علم الله

الفصل السادس



الفصل السادس

الفصل
السادس

اَلْفِدَاء

“وصُلِبَ
عَنّا عَلَى عَهْدِ بِيلاطُس اَلْبُنْطِى وتَأَلّمَ وقُبِرَ وَقَامَ مِنْ بَيْن
الأمْوَاتِ فِى اَلْيَوْمِ اَلثَالِثِ كَمَا هُوَّ فِى اَلْكُتُبِ. وَصَعَدَ
إِِلَى اَلسَمَوَاتِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اَلآبِ. وَأَيْضًا يَأْتِى فِى مَجْدِهِ
لِيَدِينَ اَلأحْيَاءَ واَلأمْوَاتِ. اَلْذِى لَيْسَ لِمُلْكِهِ إِنْقِضَاء”

 

1 الصلب

إن الفداء إمتداد وتكملة لعمل التجسّد.

هذا الفداء الذى بلغ بالصليب قمته يمكن أن يُنظر إليه من ثلاث وجهات
نظر:

 

*بالصليب حطم المسيح حواجز أنانيتنا:

بالتجسّد أصبح الله حاضرًا فى الإنسان ليجدّده ويشفيه ويشركه فى حياته
الإلهية.

ولكن بقى أن يُزال الحاجز الذى أقامته الخطيئة فى صميم الإنسان بينه
وبين خالقه.

هذا الحاجز هو كما رأينا إنغلاق الإنسان وإنطواؤه على نفسه دون الله,
هو عبادة الأنا التى حكمت على الإنسان بعزلة مميتة.

كان ينبغى, إذًا, تحطيم هذا الحاجز لتتدفق فى الإنسان حياة الله, لأن
الإنسان الممتلئ من ذاته لم يعد لله مكان فيه.

لذلك عندما اتخذ ابن الله طبيعة الإنسان, داوى أنانيتها بالانفتاح
الكامل والعطاء الكامل اللذين حققهما فى إنسانيته.

 

فإنه طيلة حياته علي الأرض, لم يرد أن يتمتع بالمجد الإلهى الذى كان
كامنا فيه.

فإنه: [ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ،
صَائِراً فِي شِبْهِ اَلنَّاسِ
] [ فيليبى 2: 7
].

أخلى ذاته من التمتع بالمجد الإلهى وقبل طوعا بوضع العبد.

فضّل العطاء على التمتع, ومع أن كل شئ كان فى متناول يده, أراد أن
يبذل لا أن يأخذ:

[ كَمَا أَنَّ اِبْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ
لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ

] [
متى 20: 28 ].

إنه: [ اَلْمَسِيحَ أَيْضاً لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بَلْ
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: تَعْيِيرَاتُ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ

] [
رومية 15: 3 ].

ولكن حياته كلها كانت قربانا لله الآب وللبشر الذين صار أخا لهم.

فقد وُلد فقيرًا فى مذود البهائم وتشرّد عند إضطهاد هيرودس له, وعاش
معظم حياته عاملاً مجهولاً:

[ أَلَيْسَ هَذَا هُوَ اَلنَّجَّارَ اِبْنَ مَرْيَمَ
] [
مرقس 6: 3 ].

وطاف يبشّر فيما [ لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ
وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ
أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ
] [ متى 8: 20
].

ورفض أن يصنع آية فى السماء ليبهر بها البشر [ وَجَاءَ
إِلَيْهِ اَلْفَرِّيسِيُّونَ وَاَلصَّدُّوقِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ فَسَأَلُوهُ
أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ.. جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ
آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ اَلنَّبِيِّ

] [
متى 16: 1, 4 ].

ولكنه كان يصنع العجائب رأفة بالمعذبين و[ َأَحْضَرُوا
إِلَيْهِ جَمِيعَ
اَلسُّقَمَاءِ الْمُصَابِينَ
بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَ
الْمَجَانِينَ
وَ
الْمَصْرُوعِينَ وَالْمَفْلُوجِينَ
فَشَفَاهُمْ
] [ متى 4: 23 ].

وقد احتمل عدم إيمان الكثيرين, حتى أقاربه الذين كانوا ينعتونه
بالجنون وتلاميذه الذين لم يفهموا رسالته حق الفهم والذين تركوه كلهم وفرّوا حين
تسليمه, وباعه أحدهم وأنكره آخر.

وصبر على كل إهانات وشتائم وإضطهادات أعدائه الذين كانوا ينعتونه [ فَقَالَ
اَلْيَهُودُ: أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَناً إِنَّكَ
سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟
] [ يوحنا 8: 48
].

ولم يرد أن ينتقم منهم بل إنتهر يعقوب ويوحنا عندما طلبا إنزال نار من
السماء لإحراق قرية رفضت أن تستقبله:

[ وَحِينَ تَمَّتِ اَلأَيَّامُ لاِرْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ
لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً فَذَهَبُوا
وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ
لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ
تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا قَالاَ: { يَا رَبُّ أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ
أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا
أَيْضاً؟ } فَالْتَفَتَ وَاِنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: { لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ
أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ
أَنْفُسَ اَلنَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ }. فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى

] [
لوقا 9: 51 59 ].

وزجر بطرس عندما أراد أن يدافع عنه بالسيف:

[ رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ اَلَّذِينَ
يَأْخُذُونَ اَلسَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ
] [ متى
26: 52
].

وصلّى من أجل قاتليه:

[ يَاأَبَتَاهُ اِغْفِرْ
لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ
] [ لوقا
23: 34
].

وأراد, وهو المعلّم والسيّد, أن يكون وسط تلاميذه كالخادم:

[ لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ اَلَّذِي
يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ اَلَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلَكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي
يَخْدِمُ
] [ لوقا 22: 27 ].

وأن يغسل أرجلهم:

[ قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ
وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَ
اتَّزَرَ
بِهَا ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَ
اِبْتَدَأَ
يَغْسِلُ أَرْجُلَ
التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا
بِالْمِنْشَفَةِ
اَلَّتِي كَانَ مُتَّزِراً
بِهَا
] [ يوحنا 13: 4, 5 ].

 

هذا العطاء الذى به أراد المسيح أن يستأصل أنانيتنا, بلغ ذروته فى
الصليب.

كان فى وسع المسيح أن لا يموت بالنظر لللاهوت الكامن فيه.

ولكنه ذهب فى تخليه عن ” الأنا” إلى أقصى الحدود, باذلاً
ذاته للموت.

وهكذا قدّم حياته على الصليب قربان محبة للآب, وتعبيرًا عن تخلّيه
التام عن مشيئته الذاتية, كما قال بنفسه فى بستان جسيمانى:

[ يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ اَلْكَأْسُ
وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ.. يَا أَبَتَاهُ
إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ اَلْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ
أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ
] [ متى
26: 39, 42
].

وكما ورد فى الرسالة للعبرانيين:

[ ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلَكِنْ هَيَّأْتَ لِي
جَسَداً. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. ثُمَّ قُلْتُ:
هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ
الْكِتَابِ
مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ
] [ عبرانيين
10: 5 7
].

 

هكذا تمرّد آدم, وأطاع المسيح.

تكبّر آدم, فتواضع المسيح.

اكتفى آدم بذاته, فتخلّى المسيح عن ذاته:

[ وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَوْتَ مَوْتَ اَلصَّلِيبِ
] [
فيليبى 2: 8 ].

وهكذا بموته على الصليب, أعطى البشرية الدواء الشافى لداء الأنانية
الذى فصلها عن الله.

 

* بالصليب أخذ المسيح على ذاته خطيئتنا:

ومن وجهة نظر أخرى, نرى أن الرب يسوع المسيح, لكى ينقذنا من الخطيئة
التى أصبحنا نئن تحت وطأتها, شاء أن يأخذها على نفسه, لا أن يأخذها هى بلّ أن
يحتمل فى ذاته نتائجها المريعة حبًا بنا.

إن المحب يود لو أنه يستطيع أن يأخذ على نفسه مرض المحبوب ليخلصه من
وطأته.

ولكن ما لا يستطيع أن يفعله الحب البشرى, استطاع أن الرب يسوع المسيح
أن يتممه إذ أنه, لأجل محبته لنا, أخذ على نفسه مرضنا لينقذنا منه:

[ لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا0
وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً ‏مَضْرُوباً مِنَ اَلْلَّهِ وَمَذْلُولا

] [
أشعياء 53: 4 ]. و

[ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: هُوَ أَخَذَ
أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا
] [ متى
8: 17
].

 

فإنه وهو البرئ من كل خطيئة, أخذ على نفسه كل الشقاء الذى جرّته
الخطيئة على الجنس البشرى:

[ نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ
صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ ‏فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ.
وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا0 تَأْدِيبُ
سَلاَمِنَا ‏عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا
] [ أشعياء
53: 2, 5
].

وكانه متروك من الله نفسه:

[ إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ ] [ متى
27: 46
].

حاصلاً فى ظلمة وحزن مميتين:

[ نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى اَلْمَوْتِ
] [
متى 26: 38 ].

 

هكذا تجسّمت فى المسيح وهو لم يعرف خطيئة كل مأساة خطيئة البشر:

[ كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى
طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ ‏جَمِيعِنَا
] [ أشعياء
53: 6
].

وكأنه صار هو خطيئة على حد تعبير الرسول بولس:

[ لأَنَّهُ جَعَلَ اَلَّذِي
لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا
] [ 2
كورونثوس 5: 21
].

 

وهكذا فإن يسوع المسيح على الصليب ظهر لله الآب مجسمًا فى جسده
الجريح, الممزّق, المختنق, وفى نفسه المنسحقة, بشاعة كل خطيئة البشر التى أخذها
على نفسه فصار شفيعا للخطأة أجمعين عندما وحد ذاته معهم:

[ لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ اَلأَعِزَّاءِ وَمَعَ اَلْعُظَمَاءِ
يَقْسِمُ غَنِيمَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ ‏سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ
مَعَ أَثَمَةٍ وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ ‏وَشَفَعَ فِي اَلْمُذْنِبِينَ

] [
أشعياء 53: 12 ].

ذلك أن الآب لم يعد ينظر إلى الخطأة إلا من خلال هذه الصورة, صورة
ابنه الوحيد الحبيب المصلوب الذى جعل نفسه كواحد منهم.

وبهذا المعنى يتابع الرسول بولس:

[ لأَنَّهُ جَعَلَ اَلَّذِي
لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ
اَلْلَّهِ
فِيهِ
] [2 كورونثوس 5: 21 ].

أى أن الله تصالح مع البشر الخطأة وغفر خطاياهم وبرّرهم وضمهم إليه من
خلال شخص الابن الوحيد الحبيب الذى وحّد ذاته معهم.

 

هكذا كان الحمل الذى كان يُذبح فى الهيكل صباحا ومساءً تكفيرًا عن
خطايا الشعب رمزًا وإشارة إلى المسيح الذى قال عنه يوحنا المعمدان:

[ هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ اَلَّذِي
يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ
] [ يوحنا 1: 29
].

 

* بالصليب انتصر المسيح على الألم والموت بدخوله فيهما:

وهناك أخيرًا, معنى ثالث بالغ الأهمية يتجلّى فى الصليب.

لقد دخل البشر بالخطيئة فى مملكة الموت (وبلغة الكتاب والآباء تُدعى
” الجحيم”).

وساد عليهم الحزن والألم والضعف والفناء.

لقد أصبحوا كمن اُغلَّق عليهم فى سجن مظلم رهيب.

لقد كان بإمكان الله أن يحرّرهم من الخارج, بكلمة منه فقط, بإرادته
الفائقة.

ولكن محبته دفعته أن يشارك البشر أولاً مصيرهم لكى يوحّد ذاته معهم.

المحبة تدفع المحبّ إلى مشاركة المحبوب فى آلامه.

هكذا محبة الله للإنسان, كما نعتها كاباسيلاس, لم تدفعه إلى إجتياز
الهوة الفاصلة بين الخالق والمخلوق وحسب وهذا هو التجسّد بل إلى مشاركته أيضًا فى
جحيم بؤسه.

 

فالإله بتجسّده:

[ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ
فِي
اللَّحْمِ وَالدَّمِ
اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا.
] [
عبرانيين 2: 14 ].

شاء أن يصير شبيها فى كلّ شئ بالبشر الذين إتخذهم إخوة له:

[ مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ
شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلَّهِ
حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا
الشَّعْبِ
] [
عبرانيين 2: 17 ].

أن يشاركهم أيضًا بكلّ ما تعرّض له هذا اللحم والدم, من جرّاء
الخطيئة, من حزن وضيق وآلام وموت.

هكذا إكتمل التجسّد ودخل ابن الله إلى صميم الطبيعة الإنسانية,
مختبرًا إياها بكلّ شقائها, حتى يشعر الإنسان فى حزنه وبؤسه, فى آلامه الجسدية
والمعنوية, فى نزاعه وموته, إنه محبوب, وأن الله نفسه شاركه فى ذلك كلّه.

لقد جعل الله نفسه طريح الألم لكى لا يشعر الإنسان أنه يعانيه وحده
بلّ برفقة الإله المتجسّد الذى عاش آلام الإنسان فى نفسه وجسده, بمعيّة ذاك الذى
كُتب عنه:

[ لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ
يُعِينَ
الْمُجَرَّبِينَ ] [ عبرانيين
2: 18
].

 

هكذا دخل يسوع المسيح, حبًا بالإنسان, مملكة الموت التى كان غريبًا
عنها إطلاقا, ليس فقط من حيث إلوهيته التى هى ينبوع الحياة, بلّ من حيث إنسانيته
أيضًا.

فإنسانية يسوع المسيح لم تعرف الخطيئة البتة ولذلك فقد كانت بالكليّه
غريبة عن مملكة الموت, ذلك الموت الذى إنجرف إليه الإنسان بالخطيئة.

مملكة الموت هى مملكة الشيطان الذى قتل الناس بالخطيئة, ولم يكن
للشيطان شئ فى إنسانية يسوع المسيح البريئة من كل عيب, ولذا قال يسوع لتلاميذه قبل
تسليمه بقليل:

[ لأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ
(أى الشيطان الذى تسلّط على العالم بالخطيئة) يَأْتِي (أى
أن يسوع سوف يدخل بالموت إلى مملكته)
وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ
شَيْءٌ
] [ يوحنا 14: 30 ].

فى تلك المملكة التى كان غريبًا عنها بالكلّية, مملكة الموت والشيطان
الذى له [
سُلْطَان اَلْمَوْتِ ] [ عبرانيين 2:
14
].

دخل يسوع حبًا بالإنسان سجين ذلك العالم الرهيب.

 

ولكن مملكة الموت لم يكن بوسعها أن تضبط سيد الحياة والقدّوس البرئ من
الخطأ.

لذا كان دخول يسوع فيها مقدمة لتحطيمها وتحرير الإنسان منها.

هكذا لما شاركنا الرب فى الآلام والموت أعتقنا من الموت والآلام.

ولمّا أسلم ذاته لذلك العالم الرهيب الذى أوجدته الخطيئة ضرب قوى
الخطيئة الكامنة فينا ضربة قاضية.

عندما طرح نفسه فى ظلمتنا, أضاءها بنوره, وعندما شاركنا فى موتنا
أعطانا حياته.

هكذا تحققت نبؤة أشعياء التى ردّدها الإنجيل مطبقا إيّاها على يسوع:

[ اَلْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظَِلاَلِ اَلْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ
نُورٌ
] [ أشعياء 9: 2 ].و

[ الشَّعْبُ الْجَالِسُ
فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً وَ
الْجَالِسُونَ
فِي كُورَةِ
الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ
نُورٌ
] [ متى 4: 16 ].

هذا ما عبّرت عنه الرسالة إلى العبرانيين:

[ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ
فِي
اللَّحْمِ وَالدَّمِ
اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا،
لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ
الَّذِي
لَهُ سُلْطَانُ
الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ
] [
عبرانيين 2: 14 ].

 

* ملحق:

1 القديس مكسيموس المعترف هو أحد كبار معلمى الكنيسة, عاش راهبًا فى
القرن السابع وفقد لسانه ويده دفاعا عن الإيمان المستقيم. قال فى سر الخلاص:

لقد عَلّق السيد جسده الإنسانى كطعم بصنارة
ألوهيته, كأنه يريد بذلك أن يجتذب الشيطان. وبالفعل هذا التنين العقلى, النهم إلى
جسد الإنسان فغر فاه حول هذا الطعم, حاسبًا إيّاه, من جرّاء طبيعته الإنسانية, سهل
المنال. وهكذا علق بصنارة الألوهة. بعد ذلك أرغمه جسد الكلمة المقدّس أن يلفظ
كليًا الطبيعة الإنسانية التى كان سبق فابتلعها. وهكذا فالذى كان قد أغوى الإنسان
مؤملاً إيّاه بالتأليه وابتلعه على هذا المنوال, أُجْتذِبَ بدوره بجسد الإنسان
ذاته وأُرْغِم على لفظ ما كان قد ابتلعه. هكذا تجلّت القدرة الإلهية بشكل ساطع:
فقد انتصرت على قوة الغالب مستخدمة بمثابة سلاح ضعف الطبيعة المغلوبة. منذ ذلك
الحين أصبح الله الظافر بطبيعته الإنسانية وليس الشيطان بوعده الإنسان بالطبيعة
الإلهية
“.

 

2 والشاعر ” تشارلز باجى” عبر عن احتمال المسيح بالصليب كل
لعنة الخطيئة, وأحصى مع أثمة، لذلك أصبح للبشر الخطاة الدالة أن ينادوا الآب
” أبانا” من خلال الابن الوحيد الذى صار واحدًا منهم، قائلاً:

” أبانا الذى فى السموات, لقد علمهم ابنى هذه الصلاة.

” أبانا الذى فى السموات, لقد كان يعرف ماذا يصنع, فى ذلك اليوم،
ابنى الذى كان يحبهم بهذا المقدار.

” الذى عاش بينهم، الذى كان واحدًا مثلهم.

” الذى كان يسير مثلهم، ويتكلّم مثلهم، ويعيش مثلهم.

” الذى كان يتألم.

” ابنى الذى أحبهم بهذا المقدار، الذى يحبهم أبديًا فى السماء.

” أبانا الذى فى السموات, تلك الثلاث أو ألأربع كلمات.

” تلك الكلمات التى تسير أمام كل صلاة كما تسير يدا المتوسّل أمام
وجهه.

” كما أن يدىّ المتوسّل المضمومتين تتقدّمان أمام وجهه ودموع
وجهه.

” هذا ما أخبرهم ابنى عنه، لقد سلم إليهم ابنى.

” سرّ الدينونة نفسها.

” والآن هكذا يبدون لى، هكذا أراهم.

” هكذا أنا مرغم أن أراهم.

” كما أن أثتر سفينة جميلة لا يزال يتسع حتى يتلاشى.

” ولكنه يبدأ برأس، وهو رأس السفينة ذاته.

” هكذا موكب الخطاة الهائل لا يزال يتسع حتى يتلاشى.

” يبدأ برأس هو رأس السفينة ذاته.

” والسفينة هى ابنى نفسه، حاملاً كل خطتايا العالم.

” ورأس السفينة هو يدا ابنى المضمومتان.

” وأمام نظرة غضبى وأمام عدالتى.

” أبانا الذى فى السموات, لقد اخترع ذلك.

” لقد كان معهم، لقد كان مثلهم، لقد كان واحدًا منهم.

” أبانا، كمثل رجل يلقى معطفا كبيرًا على كتفيه.

” ارتدى، متجها نحوى.

” معطف خطايا العالم..”.

 

2 القيامة

القيامة إنفجار قوة الفداء المحيية.

ويمكننا لجلاء معانيها أن نتأملها من وجهتى النظر التاليتين:

 

* القيامة فيض الحياة الإلهية فى إنسانية يسوع المنفتحة إلى الله
بعطاء كامل:

إن الرب يسوع بالصليب بلغ قمّة التخلّى عن إرادته الذاتية وقدّم ذاته
بكلّيته إلى الله الآب.

تقدمة محبة كاملة وعطاء لا تحفظ فيه.

هكذا أصبحت إنسانية يسوع منفتحة كل الانفتاح على الله الآب فى شركة حب
كاملة معه, لذا تدفقت فيها الحياة الإلهية كلها وتحولت بالمجد الإلهى.

لقد كان مجد الألوهة بالطبع حالاً فى المسيح منذ تجسّده, إذ لم يزل
إلها بعد أن إتّخذ جسدنا, إلا أن هذا المجد كان مستترًا, محجوبًا وراء الطبيعة
البشرية التى إتّخذها ابن الله بحدودها وشقائها.

لذا جاع المسيح وعطش وبكى وتألّم.

لقد كانت الألوهة مستقرة فى قلب كيانه ولكنه كان يبدو فى الظاهر إنسانا
كبقية الناس.

ولكن عندما اكتمل عطاء يسوع المصلوب إجتاح المجد الإلهى الكامن فيه
والمحتجب وراء طبيعته الإنسانية هذا الناسوت كله وملأه بقوة الله وحياته وجماله.

 

عند الفجر تكون الشمس أولاً متخفية وراء الأفق, يتراءى نورها خفيفًا,
ناعمًا, لا يُبهر الأنظار, ثمّ ينفجر النهار ويغمر النور الكون كله ويضفى على
الأشياء كلها بهاءًا ساطعا.

هكذا ألوهة الرب يسوع المسيح المستمدّة أزليًا من الله الآب فاضت
بالصليب فى ناسوته المنفتح كليًا إلى الآب, فتمجّد هذا الناسوت وانتصر على الموت.

 

لقد كانت حادثة التجلّى:

[ وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ
وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ.

وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ وَأَضَاءَ وَجْهُهُ
كَالشَّمْسِ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ.

وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ
مَعَهُ.

فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: يَا رَبُّ جَيِّدٌ أَنْ
نَكُونَ هَهُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ. لَكَ وَاحِدَةٌ
وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ.

وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ
وَصَوْتٌ مِنَ اَلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هَذَا هُوَ اِبْنِي اَلْحَبِيبُ اَلَّذِي
بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اِسْمَعُوا.

وَلَمَّا سَمِعَ اَلتَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ
وَخَافُوا جِدّاً.

فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: قُومُوا وَلاَ تَخَافُوا.

فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً إِلاَّ يَسُوعَ
وَحْدَهُ
] [ متى 17: 1 9 ولوقا 9: 28 36
].

مقدمة وصورة للقيامة كما يتّضح من توصية يسوع بعد الحادثة:

[ وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ اَلْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ يَسُوعُ
قَائِلاً: لاَ تُعْلِمُوا أَحَداً بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ اِبْنُ
اَلإِنْسَانِ مِنَ اَلأَمْوَاتِ
] [ متى 17: 9
].

فعلى جبل التجلّى فاض نور الألوهة المستقرّ فى الرب يسوع المسيح, فى
جسده, فتغيّر منظره وصار وجهه مضيئًا كالشمس وثيابه بيضاء كالثلج, لامعة كالنور.

وقد حدث هذا التحوّل عندما كان موسى وإيليا, اللذان ظهرا, يتحدّثان مع
يسوع:

[ اَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ اَلَّذِي
كَانَ عَتِيداً أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ
] [ لوقا9:
31
].

لقد تجلّى يسوع عندما كان يتحدّث عن موته, وفى ذلك إشارة إلى أن
إنسانية يسوع كانت سوف تتمجّد بالموت.

 

تلك العلاقة الوثيقة بين الصليب وتمجيد يسوع, قد أوضحها الكتاب
المقدّس فى مواضع مختلفة.

ففى إنجيل يوحنا نرى يسوع يقول لتلاميذه قبل آلامه بفترة وجيزة:

[ وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا: قَدْ أَتَتِ اَلسَّاعَةُ
لِيَتَمَجَّدَ
اِبْنُ الإِنْسَانِ
] [ يوحنا 12: 23 ].

وأضاف موضحا كيف يتم التمجيد:

[ اَلْحَقَّ اَلْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ
اَلْحِنْطَةِ
فِي
الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا.
وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ
] [ يوحنا
12: 24
].

تمجيد يسوع هذا، إذًا، فى موته.

كذلك فى الصلاة التى تفوّه بها يسوع قبل خروجه مع تلاميذه إلى بستان
جسيمانى حيث أسلم ذاته, قال:

[ أَيُّهَا الآبُ قَدْ
أَتَتِ
اَلسَّاعَةُ. مَجِّدِ اِبْنَكَ
لِيُمَجِّدَكَ
اِبْنُكَ أَيْضاً ] [ يوحنا
17: 1
].

الساعة” التى أتت هى ساعة
الصليب والموت كما يتضح من مكان آخر:

[ فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَداً عَلَيْهِ
لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ
] [ يوحنا
7: 30
].

أتت الساعة, فمجد ابنك
يعنى, إذًا, أن ساعة الموت كانت بالنسبة للرب يسوع المسيح هى ساعة المجد.

 

الصليب, إذًا, كان يحمل كلّ طاقة القيامة:

لقد دخل يسوع المجد (الذى له منذ الأزل وهو فى حضن الآب) عندما قبل
بإجتياز الموت ولم يبق بعد ذلك إلا أن يظهر هذا المجد بقيامته من بين الأموات.

بالصليب, إذًا, تحققت القيامة, لذلك فقد كانت آلة العار هذه بالنسبة
ليسوع عرش المجد والظفر.

لذا, شبهها الرسول بولس بتلك المركبة التى يقف عليها قادة روما
الظافرون ويدخلون بها إلى المدينة جارين وراءهم رؤساء الأعداء مقيدين.

هكذا إعتلى المسيح الصليب كمركبة ظفر وربط بها الأرواح الشريرة مقيّدة
ذليلة:

[ إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي
عَلَيْنَا فِي
الْفَرَائِضِ، الَّذِي
كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ
الْوَسَطِ
مُسَمِّراً
إيَّاهُ بِالصَّلِيبِ، إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ
وَ
السَّلاَطِينَ أشْهَرَهُمْ
جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيه
] [ كولوسى 2:
14, 15
].

ولذلك, تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية بحزن وخشوع فى فى صلاة الساعة
السادسة من يوم الجمعة العظيمة بذكرى الصلب منشدة ذاك النشيد المؤثر:

[ يا من فى اليوم السادس وفى الساعة السادسة سُمّرت على الصليب من أجل
الخطية التى تجَرّأ عليها آدم فى الفردوس.. يا يسوع المسيح إلهنا الذى سُمّرت على
الصليب فى الساعة السادسة وقتلت الخطية بالخشبة وأحيَيْتَ الميت بموتك, الذى هو
الإنسان الذى خلقته بيديك, الذى مات بالخطية, اقتل أوجاعنا بآلامك المشفية المحيية
وبالمسامير التى سُمّرت بها. صنعت خلاصًا فى وسط الأرض أيها المسيح إلهنا عندما
بسطت يديك الطاهرتين على الصليب, فلهذا كل الأمم تصرخ قائلة: المجد لك يارب.
].

مظهرة هكذا أنه حينما بلغت الظلمة أشدّها بموت المسيح, انفجر النور فى
صميمها ولم يبق لنا إلا انتظار ظهوره فى صباح الفصح.

كذلك, فى خدمة” جناز المسيح” , التى يُحتفل بها بتذكار دفن
المسيح, تنشد مع المراثى ترانيم القيامة.

ويا ليتنا نقرأ, ونتأمّل فى الإصحاح الثالث من مراثى أرميا النبى.

 

* القيامة تفجير لمملكة الموت بدخول سيد الحياة فيها:

ومن جهة أخرى فقد رأينا أن الرب يسوع المسيح دخل فى مملكة الموت
(وبعبارة أخرى فى الجحيم) لكى يشارك الإنسان بؤسه وشقاؤه.

ولكن الموت لم يكن بإمكانه أن يضبط من هو بلاهوته سيد الحياة ومصدرها.

لذلك فقد كان دخول المسيح فى الموت حكما مبرما على الموت بالزوال.

والموت نتيجة الخطيئة, ثمرتها السامة, لذا تحطيم مملكة الموت يعنى
أيضًا تقويض سلطة الخطيئة.

لقد دخل الرب يسوع المسيح بموته فى السجن الذى كنّا مقيّدين,
مستعبدين, نئن تحت نير الشر والبؤس والموت, فدكّ هذا السجن الرهيب وحطمه من أساسه.

فأطلق الموت يسوع وأطلق معه البشرية جمعاء التى وحد يسوع ذاته بها.

لذا تنشد الكنيسة معبّرة عن الخلاص بصورة شعرية:

أيها الرب, أيها الرب, أن أبواب الموت قد انفتحت
لك من الخوف, ولما أبصرك بوابو الجحيم ارتعدوا, لأنك حطمت أبوابه النحاسية وسحقت
أقفاله الحديدية وأنقذتنا من ظلمة الموت وإدلهمامه وقطعت قيودنا
“.

وأيضًا: ” جمع الملائكة انذهل متحيرًا لمشاهدتهم
إياك محسوبًا بين الأموات أيها المخلص وساحقا قدرة الموت ومنهضا آدم معك ومعتقًا
إيّانا من الجحيم كافة
“.

 

هكذا تحققت بقيامة المسيح النبوة التى كان قد تفوّه بها هوشع النبى:

[ مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ.
أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ ‏أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ تَخْتَفِي
النَّدَامَةُ عَنْ عَيْنَيَّ
] [ هوشع 13: 14
].

تلك النبوة ردّد الرسول بولس صداها بعدما تحققت بالمسيح منشدًا بنشوة
الظفر الذى جعلنا يسوع مساهمين فيه:

[ وَمَتَى لَبِسَ هَذَا الْفَاسِدُ
عَدَمَ فَسَادٍ وَلَبِسَ هَذَا
الْمَائِتُ
عَدَمَ مَوْتٍ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ
الْكَلِمَةُ
الْمَكْتُوبَةُ: { ابْتُلِعَ
الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ }.
أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟

] [
1 كورونثوس 15: 54, 55 ].

وأضاف:

[ أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ
فَهِيَ
الْخَطِيَّةُ وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ
هِيَ
النَّامُوسُ. وَلَكِنْ شُكْراً لِلَّهِ الَّذِي
يُعْطِينَا
الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
][
1 كورونثوس 15: 56, 57 ].

معلنًا أن إنتصار المسيح على الموت هو فى الآن نفسه إبادة للخطيئة
فينا, تلك الخطيئة التى تُنتِج الموت.

 

هكذا صار المسيح القائم من بين الأموات محرّر الإنسانية الحقيقى
الأوحد لأنه لم يكتف بمعالجة بعض مظاهر مأساة الإنسان لكنه جابه المأساة فى
أعماقها وأصولها وجعل فينا طاقة تجاوزها.

إنه جابه قوى الموت الكامنة فى الإنسان (أى قوى
التفكك التى مزّقت الإنسان نفسًا وجسمًا
) ومن ورائها تلك القوة
الرهيبة التى استخدمتها لاستعباد الإنسان أعنى بها قوة الشيطان.

لقد جابه يسوع الشيطان فى عقر داره, إذا صحّ التعبير, وضع نفسه بين
براثنه ليحطمه ويخلّص منه البشر.

دخل إلى مملكته المظلمة ليقيّده ويُبطل قوته.

وقد علّمْنا الرب يسوع نفسه هذه الحقيقة بمثل عندما قال:

[ حِينَمَا يَحْفَظُ اَلْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحاً تَكُونُ
أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ. وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ
فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ وَيَنْزِعُ سِلاَحَهُ اَلْكَامِلَ اَلَّذِي اِتَّكَلَ
عَلَيْهِ وَيُوَزِّعُ غَنَائِمَهُ
] [ لوقا 11:
21. 22
].

 

هكذا انتصر المسيح على الموت لما إجتاز ظلمته, لقد ” وطئ الموت
بالموت” كما تنشد الكنيسة.

لقد فتح باب النور والحياة بيديه الداميتين..

ولكنه أحرز هذا الظفر من أجلنا نحن, ليجعلنا مساهمين فيه: نحن ظافرون
إذًا على قدر إتحادنا بالمسيح الظافر.

نعم, إننا لا نزال نخطئ ونتألّم ونموت, ولكن طاقة الحياة الظافرة قد
زُرِعَتْ فى أعماقنا.

من يمرّ على حقل بعد أن زُرعت فيه البذور يخاله جامدًا, ميتًا, ولطم
الحياة كامنة فى أعماقه تتحفز للوثوب وسوف تنتصب بعد فترة تحت السماء سنابل ذهبية
تتماوج فى النور.

عندما كان يسوع موضوعا فى القبر, كان يبدو ميتا كبقية الموتى ولكن
الحياة كلها كامنة فى هذا الجسد الساكن, كقنبلة مؤقتة كان لابد لها أن تفجّر الموت
وتدحْرج حجر الضريح.

هكذا, فالمتحدون بيسوع يحملون فى أجسادهم المائتة ونفوسهم التى لم
تتحرّر بعد كليًا من ضعفها, طاقة قيامة ربهم التى سوف تحوّلهم فى اليوم الأخير على
صورة السيد الناهض من بين الأموات.

[ لأَنَّ هَذَا الْفَاسِدَ
لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ وَهَذَا
الْمَائِتَ
يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ
] [ 1 كورونثوس
15: 53
].

وقد كتب الرسول يوحنا بهذا المعنى, مظهرًا كيف أننا فى آن حاصلون على
التجدّد ومنتظرون إعلانه الكامل فينا:

[ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، نَحْنُ الآنَ أَوْلاَدُ اللهِ. وَلاَ
نَعْلَمُ حَتَّى الآنَ مَاذَا سَنَكُونُ، لَكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى
أُظْهِرَ الْمَسِيحُ، سَنَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ عِنْدَئِذٍ كَمَا
هُوَ!
] [ 1 يوحنا 3: 2 ].

 

بالقيامة تحقق الخلاص الذى شاء الرب أن يتممه بتجسّده وصلبه.

القيامة, إذًا, علامة نجاح خطة الله لإنقاذ الإنسان.

إنها برهان خلاصنا.

ولذلك, فهى الركيزة الأساسية للبشارة المسيحية.

فقد كان الرسل قبل كل شئ شهودًا لقيامة الرب يسوع المسيح:

[ فَيَنْبَغِي أَنَّ اَلرِّجَالَ اَلَّذِينَ اِجْتَمَعُوا مَعَنَا
كُلَّ اَلزَّمَانِ اَلَّذِي فِيهِ دَخَلَ ‏إِلَيْنَا اَلرَّبُّ يَسُوعُ وَخَرَجَ.
مُنْذُ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا إِلَى اَلْيَوْمِ اَلَّذِي ‏اِرْتَفَعَ فِيهِ
عَنَّا يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَاهِداً مَعَنَا بِقِيَامَتِهِ

] [
أعمال الرسل 1: 21, 22 ].

وكتب الرسول بولس إلى أهل كورونثوس:

[ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا
وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ
] [ 1 كورونثوس
15: 14
].

القيامة قلب الإيمان المسيحى والحياة الروحية.

إنها أيضا محور الترتيب الطقسى, فكل يوم أحد تذكار للقيامة, وكل قدّاس
إلهى هو إستمرار لها, والصوم الكبير إستعداد للفصح, والفصح ” عيد الأعياد
وموسم المواسم” كما تسميه الطقوس, وقلب الكنيسة الأرثوذكسية فيه تنشد الكنيسة
متهللة:

 

المسيح قام.بالحقيقة قام.

إخرستوس أنستى. أليسوس أنستى.

 

* ملحق:

عظة للقدّيس يوحنا ذهبى الفم بمناسبة أحد الفصح المجيد:

من كان حسن العبادة ومحبًا لله فليتمتع بحسن هذا الموسم البهيج. من
كان عبدًا شكورًا فليدخل إلى فرح ربه مسرورًا. من تعب صائمًا فليأخذ الآن أجرته
دينارًا. من عمل من الساعة الأولى فلينل اليوم حقه بعدل. من قدِم بعد الساعة
الثالثة فليعيّد شاكرًا. من وافى بعد الساعة السادسة فلا يشك فإنه لا يسر شيئًا.
من تأخّر إلى الساعة التسعة فليتقدّم غير مرتاب. من وصل الساعة الحادية عشرة فلا
يخف الإبطاء فإن السيد كريم جوّاد, يقبل الأخير مثل الأول, ويربح العامل من الساعة
الحادية عشرة مثل العامل من الساعة الأولى. يرحم الأخير ويرضى الأول. يعطى ذاك
ويهب هذا. يقبل الأعمال ويسر بالنية. يُكرم الفعل ويمدح العزم. فإدخلوا إذًا كلكم
إلى فرح ربكم. أيها الأولون والأخيرون خذوا أجوركم. أيها الأغنياء والفقراء أطربوا
معا فرحين.

أمسكتم أو توانيتم أكرموا هذا النهار. صمتم أو لم تصوموا أفرحوا
اليوم. المائدة ملآنة فتمتعوا كلكم. العجل سمين وافٍ فلا يخرجن أحدًا جائعا.
تمتعوا كلكم بوليمة الإيمان. تمتعوا كلكم بوليمة الصلاح. لا ينوحنّ أحد عَن فقر
فإن المملكة العامة قد ظهرت. لا يندمنّ أحد على إثم فإن الصفح قد بزغ من القبر. لا
يخف أحد الموت فإن موت المخلص قد حرّرنا. فإنه قد أخمد الموت حين قبض الموت عليه,
وسبى الجحيم بنزوله إليه. مرمره لما ذاق جسده. هذا ما سبق أشعياء ونادى قائلاً:
تمرمر لما إلتقاك أسفل. تمرمر لأنه بطل. تمرمر لأنه هُزئ به. تمرمر لأنه قد أميت.
تمرمر لأنه قد أبيد. تمرمر لأنه قد رُبط.

تناول جسدًا فصادف إلها.

تناول أرضًا فألفاها سماءًا.

تناول ما نظر, فسقط من حيث لم ينظر.

أين شوكتك ياموت؟.

أين غلبتك ياهاوية؟.

قام المسيح وأنت صرعت.

قام المسيح والشياطين تساقطت.

قام المسيح والملائكة جذلوا.

قام المسيح والحياة انبعثت.

قام المسيح ولا أحد ميت فى القبر.

قام المسيح من الأموات فصار باكورة الراقدين.

فله كلّ المجد والعزّة إلى دهر الداهرين. آمين.

 

3 إشتراكنا فى صليب الرب وقيامته

*
تمسك الإنسان بأنانيته مخافة من الموت:

إن ما فعله الرب بإجتيازه الموت الذى قاده إلى القيامة، إنما فعله من
أجلنا.

ذلك أن الإنسان كان عليه، كى يُخلّص من شقائه وتفككه،أن يقبل بالتخلّى
للأنا، فيلاقى الله من جديد وينعم بحياته.

ولكن الإنسان الساقط لم يعد قادرًا على هذا التخلّى لأن فى ممارسته
شعورًا بالإنسلاخ والفراغ وضياع الذات.

وبعبارة أخرى، إذا شاء الإنسان أن يعرض عن إتخاذ الأنا محورًا لكل شئ،
شعر وكانه يموت، كأن حياته تفلت منه.

لذا يتمسّك الإنسان بأنانيته مخافة من الموت.

ولكنه بذلك يبقى بعيدًا عن الله، ينبوع الحياة، وبالتالى يبقى أسير
الموت (بمعناه العام، أى بمعنى التفكك الكيانى الذى ليس الموت الجسدى سوى مظهر من
مظاهره).

إذًا, الإنسان يبقى أسير الموت بداعى خوفه من الموت.

تلك هى المفارقة الكبرى التى هى فى صميم مأساة الإنسان والتى يمكن
لكلّ واحد منا أن يختبرها.

 

فلنتساءل:

لماذا نخطئ، فنجعل حاجزًا بين الله وبيننا؟.

الجواب العميق عن هذا السؤال هو أننا نخطئ مخافة من الموت.

لماذا يسرق الإنسان؟.

لأنه مثلاً يخاف من الحرمان، والحرمان نوع من الموت.

لماذا الكذب؟.

لأنه مثلاً يخاف من العقاب، والعقاب نوع من الموت.

لماذا يزنى؟.

لأنه فى كثير من الأحيان يخاف من العزلة، والعزلة نوع من الموت.

لماذا يتباهى؟.

لأنه يخاف أن لا يعجب به الناس، أن يهملوه، وإهمال الناس له نوع من
الموت.

مجمل الكلام أننا نستعبد أنفسنا للخطيئة، وبالتالى للموت، الذى هو على
حدّ تعبير الرسول بولس:

[ أَجْرُ اَلْخَطِيْئَةِ ] [ رومية
6: 32
].

لأن الخطيئة تفصل عن الله مصدر الحياة، بسبب خوفنا من الموت.

هذا ما عبّر عنه الكتاب المقدّس فى الرسالة إلى العبرانيين بقوله:

[ وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ
خَوْفاً مِنَ
الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ
تَحْتَ
الْعُبُودِيَّةِ ] [ عبرانيين
2: 15
].

 

ولنا نموذج لذلك فى علاقتنا البشرية.

كل إنسان يحلم بأن يعيش صداقة كاملة أو حبًا كاملاً، لأن قلبه يتوق
إلى شركة إنسانية كهذه يروى بها عطشه إلى حياة كاملة.

ولكن الصداقة الكاملة والحب الكامل أمران يسعى إليهما الإنسان دون أن
يتمكّن من إدراكهما كليًا.

إنه فى أحسن الإحتمالات يقترب من تحقيقهما ولكنه، حتى فى هذه الحال،
يُبقى على شئ كثير من العطش والعزلة.

إن إتحاده بمن يحب لا يمكن أن يكون كاملاً.

لماذا؟.

لأن إتحاد الإنسان بمن يحبه لا يتم إلا إذا قبل الإنسان بأن لا يكون
أناه محورًا لوجوده، بأن يتخلّى عن تملّك ذاته، بعبارة أخرى إذا قبل الإنسان بأن
يمر بخبرة الموت.

ولكن الإنسان فى وضعه الساقط، وأن قبل جزئيًا بتلك الخبرة، لا يستطيع
أن يقبلها كليًا وفى الصميم.

أنه يخاف الموت ولذا يبقى أسير العزلة وبالتالى أسير الموت.

 

* الكلمة المتجسّد الوحيد الذى استطاع أن يتخلى عن تملك ذاته:

يسوع المسيح وحده تمم بناسوته ما لم يكن بوسع أى إنسان أن يتممه.

الإنسان يسوع المسيح استطاع وحده أن يتخلّى بالحقيقة عن تملّك ذاته،
وبعبارة أخرى استطاع وحده أن يقبل الموت بالكلية وفى الصميم.

ولذا, استطاع وحده أن يلج بإنسانيته إلى مجد الله.

لقد كان رئيس الكهنة عند اليهود يدخل مرة فى السنة إلى قدس الأقداس
(الذى كان يمثل السماء) حاملاً دم الذبائح.

الرسالة إلى العبرانيين تقول لنا أن ذلك كان رمزًا للمسيح الذى كان فى
الآن نفسه الكاهن والذبيحة، وقد دخل بدمه المسفوك إلى مجد الله:

[ وَأَمَّا الْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ
لِلْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ، فَبِالْمَسْكَنِ الأَعْظَمِ وَالأَكْمَلِ، غَيْرِ
الْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْخَلِيقَةِ. وَلَيْسَ
بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى
الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً
] [ عبرانيين
9: 11, 12
].

هذا الدخول إلى مجد الله إنما ظهر بالقيامة.

 

* المسيح نائب عن البشر أجمعين:

ولكن يسوع المسيح قد أتمّ هذا العطاء الكامل لا من أجل نفسه بلّ
بالنيابة عن البشر أجمعين.

عندما قبل الموت كليًا إنما قبله كممثل عن البشر الذين لا يستطيعون هم
قبوله.

هذا ما عبّر عنه الرسول بولس بقوله:

[ لأَنَّ مَحَبَّةَ اَلْمَسِيحِ
تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ
لأَجْلِ
اَلْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا
] [
2 كورونثوس 5: 14 ].

عطاؤنا ناقص لا يمكن أن نبلغ به إلى الله، إنه مشوب بالأنانية
المستحكمة فينا بسبب خوفنا من الموت.

ولكننا نستطيع أن نلج إلى الله من خلال عطاء يسوع المسيح الكامل.

يسوع، بما أنه قربان كامل لله، يشفع بضعفنا وعجزنا ويقرّبنا من الله،
كأننا طيور مكسورة الأجنحة يحملها نسر قوى ويحلّق بها إلى أقصى الفضاء:

[ لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هَذَا،
قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ
أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ
] [ عبرانين 7: 25
].

بذبيحة الرب يسوع إذًا، تلك الذبيحة التى تبلغ وحدها السماوات، ننال
القيامة التى هى تدفق الحياة الإلهية فى كياننا المتفكك، المائت.

 

* إرادة الإنسان والخلاص:

ولكن الفداء لا يفعل فينا بشكل سحرى.

الله لا يُخلّص الإنسان بالاستقلال عن إرادة الإنسان لأنه يحترم
حريته.

لذا لا ينال القيامة من يرفض الإشتراك فى صليب المسيح، أى من لا يقبل
أن يدخل فى طريق الموت عن الذات سلكها يسوع حتى النهاية.

لقد علّمنا الرب صراحة أنه لا يسعنا الإشتراك معه فى الحياة الإلهية (أى
فى قيامته
) إن لم نسلك فى أثره طريق الموت:

[ إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ
وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ
يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا

] [
متى 16: 24, 25 ].

وقد علّمنا الرسول بولس أن إشتراكنا فى الصليب ضرورى إذا شئنا أن نكون
منتمين إلى المسيح وبالتالى أبناء القيامة:

[ وَلَكِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا اَلْجَسَدَ (أى
الخطيئة، أى عبادة الذات)
مَعَ اَلأَهْوَاءِ وَاَلشَّهَوَاتِ
] [
غلاطية 5: 24 ].

و [ فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ اَلْمَسِيحِ
نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ
] [ رومية
6: 8
].

و [ حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ
كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ
الرَّبِّ
يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا

] [
2 كورونثوس 4: 10 ].

و [ لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ،
وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ، لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ
اَلأَمْوَاتِ
] [ فيليبى 3: 10, 11 ].

 

* التوبة والأعمال:

إننا فى وضعنا الساقط لا نستطيع بالطبع أن نقدّم ذواتنا بالكلية، ولكن
المطلوب منا أن نجتهد فى هذا السبيل.

أن ننوى بصدق السير فى طريق نكران الذات وراء المعلم.

تلك هى التوبة فى الأساس.

إنها سير فى طريق إسلام الذات لله.

وهذا السير يدوم الحياة كلها لأن عطاءنا يبقى ناقصا ما حيينا.

لذا فالكنيسة ليست كنيسة الصديقين بلّ كنيسة التائبين أى العائدين من
عبادة ذواتهم إلى عبادة ربهم.

ولنا فى هذا السير دافعان يشددان عزمنا:

 

1 محبة المسيح لنا:

لقد تجلّت محبة المسيح لنا بشكل باهر فى بذله ذاته من أجلنا.

وقد قال هو عن نفسه:

[ لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ
نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ
] [ يوحنا 15:
13
].

وأيضا:

[ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ
وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي، كَمَا أَنَّ
الآبَ
يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ
الآبَ.
وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ
اَلْخِرَافِ
] [
يوحنا 10: 14, 15 ].

هذا الحب المبذول يثير حبنا ويدفعنا إلى أن نحيا فيما بعد لا لذواتنا
بل للذى مات عنّا حبًا.

بهذا المعنى كتب بولس الرسول:

[ لأَنَّ مَحَبَّةَ اَلْمَسِيحِ
تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ
لأَجْلِ
اَلْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا. وَهُوَ
مَاتَ لأَجْلِ
اَلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ اَلأَحْيَاءُ
فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَام

] [
2 كورونثوس 5: 14, 15 ].

وفى مكان آخر كتب:

[ مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ
يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي
الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ
لأَجْلِي
] [ غلاطية 2: 20 ].

أى أننى أسلّم ذاتى (هذا هو المعنى العميق للإيمان)
لذلك الذى أسلَم ذاته لأجلى.

هكذا فالحب الذى تثيره فينا محبة المسيح المبذولة لنا حتى الموت
يساعدنا على التغلّب على الخوف من الموت, ذلك الخوف الذى يحول دون تقدمة ذواتنا.

هذا ما تنشده الكنيسة عن الشهداء:

{ لأن المحبة قد غلبت الطبيعة (أى
مخافة الموت المتأصلة فى طبيعتنا
) وجعلت
العاشق أن يتّحد بواسطة الموت بالمعشوق
} (خدمة عيد
القديس جورجيوس
).

 

2 ثقتنا بانتصار المسيح على الموت:

ومن جهة أخرى فإن حدّة الخوف من الموت تخف فينا لمعرفتنا أن المسيح
قهره بمروره فيه.

فيما كان يتحدّث عن قيامة السيد، هتف الرسول بولس بلهجة الانتصار:

[ أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ
فَهِيَ
الْخَطِيَّةُ وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ
هِيَ
النَّامُوسُ ] [ 1
كورونثوس 15: 55
].

ونحن إذا شئنا التخلّى عن أنانيتنا ومررنا من جراء ذلك فى خبرة الموت
يهدأ جزعنا لعلمنا أننا لسنا نجتاز هذه الخبرة وحدنا، بل بمعيّة ذاك الذى إجتاز
الموت قبلنا وقهره:

[ أَيْضاً إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ اَلْمَوْتِ لاَ أَخَافُ
شَرّاً لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي

] [
مزمور 23: 4 ].

 

* الرب يعين ضعفنا:

إننا نتمرّس، إذًا، على تقدمة ذواتنا مدفوعين بالحب الذى تثيره فينا
محبّة الرب لنا وبثقتنا بانتصاره على الموت.

ولكن الرب أيضًا يعين ضعفنا.

ذلك أننا إذا قبلنا أن نشترك فى صليبه، فإن تقدمتنا هذه، وإن كانت لا
تزال ناقصة، مشوبة بالأنانية, تبلغ إلى الله محمولة على أجنحة تقدمته هو، كما
رأينا.

وبعبارة أخرى فإن قبولنا الإشتراك فى صليب المسيح يجعلنا مشتركين فى
قيامته أيضًا، أى فى الحياة الإلهية التى إحتاجت إنسانيته المقرّبة إلى الله.

وإذا تدفقت الحياة الإلهية فينا، أصبحنا أكثر قدرة على المحبّة
والعطاء.

تلك هى النعمة الإلهية التى تجدّدنا باستمرار بفعل صليب الرب وقيامته.

 

* إقتبال الأسرار الإلهية:

هذا ما يجرى خاصة عند إقتبالنا الأسرار الإلهية.

فعند إقامة سر الشكر مثلاً، فى القدّاس الإلهى، يأتى المؤمنون إلى
الله بتوبتهم (أى بعزمهم على إسلام ذواتهم لله) ولكن هذه التقدمة لا تبلغ إلى الله
إلا لكونها تندمج فى التقدمة الكاملة الوحيدة، تقدمة المسيح المصلوب التى يشكّل كل
قداس إمتدادًا لها.

إستحالة الخبز والخمر (اللذين يمثلان تقدمة البشر) إلى جسد ودم المسيح
معناها أن المسيح إتخذ توبة البشر الناقصة ودمجها بتقدمته هو ليوصلها إلى الآب.

هكذا يبلغ المؤمنون بالمسيح إلى الله وينالون بتناول القرابين الحياة
الإلهية فيصيرون مشاركى القيامة التى تجدّدهم وتؤهلهم لأن يكونوا بدورهم قرابين.

 

* التوبة المستمرة:

هكذا بالتوبة التى هى عملية تستمر العمر كلّه لأن طاعتنا لله ناقصة ما
حيينا وبالأسرار، نشترك أكثر فأكثر فينا على حدّ تعبير الرسول، أى نصبح أكر فأكثر
مساهمين فى انفتاحه التام للآب وفى تدفّق الحياة الإلهية فيه.

وهكذا شيئًا فشيئًا نصبح على حد تعبير الرسول:

[ كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً اِحْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتاً عَنِ
اَلْخَطِيَّةِ وَلَكِنْ أَحْيَاءً لِلَّهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا

] [
رومية 6: 11 ].

وشيئًا فشيئًا نستطيع أن نتبنى قول الرسول:

[ لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا لِلَّهِ. مَعَ
الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا
أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ
ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي

] [
غلاطية 2: 19, 20 ].

 

4 الفداء ومحبة القريب

*
محبة الفادى لنا تلهم محبتنا للناس:

محبة الفادى التى تجلّت فى بذله ذاته عنّا هى بمثابة النار التى لا
بدّ أن تُلْهب ما حولها.

إنها حَرِيّة بأن تُضرم فينا بدورنا نار المحبة.

لقد قال الرب بهذا المعنى:

[ جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى اَلأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ
اِضْطَرَمَتْ؟
] [ لوقا 12: 49 ].

الحب يستدعى الحب.

لقد بيّن علم النفس الحديث أن الطفل يستمد من محبة والديه له المقدرة
على أن يحب بدوره الناس، وبعبارة أخرى إن حب والديه له يوقظه إلى الحب، يفجّر فيه
طاقة الحبّ.

هكذا المحبة الفائقة التى أبداها الرب نحونا تنتزعنا من إكتفائيتنا
لتلقى بنا بدورنا فى مجازفة الحب.

هذا الجواب الحى على محبّة السيّد يتّخذ، كما رأينا، شكل الحب لشخصه،
ولكنه يتّخذ أيضًا شكل محبّة البشر.

ذلك لأنه لا يسعنا، إذا كنّا مؤمنين، إلا أن نرى فى كل إنسان، أيًّا
كان:

[ فَيَهْلِكَ بِسَبَبِ عِلْمِكَ اَلأَخُ اَلضَّعِيفُ اَلَّذِي مَاتَ
اَلْمَسِيحُ مِنْ أَجْلِهِ
] [ 1كورونثوس
8: 11
].

عند ذاك يصبح كل إنسان، فى نظرنا، ذا قيمة لا تقدّر، قيمة الدم الإلهى
الذى سكب من أجله.

 

* إن محبة الفادى لنا تعين نوعية محبيتنا للناس:

محبّة الفادى لا تُلْهِم محبتنا للناس وحَسْب، ولكنها أيضا تعين
نوعيتها.

ذلك أنه ينبغى لنا أن نحبّ الناس بالمحبّة التى أحبهم بها المسيح.

تلك هى وصية السيد فى خطابه الوداعى:

[ هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا
أَحْبَبْتُكُمْ
] [ يوحنا 15: 12 ].

هذا يعنى أنه ينبغى أن تكون لمحبتنا للناس الصفات التالية:

 

أ- مبنية على بذل الذات:

يُكْثر الناس من استعمال كلمة ” أحبّ”، ولكنها هيهات أن
يكون الحب الذى يتحدّثون عنه فى كثير من الأحيان هو الحب الأصيل الذى عاشه السيّد.

” أحب التفاح” يعنى أننى أتلف التفاح من أجل لذتى.

” أحبّ” إنسانا يعنى فى كثير من الأحيان، إذا شئت أن أواجه
حقيقتى، أننى أريد تسخيره وإستغلاله لشهوتى أو مصلحتى.

أمّا المسيح فقد أحبّنا من أجل أنفسنا وعوض أن يُسَخّرنا له سَخّرَ
نفسه لأجلنا.

لقد إعتبر أن لنا من الأهمية ما يُبرّر سفك دمه الإلهى عنّا.

فأتاح لنا هكذا أن نكتشف المحبّة الحقة التى تقوم على العطاء.

ولذا نرى الرسل يحثونا على إقتفاء آثتار السيّد فى محبتنا للناس، فقد
قال الرسول يوحنا:

[ وَمِقِيَاسُ الْمَحَبَّةِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي قَامَ بِهِ
الْمَسِيحُ
إِذْ بَذَلَ حَيَاتَهُ لأَجْلِنَا.
فَعَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضاً
أَنْ نَبْذُلَ حَيَاتَنَا
لأَجْلِ إِخْوَتِنَا
] [ 1 يوحنا 3: 16
].

أَنْ نَبْذُلَ حَيَاتَنَا
يسوع لم يعطِ فقط أشياء مما له, إنما أعطى ذاته للناس، طيلة حياته أولاً، التى
كانت مسخّرة لخدمتهم، ثم فى تقدمته الكبرى على الصليب.

ما يُطلب منّا أن لا نكتفى نحن أيضًا بإعطاء بعض الوقت أو المال
للغير، بلّ أن يكون الغير شغلنا الشاغل وموضوع إهتمامنا الدائم.

المطلوب أن لا نعود نحن مركز إهتمام ذواتنا بلّ أن يصبح الغير هم مركز
الإهتمام، كما كتب الرسول بولس:

[ فَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ
اَلضُّعَفَاءِ وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا. فَلْيُرْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا
قَرِيبَهُ لِلْخَيْرِ لأَجْلِ اَلْبُنْيَانِ. لأَنَّ اَلْمَسِيحَ أَيْضاً لَمْ يُرْضِ
نَفْسَهُ بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: تَعْيِيرَاتُ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ

] [
رومية 15: 1 3 ].

 

ب تتجلّى بالمشاركة:

المسيح إذ أحبنا شاركنا حياتنا وآلامنا وموتنا.

ومحبتنا نحن أيضًا يجب أن تتحلّى بالمشاركة.

قد يكون فى الشفقة ترفّع عن الغير، ولذا فقد تجرح الناس وتضيف إلى
آلامهم ألما جديدًا ومرارة.

لذلك أوصى الكتاب:

[ فَرَحاً مَعَ اَلْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ اَلْبَاكِينَ ]
[
رومية 12: 15 ].

وأيضًا:

[ اُذْكُرُوا الْمُقَيَّدِينَ كَأَنَّكُمْ مُقَيَّدُونَ مَعَهُمْ،
وَالْمُذَلِّينَ كَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِي الْجَسَدِ

] [
عبرانيين 13: 3 ].

وقد عاش الرسول بولس المحبّة إلى حدّ المشاركة الصميمة فى المآسى التى
أحسّها:

[ مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ
أَلْتَهِبُ؟
] [ 2 كورونثوس 11: 29 ].

 

ج توجه الإرادة والعمل:

ولكن هذه المشاركة لا قيمة لها إن لم تتعدّ صعيد العاطفة.

فقد نريح ضميرنا بشكل رخيص مكتفين بأن ” نشعر” مع الناس.

ولكن مشاعرنا لا تهم الله كثيرًا.

أن ما يهمه إرادتنا.

المسيح لن يتلهَّ بتعابير غنائية عن المحبة وإنما عاشها فى عرق وجهاد
وفى النهاية بتسلم ذاته للموت.

لذا, فليس المهم أن ” أحسّ” نحو الناس بانعطاف, إنما المهم
أن أوجّه إرادتى بالفعل نحو خدمتهم.

هذا ما علّمنا إيّاه الرسول يوحنا بقوله:

[ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ الصِّغَارُ، لاَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ
مَحَبَّتُنَا مُجَرَّدَ ادِّعَاءٍ بِالْكَلاَمِ وَاللِّسَانِ، بَلْ تَكُونَ
مَحَبَّةً عَمَلِيَّةً حَقَّةً
] [ 1 يوحنا 3:
18
].

 

د مجانية, غير مشروطة:

لقد كان الله هو البادئ بالمحبّة، إذ أن الإله المتجسّد بذل نفسه عنّا
بغض النظر عن عدائنا له، عن رفضنا إيّاه.

لقد أحبنا مجانا، دون قيد أو شرط، لا لسبب آخر سوى حبّه المجانى.

هذا ما حدّثنا عنه الرسول بولس بقوله:

[ لأَنَّ الْمَسِيحَ إِذْ كُنَّا بَعْدُ
ضُعَفَاءَ مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ. فَإِنَّهُ
بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ
أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ
وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ اَلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا.
] [ رومية
5: 6 8
].

وبالمعنى نفسه كتب الرسول يوحنّا:

[ وَفِي هَذَا نَرَى الْمَحَبَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ، لاَ مَحَبَّتَنَا
نَحْنُ لِلهِ، بَلْ مَحَبَّتَهُ هُوَ لَنَا. فَبِدَافِعِ مَحَبَّتِهِ، أَرْسَلَ
ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا
] [ 1 يوحنا 4:
10
].

هكذا يجب أن تكون محبتنا للناس مجانية كمحبة يسوع لنا.

يجب أن نحبهم مهما كانت صفاتهم، مهما كان إنسجامهم أو عدم إنسجامهم
معنا، مهما كانت علاقاتهم بنا وتصرّفاتهم نحونا:

[ وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ فَأَيُّ فَضْلٍ
لَكُمْ؟ فَإِنَّ اَلْخُطَاةَ أَيْضاً يُحِبُّونَ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ.

وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى اَلَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ
فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ اَلْخُطَاةَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا.

وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ اَلَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا
مِنْهُمْ فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ اَلْخُطَاةَ أَيْضاً يُقْرِضُونَ
اَلْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ اَلْمِثْلَ.

بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ
لاَ تَرْجُونَ شَيْئاً فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيماً وَتَكُونُوا بَنِي
اَلْعَلِيِّ فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ اَلشَّاكِرِينَ وَاَلأَشْرَارِ

] [
لوقا 6: 32 35 ].

 

المسيحى هو دوما البادئ بالمحبة كما ان المسيح هو المبادر بالحب نحونا.

لقد كنّا غرباء عنه، ضائعين فى متاهات عبادة الذات، ولكنه أتى إلينا
ولا يزال يأتى فجعلنا قريبين إذ غمرنا بحبّه المبذول.

هكذا علّمنا من هو القريب.

لقد كان اليهود يعتقدون أن القريب، الذى تتوجّب عليهم محبّته، هو من
كان يشاركهم فى الجنس والدين..

وذات يوم سأل أحد معلّمى الناموس يسوع قائلاً: من هو قريبى؟.

فلم يجبه مباشرة بلّ روى له مثل السامرى الصالح:

[ إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا
فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ
حَيٍّ وَمَيْتٍ. فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِناً نَزَلَ فِي تِلْكَ
الطَّرِيقِ
فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَكَذَلِكَ لاَوِيٌّ أَيْضاً إِذْ صَارَ عِنْدَ
الْمَكَانِ
جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَلَكِنَّ سَامِرِيّاً مُسَافِراً جَاءَ
إِلَيْهِ وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ وَصَبَّ
عَلَيْهَا زَيْتاً وَخَمْراً وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ وَأَتَى بِهِ إِلَى
فُنْدُقٍ وَ
اعْتَنَى بِهِ. وَفِي الْغَدِ
لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ
الْفُنْدُقِ
وَقَالَ لَهُ:
اعْتَنِ بِهِ وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ
فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ. فَأَيُّ هَؤُلاَءِ
الثَّلاَثَةِ
تَرَى صَارَ قَرِيباً لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ
اللُّصُوصِ؟
فَقَالَ:
الَّذِي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ.
فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:
اذْهَبْ
أَنْتَ أَيْضاً وَ
اصْنَعْ هَكَذَا]
[
لوقا 10: 25 37 ].

هنا فجّر يسوع وصية المحبة التى كانت فى العهد القديم، إذ أعطانا
أبعادًا شاسعة وجعلها تتخطى كلّ الحدود.

علمنا أن القريب ليس من هو قريبى، أى من تربطنى به روابط اللحم والدم،
روابط العاطفة أو المصلحة، روابط الرأى الواحد، والمجتمع الواحد.

إنّما قريبى هو من أصير أنا قريبًا منه بمحبتى له.

القريب هو من أقترب أنا منه بالمحبّة.

إننى أصبح قريبا لكل إنسان ويصبح كل إنسان قريبى إذا أحببته، ولو لم
يكن بين هذا الإنسان وبينى أى رابط بشرى.

أكثر من ذلك, إذا كان إنسان ما عدوّى، فمحبتى غير المشروطة له تجعله
قريبا، كما أن المسيح صار قريبًا لى، وقد كنت عدوّه، إذ بذل نفسه عنّى.

 

ه موجهة بصورة خاصة إلى المتألمين:

تلك المحبّة للقريب يجب أن تشمل بنوع خاص البشر المتألمين، الذين هم
بحاجة خاصة إليها.

إن كنّا نحب المسيح فلنا أن نرى فى كلّ معذبى الأرض وجهه الدامى
المكلّل بالشوك وجسده الممزّق وكرامته المداسة من الناس ونفسه الحزينة حتى الموت.

ذلك أن الرب نفسه جعل تلك المطابقة بين المتألمين وبينه، فأقام وحدة
بينه وبين الجائعين والعطاش والعراة والغرباء والمرضى والمسجونين:

[ لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي.
كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً
فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ
] [ متى
25: 35, 36
].

هذا ما سوف يقوله الرب للأبرار فى اليوم الأخير، مضيفا:

[ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ:
الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ
بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ
الأَصَاغِرِ
فَبِي فَعَلْتُمْ
] [ متى 25: 40
].

والصغار هؤلاء هم البؤساء والضعفاء الذين هم بنوع خاص أخوة يسوع إذ لم
يشارك الرب البشر أمجادهم وغناهم بلّ إرتضى أن يشاركهم بؤسهم وفقرهم.

المألمون إمتداد للمسيح المتألم.

ولذلك كان أحد الآباء الروحيين يقول:

{ إن شئتم أن تلمسوا اليوم جراح المسيح كما لمسها توما، فما عليكم إلا
أن تحتكّوا بإنسان بائس
}.

 

لذا, فموقفنا من البائسين لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال موقف
الترفع والتفضل، إنما هو موقف إحترام عميق لهؤلاء الذين، وإن لم يدروا، وإن
جدّفوا، هم فى بشاعة بؤسهم صورة لذاك الذى إرتضى أن يصبح:

[ نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ
صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ ‏فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ.
مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ اَلنَّاسِ رَجُلُ ‏أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ اَلْحُزْنِ
وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ

] [
أشعياء 53: 2, 3 ].

 

يُروى عن القديس يوحنا الذى كان بطريركا للإسكندرية أوئل القرن السابع
ودُعى ” يوحنا الرحوم”، أنه عندما استلم مسئوليته البطريركية طلب من
أعوانه أن يضعوا له لائحة بأسماء ” سادته”.

وعندما سألوه مستغربين من عسى يكون هؤلاء السادة؟.

أجابهم بأنهم فقراء الإسكندرية.

هذا هو الموقف المسيحى الأصيل.

 

ولكن محبّة البؤساء والمحرومين لا يمكن أن تتخذ طابع العمل الفردى
وحسب، لأنها عندئذ تكون ناقصة.

محبتنا المسيحية للبائسين تدعونا لرفض كلّ ما يكرّس يؤسهم وحرمانهم فى
الأنظمة الإقتصادية والسياسية والإجتماعية.

تلك المحبة تدعونا للنضال من اجل إقامة مجتمع يؤمن لمعذّبى الأرض
العدالة وشروط حياة كريمة.

هذا ما فهمه عدد متكاثر من المسحيين فى عصرنا الذين فى كلّ أقطار المعمورة
يناضلون من أجل العدالة وكرامة الإنسان، مدفوعين لا بإعتبارات إنسانية وحسب بل
بقناعتهم بأن كل ظلم يلحق بالإنسان إنما هو طعنة للمسيح فى الصميم. كل ما لم
تفعلوه بأحد إخوتى هؤلاء الصغار فبى لم تفعلوا.

أمام الدماء النازفة من جراح محرومى الدنيا، لا يسع المسيحيين إلا أن
يتذكّروا عبارة باسكال الشهيرة:

{ المسيح فى نزاع إلى منتهى الدهر، فكيف يسعنا أن ننام؟
}.

 

* من قيامة المسيح نستمد المقدرة على محبة القريب:

ولكن محبة القريب، كما حددناها، تلك المحبة غير المشروطة التى تتجه
إلى الآخر من أجل ذاته وتبذل ذاتها من أجله، تلك المحبة لا تنسجم مع متطلبات
” الإنسان العتيق” فينا، ذلك اِلإنسان الساقط، أسير الأنا، الذى يَعْتبر
ذاته مركزًا للكون ولا ينظر إلى الآخر إلا كوسيلة لإشباع شهوته أو حاجز دون بلوغ
مأربه.

 

المحبة المسيحية تفرض أن نتخلّق بأخلاق الله وهذا لا يتم لنا إلا
باشتراكنا بقيامة المسيح التى بها نصبح مساهمين فى حياة الله وبالتالى فى أخلاق
الله.

المحبة المسيحية ثمرة القيامة التى نشترك بها كما رأينا بالتوبة
وبالأسرار.

” الإنسان العتيق”، وهو فى كل منا كامن ما حيينا، لا قدرة
له على المحبة المسيحية لأنه بعيد عن الله، فى تفكك وموت.

الحياة الإلهية إذا تدفقت فى كياننا تكوّن فينا إنسانا جديدًا،
مستعيدًا صورة خالقه، وتجعلنا بالتالى قادرين على محبة القريب.

لذا, كتب الرسول يوحنا إلى المسيحيين قائلاً لهم أن المحبة التى تجمع
بينهم هى برهان خروجهم من الموت إلى الحياة، أى برهان مساهمتهم فى قيامة المسيح:

[ إِنَّ مَحَبَّتَنَا لإِخْوَتِنَا تُبَيِّنُ لَنَا أَنَّنَا
انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. فَالَّذِي لاَ يُحِبُّ إِخْوَتَهُ،
فَهُوَ بَاقٍ فِي الْمَوْتِ
] [ 1 يوحنا 3:
14
].

وقد كتب الرسول نفسه أيضًا:

[ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً: لأَنَّ
الْمَحَبَّةَ تَصْدُرُ مِنَ اللهِ. إِذَنْ، كُلُّ مَنْ يُحِبُّ، يَكُونُ
مَوْلُوداً مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ
(بالمعنى
الكتابى: أى متحد بالله)
. أَمَّا مَنْ لاَ يُحِبُّ، فَهُوَ
لَمْ يَتَعَرَّفْ بِاللهِ قَطُّ لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ!
] [ 1
يوحنا 4: 7, 8
].

لذا, تربط الكنيسة بين القيامة ومحبة الناس فتنشد فى خدمة الفصح:

{ اليوم يوم القيامة. فلنقل يا إخوة ونصفح لمبغضينا عن كل شئ فى
القيامة
}، وكانها تذكّرنا بذلك أن إشتراكنا فى القيامة ينبوع محبتنا
للآخرين.

 

ولكن إذا كانت محبة الإخوّة ثمرة إشتراكنا فى القيامة، فمن جهة أخرى،
التمرّس عليها والجهاد من أجل إكتسابها هو مظهر أساسى لذلك المجهود، مجهود التوبة،
الذى به، كما رأينا، نقبل الإشتراك بصليب الرب فنصبح مشتركين فى قيامته.

إن إجهاد تسليم ذواتنا للرب لا ينفصم عن الجهاد فى سبيل محبة القريب:

[ وَنَحْنُ أَنْفُسُنَا اخْتَبَرْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي خَصَّنَا
اللهُ بِهَا، وَوَضَعْنَا ثِقَتَنَا فِيهَا. إِنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ. وَمَنْ
يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي اللهِ، وَاللهُ يَثْبُتُ فِيهِ

] [
1 يوحنا 4: 16 ].

مجمل الكلام أن محبة القريب هى ثمرة القيامة وطريق القيامة فى آن.

 

إن الاعتراف بالآخر شخصا مستقلاً عن أهوائنا ومصالحنا، مهما بحد ذاته،
بعبارة أخرى، الإعتراف به على أنه آخر وليس مجرّد إمتداد لشخصى، هذا الإعتراف الذى
تفرضه المحبة المسيحية، ” جحيم” بالفعل ل ” الإنسان العتيق”
فىّ، إنسان الشهوة، أسير عبادة الذات.

إنه إنسلاخ وموت.

ولكن من قبل أن يجتاز هذا الموت يشترك فى صليب المسيح ويبلغ إلى الله
من خلال إنفتاحه للآخر فتتحقق ” السماء” فى قلبه
.

 

*ملحق:

1 كان يوحنا ذهبى الفم، بطريرك
القسطنطينية (الذى جرّد البطريركية من كل مظاهر الترف وعاش فيها فقيرًا وتوفى سنة
407 فى المنفى لتوبيخه الملوك) يخاطب بجرأة أغنياء عصره، معلنًا إن إهمالهم
للمساكين فى سبيل ترفهم هو إهمال للمسيح نفسه، ومن أقواله:

{ لقد أعطاكم الله سقفا دون المطر لا لترصّعوه ذهبصا فى حين أن الفقير
يموت جوعا. وأعطاكم ملابس لتتستروا لا لتزكشوها بترف فى حين أن المسيح العارى يموت
بردًا. أعطاكم منزلاً لا لتسكنوه وحدكم بل لتستقبلوا فيه الآخرين، والأرض لا
لتددوا مواردها على الجوارى والراقصات والممثلين وعازفى المزمار والقيثارة ولكن
لتسعفوا الجياع والعطاش.}.

{ ماذا ينفع تزيين مائدة المسيح بأوان ذهبية إذا كان هو نفسه سموت
جوعا؟. فأشبعه أولاً حينما يكون جائعا. وتنظر فيما بعد فى أمر تجميل مائدته
بالنوافل. }.

{ فلا تزين الكنائس إن كان ذلك لإهمال أخيك فى الشدّة، هذا الهيكل
أكثر جلالاً من ذاك }.

{ بينما كلبك متخم, يهلك المسيح جوعا }.

إنك تحترم هذا المذبح حينما ينزل إليه جسم المسيح ولكنك تهمل وتبقى
غير مبالٍ حينما يفنى ذاك الذى هو جسم المسيح}.

 

2 ويقول فرانسوا مورياك الحائز على
جائزة نوبل فى الأدب فى محاضرة أمام ثلاثة آلاف شخص بمناسبة أسبوع المفكرين
الكاثوليك، عنوانها: ”
الإقتداء بجلادى المسيح“:

{ أيًا كانت مبرراتنا وأعذارنا، أقول أنه، بعد تسعة عشر قرنًا من
المسيحية، لا يظهر المسيح أبدًا, لجلادى اليوم، فى المعذّب، لا ينكشف الوجه
المقدّس أبدًا فى وجه العربى الذى يهوى عليه مفوض الشرطة بقبضته (وذلك فى نضال
المغاربة لنوال استقلالهم عام 1954 وتعذيبهم من الشرطة الفرنسية) ألا تجدون غريبًا
أن يفكّروا أبدًا بإلههم المقيد بالعمود والمسلّم إلى الجند, أن لا يسمعوا، من
خلال صراخ ضمائرهم وأنينها صوته المعبود يقول: ” بى تفعلونه”. ذلك الصوت
الذى سيدوّى يومًا، ولن يكون عند ذاك متوسلاً, وسيصرخ بنا كلنا نحن الذى قبلنا
وربما لأيدنا هذه الأشياء: ” كنت هتذا الشاب المحب لوطنه والمحارب من أجل
ملكه، كنت هذا الأخ الذى كنت تريد أن ترغمه على خيانة أخيه.”. كيف لا تعطى
هذه النعمة أبدًا لأحد هؤلاء الجلادين المعمّدين؟ كيف لا يلقى جنود الفرقة أحيانًا
سوط الجلد ليركعوا عند أقدام ذاك الذى يجلدونه؟ }.

 

3 ويقول ” ألبير لحام” فى
محاضرة عن ”
العدالة السياسية فى المسيحية
التى نشرت بمجلة ” محاضرات الندوة” بتاريخ 11/12/1966، ص 44:

قلب المسيحية هو الإيمان بأن ابن الله إتخذ فى ذاته آلامنا طوعا
ليحررنا من الآلام. ليست المسيحية، إذًا، كما يقول البعض، ديانة تدعو إلى الخنوع
أمام الألم والظلم.

ليست المسيحية ديانة الألم.

إنما هى ديانة الفداء.

لا قيمة للألم فى نظرنا إلا إذا اقتُبل, كما اقتبله المسيح, محبة
بالله وبالآخرين.

المسيحى, إذا أراد أن يسير فى طريق سيده، لا بدّ له أن يكون مستعدًا
لإحتمال الألم والموت من أجل تحرير المتألمين والمظلومين والمستعبدين، لا بدّ أن
يناضل حتى الدم من أجل العدالة.

هذا ما أوضحه الأستاذ ” ألبير لحام” فى محاضرة ألقاها فى
الندوة اللبنانية ضمن سلسلة محاضرات ”
العدالة فى
المسيحية والإسلام
“. وفيما يلى مقطع منها:

{ فى وسط الجناح المخصص للمسيحية فى متحف الإلحاد فى مدينة لينيجراد
يقوم تمثال كبير للسيد المسيح يرزح تحت وطأة صليب ثقيل. هذا التمثال، يقول لك
الدليل، هو رمز المسيحية التى تدعو الناس إلى حمل الصليب والرضوخ للظلم والقبول
بالألم والإستسلام للطغيان بانتظار حياة الآخرة. هذا التعريف الكاريكاتورى
للمسيحية، كم يذكرنى بقول الرسول بولس:

[ فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ
وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ
]
[
1 كورونثوس 1: 18 ].

فالصليب ليس عنوان الذل والخمول والإستسلام.

بل عنوان المحبة الإلهية الفادية.

والتضامن المطلق مع جميع الناس.

والمشاركة التامة للرازحين تحت الظلم والطغيان.

والمجازفة الجريئة حتى الموت لتحريرهم جميعا.

لأنه، كما تقول الرسالة إلى العبرانيين:

[ فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ
فِي
اللَّحْمِ وَالدَّمِ
اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا،
لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ
الَّذِي
لَهُ سُلْطَانُ
الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ،
وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ
الَّذِينَ
خَوْفاً مِنَ
الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ
تَحْتَ
الْعُبُودِيَّةِ ] [ عبرانيين
2: 14, 15
].

فإذا كان المسيحى يلتزم قضية العدالة السياسية فى مجتمعه، فلأنه يسير
فى خطى ذلك الذى إلتزم بؤسنا وشقاءنا إذ لبس طبيعتنا وخاض معنا، كواحد منا، معركة
الموت والحياة، وفتح لنا بصليبه طريق النصر والرجاء وهو القائل:

[ وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ
وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ
] [ يوحنا 10:
10
].

 

5 الصعود

* الصعود
تتويج لعملية الفداء:

فالمجد الإلهى، كما رأينا، إجتاح إنسانية يسوع لما أسلمت بإرادتها
ذاتها بالكلية على الصليب.

هذا المجد الإلهى نفسه الذى أقام يسوع من بين الأموات كان كفيلاً بأن
يصعده إلى السماء، أى بأن يهب لإنسانيته الإشتراك التام بالحياة الإلهية وبالسيادة
الإلهية على جميع الكائنات.

هكذا دخلت طبيعة يسوع الإنسانية، عندما بلغت الكمال بالصليب، فى ذلك
المجد الإلهى الذى كانت طبيعته الإلهية تتمتع به منذ الأزل.

هذا ما أشار إليه الرب عندما خاطب الآب قبيل ذهابه إلى الآلام قائلاً
له:

[ وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ
أَيُّهَا
الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ اَلَّذِي
كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ
اَلْعَالَمِ
] [
يوحنا 17: 5 ].

هكذا كان إنحدار المسيح بإختياره إلى دركات الموت طريقا لبلوغه ذروة
المجد.

هذا ما أشار إليه الرسول بولس عندما كتب:

[ اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ اَلَّذِي صَعِدَ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ
اَلسَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلأَ اَلْكُلَّ
] [ أفسس
4: 10
].

عندما إبتعد ابن الله بتواضعه الفائق، إلى أبعد حدّ عن أصله الإلهى،
عند ذاك، وبفعل هذا التواضع بالذات، عاد بجسده إلى ذلك الأصل الإلهى.

هذا ما انشده الرسول فى رسالته إلى أهل فيليبى:

[ الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اَللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً
أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ
عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ اَلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي اَلْهَيْئَةِ
كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَوْتَ مَوْتَ اَلصَّلِيبِ.
لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اَللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اِسْماً فَوْقَ كُلِّ اِسْمٍ
لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي اَلسَّمَاءِ وَمَنْ
عَلَى اَلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ اَلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ
يَسُوعَ اَلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اَللهِ اَلآبِ
] [ فيليبى
2: 6 11
].

 

* تلك هى السماء التى صعد إليها يسوع:

تلك هى السماء التى صعد إليها يسوع والذى كان إرتقاؤه فى الفضاء أمام
التلاميذ صورة ورمزًا لها.

إن عددًا من المؤمنين يخلطون بين السماء المادية و” سماء”
الله.

يعتقدون أن الله كائن يقبع فى أجواء الفضاء العليا.

ويشاركهم عدد من غير المؤمنين هتذا التفكير.

هكذا صرّح رائد الفضاء ” تيتوف” أن الله غير موجود لأنه لم
يجده أثناء رحلته الفضائية.

هذا تصوّر صبيانى لا يليق بالعقل الإنسانى ولا بطبيعة الله.

فالله ليس قابعا فى أجواء الفضاء الخارجى العليا، إنه كائن لا يحدّه
مكان وهو حاضر بمعرفته وقدرته وحبه وعنايته فى كل مكان.

إنما الإنسان لكونه كائنا حسيًا ومحدودًا، لا يستطيع أن يعبّر عن الله
إلا بصورة حسية، ناقصة.

 السماء المادية تعلو عن الارض، لذلك إتّخَذَت فى كل الأديان
صورة عن تعالى الله.

عبارة ” سماء” نفسها مستقاة من ” سما” التى تعنى
” علا”.

السماء المادية رمز إذًا لتعالى الله.

هذا ما عبّر عنه أشعياء النبى عندما كتب:

[‏ لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ
وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي يَقُولُ اَلرَّبُّ. لأَنَّهُ ‏كَمَا عَلَتِ
اَلسَّمَاوَاتُ عَنِ اَلأَرْضِ هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ
‏وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ
] [ أشعياء 55:
8, 9
].

صعود المسيح إلى السماء يعنى، إذًا، إشتراك إنسانيته فى تعالى الله،
فى حياة الله، فى مجد الله، فى سيادة الله.

 

* لكن يسوع صعد إلى السماء ليصعد البشرية معه:

نزعة الإنسان العميقة هى أن يبلغ إلى السماء, أى إلى الإشتراك فى
الحياة الإلهية.

هذا المعنى العميق لحنينه إلى القدرة والمعرفة والعدالة والحبّ
والسعادة والخلود.

ولكنه يطمع أن يبلغ السماء بفعله الذاتى.

فأتباع الديانات الوثنية كانوا ولا يزالون يعتقدون أن الإنسان يستطيع
أن يبلغ إلى عالم الإلوهة بواسطة طقوس يقيمها أو تقشفات ينصرف إليها.

كذلك نرى الكثيرين من البشر فى عالمنا الحديث يحلمون بتأليه الإنسانية
بوسائل بشرية بحتة كالإختراعات العلمية والأنظمة الإجتماعية.

تجاه تلك المواقف تعلن المسيحية أن الإنسان لا يستطيع بفعله الذاتى أن
يتخلّص من حدوده ويبلغ إلى التأليه، إنه لا يسعه بمجرّد مبادرته الذاتية أن يتحرّر
جذريا من الشقاء والخطيئة والعزلة والموت.

السماء لا تقتحم إقحاما إنما تنحدر إلينا هبة مجانية.

لم يكن بإستطاعة الإنسان أن يبلغ إلى الله لو لم ينحدر الله إلى
الإنسان ليرفعه إليه.

هذا ما عبّر عنه الرب يسوع عندما قال لنيقوديموس:

[ وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ

] [
يوحنا 3: 13 ].

 

طريق السماء أى الحياة الإلهية بما تتضمنه من إنتصار نهائى على
الخطيئة والشقاء والعزلة والموت، إنما فتحه لنا المسيح عندما عاد بالجسد إلى مجده
الذى كان له منذ الأزل.

بصعوده دشّن صعودنا نحن.

هذا معنى صلاته إلى الآب قبل الآلام:

[ أَيُّهَا اَلآبُ
أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ
اَلَّذِينَ
أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لِيَنْظُرُوا مَجْدِي
اَلَّذِي
أَعْطَيْتَنِي لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قََبْلَ إِِنْشَاءِ
اَلْعَالَمِ
] [
يوحنا 17: 24 ].

بصعود الرب يسوع المسيح بدأ تأليهنا نحن:

[ اَللهُ الَّذِي
هُوَ غَنِيٌّ فِي
الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ
مَحَبَّتِهِ
الْكَثِيرَةِ الَّتِي
أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ
الْمَسِيحِ
بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ
وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي
السَّمَاوِيَّاتِ
فِي
الْمَسِيحِ يَسُوعَ ] [ أفسس
2: 4 6
].

 

* لقد فتح لنا يسوع بصعوده طريق السماء:

أى طريق الإشتراك فى الحياة الإلهية.

بقى علينا أن نسلك هذه الطريق.

ولكن طريقنا لا يمكن أن تكون غير طريق يسوع.

وطريق يسوع إلى القيامة ثم إلى الصعود كانت طريق الإنسلاخ المعطاء.

طريق نكران الذات فى إتجاه محب إلى الله والناس.

لذا من أراد الإشتراك فى الصعود وجب عليه أن ينسلخ، بجهاد هو عملية
الحياة كلها، عن التمتع الأنانى بخيرات الدنيا، كى يتجه، مع المسيح وبمؤازرة
نعمته، إلى فوق، أى إلى تلك الشركة مع الله التى أعدّت لنا.

هذا ما علمنا إياه الرسول بولس عندما كتب إلى أهل كولوسى:

[ فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ
فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ
الْمَسِيحُ
جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ
اللهِ.
اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى اَلأَرْضِ، لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ
وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ اَلْمَسِيحِ فِي اَللهِ
] [ كولوسى
3: 1 3
].

 

* الصعود لا يعنى إذًا هروبًا من الأرض وواجباتها:

ولكن عبارة الرسول: [ اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا
عَلَى اَلأَرْضِ
] لا تعنى، كما يعتقد البعض، أنه ينبغى
للمسيحيين أن يهملوا الأرض، أن يتركوها وشأنها.

هذا التفسير بالطبع مرفوض لأنه ينافى محبة القريب التى بدونها، كما
رأينا، لا يمكننا أن نقترب من الله.

محبة الإخوة تفرض أن نهتم بشئونهم ليس الروحية وحسب بل الأرضية أيضًا
(كما أشبع المسيح الجياع وشفى المرضى)، أن نعالج إذًا من أجلهم شئون الدنيا
(بالعمل والعلم والنضال الإجتماعى مثلاً).

عبارة الرسول تعنى إذًا أن نعرض عن التمتع الأنانى، النهم بخيرات
الأرض.

من إنشغل بهذا التمتع تغرّب عن الله وعن الآخرين لأنه غارق فى شهوته.

أما المسيحى الذى يكافح أنانية الشهوة فإنه بمشاركته صليب الرب، يساهم
فى صعوده، وإذ ينال هكذا الحياة الإلهية لا يصبح غريبًا عن الناس وهمومهم بل
قريبًا منهم كل القرب بتلك المحبة التى فيه، المستمدة من محبة الله لخلائقه.

 

الصعود لا يعنى إذًا هروبا من الأرض وواجباتها ومشاكلها وآلامها.

هذا الهروب، أيًا كانت مبرراته، يدل بالعكس على أننا لم نصعد بعد، على
أننا لا نزال أسرى ” الإنسان العتيق” فينا يؤلّه راحته وطمأنينته.

الصعود هو بالعكس إلتزام كلّى لكلّ قضايا الإنسان فى الأرض.

إنه حضور كله حب وبذل.

ذلك أن السماء، كما سبق فقلنا، ليست فوق الغيوم ولكنها، فى صميم
كياننا، إشتراك، منذ الآن، فى حياة الله.

لقد قال الرب يسوع:

[ وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا هَهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ لأَنْ هَا
مَلَكُوتُ
اللهِ دَاخِلَكُمْ ] [ لوقا:
17: 21
].

وملكوت الله هو الحياة الإلهية، هو بعبارة أخرى السماء.

إذًا, المسيحى الحقيقى يصعد إلى السماء دون أن يترك الأرض، إنه يعيش
على الأرض سماويًا أى مشتركا فى حياة الله إلى أن تكتمل فيه فى اليوم الأخير.

هذا ما عبّر عنه الرب يسوع عندما قال عن تلاميذه، مخاطبًا الآب:

[ وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي اَلْعَالَمِ
وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَهُمْ فِي
اَلْعَالَمِ
وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا
الآبُ اَلْقُدُّوسُ
اِحْفَظْهُمْ فِي اِسْمِكَ.
اِلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً
كَمَا نَحْنُ.

أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلاَمَكَ وَاَلْعَالَمُ
أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ
اَلْعَالَمِ
كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ
اَلْعَالَمِ

لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ اَلْعَالَمِ
بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ
اَلشِّرِّيرِ
] [
يوحنا 17: 11, 14, 15 ].

المؤمن المشترك فى صعود ربه يتخلّق بأخلاق الله:

[ اَلدِّيَانَةُ اَلطَّاهِرَةُ اَلنَّقِيَّةُ عِنْدَ اَللَّهِ اَلآبِ
هِيَ هَذِهِ: اِفْتِقَادُ اَلْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ
اَلإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ اَلْعَالَمِ
] [ يعقوب
1: 27 ].

ولكن الحياة الإلهية الكامنة فيه هى فى جوهرها حبّ وعطاء، لذلك لا
يسعها إلا أن تنسكب وتنبت فيما حولها، ناشرة فى الأرض عدلاً وسلاما وفرحا وإخاء.

هكذا يُشعّ الملكوت من المؤمنين ليحوّل الأرض كما تُخمّر خميرة صغيرة
العجين كله:

[ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ
خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا
امْرَأَةٌ
وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى
اخْتَمَرَ
الْجَمِيعُ ] [ متى
13: 33 ].

بهذا المعنى دعا الرب يسوع المؤمنين به:

[ مِلْحَ اَلأرْضِ ] [ متى 5: 13
].

الملح يختلف عن الطعام ولكنه يختلط بالطعام إختلاطا صميميًا ليطعمه
كله.

هكذا يحمل المؤمن فى ذاته حياة الله التى تفق العالم ولكنه يبثها فى
كل مرافق الوجود الأرضى، فى الحياة العائلية والمهنية والإجتماعية والسياسية.

حبّه للناس وإشتياقه إلى رؤية الملكوت قد تحقق تماما يدفعانه إلى رسم
صورته فى الكون.

لذلك، لا يسعه إلا أن يجاهد من أجل كل حق وخير الأرض، من أجل العدل
والسلام والإخاء بين البشر، من أجل كرامة كلّ إنسان ونمو شخصيته، من أجل تقهقر
الشقاء والألم والمرض والموت.

 

* ولكن المسيحى يعلم أن تحوّله هو وتحوّل الكون لم يكتملا إلا عند
المجئ الثانى فى نهاية الأزمنة:

بصعود المسيح ألقى نور الله فى صميم الدنيا وبدأت الأرض تتحوّل إلى
سماء، ولكن فى نهاية الأزمنة:

[ وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ
النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي
تَفْعَلُونَ حَسَناً إِنِ
انْتَبَهْتُمْ
إِلَيْهَا كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ
يَنْفَجِرَ
النَّهَارُ وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ
فِي قُلُوبِكُمْ
] [ 2 بطرس 1: 19
].

ويجدّد الكون:

[ وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ الْكُلُّ فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ
أَيْضاً سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ
فِي الْكُلِّ
] [ 1 كورونثوس 15: 28 ].

صعود الرب إذًا مقدمة لمجيئه الثانى الظافر كما يتضح من الحادثة
نفسها:

[ اَلْكَلاَمُ الأَوَّلُ أَنْشَأْتُهُ يَا ثَاوُفِيلُسُ عَنْ جَمِيعِ
مَا ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَفْعَلُهُ ‏وَيُعَلِّمُ بِهِ. إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي
ارْتَفَعَ فِيهِ بَعْدَ مَا أَوْصَى بِالرُّوحِ الْقُدُسِ ‏الرُّسُلَ الَّذِينَ
اخْتَارَهُمْ. اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضاً نَفْسَهُ حَيّاً بِبَرَاهِينَ
كَثِيرَةٍ ‏بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْماً
وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ ‏الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ. وَفِيمَا هُوَ
مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ ‏يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ بَلْ
يَنْتَظِرُوا { مَوْعِدَ الآبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي‏‏، لأَنَّ يُوحَنَّا
عَمَّدَ بِالْمَاءِ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ
لَيْسَ ‏بَعْدَ هَذِهِ الأَيَّامِ بِكَثِيرٍ}. أَمَّا هُمُ الْمُجْتَمِعُونَ
فَسَأَلُوهُ: { يَا رَبُّ هَلْ فِي ‏هَذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى
إِسْرَائِيلَ؟ } فَقَالَ لَهُمْ: { لَيْسَ لَكُمْ أَنْ ‏تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ
وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ. لَكِنَّكُمْ
‏سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ
لِي شُهُوداً فِي ‏أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ
وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ }. وَلَمَّا ‏قَالَ هَذَا اِرْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا ‏كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى
اَلسَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ ‏بِلِبَاسٍ
أَبْيَضَ. وَقَالاَ: { أَيُّهَا اَلرِّجَالُ اَلْجَلِيلِيُّونَ مَا بَالُكُمْ
وَاقِفِينَ ‏تَنْظُرُونَ إِلَى اَلسَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا اَلَّذِي
اِرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى اَلسَّمَاءِ ‏سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ
مُنْطَلِقاً إِلَى اَلسَّمَاءِ}‏
] [ أعمال الرسل
1: 1 11
].

لذا ينتظر المؤمن هذا الكون الجديد:

[ وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً
وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا اَلْبِرُّ
] [ 2
بطرس 3: 13
].

هذا الكون الذى وصفه يوحنا الرسول فى سفر الرؤيا قائلاً:

[ وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ اَلْمَدِينَةَ اَلْمُقَدَّسَةَ
أُورُشَلِيمَ اَلْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اَللهِ
مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا.

وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ اَلسَّمَاءِ قَائِلاً: ”
هُوَذَا مَسْكَنُ اَللهِ مَعَ اَلنَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ
يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً. وَاَللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلَهاً
لَهُمْ.وَسَيَمْسَحُ اَللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَاَلْمَوْتُ لاَ
يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا
بَعْدُ، لأَنَّ اَلأُمُورَ اَلأُولَى قَدْ مَضَتْ”.

وَقَالَ اَلْجَالِسُ عَلَى اَلْعَرْشِ: “هَا أَنَا أَصْنَعُ
كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً “. وَقَالَ لِيَ: ” اكْتُبْ، فَإِنَّ هَذِهِ
اَلأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ “
] [ رؤيا
21: 2 5
].

تلك الأرض المتجدّدة التى أصبحت سماء حضور الله الكامل فيها هى موطننا
الحقيقى.

بهذا المعنى ورد فى الرسالة إلى العبرانيين:

[ لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ
الْعَتِيدَةَ
] [ عبرانيين 13: 14 ].

وفى الرسالة إلى أهل فيليبى:

[ فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ، اَلَّتِي
مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ اَلرَّبُّ يَسُوعُ اَلْمَسِيحُ،
الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ
مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ اِسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ

] [
فيليبى 3: 20, 21 ].

 

* ولكننا ندخل هذا الكون المتجدد منذ الآن:

بهذا المعنى قال الرب يسوع:

[ وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ
الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ
مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ
] [ يوحنا 4: 23
].

التجديد سيكتمل فى اليوم الأخير ولكنه منذ الآن قد بدأ.

ينبغى أن ندخل فيه منذ الآن حتى يتحقق فينا كاملاً عند مجئ الرب
الثانى.

المسيحى لا ينتظر مجئ يوم الرب وحسب ولكنه:

[ مُنْتَظِرِينَ وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ،
الَّذِي بِهِ تَنْحَلُّ السَّمَاوَاتُ مُلْتَهِبَةً، وَاَلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً
تَذُوبُ.

وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً
وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا اَلْبِرُّ.

لِذَلِكَ أَيُّهَا اَلأَحِبَّاءُ، إِذْ أَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ
هَذِهِ، اِجْتَهِدُوا لِتُوجَدُوا عِنْدَهُ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ عَيْبٍ، فِي
سَلاَمٍ.

وَاحْسِبُوا أَنَاةَ رَبِّنَا خَلاَصاً، كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ
أَخُونَا اَلْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضاً بِحَسَبِ اَلْحِكْمَةِ اَلْمُعْطَاةِ لَهُ

] [
2بطرس 3: 12 15 ].

أى أنه يبدأ بتحقيقه، بنعمة الرب، فيه وحوله، مستنزلاً على الأرض بعض
أيام السماء.

وفى جهاده، المرير أحيانًا، من أجل الحق والخير والفرح فى الأرض، يشعر
بثقة لا تعادلها ثقة لأنه يعلم أن جهوده لن تضيع وأن الشر والموت سيقهران نهائيًا
بنعمة الإله الذى تجسّد وصلب وقام وصعد إلى السماء ليحرر الإنسان من الخطيئة.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى