علم المسيح

سخط هيرودس



سخط هيرودس

سخط هيرودس

. لقد
كان في اليهودية رجل آخر اهتمّ بزيارة المجوس، بمقدار ما اهتم لها يوسف ومريم،
ولكن بوجه آخر: وكان ذاك الرجل هو هيرودس بالذات، حاكم البلاد، والطاغية الهرَمً
الذي كان، في تلك الساعة، مريضاً، تغشاه من الموت رهبة بات وعيدها يتفاقم يوماً
بعد يوم. بيد أنه كان مع ذلك مستمرّاً في الذود عن امتيازات عرشه الصغير، باذلاً
في سبيل ذلك، ما لم يكفّ يوماً عن بذله من الحرص والتشبّث. فلمّا وصل الحجّاج
المشرقيين إلى مدينته، ووقف على بغيتهم، انتابه قلق شديد. وكان هو الذي أشار على
المجوس، بعد التحوّط بآراء أهل الاطّلاع، بالذهاب إلى بيت لحم؛ وطلب منهم، إذا
وجدوا الطفل، أن يعودوا ويخبروه، ليذهب هو أيضاً ويسجد له! ولكنّ المجوس، في إثر
زيارتهم، قفلوا راجعين إلى بلادهم من طريق آخر – عملاً بما أوحي إليهم في الحلم –
ولم يعدلوا إلى قصر هيرودس

 

.
وكان ذلك عين الفطنة. فإن هيرودس لم يكن ليتورعّ عن استعمال الوسائل النافذة إي
يعترض الطريق على كلَ من كان يشتم فيهم رائحة المنافسة. ولقد كان لذاك البدويّ
المخضرم ميل أنيق إلى الضراوة: فأغرق على يد حَرَسه الغلاطيين، صهره أرسطوبوُلس،
وكان فتىً غطريفاً، أسندت إليه رئاسة الكهنوت وهو في السابعة عشرة من عمره، فذهب
ضحيةّ شعبيته. ثم أمر بصهره الآخر يوسف، ثم بهيركان الثاني، الملك العجوز، ثم بمر
يمنة، زوجته الأسمونية الابنة التي كان، مع ذلك، مغرماً بها، ثم بولديه أرسطوبولس
وألكسندرس، فقضوا كلهم بأمره. وإذ كان على شفا الموت كان لا يزال يتربّص بفريسة
أخرى، أنتيباتر، ابنه الثالث، ومازال حتى قطع رأسه، نهاراً واحداً قبل وفاته.
وهكذا فقد تضرّج عهده (40 – 4) بسيول من الدماء. ولم يكن ليتورّع عن المجازر
الشعبية أكثر من تورّعه عن الاغتيالات الفردية. فقد أحرق 40 شاباً، فالتهبوا مشاعل
حيّة”، لأنهم حطموا النسر الذهبيّ الذي كان الطاغية قد أمر بتنصيبه – صنما
مشُيناً – عند باب الهيكل. وفي نزاعه المحموم أمر بقتل جميع وجهاء الأمّة اليهودية،
وذلك ” لكي تذرّف على ضريحه بعض الدموع “..

 

.
” حينئذ لمّا رأى هيرودس أن المجوس غضب جدّ اَ، فأرسل وقتل جميع الصبيان
الذين في بيت لحم وفي كل تخومها، من ابن سنتين فما دون، بحسب الزمان الذي تحققه من
المجوس ” (متى 2: 16)

 

. إن
” مقتل الأبرياء ” هذا – على حدّ التعبير المتعارف – لم يكن لينافي ما
نعرفه من مزاج هيرودس. ولكنه ربما لم يبدُ للأقدمين بمثل ما نرى اليوم من الفظاعة:
فقد أورد سويتون (مؤرخ روماني 69؟ – 140؟)، في تاريخه، صدى إشاعة: مفادها أن مجلس
الشيوخ الروماني، قبل مولد أوغسطس بفترة يسيرة، كان قد أنبئ، عن طريق العرافة،
بميلاد طفل يملك على روما؛ فأمر بمجزرة شبيهة بمجزرة هيرودس

 

.
ويجب التنبيه إلى أن عدد المواليد المقتولين في بيت لحم لم يكن ضخما جدّ اً.
فالقرية لم تكن، إذ ذاك، لتستوعب أكثر من ألفي نسمة. فإذا ثبت أنه يولد لكلّ ألف
نسمة ثلاثون طفلا في السنة، تقريباً، وإذا راعينا قانون توزّع المواليد على
الجنسين (فقد كان أمر الملك مقصورا على الصبية)، ونسبة الوفيات المألوفة، أمكننا
الوصول إلى رقم في حدود الخمسة والعشرين طفلاً!.

 

. إن
الكنيسة تكرم تلك الضحايا البريئة التي افتدت بدمها، حياة المسيح.فالمسيح كان،
فعلاً، قاد أنقذ بأعجوبة. وذلك أن ملاك الرب تراءى ليوسف فيَ الحلم، وقال له: ”
قَم وخذ الصبي وأمهّ، واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن
يطلب الصبيّ ليهلكه ” (متى 2: 13). فأطاع يوسف، وشخص إلى مصر، في الليلة
عينها. وكان اليهود كثيرين في أرض النيل، منذ يوم هدمت أورشليم على يد نبوخذ نصّر
(586 ق.م). ومازالت جاليتهم فيها تتضخّم، منذ أصبحت فلسطين إقليماً رومانياً). وقد
شاع أنهم قاربوا فيها المليون. وكان بعض أولئك اليهود المغتربين قد شيدوا، في
ليونتوبولس، هيكلا أرادوا أن ينافسوا به هيكل أورشليم، بيد أن معظمهم أقاموا على
الولاء، تربط بينهم وبين أخوتهم في فلسطين، صلات مستمرة. أو لم يكن علماؤهم، في
الإسكندرية – حيث كان اليهود جالية ضخمة – قد نقلوا إلى اليونانية كتبهم المقدّسة،
لكي يتحفوا. بها مكتبة الفرعون بطليموس الثاني؟ ولقد عرفت تلك الترجمة بالترجمة
” السبعينية. لقد كان إذن من البديهي أن يتوجه يوسف، قيَ هربه، شطر ذاك البلد
المضياف

 

.
وهكذا ذهب الزوجان بالطفل، ومعهما دابة حملَتْ جميع ما كان يملك ذانك الفقيران من
ثروة وأمل.. ولا شك أنهما سلكا طريق القوافل، وكانت بمجازاة الساحل جهد المستطاع.
وذاك لأن داخل البلاد بقاع موحشة، وبحر من الرمال، لا أثر فيه للنبات. وأما
السواحل فى بطاح يكثر فيها دقاق الحصى وتتخللها أصناف من العوسج الهزيل.. جميع
الجيوش التي ألجئت إلى اجتياز تلك الأماكن الموحشة، قد عانت منها الكثير: من جيش
غابينُس، سنة 55 ق. م. إلى جيش تيطس سنة 70 بعد المسيح، ثم إلى جيش اللورد اللنبي
سنة 1918، في غزوه فلسطين

 

.
إننا نجد، في جملة. ما روته الأناجيل المنحولة، عن حداثة المسيح، أسطورتين لطيفتين.
ولا شك أن واضعي تلك الأناجيل قد حدا بهم إلى ذلك، حادي الرأفة بأولئك المهاجرين
الثلاثة ومصيرهم الشاقّ. ففي إحداهما نرى العذراء مريم، عند جذع نخلة، تشتهي من
رطبها. ولما كان الرْطب فوق متناول يدها، تقدم الطفل يسوع إلى النخلة وأمرها
بالانحناء، ووعدهاَ جزاء لطاعتها، أنّ ملاكاً سوف ينقل غضناً من أغصانها إلى الجنة
(ونجد صدى لهذه الأسطورة في القرآن، راجع القصة كلها في سورة مريم 19: 16 – 34)..
وأمّا الأسطورة الأخرى، فتذهب إلى أن اثنين من قطّاع الطرق أخذتهما الشفقة
بالمسافرين الفقيرين، فراحا يزوّدانهما بالقوت. ويكون أحد ذينك المحسنين هو اللّص
الصديق الذي سوف يعده المسيح -وهو على الصليب – بدخول الجنة..

 

.
وأمّا مقام الأسرة في مصر فلا ندري عنه شيئاً سوى أنّ الناس في مصر، يتبرّكون –
منذ عهد متقادم، على ما يبدو- بمزار يقع في حيّ من أحياء القاهرة القديمة، ويقال
إنه اَلموضع الذي أوَت إليه اًلأسرة المقدسة. ويوجد في المطرية – على بعد عشرة
كيلومترات من القاهرة (وهي الآن داخل تقسيم القاهرة الكبرى) – جمّيزة، يقال إن
العذراء كانت تأنس إلى ظلّها. إنها، ولا شك، شجرة عتيقة، وإنما يصعب التصديق جداً
بأن لها من العمر ألفي سنة، على ما هنالك من أسيجة تحصنها من التماديات التقوية..

 

.
أمّا الأناجيل المنحولة فهي – كعادتها – أعلم بشؤون تلك الفترة! فهي تروي أن أصنام
الثلاث مائة والخمسة والستين إلهاً هوت إلى الأرض، فور دخول يسوع هيكل هيليوبولس،
وأن أفروديرسيسُ الوالي، وقائد الموقع مع جنوده، اهتدوا إلى المسيحية في إثر تلك
المعجزة..

 

.
مهما يكن من أمر، فالمقام قي مصر لم يدم طويلاً. فإن يوسف، بعد أن أخبره الملاك
بموت هيرودس، رجع بمريم ويسوع إلى فلسطين. ولكنه إذ بلغه أن أرخيلاوس قد ملك مكان
هيرودس أبيه، خاف أن يستقرّ في اليهودية، فشخص إلى بلاد الجليل. وكان ذلك احترازاَ
فطيناٌ! لأن أرخيلاوس ما كان بأقل شراسة من أبيه. أوَ لم يكن قد استهلّ عهده بمقتل
ثلاثة آلاف يهودي من ولايته؟..

 

.
توفي هيرودس الكبير في آذار أو نيسان سنة 750، من تأسيس روما. وخلفه أرخيلاوس
حالاً. وأمّا يسوع، فإذ كان قد وُلد ولا ريب، بين 749 و748، فقد كان له من العمر
ما يتراوح بين الثمانية والثمانية عشر شهراً، يوم عاد به أبواه إلى أرض الوطن

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى