اللاهوت الروحي

الفصل السادس



الفصل السادس

الفصل السادس

بساطة الإيمان

مقالات ذات صلة

بساطة الإيمان، كثير من المفكرين يشتهونها ولا
يجدونها.

مر أحد الفلاسفة علي فلاح بسيط، يصلي في حرارة
شديدة وهو ساجد في خشوع، يكلم الله بلجاجة ودالة، كأنه واقف أمامه.. فقال: أنا
مستعد أن أتنازل عن كل فلسفتي، مقابل أن أحصل علي شئ من إيمان هذا الرجل البسيط،
الذي يكلم من لا يراه، بكل هذه الثقة..

 

لقد شعر الفيلسوف بأن هذا الرجل البسيط، يمتلك
شيئاً ثميناً لم يستطع هو بكل فلسفته أن يحصل عليه.. وهو الإيمان.

 

بساطة الإيمان (تصدق كل شئ) يختص بالله، ويقبله
لا فحص وبلا جدال.. أعني ذلك الجدال الذي يشتهر به العقلانيون..

 

وهذه البساطة تذكرنا بإيمان الأطفال، الذين
يؤمنون بكل الحقائق اللاهوتية والروحية، في ثقة كاملة لا تشك ولا تكذب، ولا تقدم
أي أعتراض من العقل. ولعل هذا من الأسباب التي دعت السيد المسيح يقول لتلاميذه (إن
لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السموات) (مت3: 18). قد يكون
إيمان الطفل أكثر براءة وبساطة وصدقاً. إيمان حقيقي لا شك فيه. ليت إيمانك يكون
قوياً، كإيمان طفل.

 

أنا لست أوافق الذين يقولون إن الأطفال غير
مؤمنين..

 

هوذا بولس الرسول يقول لتلميذه تيموثاوس (إنك
منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحمكك للخلاص، بالإيمان في المسيح
يسوع المسيح) (2تي15: 3). وما أعظم أمتداح الرب للطفل الذي أممه وسط تلاميذه (مت17:
2،3).

 

الذي يسلك في بساطة الإيمان، يعيش بعيداً عن
تعقيدات العقل.

 

ويعيش بعيداً عما يقدمه العقل من شكوك وأفكار،
وربما من أضاليل. حقاً إن العقل من الله. ولكنها كثيراً ما تضل إن تعدت عن الإيمان.

 

الإيمان هو نوع من التجلي، يقدمه الله للعقل لكي
يستنير.

 

وإن وقف العقل وحده، فإنه يتعب صاحبه بإفكاره..
لو كان الصبي داود يعتمد علي عقله وفكره لخاف من جليات مثلما شاول وكل الجيش ولكنه
أعتمد علي الإيمان البسيط، الذي قال به جليات (اليوم يحسبك الرب في يدي) (1صم46: 17).
ولكن كيف يحسبه الرب في يده؟ هذا شئ لم يفكر فيد داود، وإنما تركه إلي الله نفسه،
لأن الحرب للرب ما قال (1صم46: 17). هذا هو الإيمان. وبه انتصر داود أكثر من الذين
كانوا يستخدمون العقل ميزاناً للأمور..

 

في الإيمان البسيط، المسألة ليست تفكير، إنما
مسألة ثقة.

 

وحتى إن قال العقل إن الحرب لابد أن تبحث ما مدي
توازن القوي في القتال، وكيف تتفوق إحداها؟ فالإجابة بسيطة: هي أن الله إذا دخل
المعركة فإنه سيغير الفكرة البشرية عن ميزان القوي، فيصبح الطفل داود ومعه قوة
الله أقوي بكثير من جليات الجبار بدون هذه القوة. وهنا نري أن الإيمان – مع بساطته
لا يتعارض من العقل وموازينه..

 

الذي يحيا بالإيمان البسيط، يعيش بلا هم.

 

لأن الهم غالباً ما يأتي نتيجة التفكير الكثير،
الذي يفكر في المشاكل بطريقة عقلانية. ولكن في بساطة الإيمان يعمل الإنسان ما
يستطيعه، ويترك العنصر الأهم لله نفسه، ولا يحمل هماً. وإيقانه بإن الله يعمل،
يعطيه سلاماً في القلب، ولا يسمح للهم بالسيطرة علي مشاعره.

الذي له الإيمان البسيط لا يحمل هماً، لأنه قد
ترك تدبير أموره إلي الله. وإذ وثق بحسن تدبير الله لحياته، صار لا يهتم بالغد،
لأن إله الغد هو المهتم به. وكل ما يحدث له في حياته يتلقاه بعبارة (كله للخير)

 

(كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله)
(رو28: 8).

 

اما الذي يضع تفكيره مكان التدبير لإلهي، فإنه
يتعب كثيراً ويحمل همومه بدلاً من ان يحملها الله عنه

 

كذلك مما ينزع الهم، ثقة الإيمان البسيط
باستجابة صلاته.

 

ولعلك جميعكم تعرفون قصة تلك البلدة التي أتعبها
الجفاف لعدم سقوط المطر فقر أهلها إقامة يوم للصلاة من أجل ان يسقط الله مطر علي
الأرض. وذهب الكل لكي يصلوا. ولكن طفلة ذهبت وهي تحمل معها مظلة (شمسية) فلما
سألوها عن ذلك، قالت: أننا سنصلي من أجل المطر؟ ماذا نفعل إذن، حينما يستجيب
صلاتنا ويسقط المطر، وليست معنا شمسيات؟! لقد كان لها الإيمان باستجابه الصلاة.
ومن أجل إيمانها انزل الله المطر.

 

هذا الإيمان البسيط، له قوته بالنسبة إلي
المعجزات والرؤي.

 

لقد حدث المعجزة بالنسبة إلي شخص، ولا تحدث
بالنسبة إلي شخص آخر لأن الأول في بساطة الإيمان يصدقها ويقبلها. أما الآخر فإن
الصعوبات التي يقدمها عقله، تجعله يشك في داخله من جهة إمكانية حدوثها.

 

ونفس الوضع يحدث بالنسبة للرؤي. البعض يري
المناظر الإلهية والإستعلانات ببساطة إيمان. والبعض لا يراها بتعقيدات عقله.
والأمر واضح جداً كما حدث في ظهور السيدة العذراء بكنيستها في الزيتون بالقاهرة.

 

العقل يحاول ان يحلل كل شئ علمياً، وإلا فإنه لا
يصدق. بينما الإيمان يحتاج إلي تصديق، في بساطة بعيدة عن تعقيدات العقل..

 

لذلك فالمعجزات والرؤي تحدث بالأكثر مع البسطاء.
أما (العقلاء كثيراً). الذين ينكرونها ويستهزئون بمصدقيها، فإنها لا تحدث لهم إلا
نادراً، لكيما تجذبهم إلي الإيمان، أو لتكون شاهداً عليهم (يو22: 15).

 

أن اليهود لم يصدقوا حتي معجزة منح البصر
للمولود أعمي، وقالوا له إن الذي شفاه رجل خاطئ!! (يو24: 9). كان العقل يضع أمامهم
مشكلة الشفاء في يوم السبت، لكي يضيع بها إيمانهم (يو16: 9).

 

لذلك حسناً قال السيد المسيح عن هؤلاء وأمثالهم،
وممجداً للبسطاء)أحمدك أيها الآب.. لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء. وأعلنتها
للأطفال) (مت25: 11).

 

حقاً هؤلاء الأطفال يقصد بهم البسطاء في إيمانهم.
أما هؤلاء الحكماء والفهماء في هذه الآية، فهم المعتزون بإدراكهم وفهمهم،
والمعتمدون علي عقلهم وحده بعيداً عن الإيمان. حتي أن بعض الروحيين أمسك رأسه بين
يديه وقال (أن هذه هي الثمرة التي أكل منها آدم وحواء).. يقصد المعرفة البعيدة عن
الله….

 

في إحدي الليالي، قبل رهبنتي، كنت راجعاً من
زيارة أحد الآباء في الجبل. وكان الظلام قد أنتشر فقيل لي (لا ترجع وحدك إلي الدير
لئلا تضل الطريق) وكنت أعرف الطريق جيداً. وأؤمن بإرشاد الله فيه، ومع ذلك قلت (إن
ضللت طريقي، سأبيت في الصحراء حتي الصباح. وكنت مؤمناً من أعماق بستر الله في هذا،
وبخاصة لأن كثيراً من الأعراب يبيتون في الصحراء بلا خوف، ولكن قيل لي أنك بسيط
أزيد مما يجب، ولا تعرف الجبل. لأن الجبل مملوء بالحشرات والدبيب، وهناك خطر
الوحوش أيضاً، وأخطار أخري من جهة الجو.. وظل (العقل). ينصب في أذني، ليزيل ما في
قلبي من بساطة الإيمان. ورجعت ليلتها إلي الدير مع أحد الآباء. ولم يعطني (العقل)
وقتذاك فرصة أختبر فيها عمل الله مع السائرين ليلاً في الصحاء، ولا حتي اختبار
الإعرابي الذي يبيت كل ليلة هناك، وتبيت معه عناية الله وستره..

 

أشكر الله انني عوضت ذلك فيما بعد حينما سكنت في
الجبل وحدي.

 

إن العقل يمكنه يصور خطورة في كل مكان. وفي نفس
الوقت لا يعطي مجالاً للتفكير في عمل الله. ووعلي العكس يطرح غير المؤمن في عقدة
الخوف.

 

ليس معني هذا أن يلقي الإنسان بنفسه في التهلكة،
بلا حكمة. وإنما إذا أحترس بقدر طاقته، ثم وجد فيما يسمونه خطراً، فحينئذ بكل
بساطة يثق في حفظ الله وستره. ويغني مع داود النبي (يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك
ربوات. وأما أنت فلا يقتربون إليك) (مز91).

 

الإيمان البسيط يثق بأن يد الله تتدخل للإنقاذ
ولحل كل مشكلة.

 

هو يثق تماماً أن الله كمحب للبشر، وكصانع
للخيرات، لابد سيتدخل في المشكلة – حسب وعوده لأولاده – وتمتد يده لحلها.

 

أما كيف يحدث هذا؟ فهذا ما لا يسأل عنه الإيمان
البسيط.

 

إنه يتقبل عمل النعمة في بساطة، دون أن يفحص كيف
تعمل.

 

وكم من مرة حاولنا أن نحل مشاكلنا بطرق بشرية.
ثم فشلت هذه الطرق جميعها. ولم تأت بنتيجة. وكانت بصمات الله واضحة، فوق كل فكر.

 

الإيمان البسيط يثق بعمل الله، عقيدياً، وعن
طريق الخبرة.

 

إيمان يدخل الإنسان في دائرة الإختبارات.
والإختبارات تعمق الإيمان وتنبيه علي أسس واقعية وليس علي مجرد أسس نظرية.
والإيمان والإختبار يقولون بعضهما بعضاً. حتي يصل الإنسان إلي يقين بديهي وهو
بساطة الإيمان.

 

الإيمان البسيط يثق أن كل شئ مستطاع، وليس هناك
مستحيل.

 

إنه يوقن تماماً أن الله قادر علي كل شئ، ولا
يعسر عليه أمر (أي2: 42). مهما كان صعب الفهم أو صعب الحدوث. إنه بقول الرب (غير
المستطاع عند الناس، مستطاع عند الله (لو27: 18).

 

وأنا لا تدهشني عبارة (كل شئ مستطاع عند الله)
إنما تذهلني عبارة (كل شئ مستطاع للمؤمن) (مر23: 9).

 

وهكذا فإن الإيمان البسيط الموقن بهذا، يرتفع
فوق كل الشكوك.

 

إنه إيمان قوق، أقوي من كل شط. لأن الشكوك هي من
عمل العقل، والعقل معتز بمقاييسه. أما المؤمن اجتاز مرحلة العقل، وعاش في مجال
ا‘لي منها وأعمق. فأعلي من الشكوك توجد بساطة الإيمان.

 

مشكلة الدين، أن البعض يحاول أحياناً أن يحوله
إلي فلسفه، وإن يخرجه من القلب، ومن الروح ليحصره في نطاق العقل.

 

 وهذا هو
الأمر الذي حاربه القديس بولس الرسول بكل قوته،فقال إن كرازته كانت (لا بحكمة كلام،
لئلا يتعطل صليب المسيح) (1كو1: 17- 20).

 

يقيناً أن المؤمن البسيط، الذي يكتنز إيمانه في
أعماقه، فوق مستوي الفحص هو أقوي إيماناً من بعض علماء اللاهوت، الذين يستمدون
إيمانهم من الكتب التي يظنون أن اهم فيها حياة.. وقد يكون إيماناً يمكن أن تزعزعه
أفكار عقلية مضادة..

 

درب نفسك علي حياة الإيمان البسيط. وانتفع بما
مر في حياتك أو حياة غيرك من خبرات. ولا تجعل كثرة التفكير تبعدك عن الإيمان!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى