علم المسيح

يوحنا المعمدان يجهز الطريق



يوحنا المعمدان يجهز الطريق

يوحنا المعمدان
يجهز الطريق

 

«وَفِي
تِلْكَ ٱلأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي
بَرِّيَّةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ قَائِلاً: «تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ
ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّماوَاتِ. فَإِنَّ هٰذَا هُوَ
ٱلَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي
ٱلْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ. ٱصْنَعُوا سُبُلَهُ
مُسْتَقِيمَةً». وَيُوحَنَّا هٰذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ
ٱلإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ
جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّاً. حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ
ٱلْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ
بِٱلأُرْدُنّ، وَٱعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي ٱلأُرْدُنِّ،
مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ.

فَلَمَّا
رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ
يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: «يَا أَوْلادَ ٱلأَفَاعِي،
مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي؟
فَٱصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ. وَلا تَفْتَكِرُوا
أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ
لَكُمْ: إِنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هٰذِهِ
ٱلْحِجَارَةِ أَوْلاداً لإِبْراهِيمَ. وَٱلآنَ قَدْ وُضِعَتِ
ٱلْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لا تَصْنَعُ
ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّارِ. أَنَا أُعَمِّدُكُمْ
بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلٰكِنِ ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى
مِنِّي، ٱلَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ
سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَارٍ. ٱلَّذِي
رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى
ٱلْمَخْزَنِ، وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لا تُطْفَأُ»
(متى 3: 1-12).

قبلما
بزغ نور المسيح العظيم، الذي قال عن نفسه: «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ»
(يوحنا 8: 12) لاح فجره في شخص نسيبه يوحنا المعمدان، الذي كان مثله – ولو أنه أقل
منه كثيراً، وقال عن نفسه: «لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ
حِذَائِهِ» (مرقس 1: 7). سمّاه يسوع: «ٱلسِّرَاجَ ٱلْمُوقَدَ
ٱلْمُنِيرَ» (يوحنا 5: 35). وقال فيه الرسول يوحنا إنه «إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ
مِنَ ٱللّٰهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ ٱلنُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ
لِلنُّورِ. لِكَيْ يُؤْمِنَ ٱلْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ» (يوحنا 1: 8).

كان
هذا الفجر المبشَّر به منتظراً، بسبب النبوَّات التي سبقت ظهوره. والمعمدان هو
الوحيد غير المسيح الذي جاءت عنه نبوات قبل ظهوره بمئات السنين. أشار البشيرون إلى
نبوَّة منها وردت في كتابة إشعياء، أعظم الأنبياء الذين كتبوا بعد موسى وأشاروا
أيضاً إلى كلام نبيٍ ثانٍ بعده بثلاثمائة سنة. وهو ملاخي، آخر الأنبياء الذين
كتبوا بالوحي. ونبوّته هي الحلقة الموصّلة بين العهد القديم وأسفاره والعهد الجديد
وأسفاره (إشعياء 40: 3، ملاخي 3: 1، 4: 5).

تقرَّر
مقام المعمدان أولاً بواسطة هذه النبوات، وتقرَّر أيضاً بواسطة سلسلة المعجزات
الممتازة التي رافقت ولادته. ثم بواسطة القوة الفائقة التي ظهرت فيه حتى جذب
الجماهير إلى وعظه ومعموديته، لأنه تسلط تسلُّطاً روحياً وأدبياً على الشعب وعلى
رؤسائهم، حتى على ملكهم الشرير هيرودس أنتيباس. فصار اليهود يتساءلون قائلين:
«ألعل هذا هو المسيح؟» ونال هذه المكانة، دون شيء من الظواهر المجيدة التي كان
اليهود يصوّرونها لمسيحهم متى جاء، ودون أن يفعل معجزة واحدة في زمانه.

أما
الذي أيَّد عظمة مقام المعمدان تأييداً صريحاً كاملاً، فهو شهادات المسيح له، فقد
قال عنه للشعب: «مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟
أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ، وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ… اَلْحَقَّ أَقُولُ
لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ أَعْظَمُ
مِنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ!» (متى 11: 7-11) كانت عظمته من النوع
المُشار إليه في قول دانيال النبي: «وَٱلْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ
ٱلْجَلَدِ، وَٱلَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْبِرِّ
كَٱلْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ ٱلدُّهُورِ» (دانيال 12: 3).

يتقدم
يوحنا المعمدان بروح إيليا ونشاطه، أمام ملك إسرائيل الحقيقي، حباً واحتراماً، عند
قدومه إلى مملكته الأرضية، وكان غرض يوحنا كغرض إيليا: تبكيت شعب الله على حيدانهم
عن شرائعه تعالى، وعلى انقيادهم إلى العادات الفاسدة التي اقتبسوها من الأمم
حولهم.

يسوق
الضمير البشر ليُصغوا إلى الواعظ الذي يأتيهم بروح الأنبياء العظماء، مثل موسى
الذي «قَبِلَ أَقْوَالاً حَيَّةً لِيُعْطِيَنَا إِيَّاهَاَ» (أعمال 7: 38). وبروح
الرسول بطرس الذي كتب: «إِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فَكَأَقْوَالِ
ٱللّٰهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ فَكَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةٍ
يَمْنَحُهَا ٱللّٰهُ، لِكَيْ يَتَمَجَّدَ ٱللّٰهُ فِي
كُلِّ شَيْءٍ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَجْدُ
وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (1 بطرس 4: 11).

الواعظ
المملوء من الروح القدس – نظير المعمدان – لا يفتقر إلى سامعين، لأنه لا يشغل نفسه
بالمقالات الفلسفية، ولا يتكلم من نفسه، ولا يعظ لأن الوعظ حرفته التي يرتزق منها
ويُرضي الناس بها، بل يعظ كمن يسمع كلام الله الذي يقول له: «فَٱلآنَ
ٱذْهَبْ وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ»
(خروج 4: 12) وكمن يشعر مع بولس لما كتب: «وَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لا أُبَشِّرُ»
(1 كو 9: 16).

تيتَّم
المعمدان صغيراً، وليس له إخوة ولا أخوات. ولما بلغ سنّ الرشد لم يتبع أباه في
رتبة الكهنوت، لأنه علم أنه نذير الله، فاتّخذ البرية مسكنه، والجراد والعسل البري
طعامه، وثوباً من وبر الإبل لباسه، والجلد حزاماً لوسطه، والزهد في الدنيا طباعه،
فاختلف في ذلك عن المسيح الذي قضى سنيه كلها بين إخوته وأخواته ومواطنيه في
الناصرة، يمارس صناعته بينهم، ويختلط بهم كأحدهم، ثم يتجول في المدن والقرى بين
الجماهير في أنحاء البلاد. ويلاحَظُ أن قصة المعمدان كقصة المسيح تخلو من الأخبار
بين طفوليته وسن الثلاثين، فالقول الوحيد الذي ورد عن المعمدان في هذه المدة كلها
هو: «وَكَانَتْ يَدُ ٱلرَّبِّ مَعَهُ. أَمَّا ٱلصَّبِيُّ فَكَانَ
يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ، وَكَانَ فِي ٱلْبَرَارِي إِلَى
يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ» (لوقا 1: 66 و80).

ومع
أن المعمدان لم يماثل المسيح في معيشته الخارجية، إلا أنه ماثله في التمسُّك
التامّ بالأمور الروحية، والاهتمام بخير الناس، والغيرة على إصلاحهم، والجرأة في
الانتصار للحق والبر، ومحاربة الشر على أنواعه بين كل طبقات البشر. وكان نصير
المساواة بين الناس، يحطّ المترفّع منهم، وينهِض المتواضع، ويقوّم المعوّج، ويمهّد
الطريق إلى الصلاح، ثم إلى السماء. وكان نصير السلام، يردُّ القلوب المتباعدة بعضها
إلى بعض. وفي كل هذا أتمَّ النبوات التي وردت بشأنه، ومنها أنه يجهز الطريق لمجيء
المخلّص الذي هو المسيح الرب. وقد قرن يوحنا المعمدان في معموديته الغفران
بالتوبة، فليس الغفران أمراً مؤجلاً يناله الخاطئ عند موته، أو في المستقبل بعد أن
يُظهِر حقيقة توبته بالأفعال الصالحة، بل هو هبةٌ إلهية تُعطَى حالما تتولّد في
قلب الخاطئ ندامة صادقة مخلصة تقود النادم للالتجاء إلى الله.

ولا
بد أن الفكر المنتشر في البلاد وقتها بأن ظهور المسيح قريب كان من أسباب ازدحام
الجمهور حول المعمدان. ولما قال علانية إن المسيح قد جاء، زاد الحماس الديني في
أفكار الناس، فتقاطروا إلى هذا المبشر أكثر فأكثر. لكنه لم يدارِ خاطراً ولم يراعِ
مقاماً في توبيخاته القوية الصريحة على الشرور المتنوعة، فبرهن بجرأته وعدالته
أهليته للوظيفة النبوية. وفي إنكار ذاتٍ أعلن أنه ليس أكثر من «صوت صارخ في البرية»
ينطق بأوامر إلهية تسلَّمها ليسلّمها للشعب، كما صُرِّح عنه في النبوة القديمة
المشيرة إليه. ونبّههم إلى أن الوقت قد حان لوضع الفأس على أصل الشجرة التي لا
تثمر أثماراً صالحة، وأن بيد مسيحهم القادم رفشاً لتنقية بيدره، وإحراق البطالين
بنار لا تُطفأ، بعد جَمع الصالحين إلى مخزنه (متى 3: 7-12).

صوت
المعمدان هذا هو الصوت الصارخ في البرية، وهو صدى الرعود على جبل سيناء عند إنزال
الشريعة الطاهرة على موسى، فحَرك الناس ليفتكروا بالنجاة. ولما رآهم المعمدان
مرتعبين سألهم مؤنّباً: «من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟». وأعلن أن النجاة لن
تكون بالهروب، بل بإصلاح سيرتهم، وأكّد لهم أن مجرد تسلسلهم من إبراهيم لا يخوّلهم
البركات التي وعد الله نسل إبراهيم بها، لأن الله قادر أن يقيم من الحجارة أولاداً
لإبراهيم. ولكن لا يمكنه أن يحسب نسلاً لإبراهيم أناساً يخالفون إبراهيم وصلاحه. فظهر
تأثير وعظه في المسائل التي تقدمت له لإجل الإرشاد الديني من صفوف الناس المختلفة،
وظهرت حكمته في أجوبته.

ولم
يكن كل وعظ يوحنا إرهاباً، فقد بشَّر الناس بالعمل الفائق الذي يقوم به المسيح متى
ظهر. وأنه هو يقدر أن يعمدهم بماءٍ للتوبة، لكن معمودية الماء ليست إلا رمزاً
وتمهيداً للمعمودية التي يفتقر إليها كل خاطئ لأجل الخلاص، وهي معمودية الروح
القدس، التي يستحيل على أعظم الرسل والأنبياء أن يعمّد بها، لأنها عمل الإله وحده،
فلما قال يوحنا إن المسيح يعمّد بالروح القدس أعلن للناس أن يسوع المسيح حقاً هو
الإله المتأنّس، ولما قال إن المسيح الذي يأتي بعده كان قبله، قدَّم برهاناً آخر
بأن يسوع لم يكن مجرد بشر.

لا شك
أن المعمدان مهّد طريق المسيح كثيراً، لأن تأثير وعظه خلق استعداداً داخلياً في
كثيرين لسماع تعاليم المسيح وقبوله فيما بعد. وكان وعظه بأن ملكوت الله قد اقترب
ذات الوعظ الذي افتتح به المسيح خدمته.

اختار
الله المعمدان من النسل الكهنوتي ليهيئ طريق المسيح المخلّص، ويوصّل بين العهدين
القديم والجديد، فأقامه نبياً لا كاهناً، وجعله الأخير في سلسلة الأنبياء، والأول
في سلسلة المبشرين الجديدة. اختاره من أنسباء يسوع في الجسد، تكريماً وتعزيزاً
للعلاقات العائلية بين البشر، فالعائلة هي أساس المجتمع الإنساني، وأقدس فروعه،
وهي أساسٌ في الدين أيضاً. فرأس كل عائلة هو كاهنها ورئيسها الديني لا الزمني فقط.
فالدين في المدارس حتى في المعابد أيضاً تابعٌ للدين في العائلة.

رنَّ
صوت المعمدان الصارخ في البرية، فملأ البلاد إلى أقاصيها، فجعله صيته مهوباً عند
الجميع، من الملك هيرودس أنتيباس إلى رجل الشارع. وفي ذات يوم أتاه المسيح إلى بيت
عبرة على ضفة الأردن من الناصرة على بعد سفر يوم – وكان قد أكمل السنين الثلاثين
الإستعدادية. طال انحجاب حقيقة أمره عن أبصار العالم، وعن ذويه في وطنه فلم يعرفوا
عظمة عمله المقبل، وهكذا يطول انحجاب البذرة في الأرض بحسب أهمية الشجرة التي
ستكون منها.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى