل الإثراء على أكتاف رعاياهم. فقد كان الولاة -عادة –
من طبقة الأعيان النبلاء ومن رهط أولئك الأرستقراطيين الذين كانت تبلغ بهم حضارتهم
المرهفة إلى ضرب من الكياسة المستخفة المتريبة. ولكن من غير أن يؤول ذلك إلى
انتقاص ما لهم من مناقب النشاط. وأما أن يكون فيلون – وهو أحد يهود الإسكندرية- قد
رسم، عن بيلاطس، صورة كالحة الألوان، واتهمه بالتبذير والقسوة والجور، والتشجيع
على العنف والرشوة، فليس في ذلك ما يدعو حتماً إلى الثقة بأقواله. إلا أننا نعرف،
من ناحية أخرى، أن بيلاطس قد أزيل عن منصبه، سنة 36م، بسبب ما ارتكبه من أعمال
وحشية! ذلك أن نفسية مثل هذا الموظف كانت تتميز بعاطفتين.. فمن جهة، عاطفة الخوف
الدائم من أن يسعى به – أمام القيصر- وفد يهودي، يدعمه، في روما، أحد اليهود
الكثيرين المقربين من البلاط؛ ومن جهة أخرى، عاطفة الاحتقار العميق الذي كان يضمره
لرعاياه

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى