علم المسيح

تواضع المسيح



تواضع المسيح

تواضع
المسيح

يخبرنا
الرسول بولس في رسالته إلى فيلبي 2: 8 أن المسيح «وضع نفسه» عند إنجازه لعملية
الفداء. وقد عبّر كتاب أصول الإِيمان عن هذا الموضوع بقوله: «كان اتضاع المسيح
بولادته، وذلك في حالة متدنّية، وبجعله تحت الشريعة، وبتحمُّله مشقات هذه الحياة
وغضب اللّه والموت اللعين على الصليب، وبدفنه ومكوثه تحت سلطان الموت إلى حين».

 

بحسب
هذا البيان فإن المرحلة الأولى في اتضاع المسيح كانت في ولادته. إنه رئيس المجد
الذي يشترك في بهاء وجلال اللّه الآب، لكنه تنازل لكي يتخذ (في وحدة شخصية ومستمرة
مع ذاته) طبيعة هي أدنى حداً من طبيعته الأصلية. حتى لو أنه دخل العالم كملك
متسربل بالأرجوان ومتوّج بالذهب لكان ذلك تنازلاً كبيراً. أمّا أن يكون قد وُلد
كطفل عاجز يتكل تماماً على أمّه، وأن يكون فقيراً لدرجة أنه لم يكن له موضع ليسند
رأسه، وكانت حياته معرَّضة للخطر بسبب اضطهاد هيرودس لدرجة أن والديه فرّا هاربين
إلى مصر. هذه الأمور تكشف بجلاء عن تنازله الكلي واتضاعه المطلق، لصالحنا. وهذا ما
يصعب على عقولنا إدراكه. فمع أنه كان مصدر الشريعة نفسها فقد اعتاد في نموّه على
محدودية كيانه البشري، وأخضع نفسه لمتطلبات الختان. وهكذا أخذ مكانه تحت الشريعة
كما لو كان يهودياً عادياً.

مقالات ذات صلة

 

وسكن
المسيح في بيت حقير في قرية وضيعة ومحتقرة هي الناصرة، وسط جيران خشنين، وفي محيط
ضيق ومنكمش، يهمله دوماً أصحاب الشأن. ومع أنه ربّ الجميع فإنه كان خاضعاً ليوسف
ومريم كطفل بشري عادي. كما عمل كادحاً في حانوت النجار، وأخضع نفسه لمشقات
المساكين والمتضعين. لقد دفعته خدمته الجهارية للاتصال بكل صنف ولون من البشر،
ابتداءً بالضعفاء والخطاة، ونزولاً بالسفلاء والمنحطين، فلم يتردد عن التعامل معهم
جميعاً. ومع أنه كان إلهاً قدّوساً طاهراً، فقد عاشر هؤلاء يوماً بعد يوم، وكأنه
واحد منهم. وكان يأكل مع العشارين المحتقرين ومع الفريسيين المتكبرين. لقد تعرّض
للجوع والعطش وشعر بهما مرّات كثيرة. لم يكن له موضع ليسند رأسه، حتى أنه لم يكن
لديه ما في جعبة أدنى الأنبياء في مجتمعه. فقد قاسى عداوة مرّة واضطهاداً من زعماء
اليهود. ومع أن اتضاع المسيح استمر بشكل أو بآخر عبر كافة مراحل حياته الأرضية،
فقد ازدادت وطأة آلامه لدى اقتراب خدمته الخلاصية من نهايتها. لقد تعرّض في
المرحلة الأخيرة من حياته على الأرض لاختبار أعمق وأقسى، هو اختبار الذل والبغض من
أعدائه. وصلت المذلة إلى ذروتها عندما جرّه أعداؤه محتقراً ومذلولاً وسط صيحات
اللامبالاة القاسية وعواطف الشعب الهائجة ضدّه، والمنادية بجهل وغباء: «اصلبه!
اصلبه!». فبدأ يحمل الدينونة الهائلة التي كان قد سبق رآها آتية على الأمّة
اليهودية، عبئاً عليه. وكان تألمه وموته على الصليب أشدّ أنواع الموت وأكثرها رهبة
وعذاباً.

 

لم
تكن الآلام الجسدية كل ما كان عليه أن يتحمّله على الصليب، فبما أنه كان يقوم
بعمله الخلاصي عن شعبه، أي بذل نفسه فدية، فإنه عومل كما لو كان هو بالذات قد أخطأ
واستحقّ العذاب. حتى أن حضور الآب الذي كان يلازمه في كل لحظة من لحظات حياته حجب
عنه في تلك اللحظات تماماً كما يحجب الظلام نور الشمس. أمّا نفسه الحسّاسة فقد
تُركت لتتألم وحدها، في خصام عنيف مع قوى الشر الغاشمة التي سعت باستماتة يصعب
وصفها في هذا الظرف الأخير، آملة في تفشيل عمله الفدائي. أما صراخ عذابه: «إلهي
إلهي، لماذا تركتني؟» فهو دليل على شدّة تألمه. أمّا نحن فلا يمكننا أن نتفهّم ولو
جزئياً مشقة ما تحمّله وهو معلّق على خشبة الصليب. ولكننا نعلم أنه لم يعمل أية
خطية، ولم يكن للموت أي حق فيه. لقد أخذ مكاننا باختياره، وتحمّل العقاب الذي
استحققناه نحن. وهكذا صار لنا كفارة عن خطيتنا. لذلك لا يمكننا مجرّد طرح مسؤولية
صلبه على يهود ورومان ذلك العصر وحدهم، بل ما يمكننا فعله هو أننا بالتوبة
والاتضاع نعترف بمظهر الجريمة الأوسع – فخطيتنا نحن، وخطيتهم هم، هي التي جلبت
عليه تلك الآلام المبرحة. لقد تألم بصورة خاصة لأجل المعذبين أفراداً وجماعات،
بغضّ النظر عن العصر الذي يعيشون فيه، لأنه حمل عنهم ذلك الحمل.

 

ثمّ
أنّ اتضاع المسيح تُوِّج بدفنه في مقبرة أُعدّت لبشر لم يكن موتهم متوقَّعاً فحسب،
بل كان أمراً محتوماً، ففي دفنه اشترك مع كل البشر الذين يموتون ويُدفنون، والذين
تنحل أجسادهم وتزول. ولكن جسده لم ينحل، بل قام من الأموات أمجد قيامة بعد ثلاثة
أيام.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى