علم المسيح

التطويبات



التطويبات

التطويبات

 

بداية
الموعظة: طوبى

صعد
المسيح إلى الجبل. ولما جلس تقدم إليه تلاميذه، فعلمهم قائلاً: «طوبى». كان روح
الشريعة القديمة ظاهراً في القول: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لا يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ
مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ ٱلنَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ» (غلاطية 3:
10) وفي اللعنات المفصَّلَة التي نودي بها على جبل عيبال. أما الشريعة الجديدة فقد
أعلن المسيح روحها في الآية الشهيرة: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ
ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ
ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ
ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). استحسن المسيح أن يكون
استهلال شريعته كلمة «طوبى»، وهي الكلمة التي استهلَّ بها جده داود بعض مزاميره
الفائقة الشهرة والجمال.

 

افتتح
المسيح وعظه، لا بالوصايا والوعيد، بل بالتهنئة، لأنه أتى من عند الآب لكي يردَّ
للبشر سعادة فقدوها بسبب الخطيئة، فجعل الفرح من أهم أركان ملكوته، وجمع في كلمة
«طوبى» التهنئة والفرح والسعادة، لأنه يتكلم عن الطوبى الحقيقية لا الوهمية. ففي
يومنا هذا نرى أن مبادئ ملكوته الجديد قد رسخت في العالم، وأنها تتسلَّط تدريجياً
قرناً بعد قرن من يوم ظهورها إلى الآن، فقد أجمع البشر وعلماؤهم على اختلاف
مذاهبهم ومشاربهم، بأن شريعة المسيح أسمى كل ما ظهر في تاريخ الإيمان.

 

نرى
في سلسلة التطويبات التي أتت في مقدمة هذه العظة أمراً يجب الانتباه الخصوصي إليه،
وهو ما أتى قديماً في القول الإلهي: «لأن أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي
يقول الرب» (إشعياء 55: 8). فمن أول أعمال المسيح أنه نقض الآراء الدينية الباطلة
السائدة في ذلك الزمان، ونفى الخطأ في تعاليم رؤساء الدين اليهودي في زمانه.

 

طوبى
للمساكين

1 –
الطوبى الأولى : تقول «طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات» وهي تتحدث
عن أشخاص غير الذين ظنَّهم أهل ذلك الزمان أصحاب ملكوت السماوات، فهذه الحجة
للتطويب لا يصدقها سامعوه، لأنهم يحسبون أن في مقدمة أصحاب السعادة رؤساء الدين من
كهنة وكتبة وفريسيين (أي الأغنياء في المنصب الديني). لهؤلاء يكون القول الأول والمنفعة
الكبرى في الملكوت الزمني المجيد الذي يقيمه المسيح متى جاء. لكن المسيح يرى أن
ملكوت السماوات ليس لأولئك وأمثالهم، بل للمساكين بالروح، لأن هؤلاء هم الذين
يملكون مع المسيح. كان المسيح قد استشهد في عظته الشهيرة المختصرة في الناصرة
بالنبوة القائلة فيه: «الرب مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ» (لوقا 4:
18) ولهذا خصص تطويبه الأول للمساكين بالروح.

 

طوبى
للحزانى

2 –
الطوبى الثانية أعطاها للذين يتمتعون بتعزيات الحياة في وسط مصائبها ويفرحون بعد
البكاء. ولا خلاف بين المسيح وسامعيه في هذا القول، لكنهم يخصصون هذه التعزيات
للأغنياء، الذين يدفعون عنهم المصائب بمعاونة ذويهم، ويتعزون بكثرة الأصدقاء. أما
فهو فخصصها للباكين من الويل والشقاء. التعزية الإلهية هي للذين قد عُفي عن إثمهم،
وقد قبلوا من يد الرب ضعفين عن كل خطاياهم (إشعياء 40: 2).

 

وطوبى
للودعاء

3 –
الطوبى الثالثة هي للذين يرثون الأرض. نعم ومن هم؟ حسب رأي سامعيه هم أصحاب
النفوذ، الذين بدهائهم يسيطرون على البشر، وبمهارتهم يوسّعون أملاكهم ويزيدون
ثروتهم. أليس هؤلاء هم الذين يرثون الأرض؟ أما المسيح فيرى أن الذين يرثون الأرض
هم الودعاء. في ملكوت المسيح ليس المهوب بل المحبوب هو الذي يرث الأرض. رأى هذه
الحقيقة داود النبي فقال: «بَعْدَ قَلِيلٍ لا يَكُونُ ٱلشِّرِّيرُ.
تَطَّلِعُ فِي مَكَانِهِ فَلا يَكُونُ. أَمَّا ٱلْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ
ٱلأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ ٱلسَّلامَةِ» (مزمور 37: 10،
11).

 

طوبى
للجياع والعطاش

4 –
الطوبى الرابعة هي نصيب الشباعى. هنا أيضاً اتفاق بين المسيح وسامعيه. لكن من هم
الشباعى؟ عند سامعيه هم الأغنياء في المال، الذين لا يشتهون أمراً إلا ويأتيهم
المال به. هم الذين لا يعرفون من الجوع إلا اسمه. إنما حسب رأي المسيح، هم الذين
لا يبالون بالغنى المادي، ولا يشتهون كثيراً خيرات هذا العالم، بل يجوعون ويعطشون
إلى البر السماوي لأجل نفوسهم ولأجل من حولهم. في ملكوت المسيح هؤلاء هم الذين
يشبعون. وقد قال نبي الله إشعياء: «هَكَذَا قَالَ ٱلسَّيِّدُ
ٱلرَّبُّ: «هُوَذَا عَبِيدِي يَأْكُلُونَ وَأَنْتُمْ تَجُوعُونَ. هُوَذَا
عَبِيدِي يَشْرَبُونَ وَأَنْتُمْ تَعْطَشُونَ» (إشعياء 65: 13).

 

طوبى
للرحماء

5 –
الطوبى الخامسة خصَّها للرحومين، الذين ينالون من الله الرحمة ومن الناس المراعاة.
لكن هل هم الأغنياء في السلطان، أي الملوك والحكام المرعيو الجانب، السالمون من
المظالم؟ وهل هم الذين يرغمون الناس على مراعاتهم بسطوتهم؟ وبقوتهم يخدمون المصالح
الدينية الخارجية، وبذلك يكسبون عند الله أيضاً المراعاة؟ يقول المسيح إن الذين
يُرحمون هم اللطفاء لا المتجبِّرون. هم الذين يراعون الناس لا الذين يراعيهم
الناس. هم الذين يخضعون للآخرين لا الذين يُخضِعونهم. في ملكوته ينال الرحماء
الرحمة لا العتاة. قال الحكيم سليمان: «اَلرَّجُلُ ٱلرَّحِيمُ يُحْسِنُ
إِلَى نَفْسِهِ» (أمثال 11: 17). وقال أبوه داود لِلَّه: «مَعَ ٱلرَّحِيمِ
تَكُونُ رَحِيماً» (مزمور 18: 25).

 

طوبى
للأنقياء القلب

السبب
المعطى 6 – للطوبى السادسة هو أصعب الكل وأبعدها عن التصديق. قال: «طوبى للأنقياء
القلب، لأنهم يعاينون الله». أليس هذا مستحيلاً في هذه الدنيا؟ أليس هو العلي الذي
يرى ولا يُرى؟ ألم يقل المسيح سابقاً: «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ؟»
(يوحنا 1: 18) مع كل ذلك نعلم أن اشتهاء الإنسان معاينة الله أمر فطري، وأشرف ما
هو فطري في الإنسان.

 

حسب
تصوُّرات الذين خاطبهم المسيح إن الذين يعاينون الله في هذه الدنيا، أو في الآخرة
هم الأغنياء في العلم، ولا سيما المتعمَّقين في الدروس اللاهوتية، لأن لهم البصيرة
الكافية ليروا من الأمور الإلهية ما لا يراه غيرهم. لكن المسيح يرى أن أنقياء
القلب هم الذين يعاينون الله. لا أنقياء العين بل أنقياء القلب. العين التي تستطيع
رؤية الله إذاً ليست عين العقل الذكي بل القلب النقي. قال داود النبي: «لأَنَّ
ٱلرَّبَّ عَادِلٌ وَيُحِبُّ ٱلْعَدْلَ. ٱلْمُسْتَقِيمُ يُبْصِرُ
وَجْهَهُ.. مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ ٱلرَّبِّ، وَمَنْ يَقُومُ فِي
مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟ اَلطَّاهِرُ ٱلْيَدَيْنِ، وَٱلنَّقِيُّ
ٱلْقَلْبِ» (مزمور 11: 7 و24: 3، 4).

 

طوبى
لصانعي السلام

7 –
الطوبى السابعة للذين يُدعون أبناء الله. حسب زعم سامعي المسيح هم أبناء إبراهيم،
سلالة النسل المختار، الداخلون بالاختتان في عداد شعب الله من بني إسرائيل. هم
الذين يقصدون إثارة الحرب على الرومان ليحرروا الأمة المقدسة من نيرهم، حتى لا
يكون عليهم ملكٌ إلا الله. هم الذين يقصدون أيضاً محاربة الشعوب الأخرى لكي
يُكرهوهم بالسيف على اتِّباع الدين الحق، وترك العبادات الوثنية، ويجعلونهم
خُدَّاماً عند شعب الله الخاص الأصلي. لكن المسيح يرى أبناء الله هم الذين يصنعون
في العالم سلاماً لا حرباً، لأن السلام هو من أركان ملكوته الرئيسية. هم الذين
يصنعون سلاماً مع الله بالطاعة. وسلاماً مع الناس بالمحبة. قيل في الإنجيل إن
المسيح جاء ليخلق منّا إنساناً واحداً جديداً. صانعاً سلاماً (أفسس 2: 15)
«وَثَمَرُ ٱلْبِرِّ يُزْرَعُ فِي ٱلسَّلامِ مِنَ ٱلَّذِينَ
يَفْعَلُونَ ٱلسَّلامَ» (يعقوب 3: 18).

 

طوبى
للمطرودين

8 –
أخيراً يكرر المسيح الطوبى للذين لهم ملكوت السماوات. يظن سامعوه أن ملكوت
السماوات، هو للأغنياء في التديُّن الخارجي، الذين يكثرون من الأصوام والصلوات
ويقدّمون الحسنات، على شرط أن يكونوا من الجنس المختار الإسرائيلي، الذين يعتقدون
أن مسيحهم متى جاء يجعل الشخص الذي كان مجده كنور النجم يصبح كنور القمر، والذي
كان مجده كنور القمر يصبح كنور الشمس. ويعود مجد الشعب الإسرائيلي إلى أضعاف ما
كان عليه في أفخر أيام عزهم. هذا هو ملكوت السماوات الذي يحلمون به، وهؤلاء هم
الذين لهم الملكوت ويستفيدون منه. لكن المسيح يرى أن ملكوت السماوات هو للمطرودين
من أجل البر، الذين لأنهم مساكين بالروح، وحزانى، وودعاء، وجياع، وعطاش، ورقيقو
الشعور، وأنقياء القلب، ومسالمون، لا يعتبرهم العالم، بل يحتقرهم ويجتنبهم ويخرجهم
من دوائره، فيعوِّضهم الرب ملك الملكوت الجديد بإعطائهم إياهم ملكوت السماوات.

 

تعليق
على التطويبات

هذه
هي سلسلة التطويبات. لم نجد فيها حتى ولا حلقة واحدة من الثمانية تختص بالطقوس
المذهبية، أو تتناول شيئاً من الفرائض الدينية الخارجية. وخلاصتها أن مسكين العالم
هو غنيُّ الملكوت، والحزين هو المتعزي، والباكي هو الضاحك، والخاضع للناس هو
الحاكم في الناس، والجوعان للبر هو الشبعان، والمعطي هو الذي يُعطَى، والبسيط
القلب هو الفهيم، وصانع السلام لا صانع الحرب هو ابن الملك وهو المنصور، والمطرود
من وطنه لأجل الله هو صاحب الوطن الثابت.

 

هذه
التطويبات فأس، ضرب المسيح بها أصول شجرة الآمال العالمية عند اليهود، والمتعلقة
بمجيء المسيا وملكوته المادي، فالطوبى الحقيقية الدائمة لا تتوقف على الأمور
الخارجية الدينية، ولا على النجاح المادي والزمني، بل على الأمور الداخلية الروحية
والنجاح الأبدي. لما كلّم المسيح نيقوديموس كان موضوع حديثه الولادة الروحية لدخول
الملكوت الروحي، ولما كلّم المرأة السامرية كان موضوع حديثه روحانية الله وملكوته.
وفي وعظه على الجبل لا يزال هذا الموضوع شاغله الأول. والحاجة إلى هذا التعليم
ليست أقل في يومنا هذا مما كانت في تلك الأيام. ما أبعد هذا عما نشاهده اليوم في
كل المذاهب من استيلاء المجد العالمي على أرباب الدين ومعلِّميه، ومن ترويج
المقاييس المادية لا الروحية في الدوائر الدينية.

 

كانت
هذه التطويبات مقدمة عمومية لخطاب في صيغة المخاطب، كلّم به المسيح الذين اختارهم
ليكونوا رسلاً. وكأنه يقول لهم: لقد تولدتْ فيكم مبدئياً الصفات التي بنَيْتُ
عليها التطويبات، وذلك يجعلكم ممقوتين من قومكم الذين تربَّيتم بينهم. فأقول لكم
طوباكم أنتم متى عاملوكم على الكيفية التي شرحتُها الآن. فمتى طردوكم وأهانوكم
وعيّروكم وأفرزوكم من أجل البر، ومن أجل ابن الإنسان، لا تحزنوا ولا تتكدروا، بل
افرحوا وتهللوا. أولاً لأن أجركم في السماء لقاء ذلك يكون عظيماً، ثم لأنكم بذلك
تماثلون الأنبياء الأقدمين، فتشتركون في شرفهم الدائم.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى