علم المسيح

مَثَل الابن الضال



مَثَل الابن الضال

مَثَل الابن الضال

 

«وَقَالَ:
«إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ٱبْنَانِ. فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي
أَعْطِنِي ٱلْقِسْمَ ٱلَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ ٱلْمَالِ.
فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ
ٱلٱبْنُ ٱلأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ
بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ
شَيْءٍ، حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَٱبْتَدَأَ
يَحْتَاجُ. فَمَضَى وَٱلْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ
ٱلْكُورَةِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. وَكَانَ
يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأَ بَطْنَهُ مِنَ ٱلْخُرْنُوبِ ٱلَّذِي كَانَتِ
ٱلْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ
وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ ٱلْخُبْزُ وَأَنَا
أَهْلِكُ جُوعاً! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي
أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ
أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. فَقَامَ وَجَاءَ
إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ
وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ ٱلٱبْنُ:
يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً
بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. فَقَالَ ٱلأَبُ لِعَبِيدِهِ:
أَخْرِجُوا ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَٱجْعَلُوا
خَاتَماً فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ، وَقَدِّمُوا ٱلْعِجْلَ
ٱلْمُسَمَّنَ وَٱذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، لأَنَّ
ٱبْنِي هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاً فَوُجِدَ.
فَٱبْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ»(لوقا 15: 11-24).

 

أما
المثل الثالث فإنه الدُرَّة الفريدة بين أمثال المسيح كافة، وفيه تشبيهٌ لعمل
الأولاد في العائلة، تنبيهاً للأولاد بين سامعيه. ويوضح ما لم يُعلَن في المثلين
السابقين من عظمة مسئولية الذين يضلون عن الله وشرائعه. ونلاحظ أن هذا المثل يمتاز
على المثلين الآخرين في القيمة التي يعطيها للضالين، لأن نسبتهم كواحد إلى واحد،
ويمثلّهم بالابن العزيز الأصغر، لا بمعدن أو حيوان، كما أنه يوضح ضرورة العمل
الإلهي الاساسي في الرجوع إلى الله بالتوبة والإرادة الحرَّة، الأمر الذي هو ثمر
العمل الإلهي الاساسي في التفتيش عن الضالين وفتح الباب لخلاصهم. فضَمَّ المسيح
هذه الأمثال الثلاثة إلى عقد واحد، ليشرح لنا أمر الخلاص شرحاً وافياً.

 

حَصَر
المسيح الشعب اليهودي الذي خصَّه بخدمته في صنفين، يمثّلهما ابنان لأب واحد.
فالابن الأكبر (الذي له شرعاً نصيبٌ مضاعف في الإرث) يمثّل الذين يحافظون على صورة
الدِّين، وهم في أعين الناس، وأعين أنفسهم، أهل الدين والأمانة لله، لأنهم يحفظون
بتدقيق فرائض الدين الخارجية، ولا يتيهون علانية في برية الآثام والمعاصي.

 

ويمثّل
الابن الأصغر سائر أبناء الأمة، الذين يتبعون الأهواء المنكرة ولا يتقيدون بفروض
الدين فينكرون المراحم الإلهية ويستخدمون عطايا الرب لهم في العصيان عليه، ويرفضون
حرية البنوَّة الشريفة، إذ يبتعدون عن الله عمداً وظاهراً. لذلك يضلون دون خجل
ودون تردد عن كتاب الله وعن عبادته وعن شعبه، فيبتعدون بذلك عن القداسة والسلامة
والسعادة، وبالتالي عن صالحهم وصالح من هم حولهم في الدنيا والآخِرة.

 

ضلَّ
هذا الابن الأصغر عن بيت أبيه، وعن أخيه الوحيد، وعن العناية الأبويَّة، وعن خيرات
وطنه، وعن المعشر الصالح، وعن العمل لزيادة الثروة التي تأتيه بالإرث من أبيه.
ملَّ ونفر من القيود البيتية الشريفة، والسلطة الأبويَّة المكرَّمة، واشتهى أن
يحكم نفسه بنفسه، وأن يضلّ في الملذات الفاسدة بين الأشرار، فشقَّ عصا الطاعة
البنويّة وعزم على الابتعاد عن أبيه، ليتصرف كما يشاء. فطلب من أبيه – وهو لا يزال
حياً – نصيبه من الميراث.

 

ترك
روح البنوَّة الذي يقول: «أبانا الذي في السموات. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم». وطلب
دفعة واحدة كل نصيبه من أبيه، ليستقلَّ عنه تماماً. وهذا حال الخاطئ الذي يعيش
لنفسه، دون نظر إلى إرادة الله، ويتباهى باستقلاله عن الرب مفتخراً بما يعيبه.
ولما كانت الطاعة الإجبارية لا تحلو لأبٍ محب، وافق أبوه على طلبه، وأعطاه نصيبه
من الميراث، كما نرى ذلك في معاملة الله للأشرار الذين يعطيهم من عنايته الفياضة
خيراتٍ أرضية جزيلة حسب ما يرغبون. ولكن هذه العطايا ليست علامة الرضى الأبوي. ومع
أن هذا الجاهل انفصل قلبياً عن أبيه، فإنه لم ينصرف حالاً من بيت أبيه، بل قضى في
بيت أبيه أياماً سافر بعدها. هكذا الخاطئ أيضاً لا يبدأ حالاً بالانفصال الكلي عن
الله، بل يصل إلى ذلك تدريجياً.

 

في
البلدة البعيدة التي سافر إليها هذا الشاب، أطلق العنان للأهواء الفاسدة، حيث ليس
من يردعه أو يُخجِله أو يذكّره بماضيه الصالح وأصله الشريف، وفيها بذَّر ماله
بإسراف، حتى افتقر تماماً. واتفق عند فراغ جيبه حدوث مجاعة هناك، مما قسَّى قلوب
أصحابه عليه، وقطع عنه القوت الضروري.

 

نتصوَّره
في غربته يراعي بعض تقاليد شعبه في الأمور الخارجية، لكن لما عضَّه الجوع، لجأ إلى
الخدمة عند صاحب خنازير، أرسله ليرعى خنازيره، فضحَّى بدينه في سبيل جوعه، ورضي
بالنجاسة ليشبع، ولما كان يعود بالخنازير مساءً إلى مأواها كان صاحبها يعطيها
عشاءها من الخرنوب، ليسدَّ به ما نقصها في المرعى بسبب القحط. وكان هذا المسكين
يشتهي من شدة جوعه أن يتساوى مع هذه الحيوانات النجسة ويملأ بطنه من الخرنوب الذي
كانت الخنازير تأكله، ولم يعطه أحد.

 

كثيراً
ما يستخدم اللّه الشدائد ليُرجع الناس إليه، لكن كثيرين تزيدهم الشدائد بعداً عنه.
فما يقصده الله بركة للخلاص يحوّلونه لعنة للهلاك، والذي تردُّه الشدائد إلى بيت
أبيه يبرهن بنويَّته الحقيقية. ولقد وجد الابن الضال في وسط محنته باب الخلاص، لأن
الدخول إلى الخلاص، يكون أحياناً من باب اليأس.

 

لا
يزال الابن الضال ابناً، وأبوه لا يزال أباً. وكما أن الطاعة لم تصيِّره ابناً،
هكذا عصيانه لا يقطع هذه العلاقة التي هي وضع إلهي، لا يلاشيها إلا الموت. ولا
يخفى أن في صدر كل خاطئ من بني البشر ومضة من البنوَّة لله. فمهما هبط شر الناس في
حمأة الإثم، ومهما علت جبال خطاياهم، فهذه الومضة المباركة لا تنطفئ ما داموا على
قيد الحياة، ما لم يميتوها عمداً بتجديفهم على الروح القدس، الذي وحده يوقظها ويحييها،
ليلجأ صاحبها إلى المخلص الوحيد وينال الخلاص.

 

رجع
هذا الشاب إلى نفسه لأن الفقر الشديد أعاد إليه الرشد، فكان رجوعه إلى نفسه مقدمةً
لرجوعه إلى بيت أبيه. فلما عقد النية على هذا الرجوع كان تائباً متواضعاً واثقاً
من رحمة أبيه.

 

ظهرت
توبته في الكلام الذي أعدَّه ليقوله لأبيه عند المقابلة: «يا أبي أخطأت إلى السماء
وقدامك». شعر أن خطيته ليست ضد أبيه فقط، بل بالأكثر ضد الله. ولا يُسمَّى عملٌ ما
خطيئة بالنسبة إلى حقوق الناس فقط، بل النسبة إلى حقوق الله أيضاً.

 

وظهر
صدق تواضعه في شعوره أنه أضاع كل حقوقه الأصلية، فطلب أن يعتبره أبوه أجيراً،
ويكون قبول أبيه له كأجير فضلاً من أبيه عليه.

 

وظهر
صدق إيمانه في رأفة أبيه في أنه قام وذهب غير خائف أن يطرده أبوه، مع أنه لا يستحق
إلا الطرد.. وهذا الإيمان شرط لازم للتوبة، فالتوبة دون إيمان تكون فارغة، وتبقى
ندامة فقط. والندامة لا تؤدي إلى الخلاص بدون التوبة الحقيقية. فالابن لم يعزم فقط
على الرجوع، بل رجع. فأي نفع في أحسن عزم إنْ لم يخرج إلى حيز الفعل؟

 

وفيما
هو يقترب من بيت أبيه كان قلب هذا الوالد ملتهباً بالحب الشديد لهذا الشارد،
وعيناه تراقبان الطريق التي ذهب فيها، متوقّعاً عودته تائباً، لأنه عانى من أجل
ابنه الضال كثيراً. وكان ثمر مراقبته الدائمة أنه رأى ابنه، إذْ كان لم يزل
بعيداً، فلم ينتظر وصوله، ولم يفكر في أن يذله أو يعيِّره، ولم يذكر سيئاته لأنه
يعلم أن الاستعباد لإبليس هو أعظم المصائب التي تدعو للشفقة. فهل يزيد عذاب ابنه
بتأنيبه على ما مضى؟ إن القصد من التأنيب هو تحريك الضال للتوبة، فمتى ظهرت التوبة
لا تعود للتأنيب حاجة.

 

ظهر
الجمال الأبوي بكل معناه في هذا الأب، في القول إنه تحنن لما رأى ابنه. وهكذا لا
ينتج خلاص الخاطئ عن مجرد الإشفاق الإلهي، بل عن محبة الآب لابنه الشارد في قفر
الهلاك الروحي، والمقيَّد بسلاسل عدوه إبليس. هذا الابن هو من صُلب أبيه مهما شرد
وأضاع المشابهة له. وهو يحمل اسم أبيه مهما لطخ شرف هذا الاسم، وهو وارث بيت أبيه
مهما بذر من إرثه في المعاصي.

 

يتأنى
الخالق سبحانه في كل شيء إلا في ملاقاة الخاطئ التائب، فالإشارة الوحيدة في الكتاب
للاستعجال الإلهي وردت في هذا المثل، لأن المسيح قال عن هذا الأب إنه «تحنن وركض»
ليلاقي ابنه، وقابله مقابلة محبٍّ حنون. نسي كل تاريخه المعيب إذ وقع على عنقه
وقبّله، بالرغم من حالته القذرة. وعوَّض له عن خسارته وشقائه في الماضي باهتمام
يفوق اهتمامه بابنه الذي لم يضل. ولم ينتظر الأب حتى يبرهن ابنه عن صدق توبته
بسلوك حسن لمدة طويلة، ولكنه صالحه فوراً، لتكون طاعته المتواصلة بعد المصالحة
والمغفرة والإكرام برهاناً أفضل لصحة توبته من الطاعة التي يقدمها للحصول على
الإنعامات الأبوية. كما أن المغفرة التي تُعطى للخاطئ قبل الطاعة التامة، تكون
نعمة إلهية، وكرماً، أكثر من التي تُعطى جزاءً بعد الطاعة.

 

ما
أجمل هذه المقابلة الحبية الحارة التي فاق سرور الآب الصالح فيها على سرور ابنه
التائب. لقد تجدد عزم الابن على التوبة لما وجد عواطف والده القوية وغفرانه
المجاني. هكذا الخاطئ التائب يتأثر من الغفران الإلهي المجاني الحالي الكامل،
وتزيد توبته الصادقة وتتقوى. ومن المستحيل أن يولِّد فيه هذا الغفران طمعاً في
الحِلْم الإلهي ليؤجل إصلاح سيرته ويتساهل مع ميوله الشريرة، لأن هذا الغفران
يكوِّن روابط جديدة بينه وبين إلهه، تجعله يبتعد عن كل ما لا يُرضي الله.

 

عند
هذا اللقاء بدأ الابن الضال بالقول الذي رتبه لما رجع إلى نفسه، وهو بين الخنازير.
لكن الآب اكتفى بالمقدمة وقاطعه في الكلام قبل وصوله إلى الطلب أن يكون أجيراً
عنده، وأسرع يأمر عبيده أن يخدموه كالابن الأصغر الأعزّ. فأُعيدت إليه حقوقه في
البيت مضاعفة. فبدلاً من الخِرق القذرة الرثّة التي أتى فيها أتوه بالحُلة الأولى،
وبأفخر الموجود، إشارةً إلى صفاته الجديدة. هكذا يفعل الله مع الخاطئ التائب، إذ
يمنحه ثوب البر ورداء الخلاص ليستره، فيظهر أمام الله مبرَّراً مطهَّراً يمجد
مخلّصه (إشعياء 61: 10). ثم أمر الآب بإعطاء ابنه الخاتم، علامة السلطان البنوي
الذي يخوّله حق الختم عن أبيه في المعاملات الرسمية. وفي هذا إشارة إلى السلطان
الروحي الذي يهبه الروح القدس بحلوله في التائبين. وأمر له بحذاء ليتمكن من السعي
الجدي في أعمال بيت أبيه، وفي هذا إشارة إلى الوقاية الروحية التي يحصل عليها كل
تائب حقيقي. ثم أكمل الآب احتفاءه بتوبة ابنه بأن جهز وليمة يأكل فيها ابنه أفخر
مأكولات البيت، تعويضاً عن آلام الجوع في ما مضى.

 

وشرح
الأب لعبيده سبب كل ذلك بقوله: «لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجد».
اعتبر الآب توغُّل ابنه في الشرور موتاً أدبياً وروحياً، كما أن غيابه أشبه بالموت
الجسدي. فكان رجوعه كمن يقوم من قبره. فالخطية وليس موت الجسد هي الموت الحقيقي.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى