علم المسيح

خميس البصخة (14 من نيسان حسب التقويم العبرى)



خميس البصخة (14 من نيسان حسب التقويم العبرى)

خميس
البصخة (14 من نيسان حسب التقويم العبرى)

فى
هذا اليوم تمم السيد المسيح له المجد آخر فصح له فى حياته على الأرض حسب الجسد..
وقد كان مخضعا ذاته منذ ولادته لجميع أنواع الفرائض والشرائع والطقوس اليهودية مع
إنه غير محتاج إلى ممارستها، وفى هذا اليوم أتم الفصح الذى كان يرمز إليه وإلى
ذبيحته على الصليب.. هذا الفصح كما كان هو الفصح الأخير فى حياة السيد المسيح على
الأرض.. كان كذلك الفصح الأخير الذى يجب على اليهود أن يتمموه، إذ جاء الفصح
الحقيقى الرب يسوع ذبيحتنا الكاملة، وبعدما تمم الفصح خرج يهوذا لينفذ الشر الذى
أنتواه فى قلبه، وقد غسل الرب أرجل تلاميذه.. وأسس سر التناول..، قدم جسده ودمه
الأقدسين للتلاميذ وأوصاهم بأن يكون صنع هذا السر وممارسته هو محور حياتهم الروحية
ومحور اجتماعاتهم إلى أن يجىء ثانية فى مجيئه الثانى للدينونة، وخاطبهم فى حديث
روحى طويل بدأه فى العلية واستمر فى الطريق إلى بستان جثسيمانى.. واستمر أيضا فى
البستان، ثم صلى صلاته المؤثرة فى البستان، وفى نهاية اليوم عند منتصف الليل
تقريبا أسلم ذاته إلى أيدى الذين أتوا ليقبضوا عليه.

 

الأعداد
للفصح:

مقالات ذات صلة

خرج
السيد المسيح ومعه تلاميذه من قرية بيت عنيا قاصدا أورشليم ليصنع الفصح فيها..
وعبر مع تلاميذه وادى قدرون.. وكانت أورشليم مكتظة باليهود القادمين إليها من جهات
متفرقة ليعيدوا فيها، وكان الزحام فى هذه السنة شديدا لأن الجميع كانوا يتوقعون أن
يعلن لهم (يسوع الناصرى) ذاته معلنا أنه المسيح المنتظر، وكذلك لأن هذه السنة كانت
سنة اليوبيل، عبر السيد المسيح وادى قدرون الذى الذى كان مضروبا فيه الآف الخيام
لكى تستوعب من لم تستوعبهم المدينة، مر فى طرقات المدينة التى كانت قد غسلت هى
ومبانى المدينة غسيلها السنوى، كما أن القبور خارج المدينة كان قد أعيد طلاؤها
باللون الأبيض، أما الهيكل فقد كان يتم تنظيفه بإستمرار.

 

ولدى
دخول السيد المسيح المدينة سأله التلاميذ أين يريد أن يأكل الفصح؟

لم
يفصح لهم السيد المسيح عن المكان ولكنه أعطاهم علامة الرجل حامل الجرة، وهى علامة
تعتبر علامة مميزة وكافية، لأن حمل الجرار كانت تقوم به السيدات، لم يرد ان يعرف
يهوذا المكان حتى يستطيع ان يتمم الفصح فى هدوء، وكذلك يؤسس سر الأفخارستيا، وكان
يريد أن يتم القبض عليه فى البستان بعيدا عن المدينة فى هدوء لكى لا يحدث شغب فى
المدينة، وكذلك لأن سقوط الأنسان كان فى بستان أراد الرب أن يبدأ خلاص الأنسان من
البستان، وأيضا لكى يقدم ليهوذا الأسخريوطى محاولة أخرى لخلاص نفسه إذ قد يذكره
المكان (حين يأتى للقبض على السيد المسيح) بليالى الصلاة التى كان يسهرها مع السيد
المسيح والتلاميذ.

 

كم
كان مؤلما على نفس السيد المسيح وهو يمر فى شوارع المدينة الحبيبة إلى قلبه..
مدينة الملك العظيم التى توشك أن تتنكر لمن جاء لإفتقادها وتسلمه إلى الموت.. موت
الصليب.

 

ذهب
بطرس ويوحنا ووجدا كما قال لهما السيد المسيح وأعدا الفصح.. وقد كان الرجل حامل
الجرة هو مارمرقس كاروز ديارنا المصرية، والمكان الذى أعد فيه الفصح هو بيته الذى
صار أول كنيسة يقام فيها سر الأفخارستيا.

(مت
26: 17- 19)، (مر 14: 12- 16)، (لو 22: 7- 13).

 

يلاحظ
أن اليهود قد أكلوا الفصح فى مساء يوم الجمعة، وكان يوم السبت هو أول أيام الفطير،
وهذا واضح مما كتب فى البشائر الأربعة حول أحداث محاكمة السيد المسيح وصلبه.. مع
ملاحظة أن اليوم اليهودى بحسب الشرع يبدأ من الغروب وينتهى قبل الغروب التالى،
ولهذه التوقيتات أهمية كبيرة عند دراسة أحداث الفصح والمحاكمة والصلب.. ألخ.

 

ففى
انجيل معلمنا لوقا البشير يقول: وجاء يوم الفطير الذى كان ينبغى أن يذبح فيه
الفصح. (لو 22: 7).. وواضح من مضمون هذا الكلام أن يوم الفطير عند اليهود قد تأجل،
لماذا؟

 

وفى
يوحنا 18: 28 يقول البشير (ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية وكان
صبح..

 

 (أى
صبح يوم الجمعة الذى تمت فيه المحاكمة..الخ) ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية لكى لا
يتنجسوا فيأكلون الفصح).. وذلك لأن من يأكل الفصح يجب أن يكون طاهرا عد 8: 6 – 11
ومعنى ذلك أنه حتى صباح الجمعة لم يكونوا أكلوا الفصح بل كانوا يستعدون له محترسين
لكى لا يتنجسوا بالدخول إلى دار الولاية الوثنية ليمكنهم أكل الفصح طاهرين فى غروب
اليوم نفسه.

 

وفى
يوحنا 19: 13، 14 يقول (فلما سمع بيلاطس هذا القول أخرج يسوع وجلس على كرسى
الولاية.. وكان استعداد للفصح، ونحو الساعة السادسة (أى الظهر) فقال لليهود..
ألخ).

 

ومن
النصوص الواردة فى متى 26: 3 – 5، مر 14: 1، 2.. نفهم أن رؤساء الكهنة والكتبة
وشيوخ الشعب تآمروا على أن تكون محاكمة السيد وصلبه ليس فى يوم عيد الفصح، وعليه
لا يكون يوم الجمعة الذى تمموا فيه مؤامرتهم هو عيد للفصح بل هو استعداد كما ذكر
يوحنا.

 

وفى
يو 19: 31 يقول (ثم إذ كان استعداد فلكى لا تبقى الأجساد على الصليب فى السبت لأن
يوم ذلك السبت كان عظيما سأل اليهود بيلاطس ان تكسر سيقانهم ويرفعوا) ومن هذا نفهم
أن الفصح كان يوم السبت الذى يبدأ من مساء الجمعة.

 

نفهم
أيضا من مسألة مشترى حقل الفخارى متى 27: 3 – 7، ومشترى الكتان مر 15: 26، ولو 23:
53، وتسخير سمعان لحمل الصليب بعد رجوعه من عمله بالحقل متى 27: 32 ومر 15: 21،
ولو 23: 26 وذلك لأنه لوكان يوم الجمعة هو عيد الفصح لما جاز فيه العمل والبيع
والشراء..الخ.

 

أما
إذا قيل كيف جاز للسيد المسيح أن يصنع الفصح اليهودى قبل ميعاده الذى عينته
الشريعة؟ فنجيب عليه: حاشا للسيد أن يخلف مواعيد الشريعة التى هو ربها. وإنما
رؤساء اليهود هم الذين اتفقوا فيما بينهم على تأخير الفصح عن ميعاده القانونى حتى
يتمكنوا من محاكمة السيد وقتله قبل حلول العيد لئلا يكون هناك شغب فى الشعب متى
26: 3 – 5

 

إن
يوسيفوس المؤرخ اليهودى يقول أن سيدنا أكل الفصح فى تلك السنة ليلة الجمعة فى
الميعاد. أما اليهود فأخروه إلى ليلة السبت بسبب إئتمارهم على صلبه.

 

والخلاصة
من كل هذا أن السيد اكل الفصح اليهودى فى ميعاده القانونى حسب الشريعة واليهود هم
الذين أخروه لثانى يوم لسبب فى أنفسهم.

 

والآن
نقول ما أحكم وأدق صنع ربنا له المجد فى سائر تصرفاته ومواعيده فإن خروف الفصح
اليهودى وهو يرمز لسر جسده ودمه وسر صلبه المجيد. كانت تقضى الشريعة أن يشتريه
اليهود فى اليوم العاشر من الشهر ويحفظونه حتى اليوم الرابع عشر منه ويذبحونه فى
مساء ذلك اليوم بين العشائين أى بين المغرب والعتمة خر 12: 3، 6 هكذا ربنا جاء إلى
أورشليم فى العاشر من الشهر يوم أحد الشعانين وقبله أهلها مخلصا لهم، وبقى فيها
وفيما جاورها من القرى إلى يوم الخميس الرابع عشر من الشهر. وفى الميعاد الناموسى
أى بعد غروب الخميس قدم خروف الفصح هو وتلاميذه وحدهم كأنما ذلك بحالة سرية وخفية
عن مجموع الأمة اليهودية. وبتقديمه إياه ختم لشريعة اليهودية شريعة الظل والرمز
الآخذة فى الأختفاء عب 8: 13 وشرع حالا فى شريعة النور والحق الآخذه فى الأستقرار
والظهور عب 9: 8 – 23 فضحى بجسده ودمه بوجه سرى وغيرمنطوق بعظمته مسلما إياه
لتلاميذه الأطهار تحت شكل الخبز المختمر والخمر الممزوج بالماء فى سر الأفخارستيا
المجيد، حيث كان لا بد للضحية التى أشارت إليها الطقوس اليهودية الأحقاب الطويلة
أى جسده ودمه من أن تقدم وتضحى فى ميعادها الشرعى تماما. لأنه مهما كان شر البشر
وتلاعبهم بمواعيده فإن ذلك لا يعيقه عن إتمام إرادته المقدسة فى ميعادها بكل
إحكام. فما أدق وأرهب هذا التوافق العجيب؟! بل لنتأمل أيضا كيف أنه فى الميعاد
الذى كان اليهود يستعدون فيه لذبح خروف الفصح علنا وجهرا، كانوا هم أيضا يقتلون
المرموز إليه بذلك الخروف.. معلقا على الصليب جهرا وعلنا. وكما لم يكسروا عظم ذاك
لم يكسروا عظم هذا أيضا وفى نهاية ذلك النهار عينه..

 

(الجمعة)
كما ذبحوا الخروف كذلك يسوع أسلم الروح فى يدى الآب وبعدها طعنوه بالحربة فخرج منه
دم وماء ودفنوه فى قبر جديد فى نفس المساء مت 27: 57 حينما كانوا يدفنون خروف
الفصح فى بطونهم.

 

الفصح
الأخير:

ذهب
السيد المسيح إلى بيت مارمرقس حيث كان الفصح معدا، وقد كان خروف الفصح يأكلونه
سابقا وهم واقفين.. ولكن فى هذا الوقت كانت قد أدخلت عليه بعض التعديلات ومنها
أنهم كانوا يأكلونه متكئين، ونجد هنا السيد المسيح قد إتكأ وعلى يمينه يوحنا
الحبيب.. وعن يساره يهوذا الأسخريوطى، ربما رتب السيد المسيح إتكاءهم بهذا الترتيب
ليكون السيد المسيح وهو فى وضع الأتكاء قريبا من يهوذا، لكى يستطيع السيد المسيح
أن يحادث يهوذا همسا ولا يدينه علانية أمام باقى التلاميذ، وأيضا لكى يتم المكتوب
” آكل خبزى رفع على عقبه ” (لمزمور 41: 9) إذ كان يأكل من نفس الطبق مع
السيد المسيح..

 

دعا
السيد المسيح هذا الفصح فصحه وأنبأ التلاميذ أن هذا هو الفصح الأخير الذى يأكله
معهم وأنه بتمامه يصير وفاؤه وانقضاؤه، ثم يدخل معهم فى عهد جديد بدمه وهذا هو
ملكوت الله.. ثم أخذ الكأس الأولى (من أربعة كئوس كانت تشرب مع الفصح) بإعتباره رب
الأسرة وقال إن هذه هى آخر مرة يشرب فيها الخمر الأرضية كجزء من ممارسات العهد
القديم..

 

تحذيرات
ليهوذا:

صرح
السيد المسيح لتلاميذه أن أحدهم سيسلمه.. فابتدأ كل واحد منهم يحزن فى داخله ويشك
فى نفسه، وتحول هذا الشك إلى سؤال للرب: هل أنا هو يارب؟.. فأشار إلسيد المسيح مرة
أخرى لما جاء فى المزامير: ” إن الذى يغمس يده معى فى الصحفة هو الذى سيسلمنى
” ولكى يكمل تحذيره ليهوذا أكمل السيد المسيح ” إن ابن الأنسان ذاهب كما
هو مكتوب عنه، ولكن الويل لذلك الرجل الذى بواسطته يسلم ابن الأنسان. كان خيرا
لذلك الرجل لو لم يولد “. هنا السيد المسيح يستعمل لقبا لاهوتيا وهو لقب
” ابن الأنسان ” سبق أن استعمله من قبل، وورد أيضا فى نبوات دانيال
النبى: ” كنت أرى فى رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن انسان أتى وجاء
إلى القديم الأيام فقربوه قدامه، فأعطى سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب
والأمم والألسنة. سلطانه ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض ” (دانيال 7: 13،
14) بل وحذر يهوذا فى كلام صريح من النهاية المحتمة التى تنتظره إن ظل مصرا على
شره.

 

وللعجب
أن يهوذا يسأل السيد المسيح مثلما سأله باقى التلاميذ ” هل أنا هو يا معلم
” مما جعل السيد المسيح يجيبه بصراحة وقال له: ” نعم أنت هو “.

 

السيد
المسيح استخدم نفس الكلمات التى تحدث بها داود النبى عن أخيتوفل الجيلونى الذى كان
مشيرا له وكان يأكل على مائدته، ثم خانه وانضم إلى ابشالوم فى تمرده على أبيه
داود، وكانت نهايته بأن مضى وخنق نفسه ومات (2- صموئيل 15، 16، 17) وكان التحذير
واضحا.. ولكن يهوذا كان قد أغلق قلبه.

 

وفى
محاولة أخرى للسيد المسيح مع يهوذا بعدما رد على سؤاله أخذ لقمة وغمسها فى الصحفة
التى أمامهم، وقدم اللقمة إلى يهوذا وقال مكملا حديثه معه فى تأكيد واضح ”
إنه هو الذى سأعطيه اللقمة التى أغمسها “.

 

يقول
الأنجيل للقديس يوحنا أنه بعد اللقمة إذ لم تجد معه كل تحذيرات الرب، وترك قلبه
(وهو بكامل إرادته) مفتوحا للشيطان.. إمتلكه الشيطان إمتلاكا. ثم يذكر الأنجيل:
” أما يهوذا فبعد أن أخذ اللقمة خرج على الفور، وكان الوقت ليلا ” مشيرا
فى ذلك ليس إلى التوقيت الزمنى فقط، (إذ أنه من المعروف أن خروف الفصح يؤكل مساءا)
ولكن أيضا إلى حالة الأظلام الروحى التى كان عليها يهوذا ” لأن الذى يمشى فى
الظلام لا يدرى إلى أين يذهب ” (يوحنا 12: 35) – هؤلاء ينابيع لا ماء فيها
وغيوم تسوقها الزوبعة ولهم حفظ ضباب الظلمة ” (2- بط 2: 17)

 

ذهب
يهوذا إلى بيت قيافا مخبرا إياه بوجود السيد المسيح مع تلاميذه فى بيت (مرقس) وأنه
فى الأمكان القبض عليه فى هدوء هناك.

 

(متى
26: 21- 25)، (مر 14: 18 – 21)، (لو 22: 21 – 23)، (يو 13: 18، 21- 30).

 

غسل
الأرجل:

تقوم
الكنيسة المقدسة فى إحتفالها بيوم خميس العهد بإتمام ثلاثة طقوس هى على الترتيب:

1.
صلوات الساعات النهارية للبصخة.

2.
اللقان وغسل الأرجل.

3.
القداس الإلهى (تتميم سر الأفخارستيا).

 

وهذا
الترتيب هو نفس الترتيب الذى راعاه الرب فى هذا اليوم، إذ أنه بعد ما تمم الفصح،
قام عن العشاء وغسل أرجل تلاميذه.. ثم قدم لهم جسده ودمه الأقدسين تحت أعراض الخبز
والخمر.

 

خدمة
غسل الأرجل:

هذه
الخدمة هى إعلان حب إلهى.. يسوع وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم
إلى الآب، أحس بذلك الإحساس الذى يجيش فى قلب كل انسان عندما يشعر أن وقت انحلاله
قد حضر، يحاول أن يعبر بكل وضوح عما يجيش بصدره وقلبه لأحبابه، حين يذكر القديس
يوحنا غسل السيد المسيح لأرجل تلاميذه فإنه يسبقها بعبارة جميلة ومؤثرة عن حب
السيد المسيح اللانهائى لخاصته.. إنه وهو الله لم يستنكف أن يقوم عن العشاء ويغسل
أرجل تلاميذه فى درس عملى عن المفهوم الحقيقى للعظمة.. السيد المسيح أحب خاصته، وأظهر
لهم حبه اللانهائى، إن حب السيد المسيح لخاصته لم ينقص فى أى فترة وفى أى ظرف،
ولكن الرب اتخذ من هذه المناسبة فرصة لإظهار أقصى حدود محبته فقد أحبهم إلى غاية
الحب.

 

لم
يكن اتضاع الرب منافيا مع شعوره بعظمته وقدرته وسلطانه وأن كل هذه الأمور لم تكن
عقبة فى إعلان حبه واتضاعه إلى المنتهى بل زادته اتضاعا وحبا لخاصته.

 

أراد
الرب بحبه واتضاعه أن ينزع الكبرياء من نفوس تلاميذه، ونحن أيضا:

 

كانت
بين التلاميذ مشاجرة من منهم يكون الأكبر؟ فقال لهم يسوع ملوك الأمم يسودونهم
والمتسلطون عليهم يدعون محسنين، وأما أنتم فليس هكذا بل الكبير فيكم ليكن الأصغر
والمتقدم كالخادم لأن من هو أكبر الذى يتكىء أم الذى يخدم أليس الذى يتكىء ولكنى
أنا بينكم كالذى يخدم..!

 

فقام
عن العشاء: ولا شك أن التلاميذ تفرسوا فيه عندما قام عن العشاء ماذا يفعل، وإذ به
(يخلع ملابسه) الخارجية وفيها ذلك الثوب المنسوج كله بغير خياطة وغالبا هذه هى
الثياب عينها التى اقتسمها الجنود عند الصليب.

 

وأخذ
منشفة: هذا هو المنديل الذى كان يلبسه العبيد والخدم والحشم عند قيامهم بخدمة
أسيادهم.. فياله من منظر رائع بهر التلاميذ ويوحنا الذى يصفه لنا بكل دقة ووضوح،
وإتزر بها كما يتمنطق العبد الواقف عند خدمة سيده، هل خزى التلاميذ بعدما ألقوا
على بعضهم هذا السؤال من هو العظيم بينهم لأن الرب أراد أن يقوم بهذه الخدمة
الجليلة لتلاميذه القديسين فقام بها على أكمل وجه وصورة.

 

المسيح
يغسل أرجلهم:

ثم
صب ماء وأبتدأ يغسل أرجلهم ويمسحها بالمنشفة، كان ممكن للرب أن يغسل الأرجل ويكلف
أحدهم بمسحها أو يعاونه فى هذه الخدمة أو فى بعضها إلا أنه رضى أن يقوم هو وحده
بكل أركانها حتى متى جاء الوقت المبارك على الصليب يقول لله الآب كل ما أمرتنى به
عملته فلا يدعى إنسان ولا يبقى لأى أحد مجال أن يدعى أنه كانت له يد فيما عمل
السيد المسيح فقال على الصليب ” قد أكمل “.

 

إن
الماء يرمز إلى النقاوة والتطهير، ويرمز إلى الحياة، ويرمز إلى عمل الروح القدس أو
إلى الروح القدس نفسه.

 

قام
السيد المسيح عن المائدة وخلع رداءه وأتزر بمنشفة، وصب ماء فى المغسل وإبتدأ يغسل
أرجل تلاميذه، إن هذا المنظر لا شك أنه يدهش الأنبياء والملائكة والقديسين فى
السماء، إنه يدهش أبونا ابراهيم لأنه حينما رأى قديما ثلاثة رجال فطلب منهم بحب
وكرم جزيل إن كنت قد وجدت نعمة فى عينك فلا تتجاوز عبدك ليؤخذ قليل ماء واغسلوا
أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة (تك 18: 3).

 

أما
اليوم فالرب بنفسه يتكىء على الأرض ويتزر بالمأزرة ويغسل أرجل تلاميذه القديسين.

 

وأدهش
لوط الذى استقبل الملاكان فى سدوم وقال ميلا إلى بيت عبدكما وبيتا واغسلا أرجلكما
ثم تبكران وتذهبان (تك 19: 2).

 

 وعندما
جاء إلى بطرس الرسول الذى وجد فى هذا العمل إهانة لمعلمه، ولكن حين قال له السيد
المسيح: ” إن لم أغسل رجليك فليس لك معى نصيب ” طلب بطرس أن يغسل السيد
المسيح ليس رجليه فقط بل أيضا يديه ورأسه، رد عليه السيد المسيح ” إن الذى
استحم لا يحتاج إلا إلى أن يغسل قدميه فإنه طاهر كله ” أى أن المؤمن الذى
اغتسل فى المعمودية وصار طاهرا ولكن بحكم حياته فى العالم فإنه يحتاج فقط إلى
التوبة عن الخطايا والسهوات

 

قام
السيد المسيح عن العشاء، خلع ثيابه، أخذ منشفة إتزر بها، ثم صب ماء فى مغسل وابتدأ
يغسل أرجل التلاميذ، ويمسحها بالمنشفة.

 

هذه
الخطوات السبع التى خطاها الرب يسوع فى غسل أرجل تلاميذه القديسين إنما تحمل بين
طياتها وثناياها رمزا ضمنيا إلى الخطوات الخالدة التى اتخذها الفادى فى تنفيذه
تدبير الفداء العجيب للبشرية كلها:


فقيامه عن العشاء يرمز إلى تركه أمجاد السماء،


وخلع ملابسه يشير إلى إخلاء نفسه،


وأخذه المنشفة يشير إلى تجسده فى جسم بشريتنا،


وإتزاره بالمنشفة يرمز إلى أخذه صورة العبد،


وصبه الماء فى المغسل يرمز إلى بذل دمه الثمين لأجلنا،


وغسله أرجل تلاميذه يكنى به عن تطهيره للعالم بالمعمودية،


ومسحه أرجلهم كناية عن تقديس العالم بسر الميرون المقدس.

 

بركات
عجيبة فى سر غسل أرجل التلاميذ إنما يشير إلى كل هذه البركات العجيبة التى تمت نحو
الفداء المبارك الذى قدمه الرب للبشرية مما جعل أبونا القديس بولس الرسول فى
رسالته إلى فيلبى يقول:

 


فليكن فيكم هذا الفكر الذى فى المسيح يسوع أيضا الذى إذ كان فى صورة الله لم يحسب
خلسة أن يكون معادلا لله لكنه أخلى نفسه آخذا صورة العبد صائرا فى شبه الناس وإذ
وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ” (فى 2: 5).

 

وبعد
أن أتم غسل الأرجل شرح لهم معنى عمله هذا وأوصاهم بالأقتداء به، وأيضا ذكرهم بأن
ليس كلهم طاهرون، إشارة إلى يهوذا الذى أسلمه.

 

من
المؤكد أن يهوذا الإسخريوطى لم يحضر غسل الأرجل، لأنه كما اتضح أنه غادر بيت
القديس مرقس الرسول بعدما غمس السيد المسيح اللقمة وأعطاه. وكان هذا أثناء أكل
الفصح.

 

تأسيس
سر الأفخارستيا:

بعد
أن أكل السيد المسيح الفصح الأخير مع تلاميذه وغسل أرجلهم بعد خروج يهوذا
الأسخريوطى، أخذ خبزا وبارك وشكر وكسر وقدمه إلى تلاميذه قائلا لهم: أن هذا هو
جسده الذى يقدم فداء وكفارة عن خطايانا.

 

وأمسك
كأسا ممزوجة من خمر وماء وقال لهم بفمه الإلهى الطاهر: أن هذا هو دمه المسفوك عن
خطايا العالم.

 

وهذه
الكأس هى غير الأربعة كئوس التى كانت تشرب أثناء أكل الفصح.. لأن الفصح كان قد تم
أكله ورفع من على المائدة من قبل غسل الأرجل.

 

يقول
البعض أن السيد المسيح قد أسس سر الأفخارستيا فى حضور يهوذا الأسخريوطى.. وأن
يهوذا قد اشترك فى التناول قبل خروجه، إلا أن هذا القول مردود عليه من قول السيد
المسيح: ” إنه هو الذى سأعطيه اللقمة التى أغمسها “. ثم غمس اللقمة
وقدمها ليهوذا بن سمعان الأسخريوطى ” (يو 13: 26)، وواضح أن النص هنا لا
يتكلم عن التناول، فالتناول ليس فيه غمس.

 

سر
الأفخارستيا:

إن
تأسيس سر الأفخارستيا فى الليلة الأخيرة للسيد المسيح، له دلالة هامة، وترتيب
بحكمة إلهية فائقة، لقد تحدث السيد المسيح عن الخبز الحى، وعن أكل جسده، فى أكثر
من مناسبة، مرة للتلاميذ ومرات للجمهور، وهناك من تقبل هذا الكلام، وآخرون لم
يفهموه بل وتركوه ومضوا، ولم يتراجع السيد المسيح عن أى كلمة أو حرف، مما قاله بل
ترك لمن يرجعون للخلف أن يمضوا.. لقد اعترض اليهود على كلام السيد المسيح، هذا
الأعتراض المبنى على حكم العقل والحواس الجسدية قائلين (كيف يقدر هذا أن يعطينا
جسده لنأكل؟ يو 6: 51، 52). وأيضا أعترض الكثيرون من تلاميذه نفس الأعتراض الحسى والعقلى
قائلين ” إن هذا الكلام صعب من يقدر أن يسمعه؟ ”

 

فماذا
كان جوابه لهم؟

كان
جوابه لهم مبنيا على إباحة استعمال العقل، ولكن فى حدود سلطانه فقط. قال (أهذا
يعثركم فإن رأيتم ابن الأنسان صاعدا إلى حيث كان أولا).. أى أنكم لو عملتم مقارنة
عقلية بسيطة بين ماصنعته أمامكم من المعجزات الحسية وما سترونه من آية صعودى
بالجسد إلى السماء مستقبلا، وبين ما أقوله لكم اليوم من أن الخبز الذى أنا أعطيه
لكم هو جسدى، لعرفتم قدرتى وصدقتم قولى، ولم تجدوا شيئا يعثركم، ثم كمل جوابه
قائلا (الروح هو الذى يحى. أما الجسد فلا يفيد شيئا لأن كلامى هو روح وحياة). أى
لا تأخذوا السر تحت حواسكم الجسدية. ويكفيكم من جهة هذه الحواس ما صنعته أمامكم من
المعجزات وما سترونه بعيونكم من صعودى إلى السماء فتؤمنون بالمقارنة إلى ذلك بكل
أقوالى وأسرارى.

 

إن
السيد المسيح لم يلغ استعمال العقل البشرى لأنه موهوب منه، إنما أباح استعماله فى
حدود السلطان الممنوح له من الله. التلاميذ الأثنى عشر استعملوا عقولهم فى حدود
هذا السلطان فآمنوا بأن الخبز الذى سيعطيه المسيح لهم هو جسده ولو لم تتحقق عقولهم
وحواسهم من ذلك تحققا ماديا.

 

 واليوم
نجد من الطوائف ما يرفض أن قرره السيد المسيح، فليمضوا مع من مضوا، فمن لا يأكل من
جسد السيد المسيح ويشرب من دمه فهو لم يستفد من ذبيحة الصليب أو من عملية الخلاص
التى أتمها السيد المسيح له المجد. لأن السيد المسيح صلب ومات عن البشرية كلها..
ولكن الذى يأكل من جسده ويشرب من دمه هو فقط الذى أستفاد من عملية الفداء..، عندما
أشبع السيد المسيح الشعب من الخبز والسمك، ثم تبعوه ليأكلوا من هذا الخبز، وجه
أنظارهم إلى الخبز الحى.. ولهذا فلابد فى هذا المجال أن نتحدث بإيجاز عن سر
الأفخارستيا.

 

(أسماء
السر ورموزه)

لهذا
السر أسماء كثيرة، وكل منها يدل على معنى مخصوص من مفاهيمه ومقاصده السامية
ومنافعه الفائقة للطبيعة. وكلها مأخوذة من نصوص وروح الكتاب المقدس، وهذه بعضها:

 

الأفخارستيا
وهى كلمة يونانية معناها الشكر، سر الشكر، مائدة الرب، المائدة الربانية، العشاء
السرى، العشاء الربانى، سر التناول، الأسرار الألهية، المائدة الرهيبة، الذبيحة
المقدسة، الجسد والدم، الذبيحة غير الدموية، خبز الحياة، المائدة المقدسة، الخبز
السماوى، طعام الحياة، سر الأسرار، الوليمة الألهية، الوليمة السماوية، السر
المجيد،.. إلى غير ذلك من الأسماء الدالة على سموه وعظمته.

 

سمو
السر:

أسرار
الكنيسة السبعة هى نعم فائقة جليلة سماوية، ينالها المؤمن بمواد يقدسها الروح
القدس باستحقاقات سر الفداء العظيم الذى أكمله ربنا يسوع المسيح على الصليب، وهى
سرية باطنية ينالها المؤمن تحت العلامات والمواد المنظورة التى تتقدس كما رسم لها
الله تعالى وما هى إلا بمثابة قنوات ومجارى تتدفق فيها النعم من نهر الفداء
العظيم، لذلك من طقسها رسم الصليب وذكر الفداء.

 

وأنه
وإن كانت جميعها سامية جليلة لخلاص المؤمنين وتقويتهم فى الحياة الروحية
والجسدية..الخ إلا أن العشاء الربانى أسماها مقاما، وأغزرها فيضا وأعمها شمولا،
وأكثرها إظهاراللحب الفائق فى سر الفداء العجيب للأسباب الآتية:

 

أولا:
سموه عن الأدراك حيث أن المادة المنظورة فى كل سر غيره تلبث كما هى غير متغيرة ولا
مستحيلة، ولكن فى سر التناول لا تلبث المادة أى الخبز والخمر على حالها بل تستحيل
أو تتغير، أما الخبز فإلى ذات جسد المسيح وأما الخبر فالى دمه، وذلك بوجه سرى يفوق
الفهم كما شاءت سلطته وقدرته العلوية.

 

ثانيا:
عظم الموهبة والنعمة التى ينالها المتقدم لهذا السر فان ربنا له المجد يهب
المؤمنين بعضا من مواهب الخلاص بواسطة الأسرار الأخرى كل بحسب غايته وطبيعته، إلا
أنه فى هذا السر يقدم لنا ذاته المقدسة غذاء وشرابا فتجرى إلينا وفينا حياته وتصير
حياتنا كما أنه بذلك يجعل المؤمنين جميعا جسدا واحدا أو روحا واحدا.

 

ثالثا:
أن الرب يقدس بروحه الأقدس سائر الأسرار ولكنه فى هذا السر يحضر بلاهوته وناسوته
معا، فيلهب قلوبنا بالأشواق المقدسة والعبادة الحارة لشخصه المبارك.

 

رابعا:
أن الأسرار الأخرى من بركات ذبيحة الفداء أما هذا السر فهو الذبيحة نفسها.

ظروف
اقامة السر كالوعد ونصوصها الصريحة:

لماذا
أسس رب المجد سر الأفخارستيا فى الليلة الأخيرة؟؟

 

ما
الفرق بين سر الأفخارستيا، وذبيحة الصليب؟؟

إن
الظروف التى أسس فيها هذا السر تعطينا دليلا واضحا على صدق العقيدة الأرثوذكسية.

(أولا)
نجد السيد المسيح مارس أولا الفصح اليهودى الذى كان يرمز لهذا السر وبعد اتمامه
وختمه شرع فى تأسيس الفصح الجديد أى أنه خرج من الظل إلى الحقيقة ومن الصورة
والمثال إلى الواقع وكما كان العهد القديم مثبتا بدم الحيوانات، هكذا نجده ثبت
العهد الجديد بدمه الثمين ولو كان ثبته بالخمر فقط كما تزعم بعض الطوائف لكان
العهد القديم أشرف من العهد الجديد وهذا لم يقل به أحد.

 

(ثانيا)
إن السيد سلم السر لتلاميذه فى آخر ليلة من حياته على الأرض والانسان عادة فى مثل
هذه الساعة يتوخى الأيضاح والأفصاح لا الأبهام والتأويل، مهما عاش كل حياته يتكلم
بالمجاز والألغاز، فهل السيد المسيح الذى كان يفسر لسامعيه كل اقواله يصدر منه
إبهام وألغاز وقت الإيضاح والإفصاح؟ حاشا..

 

(ثالثا)
إذا رجعنا إلى نصوص الأناجيل الثلاثة التى وردت فيها حادثة تأسيس السر وهى فى متى
26 ومرقس 14 ولوقا 22 نجدها تصف وليمة حدثت فعلا، وليس هناك فى وصفها مجال للأبهام
بل هى غاية فى الصراحة والأفصاح. لأن جميعها تنص أن السيد أخذ خبزا وبارك وشكر
وكسر وأعطى تلاميذه قائلا: خذوا كلوا هذا هو جسدى والخمر قائلا اشربوا هذا هو
دمى.. أليست هذه الألفاظ تصف أفعالا حدثت بالتمام (أخذ – وبارك – وشكر – وكسر –
وأعطى – وقال -..الخ) وقد فهم الرسل أقواله وأفعاله كما تفهمها الكنيسة الآن
وسلموها لها فى مفترق أنحاء المعمورة سالمة كاملة كما هى. وآمنت بها الأمم الكثيرة
المختلفة الأجناس والمجامع المقدسة لمدة أجيال عديدة وأزمنة مديدة.

 

فهل
خدع السيد المسيح تلاميذه وهم أيضا خدعوا الكنيسة والأمم والمجامع وبقيت هذه
الضلالة راسخة بالكنيسة حتى القرون المتأخرة؟ هل هذا منطق معقول؟ ومن يتجاسر أن
يقول ذلك أو يؤمن بغير ما سلمه المسيح لتلاميذه وسلمه هؤلاء للكنيسة وباق فيها إلى
اليوم.

 

بعض
افتراءات الطوائف ضد الكنيسة الأرثوذكسية والرد عليها:

 

دحض
استعمال الفطير:

سارت
الكنيسة بأسرها شرقا وغربا من فجر المسيحية حتى القرن ال 11 على أن تقدم مادة
الجسد فى هذا السر المبارك من الخبز المختمر وقد استمرت الكنائس الأرثوذكسية
وستستمر على ذلك إلى أن يجىء الرب فى مجيئه الثانى. إلا أن الكنيسة البابوية منذ
ذلك القرن أجازت تقديم المادة فطيرا عوض الخبز المختمر.

 

وأصل
هذه البدعة يرجع إلى أبو ليناريوس المبتدع الذى ظهر فى القرن الرابع وجدف قائلا:
إن المسيح فى تجسده من البتول صار جسدا بلا نفس بشرية ولا عقل بشرى، زاعما أن
لاهوت السيد قد ناب فيه عنهما وبناءا على هذا الزعم الفاسد صار يقدس سر الشكر
بالفطير خلوا من الخمير والملح مشيرا بذلك إلى عقيدته فى ناسوت المسيح، وقد حرم
هذا التعليم فى المجمع المسكونى الثانى سنة 381 م.

 

ومن
الغريب أن الكنيسة البابوية تنكر تعليم أبو ليناريوس بخصوص ناسوت مخلصنا، ولكنها
تجيز تقديم مادة السر من الفطير مع أن هذا مبنى على ما تنكره كما ذكر.

 

أما
الأدلة التى تقدمها الكنيسة الأرثوذكسية على مخالفة الكنيسة الرومانية فى ذلك
للطقس الذى وضعه ربنا له المجد فهى كما يلى:

 

أولا:
الأنجيليون الثلاثة الذين تكلموا عن تأسيس السر قالوا بصريح العبارة (خبزا) مع
العلم بأن كلا من الكلمتين (الخبز) و (الفطير) كانت تستعمل لغرض لا تستعمل له
الأخرى، وقد فرق الكتاب بينهما بصريح اللفظ والمعنى. فالفطير له أسمه الخاص، ولا
يمكن أن يطلق عليه اسم الخبز عد 6: 9.

 

ثانيا:
عندما تكلم بولس الرسول وقال سلمتكم ما تسلمت من الرب أنه فى الليلة التى أسلم
فيها ذاته.. الخ ذكر مادة السر وسماها (خبزا) 1 كو 11: 23، وهذا يطابق ما أوضحه
سفر الأعمال عن الكنيسة فى فجر عصورها حيث يقول فى ص 2: 42 وكانوا يواظبون على
تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات (أع 2: 46، 20: 7، 1 كو 10: 16، 17).

 

ثالثا:
كلمة (آرطوس) اليونانية التى تكلم بها الوحى تعنى حبزا مختمرا مرتفعا لا هابطا،
أما الكلمة الأخرى التى تعنى (فطيرا) فهى (آزيموس) ولم ترد مطلقا فى أثناء الكلام
عن السر، وعليه فمن يقولون أن المسيح أخذ خبزا فطيرا كأنهم يجعلون العبارة متناقضة
هكذا (آرطوس آزيموس) أى خبزا مرتفعا (يعنى مختمرا) بلا خمير وكيف يكون الخبز
الواحد مختمرا وبلا خمير؟.

 

رابعا:
قد سارت الكنيسة بأسرها على تقديم السر بمادة الخبز حتى القرن ال11 حيث انشقت
الكنيسة الرومانية فى ذلك، فهل كانت سائرة على خطأ كل هذه القرون؟ ومما يؤيد ذلك
أننا لو رجعنا إلى أقوال الآباء الأقدمين كيوستينوس فى احتجاجه الأول، وإيريناوس
ضد الهرطقة، والذهبى الفم، وكيرلس الأورشليمى تجدهم لم يذكروا مادة السر إلا بلفظه
الخبز الأعتيادى أو الخبز المختمر والقديس أبيفانوس رئيس أساقفة قبرص المتنيح سنة
403 م عندما تكلم عن هرطقة الأبيونيين قال: (أنهم كانوا يتمسكون بالشريعة الموسوية
وأنهم كانوا يتممون سر الأفخارستيا بفطير وماء فقط) موضحا أن ذلك مخالف لعادة
الكنيسة.

 

لقد
حرصت كنيستنا الرشيدة المؤيدة بالروح القدس على تقديم الذبيحة الإلهية من خبز
مختمر لا كفطير، لأن الفطير يشير إلى حياة السيد المسيح له المجد قبل الصلب فقط
وأعماله كانت خالية من الخمير الذى هو رمز الشر، أما وقد حمل خطايانا فى جسده على الصليب
وقدم ذاته ذبيحة خطية عنا.. لذلك لزم جدا أن يضاف الخمير فى الخبز المقدم فى
القداس إشارة إلى الخطية التى حملها فى جسده لأن ذبيحة القداس الألهى تشمل الصليب
وما قبل الصليب ولكن الكنيسة لم تكتف بوضع الخمير فقط، بل لزم أن يدخل النار حتى
تموت هذه الخميرة ثانيا كما ماتت الخطية فى جسد المسيح المقام من الأموات،
فالخميرة موجودة فى قربان القداس ولكنها ميتة بفعل النار، وكما أبطلت النار فعل
الخميرة كذلك أبطل المسيح الخطية.

 

يقول
البعض من أين جىء بالخبز المختمر للسيد المسيح فى وقت كان محظورا على بنى إسرائيل
تواجد للخمير فى بيوتهم أثناء أكل الفصح؟

 

وللأجابة
على ذلك نشير إلى أن السيد المسيح أتم طقس الفصح قبل اليهود بيوم كامل، وفى موعده
حسب شريعة موسى النبى، بسبب ما ذكرناه سابقا.. وهذا معناه أن الأستعداد عند اليهود
كان يوم الجمعة.. وهذا يعنى وجود خبز مختمر فى بيوت اليهود يوم الخميس مساءا حيث
أتم السيد المسيح الفصح، إذا يتبين من كل ما ذكر أن وجود الخمير مساء يوم الخميس
ليلة الجمعة حيث صنع السيد الفصحين معا أمر ميسور جدا وبهذا يسقط الأعتراض من
أساسه.

 

دحض
من ينكرون أن سر الأفخارستيا هو رمز فقط:

 

لا
يوجد حديث أكثر قوة من حديث مخلصنا الذى تكلم بشكل واضح لا غموض فيه أو لبث،
وعندما تشكك البعض من كلامه لم يلتفت إليهم، فالله عندما أوصى العبرانيين بنظام
الذبائح بواسطة موسى وهارون والكهنة، هل كان يمكن أن يعترض أحدا من اليهود على هذه
الطقوس، برغم عدم فهمهم فى ذلك الحين الغرض (الجوهرى)، الذى ترمز إليه تلك
الذبائح؟ كذلك بالنسبة لسر الأفخارستيا الذى ثبته لنا السيد المسيح له المجد، هل
يجوز لنا نحن البشر بعقولنا وتفكيرنا المحدود أن نناقش رب المجد فى هذا الأمر.

 

لقد
ورد فى انجيل القديس لوقا 22: 19، 20 (وأخذ خبزا وشكر وكسر وأعطاهم قائلا هذا هو
جسدى الذى يبذل عنكم..وكذلك الكأس، قائلا هذه الكأس هى العهد الجديد بدمى الذى
يسفك عنكم).

 

فما
دام هناك جسد يبذل ودم يسفك فهذا هو الذبيحة الحقيقية ثم لنلاحظ قوله العهد
الجديد، ونحن نعلم أن العهد القديم تثبت بذبائح ودم الحيوانات (خر 24) فلا بد إذا لثبات
العهد الجديد من ذبيحة أسمى ودم أعلى بمقدار ما سما العهد الجديد عن العهد القديم،
إذا من نفس النصوص الإلهية والمقارنة بين العهدين نعرف يقينا بأن هذا السر ذبيحة
مقدسة.

 

إن
الذين يجردون العهد الجديد من الذبيحة الحسية ويكتفون بالقول أن ذبيحته هى الصلوات
والصدقات ليس إلا، يجعلون العهد القديم أشرف من العهد الجديد، لأن الصلوات
والصدقات كانت موجودة أيضا ومحتمة فى العهد القديم، وفوق هذا فإن ذبائح العهد
القديم مع أنها كانت يصور شيئا مزمعا كيانه فى المستقبل أعنى به صلب المسيح، فانها
كانت تقدم بصورة حسية مادية من ثيران وخرفان..الخ، فإذا من باب أولى ذبيحة العهد
الجديد التى تصور موت المسيح الذى سبق حدوثه وتم فعلا. بل أحرى أن يقال أنها ذات
ذبيحة الصليب يجب أن تكون حسية مادية لا معنوية فقط كالصلوات.

 

ولو
عرف المكتفون بالصلوات والصدقات معنى الذبيحة الحقيقية وما يتعلق بها لأدركوا
مقدار شططهم فيما يتمسكون به، لأن الذبيحة الحقيقية لها شرطان ضروريان (الأول): أن
تكون غايتها الأساسية التعبد والمذلة لله، فكل التقدمات والذبائح الموسوية أمر
الرب بتقديمها بحال حسية منظورة تعبدا له واعترافا بربويته، ولكى تتجسم العبادة
الباطنية الغير المنظورة، تبعا لتركيب الأنسان الطبيعى من روح مقترن بجسد، فكل
انفعالات الروح الباطنية تتم وتظهر جسديا، ولا يمكن أن تكون عبادتنا الباطنية
كاملة إلا إذا اقترنت بالذبائح الحسية لأننا لسنا أرواحا مجردة كالملائكة.

 

أما
الشرط (الثانى) فهو ضرورة تقديم الذبيحة لله ذاته كما كان يفعل بمحرقات العهد
القديم ةإلا فأنها تفقد الغرض الأساسى المقصود من تقديمها وهو التعبد لله تعالى.
وعليه فكل ما يعطى ويقدم للناس من صدقات وحسنات لا يعتبر ذبيحة لله ذاته، (لأن
معظم البشر من أديان وعقائد مختلفة) يفعلون ذلك من باب التعاطف بين البشر ومساعدة
الأنسان.

 

والنتيجة
من كل هذا أنه لا يمكن أن تخلو ديانة العهد الجديد من ذبيحة حسية مادية، كما لا
يمكن اعتبار الصدقات ذبائح حقيقية لأن الذبيحة الحقيقية هى التى تقدم لله ذاته
وبها نعترف بألوهيته ونقر بربوبيته لنا وتعبدنا له.

 

نضيف
على ذلك أن السيد المسيح له المجد أعطى للجموع خبزا عاديا ليأكلوا (مع سمكا)، ولم
يقل لهم وقتئذ أنه جسده.. وأكل الناس وشبعوا وكانت هناك بركة كبيرة بزيادة الفائض
من الكسر والخبز حوالى أثنا عشر قفة مملوءة، وفى هذه المعجزة لم يقل لهم السيد
المسيح أن هذا الخبز هو جسده، فلماذا يخلط دعاة (الرمز) الأمور ببعضها؟.

 

الأعتراض
على مزج الخمر بالماء:

يعترضون
قائلين كيف تمزجون الخمر بالماء فى ممارسة السر مع أن الأنجيل لم ينص بهذا؟

الجواب
عليه: اننا أخذنا ذلك من التقليد بالتسليم من الرسل أنفسهم الذين تسلموه من السيد
له المجد. وإذا كان الأنجيل لم يذكر عن السيد أنه مزج الخمر بالماء فإنه لم يقل
أيضا أن ما أعطاه لتلاميذه هو خمر صرف غير ممزوج.

 

يردون
بالأعتراض على التقليد، فنوضح لهم أهمية التقليد فى كنيستنا الأرثوذكسية، وضرورة
التمسك به وهنا نذكر بعض أقوال الآباء عنه: فالقديس أبيفانيوس أسقف قبرص المتنيح
سنة 403 م قال: ” إن التقليد لا بد منه، لأن الكتاب المقدس لا يتضمن كل شىء،
على أن الرسل الأطهار تركوا أشياء فى الكتاب وأشياء فى التقليد – وأسابيوس المؤرخ
يقول فى محاماته عن الأنجيل (إن رسل المسيح قد ألفوا أمورا بعضها مكتوب وبعضها غير
مكتوب لتحفظ كأنها ناموس غير مكتتب).

 

جاء
فى أوامر الرسل هكذا (وقد أخذ الكأس ممزوجة خمرا وماء وقدسه، وأعطاهم قائلا اشربوا
منه) – أما عن الآباء القديسين، فقد ذكره القديس ايريناوس فى كتابه ضد الهراطقة
ويوستينوس فى احتجاجاته، والقديس كبريانوس بالقرن الثالث يقول (من التقليد تعلمنا
مزج الخمر بالماء فى القداس) رسالة 63.

 

وعلاوة
على أن هذا التقليد غير مناقض للوحى كما ذكرنا فى مستهل الكلام، فإننا نجد فى
الأنجيل إشارة عن مزج الخمر بالماء حيث يقول عن صلب السيد المسيح: (ولكن واحدا من
العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء) يو 19: 34، 1 يو 5: 6، 8.

 

وهناك
إشارة أوضح فى أقوال سليمان الحكيم عندما تكلم عن السيد المسيح وبناء كنيسته
بالسبعة الأسرار، قال وهو يشير عن هذا السر (الحكمة ” أى المسيح ” ذبحت
ذبحها مزجت خمرها) أم 9: 2 وفى ع 5 يقول السيد المسيح اشربوا من الخمر التى
مزجتها. فمن قوله عن الخمر أنها مزجت وهو يشير إلى هذا السر نفهم بوضوح مزج الخمر
بالماء. لذا نجد الكنيسة تسلمت هذا الأمر منذ ابتدائها.

 

هل
هناك فرق بين ذبيحة الصليب وذبيحة القداس؟:

لا
فرق بين ذبيحة الصليب وذبيحة القداس من حيث الضحية نفسها. إذ يقول الكاهن معترفا
بالقداس (أؤمن أؤمن أؤمن وأعترف إلى النفس الأخير أن هذا هو الجسد المحيى. الذى
لإبنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح. أخذه من سيدتنا وملكتنا كلنا والدة
الإله القديسة الطاهرة مريم. وجعله واحدا مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا
تغيير. واعترف الأعتراف الحسن أمام بيلاطس البنطى وأسلمه عنا على خشبة الصليب
المقدسة بإرادته وحده عنا كلنا، بالحقيقة أؤمن أن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة
واحدة ولا طرفة عين، يعطى عنا خلاصا وغفرانا للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه.
أؤمن أؤمن أؤمن أن هذا هو بالحقيقة آمين).

 

وذلك
تبعا لقول السيد (والخبز الذى أنا أعطى هو جسدى الذى أبذله من أجل حياة العالم)
وقوله (إن لم تأكلواجسد ابن الأنسان.. الخ) يو 6: 51، 53.

 

وعندما
نرجع إلى النصوص المتعلقة بتسليم السر من السيد له المجد إلى تلاميذه الأطهار ليلة
صلبه نجده فوق تأكيده لهم أن ما يسلمه إليهم هو جسده ودمه بالذات، حيث قال جسدى
ودمى فإنه قد جعل (مزية غفران الخطايا) التى لذبيحة الصليب هى بذاتها الهبة أو
المزية التى لذبيحة العشاء السرى حيث جاء فى متى 21: 26 – 28 (وفيما هم يأكلون أخذ
يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال خذوا كلوا هذا هو جسدى وأخذ الكأس وشكر
واعطاهم قائلا اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمى الذى للعهد الجديد الذى يسفك من
أجل كثيرين لمغفرة الخطايا) وفى مرقس 14: 22 – 24 يقول (خذوا كلوا هذا هو جسدى ثم
أخذ الكأس وشكر واعطاهم فشربوا منها كلهم وقال لهم هذا هو دمى الذى للعهد الجديد
الذى يسفك من أجل كثيرين)

 

وجاء
فى رسالة بولس الرسول الأولى لكورنثوس 12: 27 – 29 (إذا أى من أكل هذا الخبز أو
شرب كأس الرب بدون استحقاق يكون مجرما فى جسد الرب ودمه. ولكن ليمتحن الأنسان نفسه
وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس لأن الذى يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب
دينونة لنفسه غير مميز جسد الرب)

 

والخلاصة
مما سبق أن ذبيحة الصليب وذبيحة القداس هما ذبيحة واحدة أشرقت مرة على الصليب ؛
وتشرق كل يوم على مذابحنا.. وهى هى واحدة لا تكرار ولا فرق بينهما لا فى الضحية
نفسها ولا فى مزاياها ولا فى مقدمها، لأن مقدمها فى الحالتين هو السيد المسيح
بصفته رئيس كهنة (فالأولى قدمها بنفسه والثانية أسسها وأعطى لوكلائه العاملين
بأسمه وتفويضه أن يقدموها).

 

الذبيحة
الأولى كانت على الصليب، كانت منظورة أمام العين البشرية جسدا ودما. أما الثانية
فهى غير منظورة بالعين الجسدية، هى جسد ودم فى شكل الخبز وعصير الكرمة.

 

الذبيحة
الأولى الصليبية قوتها واستحقاقاتها عامة، أما الثانية فقوتها واستحقاقاتها خاصة
مستمدة من الأولى.. ويستفيد منها من يتناولها فقط.

 

ولعلنا
ندرك الآن لماذا رتب السيد المسيح له المجد أن يؤسس سر الأفخارستيا فى اليوم
السابق مباشرة لصلبه.. للعلاقة الوثيقة والواحدة بين الذبيحتين.

 

تحذيرات
الرب لبطرس وللتلاميذ:

السيد
المسيح كان يعلم أن الشيطان سينتهز فرصة صلبه لكى يهز إيمان التلاميذ كما فى غربال
لكى يسقطهم، وأعلم الرب بطرس أنه سينكره ثلاث مرات قبل صياح الديك، ثم حادث الرب
تلاميذه منبها إياهم إلى ضرورة الأستعداد الروحى التام.. وتحدث عن سيف الروح،
وكلمة الله (أفسس 6: 7) إلا أن التلاميذ لم يفهموا قصده وأشاروا إلى وجود سيفين..
فطلب منهم السيد المسيح الكف عن هذا الفهم الخاطىء، وكذلك حادثهم عن مجده. وقال قد
تمجد أبن الأنسان معتبرا أن صلبه هو أعظم أمجاده حيث سيغلب قوى الشر، وبهذا يتمجد
الله فيه مستوفيا عدله، وسيمجده الله سريعا بالظواهر التى صاحبت صلبه ثم قيامته..
وكذلك عندما يجلس عن يمين العظمة ويأخذ اسما فوق كل اسم.

 

كذلك
أوصى السيد المسيح تلاميذه بأن يحبوا بعضهم بعضا، والحب وصية قديمة، إلا أنه
أعطاها مفهوما جديدا، إذ قال إن درجة هذا الحب المطلوب هى أن يكون هذا الحب كحب
السيد المسيح لنا إذ أسلم نفسه فداء عنا..! هذا الحب هو علامتنا كمسيحيين.

 

التسبيح
بالمزامير:

ثم
سبح السيد المسيح مع تلاميذه حسب طقوس الفصح.

حديث
الرب الوداعى للتلاميذ:

وقبل
أن يخرج السيد المسيح مع تلاميذه من بيت مارمرقس بدأ معهم حديثه الوداعى الطويل
والذى سجله لنا القديس يوحنا فى أربعة اصحاحات هى الأصحاح الرابع عشر، والخامس
عشر، والسادس عشر، والسابع عشر، بدأ حديثه فى العلية فى بيت مارمرقس واستمر طوال
الطريق وكذلك فى بستان جثسيمانى المكان الذى أختاره ليتم القبض عليه فيه.

 

حدثهم
وهم فى العلية عن السماء موضع راحتهم، وعن أنه هو الطريق ولا يوجد طريق سواه،
وحدثهم عن إستجابة الله لصلواتهم وعن الروح القدس المعزى الآخر الذى سيرسله إليهم،
والذى سوف يمكث معهم إلى الأبد، وعن الشركة الدائمة بينه وبينهم بعد إنطلاقه..
وحدثهم أيضا عن إرشادات الروح القدس لهم، وترك سلامه الذى يفوق كل عقل، وكذلك
حدثهم عن إغتباطه بإنطلاقه.

 

ثم
قال لهم: ” لكن لكى يعرف العالم أنى أحب أبى وأنى أعمل ما أوصانى به أبى.
قوموا ننطلق من هنا ” (يو 14: 31). وطبعا الأنطلاق ليس للهرب ولكن إلى
البستان المكان الذى اختاره ليتم القبض عليه فيه، والذى يعلم يهوذا أنه سيجد فيه
السيد المسيح إذ لم يجده فى بيت مارمرقس إذ لم يجده فى بيت مارمرقس إذ كان قد قضى
الليالى الكثيرة مع السيد المسيح والتلاميذ فى الصلاة فى هذا البستان.

 

وفى
الطريق حادثهم السيد المسيح عن الثمار المطلوبة منهم وعن المحبة التى فى قلوبهم
تجاه كل الناس وتجاه بعضهم البعض.. وحدثهم عن بغضة العالم وأهل العالم لهم..
وحدثهم ثانية عن المعزى روح الحق الذى يشهد للسيد المسيح (يو 15).

 

وكذلك
حدثهم فى الطريق عن المتاعب التى تنتظرهم ولكنه سيرسل لهم المعزى الذى سيبكت
الأشرار على خطاياهم، ومن يفتح ذهنه لعمل روح الله يقبله الله، وحدثهم عن لقائه
بهم بعد قيامته وأنه سوف يستجيب طلباتهم، وأنه سيترك حالة التواضع هذه ويعود إلى
مجده.. (يو 16)..ولكن يبدو أن التلاميذ حتى هذة اللحظة كانوا غير مدركين تماما
لموضوع الفداء ودور السيد المسيح وهو مقبل على الصلب..، ومثلهم مثل بقية الشعب
اليهودى كانوا يتطلعون إلى المسيا الذى يخلص الشعب من نير الحكم الرومانى.. وإلى
إعادة مجد الدولة العبرية.

 

وفى
البستان قدم فى حديثه صلاة من أجل أن يمجده الله كما مجد هو الله الآب (شهد له
يهوذا بأنه أسلم دما بريئا، شهدت له زوجة بيلاطس، وشهدت له عناصر الطبيعة، شهد له
بيلاطس، شهد له هيرودس، شهد له لونجينوس ” قائد الكتيبة “، اللافتة التى
علقوها على الصليب لم تدنه بشىء)، وكذلك صلى من أجل تلاميذه لكى يحفظوا ويتقدسوا
ويتمجدوا. (يو 17).

 

الآم
الرب فى البستان:

طلب
السيد المسيح من تلاميذه البقاء فى البستان، وأخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا، وطلب
منهم السهر والصلاة، ثم انتحى جانبا فى صلاة حارة، صلى ثلاث مرات وكان يعود كل مرة
ليجد بطرس ويعقوب ويوحنا نائمين.

 

كان
حزنه واكتئابه ليس آلاما جسدية وإنما صراع روحى رهيب، هو كذبيحة محرقة موضع سرور
أمام الأب، وموضع سرور لنفسه، ولكن أن يكون ذبيحة خطيئة وإثم وتقع عليه جميع خطايا
العالم منذ خلقته وحتى يوم القيامة.. لا يكون هذا موضع سرور لنفسه ولا للأب، ولم
يذكر العهد القديم أن ذبيحة الخطيئة والأثم رائحة سرور أمام الله، من هنا نفهم كيف
أن الأب اشتم ذبيحة السيد المسيح كرائحة سرور وهو يمثل ذبيحة المحرقة، وكيف أن
الآب حجب وجهه عن السيد المسيح وهو يمثل ذبيحة الخطية وهو يرفع جميع خطايا العالم
فى جميع العصور وهو البار الذى ” لم يعمل ظلما ولم يكن فى فمه غش ”
(إشعياء 53: 9)، ومن هنا نفهم لماذا صرخ السيد المسيح نحو الآب قائلا: ”
إلهى..إلهى..لماذا تركتنى.. ” (وهو يمثل ذبيحة الخطيئة).

 

إن
الذين حاولوا رسم صورة السيد المسيح وهو على الصليب، (وبرغم إجتهاداتهم الفنية)،..
لم يتوصلوا بعد لرسم الصورة الحقيقية التى تعبر عن الآم السيد المسيح وهو على
الصليب.. وجهه ملطخ بالدماء.. والطين من تكرار سقوطه على الأرض.. الآلام النفسية
من استهزاء الرعاع به، وهو الخالق القادر على إبادتهم بنفخة من فمه، وحزنا على
البشرية الساقطة.. تقلصات جسمه وعضلاته من الآم الجلد بالسياط، ودق المسامير، وحمل
خشبة الصليب..، نريد فنانا روحيا يتفاعل مع أحداث الصليب.. يرينا مع صورة المسيح
فى خلفية الصورة ذبيحة المحرقة.. وذبيحة الخطية.. إنها دعوة لكل فنان مجتهد..!.

 

هذه
الآلام النفسية والجسدية كانت مهولة.. صرخ السيد المسيح من شدة الألم معبرا عن
رغبته الطبيعية فى تجنب الألم ولكنه جاء خصيصا من أجل هذا، لذلك قال: ” يا
أبتاه إن شئت فجنبنى هذه الكأس ” ثم قال بعدها: ” لتكن لا مشيئتى بل
مشيئتك ” خضعت مشيئته الناسوتية كما هى خاضعة دائما لمشيئته اللاهوتية، ليس
له مشيئة منقسمة بل مشيئة واحدة هى مشيئة الآب التى هى مشيئة الأبن بإستمرار.

 

ظهر
له الملاك يمجد لاهوته ليتقوى ناسوته. وتقول كتب الكنيسة أن هذا الملاك هو رئيس
الملائكة جبرائيل وأنه جاء يسبح الله قائلا: ” لك القوة ” (لوقا 22: 43)

 

ظاهرة
العرق الدموى هى ظاهرة نادرة، لأنه فى الأحوال العادية حين يزداد الألم بالإنسان
حتى لا يستطيع أن يتحمل، ففى هذه الحالة غالبا ما يفقد الإنسان وعيه، ولكن إذا لم
يحدث هذا فإن الشعيرات الدموية المحيطة بالغدد العرقية يزداد الضغط عليها فتنفجر
وينضح الدم من البشرة مختلطا بالعرق، وهذا لا يحدث من جبهة الأنسان فقط بل من
الجسم كله. ويكون نتيجة إختلاط الدم بالعرق أن يحدث نسمم فى جسم الأنسان وهذا ما
أبرزه القديس لوقا الأنجيلى والطبيب

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى