علم المسيح

التجسّد



التجسّد

التجسّد

جواباً
على السؤال: «كيف صار المسيح إنساناً وهو ابن اللّه؟» يجيب الكتاب المختصر لأصول
الإِيمان: «إن المسيح ابن اللّه صار إنساناً باتّخاذه لنفسه جسداً حقيقياً ونفساً
عاقلة، إذ حُبل به بقوة الروح القدس في رحم مريم العذراء، ووُلد منها ولكن دون
خطية».

 

خُلق
الإِنسان، خلافاً لكل الحيوانات، على صورة اللّه، وأُعطي طبيعة روحية وعقلية
ونفساً حية. يقول الرسول بولس إن اللّه « لَيْسَ بَعِيداً. لأنَّنَا بِهِ نَحْيَا
وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أعمال الرسل 17: 27، 28). ومع أنّ العنصرين الإلهي
والبشري متميزان واحدهما عن الآخر، ليسا أجنبييْن أحدهما عن الآخر، وليسا أيضاً
متضادّين أو متعارضين. فالإِنسان هو شرارة من نار عظيمة، أو إناء فارغ بحاجة لأن
يمتلئ من النبع غير المحدود، لذلك فلا معنى لوجوده سوى في صلته باللّه. وبما أنّ
الإِنسان مخلوق على صورة اللّه، أُعطي سلطة على مخلوقات وموجودات الأرض (راجع سفر
التكوين 1: 28) إنه في الواقع يتمتع بمركز إلهي مصغَّر ومحدود. ويقول الوحي
الإِلهي عن البشر: «أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو ٱلْعَلِيِّ
كُلُّكُمْ» (مزمور 82: 6)، وهذا ما اقتبسه المسيح عندما وجّه كلامه لليهود قائلاً:
«أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ» (يوحنا
10: 34). إذن الترابط بين العنصرين الإِلهي والبشري هو من متضمَّنات ونتائج خَلْق
اللّه للإِنسان. وبما أنّ الإِنسان خُلق على صورة اللّه، فإن كلمة اللّه الأزلي
أمكنه وهو كامل الألوهية أن يصبح ابن الإِنسان، ذلك لأن الإِنسان هو بالطبيعة ابن
اللّه.

 

لم
تكن عملية التجسُّد غاية في حد ذاتها، بل كانت وسيلة للغاية، وهي خلاص البشر، لأن
الإِنسان بسقوطه في خطية العصيان وعدم الثقة في قول اللّه قد فصل نفسه عن اللّه،
وأفقد نفسه كل القدرة على تدبير خلاصه بنفسه. لهذا السبب أخذ اللّه على نفسه
مسؤولية خلاص الإِنسان. ومن أجل ذلك حدث التجسّد. فاللّه الذي تجسّد في جسم بشري
أخذ مكان الإِنسان تجاه متطلبات الشريعة والعدالة الإلهيتين. ولأنه إله يمكنه أن
يعطي قيمة غير محدودة لذلك الألم والموت. «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلادُ
فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ
فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ… إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ
أُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَوْفاً مِنَ ٱلْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً
كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ… مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي
أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ
كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلّٰهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا
ٱلشَّعْبِ» (عبرانيين 2: 14 – 17).

 

وبما
أن النص الذي أورده الوحي الإلهي في رسالة الرسول بولس إلى فيلبي 2: 5 – 11 هو
الأكثر وضوحاً في عقيدة التجسد، يشير هذا النص أنّ المسيح «كَانَ فِي صُورَةِ
ٱللّٰهِ… لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ،
صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ». وقد وردت في رسائل الرسول بولس الموحى بها
من الروح القدس إشارات أخرى لموضوع التجسد، (2 كورنثوس 8: 9): «رَبِّنَا يَسُوعَ
ٱلْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ ٱفْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ،
لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ». وفي غلاطية 4: 4 و5 يقول: «لَمَّا
جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ
مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ،
لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ
ٱلتَّبَنِّيَ». وفي كولوسي 1: 19 يقول الوحي الإلهي عن المسيح: «… فِيهِ
سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ». وفي 2: 9 من نفس الرسالة يقول: «فَإِنَّهُ
فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاهُوتِ جَسَدِيّ».

 

المسيح
إذن، في ولادته من امرأة أخذ لنفسه طبيعة بشرية. ومع أنه بقي على سموّه الإلهي
إلاّ أنه صار إنساناً حقاً، فإن حلول «كل ملء اللاهوت» في جسد المسيح يعني أن
اللّه لبس لباساً جسدياً… وكل من يتطلّع إلى يسوع المسيح يرى بدون شك جسداً
وإنساناً، ولكن في المسيح نرى اللّه بالذات، بكل كمال لاهوته في لباس إنساني. يسوع
المسيح هو إذن «ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (تيموثاوس الأولى
3: 16).

 

لم
تكن غاية اللّه من التجسّد أن يوفر الفداء لبني البشر فحسب، بل كانت الغاية أيضاً
أن يعلن عن ذاته للبشر بصورة أكثر كمالاً مما أوضحه كل الأنبياء. ففي فترة العهد
القديم كلّم اللّه البشر بواسطة الأنبياء، كاشفاً لهم شيئاً عن طبيعته وعن حالة
الإِنسان الخاطئة التعيسة، وأيضاً عن مخططه الإلهي للخلاص. لكن فترة العهد الجديد التي
نعيش فيها، تتميز بأنّه في المسيح جاء اللّه شخصياً، وفي شخص المسيح وعمله أعطى
اللّه للبشر وحياً عن نفسه وعن مخطط الخلاص. فالإله الأكبر العظيم الذي خلق هذا
العالم جاء فعلاً إلى العالم وعاش بينه. هذا هو سرّ التجسد أنّ البشر بأعينهم
المجردة رأوا من هو في الحقيقة اللّه بالذات.

 

المسيح
هو نهاية وكمال الوحي الإلهي للبشر، «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ»
(يوحنا 1: 18).لكن في المسيح، اللّه الذي هو الروح غير المحدود، كشف عن نفسه للبشر
في كونه قد صار على هيئة البشر المحدودة، حتى أنه في استطاعة البشر المحدودين أن
يدركوه في نطاق قدرتهم المحدودة. وعندما دخل المسيح في تلك العلاقة الحيوية
الشخصية مع الطبيعة البشرية أضفى عليها بركة لا تُحصى، وذلك نتيجة لتداخل اللاهوت
فيها عَبْر عملية التجسد. وبهذا فإن الطبيعة البشرية أصبحت ذات مكانة أسمى من
مكانة الملائكة نفسها، لأن اللّه لم يختر أن يقترب بمثل هذه العلاقة الشخصية
الحميمة مع أي من خلائقه سوى مع بني البشر. «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ
ٱلأَوْلادُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ
أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا… لأنَّهُ حَقّاً لَيْسَ يُمْسِكُ ٱلْمَلائِكَةَ،
بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ» (عبرانيين 2: 14 – 16)، كما أن الطبيعة
البشرية التي اتخذها المسيح لنفسه في التجسُّد ستبقى له إلى الأبد. لقد أحضرها معه
حين قام من الموت وعاد بها إلى الآب. ففي السماء ظهر ليوحنا كشبه ابن إنسان في
صورة بشرية (رؤيا 1: 13)، كذلك فإن إستفانوس وهو يستشهد رأى مجد اللّه، ويسوع
قائماً عن يمين اللّه في مركز الإكرام والعظمة والقوة (أعمال الرسل 7: 56)، وهكذا
فإنه بقيامة المسيح وصعوده وجلوسه على عرش العظمة رفع معه الطبيعة البشرية،
وأوصلها فوق كل مكانة في الكون. إن الإقامة القصيرة التي قضاها على الأرض لم تكن
مجرّد حضور إلهي أو ظهور وقتي للّه في صورة بشرية، بل كانت تجسّداً حقيقياً
ودائماً. كان بعض شخصيات العهد القديم قد شاهدوا ظهورات إلهية، مثل إبراهيم (تكوين
18: 1 – 33) ويعقوب (تكوين 32: 24 – 30) وموسى (خروج 24: 9 – 11، 34: 5، 6) ويشوع
(يشوع 5: 13 – 15) ووالدي شمشون (قضاة 13: 2 – 22) وإشعياء (إشعياء 6: 1 – 5)
وأصدقاء دانيال الثلاثة: شدرخ وميشخ وعبدنغو (دانيال 3: 2 – 30). لكن تجسّد المسيح
كان يختلف عن تلك الظهورات إختلافاً جوهرياً. ففي التجسُّد وُلد اللّه كطفل في بيت
لحم، ولمدة ثلاث وثلاثين سنة استمر ذلك الوَصْل بين اللّه والطبيعة البشرية، بصورة
بدت فيها الطبيعة البشرية واضحة جلية.

 

ولا
يمكن المغالاة في تقدير أهمية عقيدة التجسد المسيحية، فإن صحة واستقامة المسيحية
كالدين الفدائي والخلاصي الموحى به من اللّه تثبتان أو تسقطان مع هذه العقيدة
بالذات. ولعلّ أوضح بيان لهذا الواقع هو ما ورد في رسالة يوحنا الأولى، والتي أوحي
بها في وقت تزايد فيه عدد المرتدين وناكري الإِيمان، وقد كان القصد منها ترسيخ
إيمان المؤمنين ضد الضلالات التي انتشرت بكثرة وشراسة. أما إحدى تلك الضلالات
الرئيسية فكانت ضلالة نكران تجسّد المسيح، لذلك لم يصرّ يوحنا على الاعتراف بحقيقة
أن يسوع قد أتى إلى العالم بالجسد فحسب، بل أنه جعل من هذه الحقيقة أساساً من
أساسات الإنجيل إذ يقول: «كُلُّ رُوحٍ لا يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ
أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَلَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ.
وَهٰذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي سَمِعْتُمْ
أَنَّهُ يَأْتِي، وَٱلآنَ هُوَ فِي ٱلْعَالَمِ» (1 يوحنا 4: 3)، ثم
يضيف قائلاً: «كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ فَقَدْ
وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ.. مَنْ لَهُ ٱلابْنُ فَلَهُ
ٱلْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ فَلَيْسَتْ
لَهُ ٱلْحَيَاةُ… وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱبْنَ ٱللّٰهِ قَدْ
جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ ٱلْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي
ٱلْحَقِّ فِي ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. هٰذَا هُوَ
ٱلإِلٰهُ ٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ»
(رسالة يوحنا الأولى 5: 1 – 20).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى