علم المسيح

تعليم يوحنا المعمدان



تعليم يوحنا المعمدان

تعليم يوحنا المعمدان

. لكي
نسبر عمق النشوة التي استحوذت على يهود تلك الحقبة، من جرى اعتلان ذاك النبي في
ظهرانيهم، ينبغي أن نشعر بما كانوا يشعرون به من لجاجة وجوى وحمية في ذاك الارتقاب
الذي يحفل به صدر أصغر فرد من أفرادهم. فإنه لم يكن لهم من فكرة أو يقين أشد
تلهباً من فكرتهم ويقينهم بتلك الرسالة العلوية التي أسندها الله إلى أمتهم منذ
ألفي سنة. ولقد استمد اليهود من كونهم شعب الله المختار، والأمة التي أخرجت للناس
شهيدة للتوحيد، عزماً تمكنوا معه، في أعصب ساعات تاريخهم، من تحدي جميع المكاره،
والذود عن رجائهم وأمانتهم. وتلك العقيدة التي ما فتئت الأحداث تكذبها كانت لم تزل
راسخة في نفوسهم، أكثر من أي يوم مضى: وهي أن يوم الفوز سوف يعود فيثأرون لأنفسهم
من القدر الغاشم

 

. تلك
كانت نفسية الشعب اليهودي في الأيام التي كان فيها المعمدان يعلم الجموع: نفسية
حافلة بالإيمان، زاخرة بالترقب. وكان ذاك الترقب، يوماً بعد يوم، يزداد تأزماً
وقلقاً. لقد كانوا، ولابد، يتلون النصوص التوراتية، حيث أنبأ دانيال ” بالستة
والتسعين أسبوعا من السنين ” التي سوف تزول في إثرها الخطيئة ويكفرّ الإثم
ويؤتى بالبرّ الأبدي، وتختتم النبوءة، ويمسح قدوس القديسين ” (دانيال 9: 4 2
– 26)

 

فهل
انتهت أسابيع السنين هذه؟ وهل أوفت الآجال على نهاياتها؟

 

! لقد
خرج الله عن صمته أخيراً، وبات في إمكان الشعب المختار أن يسمع من جديد أحد تلك
الأصوات الأليفة الرهيبة! ومن يدري؟ لعلّ المعمدان هو المسيح بالذات

 

.
ولذلك فمنذ أن شاع في أورشليم نبأ تلك الكرازة الغريبة، أرسل زعماء الأمةّ – أو
رؤساء الكهنة، كما كانوا يقولون – وفداً رسمياً يتحقق الأمر؛ وكان مؤلفاً من بعض
ثقات الكهنة واللاويين. فسألوه: ” من أنت؟ “. فأجاب يوحنا يصراحته
المعهودة عن هذا السؤال الأول الذي وُجّه إليه: ” إني لست المسيح! ”
أجل! بيد أن كل يهوديّ مثقّف يعلم، منذ أيام عاموس، ” أن السيّد الرّب لا
ينُفْذ كلمةً إلاّ أن يكشف سرّه لعبيده الأنبياء (عاموس 3: 7 – 8) ويعلمَ أيضاً أن
ملاخي قد أنبأ بأن المسيح سوف يتقدمه بشير يبشر بمجيئه. فهل كان يوحنا، أقلّه،
بشير تلك الأمجاد الإلهية، ” إيليا الجديد ” الذي وُعد به العالم؟ –
“أإيليا أنت؟ ” فقال: ” لست إياه! “. لقد كانت له قدَرة إيليا،
وروح إيليّا، ولكنه لم يكن هو النبيّ العتيق الذي باتوا يترقّبون رجعته. -”
فمن أنت إذن؟ ” – ” أنا صوت صارخ في البرّية: قوموا طريق الرّب، كما قال
أشعياء النبي ” (يوحنا ا: 23)، ” إنه يأتي من هو أقوى مني، الذي لست
اهلاً أن أحلّ سيور حذائه..الذي رفشه بيده وسينقيّ بيدره ويجمع القمح إلى مخزنه،
وأمّا التبن فيحرقه بنار لا تطفأ.. ” (لوقا 3: 16)

 

. هل
كان الشعب اليهودي أهلاً لأن يعَيَ التعليم الذي راح المعمدان يوزّعه على الشعب
عند المعبر؟ أجل! إلى حدّ واسع. فهو عندما كان يطبقّ على ذاته الآية الواردة في
سفر أشعياء (40: 3)، كان يلتحق بتقليد راسخ: وهو أن نبياً سوف يظهر في البرّية
” ويعدّ طريق الربّ “. وعندما كان ينادي بضرورة الإنابة إلى الله، وحاجة
الناس إلى ” ثمار توبة لائقة “، وعندما كان يفرض على. تلاميذه ”
الإكثار من الصوم والمواظبة على الصلاة ” (لوقا5: 33)، كان يندمج كل الاندماج
في التقاليد النبوية: من عهد اشعياء، إلى إرمياء، إلى عاموس، وسائر الأنبياء الذين
تكلموا بمثل ذاك الكلام

 

. ولا
غرْوَ فقد بات العالم قريباً من يوم حسابه: ” ولسوف ينقيّ اللّه، بصدقه، جميع
أعمال البشر، ويطهّرها بروحه “، على حدّ ما جاء في كتابات رهبان البحر الميتّ.
فكيف السبيل إذن إلى توقيّ العقاب في يوم الدين؟ – بالمحبة والعدالة والوداعة.
وكان الجموع يسألونه قائلين: “ماذا نصنع إذن؟ ” فيجيبهم قائلاً: ”
من له ثوبان فليعط من ليس له ومن له طعام فليفعل هكذا “. وكان يقول للعشارين
وسائر أضرابهم من الجباة ” لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم “، وللجنود: ”
لا تظلموا أحداً ولا تشوا بأحد، واكتفوا بعلائفكم “. مثل هذه النصائح، كان
بإمكان كل يهودي فاضل أن يستسيغها

 

.
ولكن، من جهة أخرى، كم كان خيّابا ذاك النبم يّ الجديد! فإنه لم يعلن ولا مرة
واحدة أن ذاك المسيح الذي راح يعلن نفسه بشيراً به، سوف يعيد إلى إسرائيل سالف
مجده وسطوته. وهو، إلى ذلك، لم يحصر تعليمه في العبرانيين الخُلّص، وأهل الفضيلة
من المواظبين على التأمّل في الشريعة، بل راح يقبل بين يديه أقواماً من العشارين
الذين بات إثمهم في الناس أمراٌ مكشوفا، وجماعات من الجنود وحتى من الوثنيين.
وأمّا الشعب المختار فكان المعمدان يتجرّأ عليه بقوله: ” لا تبتدئوا تقولون
في أنفسكم لنا إبراهيم أباً (أي إننا متيقنون من الفوز لأننا من ذرية شعب الموعد!)،
لأني أقول لكم: إن اللّه قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم! ”
(لوقا 3: 8). أجل! لقد قام في إسرائيل بعض الاتجاهات الداعية إلى الشمول، بيد أن
القوميّة اليهوديةّ الطناّنة التي تميّزت بها الحقب الأخيرة من تاريخهم، لم تكن
لتقبل تلك الكلمات إلا وتوجس منها حنقا وغيظاً

 

.
وكان يوحنا، إلى هذا كله، يقوم بشعائر التعميد، على طريقته الخاصة. ولا يعني ذلك
أن التعميد كان غريباً عن التقاليد القديمة، ولاسيّما التقاليد الإسرائيلية. فلقد
كانت شعائر الوضوء شائعة عند اليهود، ومفروضة في سفرين من كتبهم المقدسة. (سفر
الاويين، سفر العدد). وكان الأسينيوّن يمارسونها على أوجه كثيرة، منها الاغتسال
اليومي. ويرُى اليوم أتباع بعض المذاهب القديمة (الصابئة) يعمدون إلى ذاك الاغتسال،
كل نهار، في ضفاف نهر الأردن

 

..
ولكن العماد، قبل يوحنا، لم يكن سوى لون من الشعائر الخارجية. ولا جرَم أن غسل
الجسد بالماء يوحي، بطريقة عفوية، بتطهرّ النفس من أوزارها. أوَ لم يرد في العهد
القديم: ” اغتسلوا وتنقوا اعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيّ، كفّوا عن فعل
” (أشعياء 16: 1) ” وأرش عليكم ماء طاهراً فتطهرون من جميع نجاستكم، ومن
كل أصنامكم اطهروا” (حزقيال 36: 25) بيد أن معمودية يوحنا كانت تختلف عن ذلك
اختلافاً كبيرا. وذلك أنها كانت ” معمودية توبة “، أي أنها كانت تدلّ،
بدلالة خارجية، على الرغبة الصريحة في الإنابة إلى اللّه. فالوضوء الموسوي لم يكن
سوى اغتسال ضروري، قبل القيام بعمل ديني. ” والمعمودية “، عند الأسينيين،
لم تكن سوى حفلة لقبول المريد، بعد سنة من التدريب، ضمن الجماعة الرهبانية،
والترخيص له في ممارسة الغسلات (الوضوء) اليومية. وأمّا المعمودية التي كان ينادي
بها المعمدان فكانت مشروطة بتبدّ ل كامل في السلوك. فالدخول في الماء كان، في نظر
يوحنا، دليل التوبة إلى الله، والتوبة عن المعاصي. ومن ثمّ فلم تكن تلك المعمودية،
لتُمْنحَ – على ما يبدو- إلاّ مرّة في العمر، كبداية لحياة جديدة.

 

والواخ
أن يوحنا، في ذلك أيضاً، لم يخرج عن نطاق مهمته. فهو قد أرشد إلى الطريق، ولكنه
لمَ يجْرِ فيها حتى النهاية. فمعموديته هي غير المعمودية المسيحيّة، حيث الماء هو
أكثر من هذا الرمز (قيمةً)، بل أكثر هي أكثر من ذلك، إذ تستمد رمزها من عمل المسيح
نفسه كموت وقيامة في حياة جديدة مملؤة بالروح القدس. وذلك الفرق الجوهري قد أشار
إَليه المعمدان نفسه، يوم صرّح، في تواضعه السامي: ” أنا أعمّدكم بماء، ولكن
يأتي من هو أقوى مني..هو يعمدكم بالروح القدس ونار ” (لوقا 16: 3)

 

: كل
هذا، قد لخّصه يوحنّا الإنجيلي، في أربع فقرات حاسمة

“كان
إنسان مرسل من الله، اسمه يوحنا

هذا
جاء للشهادة، ليشهد للنور، لكي يؤمن الكل بواسطته

لم
يكن هو النور، بل ليشهد للنور

كان
النور الحقيقي، الذي ينير كل إنسان، آتياً إلى العالم ”

(يوحنا
1: 6 – 9)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى