علم المسيح

إنسجام الطبيعتين



إنسجام الطبيعتين

إنسجام
الطبيعتين

لعل
أهم وأخطر الانحرافات العقائدية في تاريخ المسيحية هو ما يتعلَّق منها بتشويش
العلاقة القائمة ما بين طبيعتي المسيح الإِلهية والبشرية. والواقع أنّ تلك
الانحرافات تركزت بصورة خاصة في الإخلال بالتوازن القائم ما بين هاتين الطبيعتين،
وذلك بتفضيل إحداهما على الأخرى، أو إعطاء الواحدة مكانة تُفْقِد الطبيعة الأخرى
نصيبها أو دورها في اتزان البناء القائم في شخصية يسوع المسيح. لكن تلك الانحرافات
كثيراً ما ارتكزت على إساءة فهم فقرة أو أخرى من الوحي الإِلهي. وإساءة الفهم هذه
طالما وجدت مسبباتها في استخلاص تعابير واردة في الكتاب المقدس وتفريغهامن قرائنها
النصية الواردة فيها، وتجاهل مواقعها ضمن مجمل ما ورد في سجلات الوحي الإلهي
المعينة التي حوتها، خصوصاً وأنّ سجلات الوحي الإلهي تشتمل على تعبيرات فيها تشديد
على طبيعة المسيح الإلهية، وأخرى فيها تشديد على طبيعته البشرية، إلى جانب تلك
التي تجمع ما بين خواص الطبيعتين. من هنا كانت إمكانيات إساءة الفهم، لأن البعض
بنوا استنتاجاتهم على أساس الافتراض أن المسيح كان إلهاً فقط، وفتّشوا على ما يؤكد
مزاعمهم هذه في الوحي الإلهي. وأكد البعض على أنه مجرد إنسان وسعوا إلى إثبات ذلك
من خلال نصوص الوحي الإلهي في تلك التعبيرات التي تركز على جانب الطبيعة البشرية
فيه. وهكذا ظهرت البدعة تلو الأخرى، وكلها تشير إلى خطأ فادح أساسي، هو عدم
التمسُّك بالهيكل الكامل للحقيقة.

 

يشهد
الواقع التاريخي ليسوع المسيح الإِله والإِنسان. فيسوع تمتَّع بقدرات فاقت جداً
معطيات الطبيعة البشرية، لكن من جهة أخرى فإن طبيعته البشرية طابقت تماماً تلك
التي تمتَّع بها معاصروه من البشر. ومع أنه يصعب علينا، بل ولا يجوز لنا أن نحاول
الفصل بين العناصر الطبيعية وفوق الطبيعية في شخص المسيح، فإنَّ دلائل التمييز بين
الطبيعتين البشرية والإِلهية الكامنة في السيد المسيح هي اثنان: العهد الجديد،
والمعتقدات العلنية الراسخة عند المؤمنين الأوائل الذين عاصروه. كان أمراً بديهياً
للذين اهتدوا للإنجيل وآمنوا بالمسيح أنّه اللّه المتجسد. فهذا الأمر لم يكن في
حاجة إلى إثبات، بالرغم من تنوّع الدلائل التي تشير إلى ذلك بانسجام مطلق. وهذه
الدلائل لم تترك لأحد مجالاً للشك في صدقها واستقامتها. فهل كان ممكناً ليسوع
المسيح أن يتمتع بطبيعتيه بانسجام كامل؟ تلك لم تكن القضية، بل كان ذلك أمراً
مفروغاً منه، إذ لم يكن من داع للبحث عن دلائل عليه، فالذين عاصروه وعايشوه بالذات
هم الذين استخدمهم اللّه في تدوين ما أوحى به عن هذا الأمر لأجيال المؤمنين
اللاحقة من بني البشر، إذا سجّلوا شهاداتهم عنه: «ٱلَّذِي شَاهَدْنَاهُ،
وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا… قَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ…
وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هٰذَا…» (1 يوحنا 1: 1 – 4).

 

أضاف
الرب في التجسّد إلى طبيعته الإِلهية نوعية أخرى هي الطبيعة البشرية (الأمر الذي
من شأنه تكوين شخصية مزدوجة). لم تكن الإضافة بمعنى وجود شخصية إضافية، بل بمعنى
إضافة نوعية بشريّة إلى الطبيعة اللاهوتية. ففي الوقت الذي لم يتخلّ فيه عن طبيعته
الإِلهية لم يتَّخذ لنفسه شخصية جديدة، بل أخذ لنفسه جميع الجوانب البشرية
الاعتيادية التي يتمتَّع بها البشر، أي أنه أصبح إلى جانب كونه إلهاً، إنساناً
أيضاً. هذا كان في طبيعتين متميِّزتين، ولكنه كما كان منذ الأزل، بقي هو ذاته
شخصاً واحداً.

 

من
المؤكد أن هذا الأمر يتضمَّن ما يمكن تسميته لغزاً لا يمكن استيعابه بشكل كامل،
لكن طبيعة هذا اللغز ليست غريبة على اختبارنا نحن البشر، فذلك اللغز بالذات كامن
في طبيعتنا البشرية نحن أيضاً. إن الإِنسان يحتوي على جوهرين مختلفين في الأساس.
فهو من جهة روح أو نفس غير مادية، خاضعة لتأثيرات فكرية وروحية.. ومن الجهة الأخرى
هو جسد مادّي، خاضع لكل العوامل والقوى الفيزيائية والكيمائية والكهربائية التي
تعمل في العالم من حوله. هذان الجانبان في الطبيعة البشرية لم يُصهرا ولم يَختلطا،
ولم تكن نتيجتهما هيكلاً ثالثاً دُعي بالإِنسان، بل أنّ هذين الجانبين بقيا قائمين
أحدهما إلى جانب الآخر في انسجام كامل، كما بقيت خواص كل منهما متميّزة في
الإِنسان ذاته. وظلّ كل منهما خاضعاً لشرائع دائرته بكل دقّة كما لو أنه كان
منفصلاً انفصالاً كاملاً عن الآخر. ومع ذلك، عند الإِشارة إلى أي من هذه الخواص
الإِنسانية إنما تكون الإِشارة إلى شخصه بالذات. فلا نقول جسد فلان عمل كذا أو نفس
فلان قالت أو فكّرت كذا، بل نقول فلان عمل وفكّر وقال كذا وكذا.

 

هكذا
الأمر بالنسبة لطبيعتي المسيح، فمع أنهما متميّزتان إحداهما عن الأخرى فإن ما
يُنسب لإِحداهما إنما ينسب لشخص المسيح ككل. من هنا كانت ضرورة الحذر من السقوط أي
إساءة فهم تلك التعابير الإنجيلية التي تبدو وكأنها متناقضة في وصفها للمسيح.
فمنها ما يشير إلى أن المسيح شخص غير محدود، وهي تشير إلى طبيعته الإِلهية، ومنها
ما يشير إلى محدوديته، وهي تلك التي ترد في قرينة الحديث عن طبيعته البشرية. فهو
إذن محدود كإنسان ولكنه غير محدود كاللّه، وهو ذو بداية كإنسان عند ولادته في بيت
لحم، ولكنه أيضاً هو اللّه الموجود أزلاً. وهو كان على علم بكل شيء، وفي نفس الوقت
كانت طبيعته البشرية محدودة المعرفة. فهو من جهة تركيب طبيعته «مِنْ نَسْلِ
دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ» كما يقول الكتاب المقدس، لكن الكتاب المقدس
يقول أيضاً إنه «تَعَيَّنَ (أي تبرهن) ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُوَّةٍ
مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ
ٱلأَمْوَاتِ» (رومية 1: 3، 4). خلاصة الأمر هي أنّ الكتاب المقدس يقدمه على
أساس أنه «ابن داود»، وفي نفس الوقت هو «الأزلي قديم الأيام»، ابن مريم هو، وفي
نفس الوقت «إله فوق الجميع، مبارك إلى الأبد». هو الشخص الذي شعر بالإرهاق أثناء
رحلاته الصعبة مشياً على الأقدام، وهو في نفس الوقت من يقول عنه الوحي الإِلهي «حامل
كل الأشياء بكلمة قدرته». وهو الذي «جاع أخير» بعد أربعين يوماً من الصوم، وفي نفس
الوقت هو نفس الشخص الذي أشبع الآلاف وقال عن نفسه: «أَنَا هُوَ خُبْزُ
ٱلْحَيَاةِ… ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ
أَحَدٌ مِنْ هٰذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ…» (يوحنا
6: 48 – 51) هو الذي قال إنه لا يقدر أن يعمل شيئاً بدون الآب، وفي نفس الوقت هو
الذي بدونه «لم يكن شيء مما كان». إنه «عظم من عظامنا ولحم من لحمن»، ومع ذلك
تمتَّع بمساواة مطلقة مع اللّه. هو الذي أخذ على نفسه «صورة عبد» تمتَّع بكونه
«صورة اللّه». قال الوحي الإِلهي عنه إنه «ينمو في القامة» كما قال عنه إنه «هو هو
أمساً واليوم وإلى الأبد»، «يتقدم في الحكمة» ومع ذلك فقد عرف كل شيء. قيل عنه
«مولود تحت الناموس (الشريعة)» لكنه قال عن نفسه إنه «ربّ السبت وأعظم من الهيكل»،
نفسه حزنت واضطربت وهو «رئيس (أو مصدر) السلام». هو الذي سار إلى الموت تحت إمرة
الحاكم الروماني، كما أنه هو الذي دُعي «ملك الملوك وربّ الأرباب»، وهو الذي قال
عن ذلك الموت: «أَضَعُ نَفْسِي… لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي (أي يقتلني)
بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ
أَنْ آخُذَهَا أَيْض» (يوحنا 10: 17، 18). لقد صعد إلى السماء وغاب عن تلاميذه
وكنيسته، لكنه نفس الشخص الذي قال: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في
وسطهم» وقال لتلاميذه قبل الصعود إنه سيكون معهم «إلى انقضاء الدهر».

 

إذن
الوحي الإِلهي يقدّم المسيح لنا أحياناً كإله وأحياناً كإنسان، لكي نفهمه ونعرفه
ونؤمن به كشخص واحد في طبيعتين، كإله كامل وكإنسان كامل، وليس لكي يعطينا الخيار
ما بين واحدة من طبيعتيه هاتين. إنه اللّه المتجسّد الذي كانت حياته الأرضية
تعبيراً عن أنّ اللّه جاء إلى عالم البشر، وكشف عن نفسه، ووضع الأساليب التي يمكن
للبشر استيعابها، بصيرورته إنساناً مثلهم. وهكذا فإن طبيعتي المسيح الإلهية
والبشرية اتّحدتا بحيث أنّ الصفات أو الخواص المنسوبة لأي منهما نُسبت إلى شخصية
الواحد ككل، فسواء دَعَوْناه يسوع أو المسيح، ابن اللّه أو ابن الإِنسان، فإننا
نقصد الإِشارة إلى نفس الشخص. عندما نقول إن يسوع عطش، فإننا نعني أنه كشخص كامل
في ألوهيته وناسوته قد عطش وليس جسده فقط. وعندما نقول إنه تألمّ نقصد بتألّمه
كشخص وليس كمجرد جسد، وهو إذ أخذ مكان الإِنسان على الصليب ومات عنه، فإنه لم يعمل
ذلك كإنسان فقط، بل إننا نعني أيضاً أن اللّه في المسيح أخذ مكان الإِنسان على
الصليب ومات لأجلنا نحن البشر. كل ذلك يعبّر عن الحقيقة، لكن وجب علينا بالطبع أن
نُبقي نصب أعيننا حقيقة فرادة شخصه، التي مكّنته من إنجاز ذلك العمل الخلاصي
المجيد.

 

لعل
أهم ما يواجهنا به الوحي الإِلهي من تعبيرات في شأن انسجام طبيعتي المسيح هو ما
نُسب فيه إليه من أعمال وقُوى وصفات تنطبق على الطبيعتين في إشارة جليّة إلى
المسيح الواحد. هذه التعبيرات التي تنطبق على طبيعته لا يمكن فهمها أو تفسيرها
إلاّ إذا أدركنا أن هاتين الطبيعتين متّحدتان عضوياً بشكل غير قابل للفصم أو
الانحلال، في شخص واحد هو الإله الإِنسان. فالوحي الإِلهي الطاهر يقول عن أعداء
المسيح: «صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (1 كورنثوس 2: 8) ويشير إلى
«…كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي ٱقْتَنَاهَا بِدَمِهِ» (أعمال
الرسل 20: 28)، ويقول: «يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ
ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ
ٱلْمَسِيحُي» (1 تيموثاوس 2: 5). إنّ العبارة «مريم والدة الإِله» التي
يستعملها بعض المسيحيين تحمل فقط بعض الحقيقة، إذ أن المولود منها كان ابن اللّه.
لكننا في نفس الوقت يجب أن نتذكر أن مريم كانت والدة يسوع المسيح من جهة طبيعته
البشرية فقط. لقد كان من الضروري لفادي البشر أن يكون إلهاً وإنساناً معاً، لذلك
صار إنساناً ليأخذ محل الإِنسان فيتألّم ويموت لأجله. فلو كان إلهاً فقط لما أمكنه
عمل ذلك. وضرورة كونه إلهاً هي لإعطاء القيمة والمدى غير المحدودين المطلوبَيْن في
الذبيحة الصالحة للتكفير عن خطايا البشر. من ناحية ثانية لو كان المسيح مجرد إنسان
لما كان بإمكانه الموت حتى عن شخص واحد. خلاصة الأمر إذن أن طبيعته البشرية جعلت
ألمه وموته ممكنَيْن، بينما طبيعته الإِلهية جعلت لهذين العنصرين: الألم والموت،
القيمة والمدى غير المحدودين والصالحين لتمثيل عدد لا يُحصَى من الخطاة. هذا ما
طرحه بوضوح بالغ يوحنا كالفن عندما قال: «لكي يمكن للإِنسان أن يتصالح مع اللّه،
كان لزاماً عليه وهو الذي دمّر نفسه بمعصيته أن ينفذ مطاليب العدالة الإِلهية
بتحمُّل عقاب خطيته. وأدرك اللّه في رحمته استحالة ذلك على الإِنسان، فكشف عن نفسه
في المسيح كإنسان حقيقي، وأخذ لنفسه صفة آدم الثاني ممثلاً بنفسه بني البشر،
وجاعلاً من نفسه بديلاً عنهم في طاعة شريعة اللّه، واضعاً جسده ثمناً للوفاء
بمطاليب العدالة الإِلهية، وهكذا تحمّل بنفسه القصاص المتوجِّب على عصياننا جميعاً
في طبيعة إنسانية معادلة لطبيعتنا التي فيها ارتكبنا ذنب العصيان. لأنه بما أنه
كان من غير الممكن للطبيعة الإِلهية الروحية الموت، فإنه أضاف إلى طبيعته الإِلهية
طبيعة بشرية صالحة لذلك».

 

المسيح
إذن في تجسُّده وحّد مع نفسه طبيعة بشرية، وبقيت شخصيته واحدة متّحدة متجانسة
ومتناسقة دون تشويش أو اختلال.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى