علم المسيح

المسيح مكمّل نبوات الوحي



المسيح مكمّل نبوات الوحي

المسيح
مكمّل نبوات الوحي

تحتوي
أسفار العهد القديم على الكثير من المظاهر والإشارات والنبوَّات التي وجَّهت
المؤمنين وجهَّزتهم لمجيء المسيح إلى عالمهم البشري. هذا واضح جدّاً لدرجة أن
الوحي الإِلهي يبدو وكأنه قد رسم في تلك السجلاّت طريقاً إلى استراحة نهائية بديعة.
إن ظهور المسيّا الآتي يتضح تدريجياً عبر صفحات العهد القديم كالغاية النهائية لكل
شيء، حين يكشف الرب الإله عن نفسه في ألمع وأكثر الصور وضوحاً، فيصبح «عمانوئيل»
أي أنّ اللّه حلّ بين البشر.

 

لقد
كان من الضروري أن يتخذ الأمر ذلك الشكل التدريجي في تاريخ البشر. فلو أن الوحي
الإلهي كشف عن عملية التجسُّد الإِلهي بشكل مفاجئ، لما كان في وسع الناس فَهْم
الأمر على الإطلاق. كان لا بد لتلك الخطوات التمهيدية أن تأخذ مجراها، لأن الأمر
لم يقتصر على مجرّد تحضير الظروف التاريخية والإجتماعية والروحية الملائمة لمجيء
المسيح، بل لأن البشر أنفسهم كانوا بحاجة إلى تحضير لكي يفهموا الظروف والأحداث،
فيفهمون معنى التجسّد الإِلهي والقصد منه. من هنا كانت الطبيعة التدريجية لنبوات
العهد القديم المختصّة بالمسيح. أما تحقيق السيد المسيح لمواصفات ومتطلّبات تلك
النبوة فهو مذهل في دقّته وتفاصيله، لأنه يُعرِّف المرء أن المسيح هو وحده الذي
يعطي مسار الوحي الإلهي في العهد القديم مغزاه وقصده وكماله.

 

ولعلّ
المدهش في هذا الأمر هو أن نبوات العهد القديم الخاصة بقدوم المخلّص كانت قد بدأت
مع بداية سجلاّت الوحي الإِلهي نفسها، وسارت جنباً إلى جنب مع تطوُّرات الأحداث.
فعندما حدث السقوط نتيجة عصيان اللّه والأكل من الثمار المحرّمة للشجرة التي في
وسط الجنّة، وعد الرب آدم وحواء أنه من نسل حوّاء سيأتي من يسحق رأس الحية التي
دبّرت المكيدة (تكوين 3: 15). إنّ لهذا علاقة خاصة بميلاد المسيح العذراوي من
امرأة، والذي تعرّضنا له في الفصل الثالث من الجزء الثاني. من هنا طبَّق الوحي
الإِلهي ذلك القول على أسلوب مجيء المسيح بالقول: «… لَمَا جَاءَ مِلْءُ
ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ
ٱمْرَأَةٍ…» (غلاطية 4: 4). كان لا بدّ إذن للمسيح، نسل المرأة، أن يتصارع
وجهاً لوجه مع الشيطان مدبّر السقوط، لأن المسيح هو المخلّص من هذا السقوط. لقد
واجه المسيح إبليس في مرحلة تجاربه التحضيرية قبل شروعه في خدمته العلنية (لوقا 4:
1 – 14)، هناك دحره وأثبت تفوُّقه عليه. كما أنه صارع إبليس عندما أخرج أجناده من
سُكناهم في عشرات البشر الذين كانوا قد سيطروا عليهم واستعبدوهم. لأجل ذلك دُعي
محرّراً (مرقس 5: 1 – 20 ولوقا 4: 31 – 37).

لقد
سبق مجيء المسيح إلى عالمنا كثيرون ادّعوا أنهم هم «المخلّص المنتظر»، كما جاء
بعده كثيرون ادّعوا الشيء نفسه. لكن سرعان ما سقطت إدّعاءاتهم وذهبت أدراج الرياح
بمجرّد أن كشف الواقع كيف أن المسيح وحده هو الذي انطبقت عليه أوصاف وتوقعات نبوات
الوحي الإِلهي. لعلّ هذا هو السبب الرئيسي من وراء وجود تلك التفاصيل الدقيقة في
النبوات عن المخلّص المنشود. ويتساءل البعض عن أهميّة تلك اللوائح الطويلة لسلسلة
أنساب المسيح التي أوردها الإنجيل. لكن تلك الأهمية كامنة في ضرورة التيقُّن
المطلق من صحة هويته. فقد كان مفروضاً أن يأتي من نسل إبراهيم عبر ابنه إسحق
وحفيده يعقوب بالذات، من سبط يهوذا ومن نسل داود بالذات أيضاً. كما كان من المفترض
أن يُولد في بيت لحم، وأن يقضي بعضاً من طفولته في مصر، وتكون نشأته في الجليل. كل
هذه كانت أدلّة وبراهين تاريخية توفّرت فيه.

 

لكن
نبوّات الوحي الإِلهي تطرّقت لمواصفات أخرى يجب توفّرها في المسيّا المنتظر، لها
علاقة حيوية ومباشرة بمهمته الخلاصية كالإِنسان المعصوم من الخطأ، المؤهَّل لأَخْذ
مكان البشر، وكاللّه المتجسِّد الذي بوسعه إكمال المهمّة المرسومة. من جهة طبيعته
البشرية كان لا بدّ وأن يتمتع بعاطفة قوية ومحبة قلبية لبني البشر، تعبيراً عن
استعداده للتألُّم والموت عنهم، كما كان من المفروض عليه أن يبرز كإنسان فوق
العادة وفريد من نوعه (راجع إشعياء 11: 2 – 5
و42: 2 – 6: . أمّا من
جهة طبيعته الإِلهية فقد كان من الضروري إدراك وجوده المسبق، وكونه قد «أتى» إلى
عالم البشر من عالم آخر (راجع إشعياء 63: 1). كان من المفروض أيضاً أن تنطبق عليه
أوصاف لا تنطبق إلاّ على اللّه، فيُدعى «عمانوئيل» (أي أن اللّه حلّ مع البشر).
و«يسوع» (أي
المخلّص)

و
«الإله
القدير»

و
«الآب
الأبدي»

و
«رئيس
السلام» (إشعياء 7: 14
و9: 6).

 

كان
يجب أن يكون نور العالم الذي يقضي على الظلمة (قارن إشعياء 9: 2 مع يوحنا 8: 12).
فلو أن بني البشر لم يكونوا على وعي بالظلمة الروحية حولهم لما كان لمجيء النور
الروحي من معنى. والواقع أن أحداث وسجلات العهد القديم لم تقتصر إشارتها في
التمهيد لمجيء المسيح على النبوّات الواضحة والمباشرة. لقد كان كل شيء يشير بصورة
أو بأخرى لمجيء المخلّص ويمهّد له. وقد أجمع علماء الكتاب المقدّس على أن معاملات
اللّه مع شعبه في العهد القديم أبرزت بوضوح إفلاس البشر الروحي وفشلهم الذريع في
إرضاء اللّه بواسطة مجهوداتهم الدينية الخاصة، مما حتّم أن يكون الحل للمشكلة من
خارج نطاق قدراتهم الشخصية. كان من الواضح إذن أنه إذا أمكن الوصول إلى حلّ لمعضلة
فشل البشر في إرضاء عدالة وقداسة اللّه، فإن ذلك لا بدّ أن يأتي عبر مبادرة إلهية
خاصة. لكن مع كل ذلك كان على البشر أن يدركوا حاجتهم إلى تقديم ذبائح رمزية
للتكفير عن خطاياهم، كما كانوا في حاجة إلى إدراك مدى الهوة الروحية التي تفصلهم
عن قداسة اللّه، مما تطلّب وجود الكهنة الوسطاء بينهم وبين اللّه. فلو أن المسيح
جاء فجأة لتقديم نفسه كالكاهن والوسيط والذبيحة الحقيقية التي تحطّم الحاجز بين
اللّه والناس، لما فهم البشر مهمته على الإِطلاق. لقد كان عليهم إدراك وجود ذلك
الحاجز الروحي الذي أقامته الخطية بينهم وبين اللّه، ومِن ثمَّ حاجتهم إلى إزالة
ذلك الحاجز. عندئذ فقط يأتي «ملء الزمان» أي يصبح كل شيء جاهزاً ومُعدّاً لعملية
التجسُّد والخلاص.

 

يشهد
التاريخ بشكل قاطع لواقعة الصلب، كما أن النبوات كانت قد سبقت وتحدثت عنها
بالتفصيل (راجع نبوّة إشعياء 53)، لكن الكتاب المقدس بعهديه يطرح الأمر على شكل
ضرورة ملحّة ومحتومة لاسترجاع تلك العلاقة الروحية المفقودة بين اللّه الخالق وبني
البشر المخلوقين. فمجيء الأنبياء ونزول الشرائع الإِلهية، وكافة متضمَّنات الوحي
الإِلهي لهم، جميعها لها أدوارها الخاصة في التحضير لمجيء المسيح. إضافة إلى ذلك
فإننا نجد أن مسار التاريخ البشري حول محيط شعب اللّه في العهد القديم، إبتداء من
عبوديتهم في مصر وخروجهم منها، إلى تأسيس مملكتهم تحت قيادة الملك داود وابنه
سليمان، وتطورها التدريجي وصولاً بتحطُّمها وسبي الأمّة بأسرها إلى بلدان نائية –
كل هذا أشار باتزان وانسجام وترابط كامل إلى ضرورة تدخّل اللّه المباشر وإنجازه
لعملية الخلاص.

 

لكن
دور النبوّات التي قدمت إشارات ومواصفات مباشرة عن المخلّص الآتي يبقى جوهرياً في
العملية كلّها. لقد كان من الضروري أن يُعطَى البشر الأدلّة والعلامات التي
تمكنّهم من التمييز بين من ادَّعوا كذباً أنهم المسيّا المنتظر، وبين صدق المسيّا
الحقيقي. فلو أن الأمر تُرك لهم للتخمين لفقدت سجلات الوحي الإِلهي مقصدها
وحيويتها وانسجامها، ولكان الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام كل مدّعي بالنبوة أن
يطبق على نفسه مواعيد اللّه بقدوم المخلّص.

 

والأنبياء
الذين أوحى لهم اللّه بتفاصيل قدوم المخلّص، اعتبروا أنفسهم أدوات طيّعة في
التمهيد لذلك الحدَث الذي كان سيقع في «الأيام الأخيرة» أو في «ملء الزمان». لم
يبدر على لسان أحدهم، ولا حتى تلميح واحد، على أنه هو أفضل الأنبياء. كل واحد منهم
أدّى دوره في التمهيد لمجيء المسيح بدون تردد أو رغبة في تحسين مركزه الشخصي أو
تجميع أتباع له. عندما تحدّث موسى عن مجيء المسيح قال للشعب: «له تسمعون» (تثنية
18: 15) وعندما تحدث داود، دعاه «ربّي» (مزمور 110: 1) حتى يوحنا المعمدان قال عن
المسيح: «ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، ٱلَّذِي صَارَ قُدَّامِي،
ٱلَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ» (يوحنا 1:
27)، «هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (يوحنا 1: 34)، «هُوَذَا
حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ»
(يوحنا 1: 29). وكان السيد المسيح نفسه قد أشار لأقوال كثيرين منهم مصرحاً:
«إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي ٱلأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ ٱلْجَمِيعُ
مُتَعَلِّمِينَ مِنَ ٱللّٰهِ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ ٱلآبِ
وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ. لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى ٱلآبَ إِلا
ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ. هٰذَا قَدْ رَأَى ٱلآبَ.
اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ
أَبَدِيَّةٌ. أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ. آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا
ٱلْمَنَّ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. هٰذَا هُوَ
ٱلْخُبْزُ ٱلنَّازِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ
ٱلإِنْسَانُ وَلا يَمُوتَ. أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ
ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هٰذَا
ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ. وَٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي
أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ
ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 6: 45 – 51). إذن السيد المسيح نفسه رأى أن دور كل
الأنبياء وكل متضمَّنات الوحي الإِلهي كانت لأجل التحضير لمجيئه. عندما تذكّرت
المرأة السامرية أقوال الأنبياء قالت للمسيح: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا،
ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ
يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ». كان ردّ يسوع عليها: «أَنَا ٱلَّذِي
أُكَلِّمُكِ هُوَ» (يوحنا 4: 25 – 26). وعندما قال له اليهود: «أَلَعَلَّكَ
أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي مَاتَ. وَٱلأَنْبِيَاءُ
مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟» لم يتردد يسوع في أن يكشف عن تفوُّقه وعظم
مكانته فوق كل الأنبياء، فأجابهم: «أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى
يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ… قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا
كَائِن»(يوحنا 8: 53 – 58).

 

خلاصة
القول إذن هي أن المسيح لم يحقق نبوات العهد القديم فحسب، بل أنه كان محور وقصد كل
متضمنات الوحي الإلهي.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى