علم المسيح

العشاء الأخير



العشاء الأخير

العشاء الأخير

(مر 12: 1417، مت 17: 2620، لو 7: 2216).

1
رواية إرسال التلميذين لإعداد العشاء الأخير في الأناجيل.

2
المشكلة التفسيرية لزمن إرسالية التلميذين لإعداد العشاء الأخير.

3
مشكلة زمن إتمام العشاء الأخير وتحديده فصحيًا كان أم غير فصحيًا

أ
الرأى الأول: العشاء الأخير كان فصحيًا: الأدلة.

ب
الرأى الثانى: العشاء الأخير لم يكن فصحيًا: الأدلة.

ج
آراء حلول وسطية لمشكلة زمن إتمام العشاء الأخير.

د
الرأى الثانى، العشاء الأخير لم يكن فصحيًا، أكثر صحة من الرأى الأول.

ه
اتفاق الإنجيليين الثلاثة ويوحنا على زمن إتمام العشاء الأخير.

 

الفصل الأول

أولاً: العشاء الأخير

1)           
1 رواية إرسال التلميذين
لإعداد العشاء الأخير فى الأناجيل

الرواية المتعلقة بإرسال
التلميذين لإعداد العشاء الأخير تذكر عند الإنجيليين الثلاثة مرقس(2: 1416)، ومتى(17:
2619)، ولوقا (7: 2213)، ولا تظهر اختلافات هامة بينهم، فقط عند متَّى تغيب
الإشارة إلى الرجل الذي يحمل جرة الماء، وعند لوقا من ناحية، يذكر أسماء الرسل
الاثنين المُرسلين (بطرس، ويوحنا)، ومن ناحية أخري سؤال التلميذين للسيد ”
أين تريد أن نُعّد ” (لو9: 22) يأتى من بعد تكليفهم بالذهاب والإعداد للفصح (أنظر
لو8: 22).

مما سبق نستنتج أن المبادرة
لإعداد العشاء ترجع حسب القديس لوقا إلى ربنا يسوع، بينما حسب القديسَيْن مرقس
ومتى إلى التلاميذ الذين بادروا بسؤال السيد عن المكان الذي يريد أن يأكل فيه
الفصح معهم (أنظر مر12: 14، مت17: 26).

مبادرة ربنا يسوع بحسب لوقا (8:
22) ” اذهبا واعَّدا لنا الفصح لنأكل”، وسؤال التلاميذ بحسب مرقس (2: 14)،
ومتى (17: 26) ” أين تريد أن نمضى ونعد لتأكل الفصح ” يكشفان لنا بوضوح،
أن تلاميذ السيد لم يكونوا على علم حتى هذه اللحظة بالمكان الذى سوف يأكلون فيه
العشاء الفصحى مع معلمهم.

هذا كل ما يذكره الإنجيليون
الثلاثة عن الرواية الخاصة بإرسال التلميذين لإعداد العشاء الأخير. أما الإنجيلي
الرابع يوحنا فهو يغفل تماماً ذكر هذه الرواية، وذلك قد يرجع إلى ما يلى:

1 ربما لأن يوحنا كان نفسه
هو واحد من الاثنين الذين أرسلهما السيد، لهذا ومن التواضع الذي اتصف به دائماً لم
يذكر هذا الحدث.

2 وربما لأن القديس لوقا قد
كتب إنجيله قبل القديس يوحنا [لوقا من بعد سنة 70 م ويوحنا فى أواخر القرن الأول
الميلادي]
[1]
ذاكراً من
ضمن أسماء التلميذين المرسلين اسم يوحنا، وبالتالي صار هذا الأمر معروفاً لدي
المؤمنين، وأصبحت أية إشارة أخرى إليه هى أمر زائد.

وفى مقابلة حدث الإعداد
للعشاء الأخير، بحدث الإعداد للدخول الأخير أيضًا لأورشليم، نجد أنه كما اهتم
السيد بدخوله أورشليم يوم الأحد وأرسل من بيت عنيا تلميذين لكي يُعدا لذلك (أنظر
مر1: 11، مت1: 21، ولو 29: 19)، هكذا نراه يوم الخميس، وأيضاً من بيت عنيا يرسل
بالمثل تلميذين إلى أورشليم لكي يُعدا لعشائه الأخير[2].

وبالعودة الآن إلى الرواية
الإنجيلية عن الإعداد للعشاء فإننا نسمع السيد يقول للتلميذين أن يذهبا إلى
المدينة (أورشليم) حيث سيقابلهم شخص ما يحمل جرة بها ماء. هذا الإنسان يجب أن يتبعاه،
وفى البيت الذي سيدخله، يدخلان هما أيضًا، وأن يقولا لصاحب البيت إن المعلم يقول: ”
وقتي قريب، أين المكان حيث أكل الفصح مع تلاميذي؟”، وهذا عندئذ سوف يريهما
عليَّة كبيرة مفروشة مُعدة، هناك يجب على التلميذين أن يُعدَّا للعشاء. والرواية
تنتهي على التأكيد بأن التلميذين وجدا كل شئ مثلما قال لهما يسوع بالضبط، وهكذا
أعدا العشاء.

ليس لدينا أصول [نصوص
تاريخية]،عن صاحب البيت، الذي تم فيه العشاء الأخير، لكن وفقاً لتقليد الكنيسة
القبطية فإن المنزل يخص مريم أم يوحنا (مرقس الرسول)[3]،
وهو أيضاً المنزل الذي من المحتمل أن تكون اجتماعات المسيحيين الأوائل قد صارت فيه
(أنظر أع12: 12). لهذا، لم يكن من الصعب على مرقس أن يصف لنا عُلَّية بيته أنها
كانت ” كبيرة، مفروشة، معدة ” (مر15: 14).

وفقاً لعادات البناء في
فلسطين فى ذاك الوقت، العُلَّية هى حجرة توجد فى الدور الثاني للبيت، كانت تستخدم
للاجتماعات أو للمراسيم، والصعود لها كان يتم عن طريق سلم من خارج البيت[4].

فى رواية إرسال التلميذين
لإعداد العشاء كما قرأنا،
لا شك أن بعض الأسئلة تتولد مثل:

أولاً: لماذا
لم يُسمِّ السيد “بالاسم” الرجل حامل جرة الماء للتلميذين المرسلين؟

ثانيًا: ماذا
كان يهدف السيد من ذكر هذه الرواية مسبقاً وبكل هذه التفاصيل الدقيقة؟

 

بالنسبة للسؤال الأول:

إجابة أولى
نأخذها من القائلين بأنه كان هناك اتفاق مُسَبق ليسوع مع هذا الشخص الأورشليمى،
وذلك حتى ينبهر التلاميذ عندما يتحقق معهم هذا الأمر.

لكن إجابة هؤلاء المفسرين هى
فى الحقيقة بعيدة عن روح النص وهدفه
[5]. بينما هناك إجابات قريبة
جداً من روح النص ومن طريقة السيد فى التعليم مثل:

أ بطريرك الإسكندرية فى
القرن الخامس الميلادي القديس كيرلس الكبير: الذي يرى أن السبب فى عدم تسمية الرجل
حامل جرة الماء من قِبَل السيد، يرجع إلى علم السيد، أن يهوذا الخائن قد عاهد
اليهود على تسليم معلمه لهم، وبالتالي ففي حالة معرفته باسم هذا الرجل، سوف يذهب (يهوذا)
ويبلغ اليهود[6].

ب الكاتب القبطي فى القرن
الثاني عشر سمعان بن كليل، الذي يُرجع السبب إلى معرفة السيد بأن رؤساء اليهود
الدينيين ينتظرون قدومه إلى أورشليم للقبض عليه، ولذا لكي يجنب التلميذين المرسلين
أية أسئلة عن البيت، أظهر لهم، بطريقة مدهشة، كيف سيصلون هناك، وبدون التعرض لأي
خطر من اليهود[7].

ولاشك، أن رؤية رجل يحمل جرة
ماء، فى حين أن الاستقاء كان حتى ذلك الوقت هو عمل النساء أساسًا (أنظر تك11: 24،
تث10: 2911، يو7: 4)، سوف يكون للتلميذين بمثابة علامة سهلة أولاً للتعرف على
الشخص، وثانيًا لإتمام رسالتهم.

 

أما بالنسبة للسؤال الثاني:

وهو إلى ماذا يهدف السيد،
عندما يذكر مسبقا كل هذه التفاصيل الدقيقة فى رواية إرسال التلميذين؟. نجيب بأن
هذا يكشف كيف أن السيد المسيح يعرف ليس فقط هذا الحدث الصغير، ولكن كل ما هو متوقع
أن يحدث له فى آلامه بعد قليل، وأنه يقبل كل ما هو آتى عليه بإرادته. فأحداث
الآلام لم تُفرض على السيد، الذي فوق أنه عالم بكل شئ (أنظر يو3: 16) كان أيضًا
فوق كل خطط الشرير.

بكلام آخر، لم يكن السيد
المسيح ذبيحة مقيدة تقاد إلى الموت فى عربة يقودها الشيطان، لكنه كان يعرف مسبقًا
كل ما سيحدث له ويتبع هذا باختياره. فهو سيد كل الأحداث، يعرفها جميعًا ويتكلم
عنها مسبقًا وحتى بدقائق التفاصيل فيها، وإنه يكابد الآلام طوعًا، محققًا إرادة
الله الآب لأجل خلاص البشرية. هذا بالتحديد ما يحاول السيد أن يجعله مفهومًا لدى
تلاميذه، سواء بكلماته المختلفة أو بأعماله العظيمة، وهنا بالذات بهذا التنبؤ عما
سيحدث لهم عند دخولهم المدينة.

 في النهاية يعطينا القديس
كيرلس الإسكندري تفسيرًا ” سرى، وضروري ” كما يصفه بنفسه لرواية إرسال
التلميذين، ويقول: لأنه كما قال لهم حيث يدخل الإنسان حامل جرة الماء، هناك في هذا
البيت سوف يجلس المسيح، هكذا الماء الذي يعلن عن المعمودية المقدسة، سوف يغسلنا من
كل الأثام حتى نصير هيكلاً لله ومشاركين لطبيعته الإلهية (الاتحاد به) بشركة الروح
القدس[8].

 

2
المشكلة التفسيرية لزمن إرسالية التلميذين لإعداد العشاء الأخير

بمواصلتنا لموضوعنا، نلاحظ
التالي، أن هناك مشكلة تفسيرية تظهر من بداية الآية الأولى للرواية، عند الإنجيليين
الثلاثة، والتي وفقًا لها صارت إرسالية التلميذين ” في اليوم الأول للفطير،
حين كانوا يذبحون الفصح” (مر12: 14، مت17: 26، لو7: 22). فمن المعروف، أن
اليوم الأول للفطير 15 نيسان لا يتوافق مع يوم ذبح خروف الفصح 14 نيسان (أنظر
خر12). كيف إذن يعطينا الإنجيليون الثلاثة الانطباع أن اليومين واحد؟

نجيب: في الحقيقة الإنجيليون
الثلاثة لا يوحدون اليومين، ولكن هذا الانطباع الظاهري يأتى من الترجمة العربية
غير الدقيقة للصفة ” الأول”، والتي في النص الآرامي الأصلي لكلمات السيد
المسيح هى ظرف زمان بمعنى ” قبل”. إذًا فآية (مرقس12: 14) ” وفي
اليوم الأول من الفطير.. ” ترجمتها السليمة “وقبل يوم الفطير ”
والذي فيه يذبح خروف الفصح. ونفس الأمر يسرى على الشاهد (مت7: 26)، الذي يأخذ أساس
مادة إنجيله من القديس مرقس.

هذا الشرح يُعضَد بالأكثر
إذا أخذنا في الاعتبار أن كثيرين من المفسرين القدماء والحديثين قد لاحظوا أن
الصفة ” الأول ” استخدمت في مواضع أخرى للعهد الجديد بمعنى ”
السابق”، أنظر على سبيل المثال (مت19: 12، يو15: 1،18: 15، اع1: 1، اتيمو12: 5،
عب7: 8، رؤ4: 25،1: 21)[9].

أيضًا الشاهد (لو7: 22) يصير
واضحًا عندما نضع في اعتبارنا هاتين المعلومتين:

1 في يوم ذبح الخروف كان يجب
على كل اليهود أن ينزعوا أى أثر للخميرة من منازلهم، وأن يعدوا فقط خبز غير مختمر
(فطير) الذي سيأكلونه مع الخروف المذبوح من بعد غروب الشمس. لهذا كان معروفًا
لديهم يوم ذبح الخروف (الفصح)[10] بيوم
الفطير (أنظر خر8: 12-11).

2 عيد الفطير كان يبدأ مع
غروب شمس يوم 14 نيسان، وذلك بأكل خروف الفصح مع الفطير، ويستمر الاحتفال به لمدة
أسبوع كامل، أى ينتهي بغروب شمس يوم 21 نيسان (أنظر خر15: 12-20).

 لكن في لغة الشعب اليهودي
المصطلحات ” فصح “، ” فطير ” كانت متبادلة بدون تمييز
واستخدمت بدون تفرقة، عند الحديث عن يوم ذبح خروف الفصح، وأيضًا عن كل الثمانية
أيام للعيد (أنظر على سبيل المثال لو1: 22،7، أع3: 124)[11]

في هذه النقطة من الجدير، أن
ننتبه إلى الحقيقة التالية، أنه على الرغم من أن الأناجيل قد كتبت في وسط غير يهودي[12]،
إلا أن رواياتها وخاصة روايات آلام السيد المسيح، تحوى عناصر يهودية كثيرة، وحتى
الأشياء الدقيقة منها، الأمر الذي لا يُفسر إلا إذا كان الإنجيليون قد وضعوا في
اعتبارهم أن قرائهم كانت لديهم معلومات كافية عن الوسط اليهودي. وبالتالي فإن رأى
Lohse[13] الزاعم أنه بسبب أن الأناجيل تألفت فى مناطق يونانية لم تكن العادات
اليهودية معروفة فيها، لهذا حدث الخلط بين يوم الفطير ويوم ذبح خروف
الفصح عند القراء،هو رأى غير
سليم.

 

3
مشكلة زمن إتمام العشاء الأخير وتحديده فصحيًا كان أم غير فصحيًا:

فى كتابات الأقباط المفسرين،
قديمًا وحديثًا، يسود فيما بين أراء أخرى رأيين أساسيين يتعلقان بموضوع زمن إتمام
العشاء الأخير ليسوع مع تلاميذه، وتحديده إن كان فصحيًا أم لا.

 

الرأي الأول: يعتمد حرفيًا
على الشواهد الخاصة التى تُذكر عند الإنجيليين الثلاثة (مرقس، متى، لوقا) وينادى
بأن العشاء الأخير تم فى مساء يوم الخميس فى نفس الوقت مع الفصح اليهودي، وبالتالى
كان العشاء فصحيًا. ومن ثم فالصلب وقّع فى يوم العيد “يوم الجمعة”.

الرأى الثانى: يعتمد أساسًا
على الشواهد المقابلة للإنجيلي الرابع يوحنا، ويرى أن العشاء الأخير تمّ قبل
العشاء الفصحى اليهودى بيوم، وبالتالى لم يكن فصحيًا. أى أن الفصح اليهودى وقع يوم
الصلب مساءً (أى الجمعة مساءً).

لكن قبل أن نعرض أدلة كل رأى
يجب أن نركز على أن الذى له أهمية كبرى فى الموضوع والذى يعنينا، ليس هو زمن إتمام
العشاء الأخير ولا هو تحديده إذا كان فصحيًا أم لا؛ إنما هو المعنى الذى يعطيه
المسيح والإنجيليون الأربعة لهذا العشاء بالذات.

وبعدما شددنا على هذه
الأهمية نستطيع الآن أن نتقدم لعرض أدلة كل رأى، مبتدئين بالرأى الأول نسجل الآتى:

 

الرأى الأول العشاء الأخير
كان فصحيًا: الأدلة

1 عندما أرسل يسوع نفسه
تلميذين إلى منزل ما فى أورشليم، قال لهما اذهبا وأَعدا لنا
الفصح لنأكل (لو8: 22؛ أنظر مر14: 14، مت18: 26).

2 الرواية تنتهى عند الإنجيليين
الثلاثة بالمعلومة، أن التلميذين “أعدا
الفصح” (مت19: 26، مر16: 14، لو13: 22).

3 فى الأناجيل الثلاثة
الأولى ذُكِرّ أن السيد
تعشى مع تلاميذه يوم الفصح ” ولماَّ كانت الساعة اتكأ
والأثنا عشر رسولاً معه ” (لو14: 22، مر17: 14، مت20: 26).

4 أيضًا فى الأناجيل الثلاثة،
يوجد الوصف الصريح للعشاء أنه فصحى، على سبيل المثال “.. أين تريد أن نمضى
ونعدَّ لتأكل
الفصح ” (مر12: 14، مت17: 26، لو10: 22).

5 فى (لو15: 22) قال يسوع
لتلاميذه فى وقت العشاء: « شهوةً اشتهيتُ أن أكل هذا
الفصح معكم قبل أن أتألم ».

6 اجتماع التلاميذ، جو
العشاء، الاستخدام لعصير الكرمة ومعه صلاة الشكر ليسوع، وفى النهاية الترتيل
والتسبيح، كُلّ هذا من صفات العشاء الفصحى لليهود.

7 فى كون إنه لم يصر حديث
عند الإنجيليين الثلاثة، عن خروف الفصح، فهذا يُشرّح بالتفسير: أن فى مكان خروف
الفصح، وُجد حمل الله الرافع خطية العالم كله (أنظر يو29: 1)، والذى سوف يُسلّم
بعد قليل إلى الذبح (أنظر اش7: 53).

8 السيد، الذى جاء لا لينقض
الناموس أو الأنبياء بل ليُكَمل (أنظر مت17: 5)، كان يجب عليه قبل أن يُسلّم إلى
التلاميذ ذبيحة العهد الجديد، أى جسده ودمه، أن يتممّ أولاً ذبيحة العهد القديم،
أى العشاء الفصحى.

9 إذا لم يكن قد أكمل يسوع
فى يوم العيد، العشاء الفصحى، لأعطى لليهود عندئذ مبررًا قويًا لاتهامه كناقض أو
كمخالف للناموس؛ ولا يجب علينا أن ننسى أن يهوذا الخائن كان حاضرًا.

10 وأخيرًا، الشواهد من
يوحنا (28: 18،31: 19) قد أُسيء فهمها من بعض المفسرين وذلك باستخدامها كأدلة على
أن العشاء الأخير ليسوع لم يكن فصحيًا. هذه الشواهد ليوحنا (عدم دخول اليهود دار
الولاية لكى لا يتنجسَّوا فيأكلون الفصح، فى كون ذلك السبت كان عظيمًا) تُشرح من
وجهة نظر التقويم التاريخى للإنجيليين الثلاثة، وعندما يأخذ الإنسان فى اعتباره أن
المصطلحات الزمنية الخاصة بالأعياد فى القرن الأول الميلادى بفلسطين، والتى تتعلق
بالفصح وبعيد الفطير كانت غير محددة. وبالتالى فالافتراض أن التقويم التاريخى
ليوحنا يمكن أن يماثل (يشابه) ذاك الذى للإنجيليين الثلاثة هو (افتراض) بالتأكيد
قيم ولا يجب أن يُغفْل[14].

عند هذه النقطة، وقبل أن
نعرض أدلة الرأي الثانى، نظن، أنه من المفيد أن نعطى فكرة عن
طريقة إتمام
العشاء الفصحى اليهودى
:

فى طقس العشاء الفصحى: المتقدم فى الترتيب لكل عائلة يبارك الكأس الأول،بينما كل عضو يمسك كأس
بيده، قائلاً بصوت مسموع، العبارة:
» مبارك الرب إلهنا ملك
العالم، خالق ثمرة الكرمة
«.

من بعد شرب عصير الكرمة
(الكأس الأول) وأكل بعض الأعشاب المرة مغموسة فى عصير فاكهة (تين، تفاح، عنب) مع
بهارات وخل، يتبع ذلك من جانب المتممّ للطقس، كبير العائلة، الشرح لأعضاء الأسرة،
لمعانى مكونات العشاء مع التركيز على أهمية مناسبته، هكذا على سبيل المثال:

 

1 الالتزام بأن تكون ذبيحة
الفصح، حيوان صغير حمل أو جَدْىّ، سليم، ذكر، ابن سنة واحدة، يظهر أن الذبيحة تخص
قانونيًا مقدمها (أنظر خر5: 12).

2 ذبح الذبيحة يمثل البداية
لعمل الله الخلاصى. إذ عبر الموت (الملاك المهلك) على بيوت المصريين والإسرائيليين
ولكن بسبب الدم ابتعد عن بيوت الإسرائيليين (أنظر خر12: 12-13).

واليهود فى إعدادهم لخروف
الفصح كانوا يشوونه بطريقة كما لو كان الخروف مصلوبًا، أى فى شكل يصور مسبقًا صلب
يسوع. فشهادة المعلمين الرابونيين الخاصة تُظهر أن فى أورشليم كان خروف الفصح
يُقدم بطريقة تشابه طريقة الصلب. وحتى الطقس السامرى القديم (قبل أن يتغير) تبع
هذا التقليد الأورشليمى. بل والأكثر من هذا، أنه توجد أيضًا تشابهات بين الحمل
الذى يُشوّى وأحشاؤه ملفوفة حول رأسه والسيد المسيح وهو مصلوب وإكليل الشوك حول
رأسه (أنظر خر9: 12، مت29: 27، مر17: 1، يو2: 19)[15].

3 طلاء القائمتين والعتبة
العليا للبيت بدم ذبيحة الفصح يهدف الى حماية الإسرائيليين (أنظر خر13: 12).

4 أكل اللحم مشويَّا وليس
نيئا أو مطبوخًا، مع عدم بقاء شئ منه للصباح، دلائل على ضمان تحقيق النصرة الإلهية
(أنظر خر9: 1210).

5 الأعشاب المُرَّة لتذّكر
مرارة الإقامة فى بلدة فرعون (خر8: 12).

6 الخبز غير المختمر
(الفطير) يرمز إلى سرعة خروجهم من أرض مصر، وإيفاء احتياجاتهم فى البرية، والى أن
المقدمين له يرفضون كل شر وخبث ويأتون فى شركة مع الله (أنظرخر8: 12، 1كو8: 5).

7 عصير الكرمة وعصير الفاكهة
هما من ثمار أرض الميعاد.

8 النهى عن كسر عظام الذبيحة
والتخلص من أى شئ يتبقى منه، لهما أسباب تاريخية ولاهوتية (أنظر خر10: 12،46، يو36:
19).

بعد هذا الشرح من جانب رئيس
العائلة والتشديد على ذكرى التحرر من عبودية المصريين يرتل الحاضرين المزمورين (113،114)
والمعروفين ب «هللويا الصغير». ثم يلى ذلك شرب الكأس الثانى من عصير الكرمة مع أكل
وجبة العشاء الرئيسية أى الحمل المشوى، وفى أثناء العشاء يشرُب أيضًا الكأس الثالث،
المدعو كأس البركة، والذى يصاحبه صلاة شكر.

هذا الطقس الاحتفالى والذى
يتم فى كل بيت فى أورشليم بمشاركة عشرة أفراد على الأقل فى العشاء فى ذكرى الضربات
العشرة لفرعون ينتهى بالترتيل للمزامير (115،116،117،118)، والمعروفة ب «هللويا
الكبير» وذلك فى منتصف الليل تقريبًا (أنظر خر3: 124)[16].

بعدما أكملنا عرض أدلة الرأى
الأول، ثم تحدثنا عن طريقة التعييد بالفصح اليهودى، نأتى الآن إلى وضع أدلة الرأى
الثانى بجوار أدلة الرأى الأول.

 

الرأى الثانى: العشاء الأخير
لم يكن فصحيًا: الأدلة

1 قول يسوع فى ساعة العشاء
الى أمين الصندوق، يهوذا، «ما أنت تعمله فأعمله بأكثر سرعة» (يو27: 13) وفُهم هذا
القول من بعض التلاميذ، أن يسوع قال ليهوذا « اشتر ما نحتاج إليه للعيد»(يو29: 13)
يظهر أنه حتى وقت العشاء لم يكن عيد الفصح قد بدأ بعد.

2 فى يوحنا (28: 18) يذكر عن
اليهود أنهم «جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية. وكان صبح. ولم يدخلوا هم
إلى دار الولاية لكى لا يتنجسوا فيأكلون الفصح» وكشرح تفصيلى هنا نذكر أن من ضمن
اليهود الذين جاءوا بيسوع إلى دار الولاية ولم يريدوا أن يدخلوا، كانت جماعة
الكهنة ورؤساءهم (أنظر مر1: 15،مت1: 27،لو66: 22،1: 23)، والذين يجب عليهم أن
يكونوا طاهرين، لكى يستطيعوا إتمام طقس ذبح الحملان فى الهيكل، كطقس رسمى قبل غروب
الشمس. وبالتالى عدم إمكانهم دخول دار الولاية للأمم لا يرجع فقط إلى ضرورة بقائهم
طاهرين حتى يتمكنوا من أكل الفصح، ولكن يرجح أيضًا وأساسًا إلى ضرورة بقائهم
طاهرين حتى يتمكنوا من ذبح خروف الفصح[17].

3 مرة أخرى فى يوحنا (14: 19)
يعلن يوم الصلب أنه كان مع “استعداد الفصح”.

4 أيضًا من يوحنا (13: 19)
نعلم أن اليهود رفضوا بقاء أجساد المصلوبين على الصليب فى يوم السبت لأن يوم ذلك
السبت كان عظيماً ولا يسمى إطلاقًا يوم السبت فى أى موضع آخر بيوم السبت العظيم
إلا عندما يكون عيداً (أنظر تث22: 2123).

5 الشاهد ” أمّا يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم أن ساعتهُ قد جاءت..” (يو1: 13) هو دليل واضح
جداً إذ يحوى ظرف الزمان “قبل”.

 

آراء حلول وسطية لمشكلة زمن إتمام
العشاء الأخير

الاختلاف الذى يظهر من
النظرة الأولى بين شهادات الإنجيليين الثلاثة وبين شهادة يوحنا بخصوص زمن إتمام
العشاء الأخير، جعل بعض الباحثين يفكرون في إقامة جسر يربط بين هذه الشهادات
مقترحين الحلول الوسطية التالية:

1 الأب بطرس السدمنتي (ق13م)
علي سبيل المثال، يقول أن عيد الفصح كان قانونياً يوم الخميس، لكن اليهود بسبب
انشغالهم بالقبض علي يسوع أجلوا الاحتفال به لليوم التالي أي الجمعة[18].
لكن رأى بطرس السدمنتى هذا ليس هناك شواهد كتابية تؤيده

2 الباحثة A.jaubert تفترض أن يسوع فى احتفاله بعيد الفصح
لم يتبع التقويم القمرى الرسمى والخاص بطائفة رجال الكهنوت فى أورشليم، لكنه اتبع
التقويم الشمسى الخاص بجماعة الأسنيين فى وادى قمران، والذى وفقاً له تقع الأعياد
الكبيرة دائماً فى نفس اليوم كل عام. فعيد الفصح فى موضوعنا كان يوم الأربعاء
والسيد احتفل به مع التلاميذ مساء يوم الثلاثاء (بداية يوم الأربعاء)، وهذا
التقويم حسب رأى الباحثة هو ما اتبعه الإنجيليون الثلاثة الأُول بينما الإنجيلي
الرابع يوحنا أتبع التقويم الأورشليمى الرسمى حيث وقع عيد الفصح تلك السنة يوم
السبت، والاحتفال به كان من مساء يوم الجمعة[19].
لكن نقطة الضعف فى هذا الرأى، تتمثل فى أنه يترك فترة زمنية طويلة من مساء
الثلاثاء “العشاء” وحتى الساعات الأولى من يوم الجمعة حيث تم القبض على
السيد لا تتناسب مع كم الأحداث القليلة المعروضة من قبل الإنجيليين مثلاً على سبيل
المثال أحاديث ما بعد العشاء (النبوة عن الخيانة، الحديث عن السلطة والخدمة وغسل الأرجل،
النبوة عن إنكار بطرس وتشتت التلاميذ، الحديث عن الأزمنة الصعبة) (أنظر مت26، مر14،
لو12، يو13) فصول الباراقليط (يو14،15،16)، وصلاة السيد فى (يو17).

3 الباحثChiberti يعتقد
أن يسوع وتلاميذه عاشوا حدث العشاء الأخير بمشاعر اللحظة التى فيها تم العشاء إن
كان قرب عيد الفصح أو فى وقت العيد. ويرى أن المشكلة الزمنية بين الإنجيليين
الثلاثة ويوحنا ترجع إلى اختلاف التقويم المتبع من كل منهما[20].

4 الباحث J. Jeremias يتبنى
الرأى القائل أن فى سنة صلب المسيح، كان عيد الفصح يوم السبت 15 نيسان، وذبح
الخروف كان يوم الجمعة 14 نيسان (يوم الصلب). وفى ذاك العام عيّد الفريسيون بعيد
الفصح يوم الجمعة 14 نيسان بينما الصدوقيون (طائفة الكهنوت) عيدوا يوم السبت 15
نيسان. وعليه فإن الأناجيل الثلاثة الأولى تتفق مع الفريسيين فى توقيت عيد الفصح،
بينما الإنجيلى الرابع مع الصدوقيين. لكن الباحث نفسه يعترف بأنه لا يوجد دليل
تاريخى يثبت أنه فى ذاك العام تم التعييد بالفصح فى يومين مختلفين[21].

5 أخيراً الباحث Preiss يقبل أن العشاء الأخير قد تمّ قبل العشاء الفصحى
اليهودى ب24 ساعة ولم يكن فصحياً، ولكنه (أى العشاء الأخير) احتوى على بعض صفات
العشاء الفصحى، والتى على أساسها اعتبره التقليد أنه فصحياً[22].

 

الرأى الثانى العشاء الأخير
لم يكن فصحياً أكثر صحة من الرأى الأول.

كما يظهر إذن من العرض لأدلة
كل من الرأيين اللذين يعبران فى نفس الوقت عن رأينا المتواضع، نرى أن الرأى الثانى
أكثر صحة من الرأى الأول وذلك لأنه:

أولاً: يعتمد علي العديد من
الأساسيات الكتابية والليتورجية واللاهوتية مثل:

1 من سفر اللاويين (15: 23-16)
نعرف أن عيد الحصاد يقع بعد خمسين يوما بعد أول سبت من عيد الفصح مباشرة، وإذا كان
اليهود في تلك السنة قد عيدّوا عيد الحصاد في نفس يوم الأحد الذي فيه عيدّت
الكنيسة عيد حلول الروح القدس (بعد 50 يوما من عيد القيامة) (أنظر أع1: 2). فإن
عيد الفصح سنة صلب المسيح يكون يوم السبت 15 نيسان إذا حسبناه
بحساب الخمسين يوماً ويكون يوم الجمعة 14 نيسان هو يوم ذبح الخروف كما
يشهد إنجيل يوحنا.

2 بينما حسب القوانين
الناموسية لليهود، فى حالة الحكم القضائى بالموت، يجب أن يصدر قرار الحكم ثانى يوم
المحاكمة، نجد أن رؤساء الكهنة والمجمع اليهودى أصدروا قرار قتل يسوع نفس يوم
المحاكمة (أنظر مت66: 26، مر64: 14، لو70: 22) أى يوم الجمعة متجنبين بذلك اليوم
التالى، السبت لكونه العيد[23].

3 فى التلمود اليهودى يُذكر
أن «يسوع عُلق على خشبة فى عشية الفصح»[24].

4 فيما عدا الإنجيليين، فإن
الرسل أيضاً لا يذكرون فى أى مكان فى رسائلهم أن السيد أتم الطقس الفصحى اليهودى،
ولكنهم يذكرون أنه فى العشاء الأخير سلّم، فصحه الخاص به، أى جسده ودمه الأقدسين،
يكتب الرسول بولس، فيما يخص ذلك: «لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا» (اكو7: 5).

5 التقليد الليتورجى القبطى،
يقبل أن العشاء الأخير للمسيح تم قبل العشاء الفصحى اليهودى بيوم ولذا فالكنيسة
القبطية الأُرثوذكسية مثلها مثل سائر كل الكنائس الأرثوذكسية (خلقيدونية وغير
خلقيدونية)، تستخدم الخبز المختمر (وليس الفطير) فى ممارسة سر الشكر الإلهى[25].

 6 أيضاً فن رسم الأيقونات
فى الكنيسة القبطية يعطى صدى للرأى الثانى، إذ في مناظر العشاء الأخير، لا يرسم
حمل وأطباق وكؤوس على المائدة (كما يحدث على سبيل المثال في الأيقونات الغربية)،
لكن قطعة من الخبز يمسكها السيد بيده، وكأس من عصير الكرمة.

ثانياً: غالبية آباء الأسكندرية والكتاب الكنسيين الأقباط، يتبنون الرأى الثانى،
ومن هؤلاء الأباء من عاشوا بالقرب من أزمنة كتابات العهد الجديد ومن تفاسير
وتقاليد تلك الأزمنة. على سبيل المثال:

1 القديس كليمندس الأسكندرى
(ق. 2م)[26].

2 القديس بطرس أسقف
الأسكندرية خاتم الشهداء (ق. 3م)[27].

3 أناتوليوس الأسكندرى (ق.
3م)[28].

4 ديديموس (الضرير) الأسكندرى
(ق. 4م)[29].

5 القديس ثيوفيلوس أسقف
الأسكندرية (ق. 5م) [30].

6 القديس كيرلس الأسكندرى (ق.
5م) [31].

7 أمونيوس كاهن الأسكندرية
(ق. 5م)[32].

ثالثًا: يقبل الواحد بصعوبة أن محاكمة السيد المسيح وكل الأحداث المتعلقة بعملية
الصلب تكون قد تمت فى يوم عيد الفصح.

 

اتفاق الإنجيليين الثلاثة ويوحنا على زمن إتمام العشاء الأخير.

من جهة زمن إتمام العشاء
الأخير والصلب، فى الحقيقة، لا يوجد أى اختلاف بين الإنجيليين الثلاثة ويوحنا،
لأنه ليس من الممكن أن يوحنا وهو عارف مُسبقاً بكتابات الإنجيليين الثلاثة مرقس،
ومتى، ولوقا، يكتب فيما بعد ما يخالف هؤلاء.

وبالتالى يأتى عدم صحة فهم
الآيات الخاصة بالعشاء الأخير عند الإنجيليين الثلاثة، من جانب أصحاب الرأى الأول،
على الأرجح من عدم معرفة الطقس الليتورجى للفصح اليهودى حيث:

* من سفر التكوين، نعلم، أن
اليوم بحسب الطقس الليتورجى، يبدأ بغروب شمس اليوم السابق، وينتهى بغروب شمس اليوم
نفسه (أنظر تك5: 1) فعلى سبيل المثال، يوم الجمعة يبدأ من غروب شمس يوم الخميس
وينتهى بغروب شمس يوم الجمعة.

* وسفر الخروج يُعرفنا، أن
عيد الفصح يقع وفقاً لوصية الرب (أنظر خر1: 126، 4: 13) فى اليوم الرابع عشر للشهر
الأول أبيب (تسمى من بعد الأسر البابلى 593538 ق.م باسم نيسان)، والذى تتفق بدايته
مع نهاية مارس أو أوائل أبريل.

* وفيما يختص بذبيحة خروف
الفصح، نعرف، أنه كان يجب أن تتم فى هيكل سليمان فى أورشليم عند غروب اليوم الذى
سيحتفل فى مسائه بعيد الفصح (أنظر تث1: 167).

 

وبناء على ما سبق

* عندما يقول الإنجيليون
الثلاثة أن ” السيد اتكأ مع الاثنى عشر فى المساء، وفيما هم يأكلون..”
(أنظر مر17: 14-18، مت20: 26-21، لو14: 22) أى تعشى مع تلاميذه يوم الفصح حسب
أصحاب الرأى الأول فهذا صحيح جداً لأن يوم الجمعة يوم ذبح خروف الفصح قد بدأ
بالفعل. لكن العشاء لم يكن فصحياً، لأن العشاء الفصحى سيتم من بعد غروب شمس يوم
الجمعة، وهذا ما يشهد يوحنا عن صحته فى إنجيله.

* وما يتعلق بقول يسوع فى
متى (18: 26): ” وقتى قريب عندك أصنع الفصح مع تلاميذى”. فالسيد نفسه لا
يعنى أنه يريد أن يعمل الفصح مع التلاميذ، ولكن بسبب أن ساعة ذبح الحملان فى
الهيكل سوف تكون هى بالضبط ساعة صلبه “وقتى قريب”، لهذا اضطر السيد إلى
عمل هذا العشاء الخاص والأخير مع تلاميذه لكى يُسلِّم إليهم، ومن خلالهم الكنيسة؛
جسده ودمه الأقدسين.

* أيضاً عندما يقول السيد فى
(لو15: 22) ” شهوةً اشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم”، فهو
يعنى تسليم جسده ودمه إلى التلاميذ، والتى هى شهوته الحقيقية، قبل أن يخرج من هذا
العالم ويذهب إلى الآب، ولا يعنى هنا أكل الخروف، فما الذى يهم السيد من أكل اللحم
والفطير.

بل والأكثر من هذا، أنه يمكن
للواحد أن يجد فى تقليد الإنجيليين الثلاثة بعض المعلومات، التى تتفق تماماً مع
التوقيت الزمنى ليوحنا لعيد الفصح. هذه المعلومات هى التالية:

 1 حمل السلاح، فى يوم العيد،
كان محرماً (أنظر مثلاً مكابيين الأول29: 238)، بينما لدينا حادثة بطرس فى بستان
جثسيمانى، إذ حمل هو نفسه سكيناً (أنظر مر47: 14، مت51: 26، لو49: 2، يو10: 18).

2 المعلومة عن سمعان
القيروانى، الذى كان عائداً من الحقل فى نفس الساعة التى خرج فيها السيد حاملاً
الصليب من دار الولاية إلى الجلجثة (أنظر مر31: 15، مت32: 27، لو26: 23)، تشهد على
أن ذاك اليوم لم يكن عطلة (أنظر لا7: 23).

3 شراء الأكفان، من جانب
يوسف الرامى، لدفن جسد يسوع (أنظر مر46: 14) ليس من الممكن أن يحدث يوم العيد حيث
لا محلات مفتوحة ولا حتى الشراء والبيع مسموح بهما (أنظر لا7: 23).

4 وأخيراً، عند الإنجيليين
الثلاثة الأولّ، وفى العشاء الأخير، لم يصر حديث عن المكونات الأساسية التى منها
تتألف المائدة المسائية الفصحية، أى عن الحمل، والأعشاب المرة، والفطير. بل أيضاً
الكأس الأول لعصير الكرمة الذى ذكر فى لوقا (17: 22) كان واحدًا، ومنه شرب كل
التلاميذ، بينما حسب طقس العشاء الفصحى؛ يجب على كل واحد أن يكون له كأسه.

 

وفيما نحن نقترب من نهاية
هذا الفصل، نرى أنه من الجيد، أن نُبدى قليلاً من أفكارنا عن الآراء السابقة:

1 السيد المسيح، فى سنوات ما
قبل آلامه وصلبه، عيّد الفصح رسمياً، واحتفل بطقسه، آكلاً الحمل، (أنظر لو41: 242،
يو13: 217، 1: 5، 1: 64)، لأنه ” لم يأتِ لينقض الناموس أو الأنبياء..بل
ليكمل” (أنظر مت17: 5). لكن فى السنة التى تألم فيها لأجلنا، لم يأكل الفصح،
إذ هو نفسه كحمل حقيقى ذبح لأجلنا فى يوم ذبح خروف الفصح، يوم الجمعة، الرابع عشر
من الشهر الأول القمرى نيسان، واضعاً هكذا نهاية للفصح الرمزى، ومؤسساً بذبيحته
الفصح الحقيقى.

2 بالتأكيد، الذى يهمنا
كثيراً جداً هو أن الفصح اليهودى، والذى كان شكلاً أو نموذجًا قد أُكمل وتوقف مرة
واحدة وللأبد، بتحقيق الفصح المسيحى الحقيقي والجوهرى. وهذا حدث سواء كان عيد
الفصح يوم الخميس، عندما سلّم السيد المسيح إلى تلاميذه الفصح الجديد، أى جسده
ودمه، حالاً بذلك محل ذبيحة العهد القديم ذبيحة العهد الجديد، وهذا ما يبدو لنا من
خلال أناجيل متى ومرقس ولوقا، أو سواء كان عيد الفصح يوم الجمعة حيث فى نفس الساعة
التى كان فيها الشعب اليهودى يُعيّد ذكرى تحرره من عبودية فرعون، بذبح الحملان فى
الهيكل، كان المسيح فى هذه الساعة كما يُسجل الإنجيلى الرابع يوحنا (أنظر14: 19)
فوق الصليب مقدماً نفسه كحمل الله، محرراً العالم كله من الخطية (أنظر يو29: 1).

3 إذن يسوع هو نفسه، الذى
أراد أن يتعشى مع تلاميذه يوم الخميس، حتى تكون له الفرصة أن يذبح نفسه، مقدماً
جسده ودمه الطاهرين إلى تلاميذه، ومن خلال هؤلاء إلى الكنيسة، صائراً هكذا الفصح
الدائم للكنيسة. وهو نفسه أيضاً الذى قدم ذاته على الصليب، يوم الجمعة، صائراً
بهذه الطريقة، الفصح الدائم لكل العالم؛ كما رآه يوحنا فى الرؤيا (6: 5) ك «خروف
قائم كأنه مذبوح» (أنظر أيضًا9: 5، 12، 8: 1؛ عب11: 9-12). كما أن كنيسته دُعيت،
أيضاً فى الرؤيا ب «امرأة الخروف» (أنظر رؤ7: 198).

4 ولهذا، عندما نتمم نحن سر
الشكر الإلهي، فإننا نتناول جسد ودم المسيح، كفصح العهد الجديد، الذى قُدِّم سرياً
فى العشاء الأخير يوم الخميس؛ كما يشهد بذلك الإنجيليون الثلاثة الأُوّل، وهو فى
نفس الوقت جسد ودم المسيح، الذى قُدِّم ظاهريًا فى ساعة الصلب يوم الجمعة، كما
يشهد بذلك الإنجيلى الرابع.

5
وفى النهاية، وبغض النظر عن الدلائل التى ذكرت سيان من نصوص الأناجيل أو من
التقليد الآبائى، بشأن زمن إتمام العشاء الأخير وعلاقته بالفصح اليهودى، يجب أن
نشدّد على حقيقة أن الإنجيليين يعرضون الأحداث الرئيسية والهامة من حياة السيد
المسيح على الأرض؛ لأجل إيمان الكنيسة وخلاص الجنس البشرى، مهتمين أساسًا وأولاً
بالأهمية اللاهوتية والخلاصية لها، وبعد ذلك بالإطار التاريخى.



[3] يعتبر
الإنجيلي مرقس، هو المؤسس للكنيسة القبطية، والغالبية من المفسرين المعاصرين يرون
أن العشاء الأخير قد تم في منزل مريم أمهُ، أنظر على سبيل المثال :

 Plummer A.«
the Gospel according to st. Mark » Campringe, 21982
  

Rawlinson, A. E. J., « st. Mark » London
81956.

Trempšla P. « UpÒmen. LK »
AqÁna
1952
, s. 594.

[4] انظر قاموس الكتاب المقدس – القاهرة 1981 صــ464-465 .

[5]Bl. Iw
KarabidÒpoulou,
«TÒ k£ta M£rkon
Euaggšlio
» Qesün…kh 1988, s436-437.

[6] في شرح
إنجيل لوقا ـ الإصحاح الـ(22) 
P.G.72,904.

[7] أنظر
” تفسير الإنجيل بحسب متى ” مخطوط 31 لاهوت، مكتبة بطريركية الأقباط
الأرثوذكس بالقاهرة ورقة 289 ظ.

[8] bl.  P.G.72,904.

[9] BlassDebrunner, «  Grammatik des NT, chen Griechisch » 121965,
p. 62.

[10]مصطلح
” فصح ” مأخوذ عن الكلمة العبرية ” فسحّه ” والكلمة تعنى :

*
عبور ، مرور :

1- ملاك الله الذى أثناء عبوره على بيوت
المصريين والأسرائليين عاقب بموت الذبح كل الأبكار الذكور من الناس والبهائم
للمصريين في ليلة خروج الإسرائيليين من مصر ( أنظر: خر21:12-29 ) . أنظر

D. Dokou, « T£de lšgei
K
Úrioj », Qes|nkh 1985, s. 71-72 .

2- شعب إسرائيل البحر الأحمر حيث سُجلت نهاية
عبوديتهم من المصريين ( أنظر: خر15:14-30 ) .

*
الأكل لخروف الفصح أنظر :
Trempšla P. «
UpÒmen.
LK
» AqÁna 1952 , s. 590.

[12] الإنجيل
لمرقس فى روما ، الإنجيل لمتى فى إنطاكية، للوقا ويوحنا فى أفسس أنظر :

bl. Iw. KarabidÒpoulou, «Eisagwg» sthn Kain» Diaq»kh » Qes|nkh 1983, s. 357 

[13] E. Lohse, « Die Geschichte des leidens und sterbens Christi
», Gütershoh 1964, p.43.

[15] J. tabory « the cruifixion of the paschal
lamb » NTA 42 No 1, 1998, p. 31 .

[16] bl. Iw. KarabidÒpoulou, « To k£ta
M
£rkon Euaggšlion » Qesün…kh 1988, s 444-445.

[17] ملحوظة فى
حالة عيد الفصح، إذ فقد الإنسان طهارته، لأى سبب ما، كان يجب عليه الانتظار لمدة
شهر حتى يمكنه التعييدّ بالفصح (أنظر لا1:22-9، عد2:9، 12:6) .

[18] أنظر «
القول الصحيح فى آلام المسيح » القاهرة 1872 صـ407 .

[19] «La date de la céne », paris 1957 .

[20] G. Chiberti, « Jesus passover Meal », NTA 42,
No1, 1998, p.30.

[21] J. Jeremias, « Die Abendmahlsworte Jesu »,
Göttingen, 1935, P.22-23.

[22] Preiss, « Le dernier répos de Jesus
fut-il un repas pascal? », Thz 4, 1948, P.81-101.

[24] التلمود اسم
عبرى معناه تعليم
:
يُقسم هذا الكتاب إلى قسمين ” المشنة” أى الموضوع و”الجمارة”
أى التفسير. فالمشنة عبارة عن مجموعه من تقاليد اليهود المختلفة مع بعض الآيات.
والتلمود نوعان تلمود بابل وقد كُتب فى القرن الخامس قبل الميلاد وتلمود أورشليم
وقد كتب بين القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد. اللغة الأساسية للتلمود هى الآرامية.
وهو يساعدنا كثيراً فى فهم تعاليم المسيح فإنه يفسر بعض الإشارات والاستعارات
الموجودة فيه، مثل غسل الأيدى (أنظر مر1:7-13). أنظر قاموس الكتاب المقدس حرف الـ
(تاء) صـ222 .

[25] أنظر أرشيدياكون
حبيب جرجس « أسرار الكنيسة »، القاهرة 1949 . 

[26]
« مقتطفات عن زمن الفصح »  
P.G. 9,757

[27]
مقاله « عن الفصح »
P.G. 18,517-18.

[28]
« قانون بشأن الفصح »
P.G. 10,209-16.

[29]
مقالة « عن الثالوث » الكتاب الثانى، الفصل السادس ” عن الفصح ” 
P.G. 39,721.

[30]
مقاله « عن الفصح المقدس والخلاص »
P.G. 65,48-52    

[32]
« مقتطفات من شرح إنجيل متى »
P.G. 85,1388 ، بينما من كُتّاب الكنيسة القبطية المعضديين
للرأى الأول

أ ـ الكاتب الكنسى سمعان بن
كليل (ق. 12م) أنظر “تفسير أنجيل متى” مخطوط 31 لاهوت، ورقه 290 ظ

ب ـ بولس البوشى أسقف مصر (ق.
13م) : مقاله « عن الصلب » – مخطوط 85 طقوس، مكتبة البطريركية القبطية بالقاهرة
إصدار ” مقالات بولس البوشى ” القاهرة 21972 صـ7 .

ج ـ القس شمس الرئاسة أبو
البركات ابن كبر، خطبة لخميس العهد، ” الجوهرة النفيسة فى خطب الكنيسة”
، القاهرة 1914، ص 90.

د ـ مطران بنى سويف المتنيح
نيافة الأنبا أثناسيوس أنظر “تفسير إنجيل متى” بنى سويف 1985، ص 250.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى