علم الله

الفصل السابع والأربعون



الفصل السابع والأربعون

الفصل
السابع والأربعون

الوفاة
وحالة النفس إلى
وقت القيامة

 

1- ما هو موضوع هذا الجزء، وما هي البحوث الرئيسية فيه؟

مقالات ذات صلة

*
موضوعه الإسخاتولوجيا، وهي مركبة من كلمتين يونانيتين معناهما “عِلم
الأخرويات” أي الأمور المختصة بمستقبل النفس، ونهاية العالم، ومجيء المسيح ثانية،
والقيامة، والدينونة، ونصيب الأبرار السماوي، وقصاص الأشرار الأبدي. وهي أمور غاية
في الأهمية، لأن المسيحي والكنيسة، لا يبلغان الكمال في هذه الحياة الدنيا بل في
العالم الآتي، الذي تسبقه الوفاة ومجيء المسيح ثانية والقيامة والدينونة.

2- ما هو الموت الجسدي، وبماذا يصفه الكتاب المقدس؟

*
الموت الجسدي هو انفصال النفس عن الجسد فتزول منه الحياة، وتنحل عناصره البسيطة
ويعود إلى التراب. وهو يختلف عن الموت الروحي الذي هو انفصال النفس عن الله،
ويختلف عن الموت الثاني الذي هو نفي النفس الأبدي من حضرة الله وشقاء الإنسان نفساً
وجسداً في جهنم. ويُعبَّر عن الموت الجسدي في الكتاب المقدس بانضمام الإنسان إلى
قومه (تث 32: 50) والذهاب في طريق الأرض كلها (يش 23: 14) والانضمام إلى آبائه (قض
3: 10) ورجوع التراب إلى الأرض (جا 12: 7) والنوم (يو 11: 11) والموت (أع
5: 5) ونقض بيت خيمتنا الأرضي (2كو 5: 1) والاستيطان عند الرب (2كو 5: 8) والرقاد
بيسوع (1تس4: 14) والانحلال (2تي 4: 6) والنزول إلى القبر (أي 7: 9).

3- ما هي علاقة الموت بالخطية، وكيف يُحسب موت المؤمن؟

*
الموت أجرة الخطية. وقد وصف الكتاب المقدس كل أضرار الخطية، روحية أو جسدية أو عقابية،
بكلمة “موت” كما قيل “لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت” (تك 2:
17). ونُسِب دخول الموت للعالم إلى فعل الخطية (رو 5: 12). أما موت المؤمن فليس
قصاصاً، لأن المسيح قد أخذ على نفسه القصاص أي عقاب الشريعة بتمامه، فصار الموت
للمؤمن واسطة الانتقال إلى الحياة الأبدية. وكما أن كل مصائب المبرَّرين أمر من
أمور التأديب الأبدي لا القصاص الشرعي، كذلك الموت لا يُعتبر علامة غضب الله، بل
واسطة حَمْل المؤمن إلى دار البقاء كما قيل “عزيزٌ في عيني الرب موت أتقيائه”
(مز 116: 15 قارن رو 8: 1، 2 و14: 8 و1كو 3: 22 و15: 55).

4- برهن أن الموت الجسدي ليس هو ملاشاة النفس والجسد.

*
القول بملاشاة النفس والجسد معاً يخالف تعليم الكتاب المقدس الذي ينادي بخلود
النفس وبقيامة الجسد أخيراً (قارن الكلام على خلود النفس في فصل 23 س 14-16).
وتعلّمنا الفطرة أن الإنسان يبقى بعد الموت، وهذا ضروري لإكمال غاية الخالق في خلق
الإنسان، ولبيان حقيقة أن الله حاكم أخلاقي للأبرار والأشرار. والقول بالملاشاة لا
يوافق طبيعة النفس التي هي جوهر بسيط لا تقبل الانفصال أو التجزؤ. ولا يذكر الكتاب
أبداً أن الله يلاشي الحياة العقلية الروحية بعد أن خلقها. وهذا ما تشهد به كلمة
الله (مت 22: 31، 32 و2تي 1: 10).

5- ماذا يعلمنا الوحي في حالة النفس بعد الموت؟

*يعلمنا
أن النفس لا تموت ولا تنام، وأن نفوس الأبرار تكمل حينئذ في الطهارة وتدخل السماء
حيث تنتظر فداء أجسادها الكامل، وأن نفوس الأشرار تُطرح في جهنم حيث تبقى في
القصاص والظلام محفوظة إلى حكم اليوم العظيم (لو 23: 43 و2كو 5: 6، 8 وفي 1: 23
ولو 16: 23، 24 ويه 6، 7). وليس من المهم أن نعرف إن كانت السماء التي سيذهب إليها
المؤمن فور موته هي مسكنه الأبدي عينه، أو إن كانت مسكناً وقتياً مع المسيح إلى أن
يأخذ جسده عند القيامة ويدخل مع الكنيسة الكاملة إلى المجد الأخير. فيكفينا أن
نعرف أن ذلك الفردوس هو مسكن المسيح ومكان السعادة والطهارة والأمن. والكتاب يقول
إن نفس الأبرار تذهب حالاً إلى حضرة المسيح (2كو 5: 1-8 ولو 23: 43 ويو 14: 3 وفي
1: 22، 23 ومت 22: 32 ولو 16: 22 ويو 11: 26 و1تس 5: 10 ومت 17: 3). أما الأشرار
فإنهم في العقاب إلى يوم الدين (2بط 2: 9 ولو 16: 23 و1بط 3: 19). ولا بد أن يدرك
الأبرار والأشرار نصيبهم الأبدي عند الموت.

ويعلمنا
الكتاب أن ذلك النصيب غير كامل في بعض الوجوه إلى حين القيامة والدينونة والحكم
النهائي، إمّا بالحياة الأبدية أو بالموت الأبدي. فالأبرار يتوقعون نوال أجسادهم
عند القيامة ودخولهم بالنفس والجسد معاً إلى السعادة السماوية، والأشرار يتوقعون
نوال أجسادهم كذلك والذهاب بعد الدينونة إلى الشقاء الأبدي (رو 8: 23 وفي 3: 11
ورؤ 6: 11 و2بط 2: 9).

أما
التعليم الإنجيلي بالتفصيل في تنوُّع أحوال البشر الخطاة عند الموت فيتضح بخمسة
أمور:

(1)
المؤمنون الذين عاشوا في نور الوحي وعرفوا طريق الخلاص بالمسيح، أو كانت لهم فرصة
جيدة لنوال تلك المعرفة ورفضوا، ولم ينتبهوا لواجباتهم من نحو المسيح، فليس لهم
رجاء بعد موتهم، بل هم تحت الحكم، وسيذهبون عند الموت إلى نصيبهم الأبدي، وسيكون
قصاصهم بالعدل حسب استحقاقهم.

(2)
الذين يموتون بدون معرفة الوحي ولم يسمعوا الإنجيل، كالوثنيين، هم تحت الدينونة،
لا لأنهم رفضوا الإنجيل أو أهانوا المسيح، بل لأنهم أخطأوا بسلوكهم المضاد لما لهم
من معرفة، فقد كانت لهم شهادة الطبيعة والضمير. وهؤلاء ليس لهم فرصة أخرى بعد
الموت للتوبة والإصلاح، وليس لهم رجاء الخلاص بالوسائط الباطلة والأديان الفاسدة.
ولكن إذا حدث أن أحداً منهم تاب توبة حقيقية ورفض الخطايا واجتهد في الحياة
الصالحة بإرشاد الروح القدس، متكلاً على رحمة الله وحدها، وهو يحسب أنه غير مستحق
للرحمة في نفسه، ونظر إلى مجرد النعمة الإلهية، يصير الرجاء أنه بين مختاري الله،
فقد أرسل الرب إليه الروح القدس ليرشده إلى أفضل استعمال للنور الذي عنده. وإذا
نال الخلاص، لا يكون ذلك بسبب أعماله واستحقاقه، بل بنواله فوائد كفارة المسيح،
هبةً من عند إله الرحمة، ولو أنه لا يعرف أن المسيح جاء إلى العالم ولا أنه صنع
فداءً للبشر. ولكن بنعمة الله يصير بإرشاد الروح من طالبي الرحمة التي
أُظهرت بواسطة فداء المسيح. وهذا ما نرجوه بناءً على رحمة الله، ولو أنه ليس
وارداً في تعليم كتابي صريح.

(3)
الذين عاشوا قبل مجيء المسيح في زمن العهد القديم واستعملوا الوسائط المعينة من
عند الله عن يد الآباء الأولين، أو بالنظام الموسوي استعمالاً حسناً، لهم
الخلاص بالإيمان بالفداء بالمسيح الموعود به والمشار إليه برموز الذبائح
وغيرها من الفرائض الدينية. فإنهم باستعمالهم تلك الوسائط المعينة من الله رفضوا
الاتكال على صلاح أنفسهم، واتكلوا على رحمة الله، ودخلوا عند الموت في حال الخلاص.
أما الذين رفضوا تلك الوسائط فلن يستفيدوا منها.

(4)
جميع الأطفال الذين يموتون قبل سن التكليف، والبُلهاء أيضاً، هم خارجون
عن دائرة المساءلة الأخلاقية. هؤلاء ينالون الخلاص بنعمة المسيح، وينالون فوائد
كفارته، فيدخلون في حال الخلاص حالاً بعد الموت (انظر ما جاء بخصوص الأطفال
الذين يموتون بغير معمودية في فصل 45 س 16).

(5)
الذين عرفوا المسيح وقبلوه بالتوبة والإيمان مخلصاً لهم، وعاشوا عيشة موافقة لذلك،
وماتوا متكلين على المسيح، نالوا الخلاص حالاً وصاروا مع المسيح في النعيم إلى يوم
القيامة، حين تقترن النفس والجسد ويكمل فداؤهم الأبدي.

6- ما عدد المذاهب المخالفة لتعليم الكتاب في هذا الشأن، وما هي؟

هي
ثلاثة:

(1)
مذهب القائلين بنوم النفس، أي بقائها بلا شعور من وقت الموت إلى القيامة.

(2)
مذهب القائلين بالمطهر وذهاب نفوس البشر إليه.

(3)
مذهب القائلين بالامتحان بعد الموت، أي أن الذين لم ينالوا
الخلاص في هذه الحياة سيحصلون على فرصة أخرى لقبول المسيح ونوال الخلاص به
بعد القبر، أي أن البشارة بإنجيل الخلاص ليست خاصة بهذه الحياة فقط، بل أن الخلاص
ممكن بواسطتها في العالم الآتي.

7- ما هي أدلة القائلين بنوم النفس في المدة
بين الموت والقيامة وما الاعتراضات عليهم؟

*
يرى المعتقدون بهذا في الكتاب أمرين يزعمون أنهما يبرهنان رأيهم:

(1)
كثيراً ما يُدعى الموت رقاداً، ويُدعى الأموات راقدين (1تس 4: 14).

(2)
يعلم العهد الجديد بدينونة أخيرة عندما يعيِّن نصيب كل نفس إلى
الأبد، وهذا (على ما يتوهمون) ينافي القول بأن نصيب النفس يُعيّن حالاً عند تركها
الجسد، لأنه (على زعمهم) إذا كان الأبرار عند الموت يدخلون حال السعادة والأشرار
حال الشقاء، فقد دينوا، ولا حاجة إلى دينونة بعد.

وهذان
الدليلان ضعيفان، ولا يقويان على نفي تعليم الكتاب الواضح. أما الأول فنرد عليه
بأن الجسد المائت والجسد الراقد متشابهان، ونحن عادة نشبِّه الموت بالرقاد الدائم،
وأغلب من يستعملون هذا التشبيه هم المؤمنون إيماناً ثابتاً بحياة النفس وشعورها
المستمر بعد الموت.

أما
الدليل الثاني فهو أضعف من الأول، لأنه وإن كان نصيب كل إنسان قد تعيَّن عند دقيقة
الموت، فإنه توجد أسباب عديدة ومهمة توضح وجود دينونة عامة رهيبة في اليوم الأخير،
عندما تظهر أسرار القلوب ويعلن الله عدله أمام كل البشر والملائكة.

وقد
اتضح من كلام الكتاب أن النفس تبقى شاعرةً بعد الموت، لأنها ترجع إلى الجسد عند
القيامة (جا 12: 7). وموت الجسد لا يتضمَّن موت النفس (مت 10: 28). وقد ظهر موسى
وإيليا عند تجلي المسيح بعد نحو 14 قرناً من موت موسى (لو 9: 30، 31). ونفهم من
مثَل الغني ولعازر أنهما كانا حيَّين بعد الموت (لو 16: 22، 23). ووعد المسيح اللص
التائب أنه يكون معه في اليوم ذاته في الفردوس (لو 23: 43). ويقول الرسول إن
التغرُّب عن الجسد هو الاستيطان مع الرب (2كو 5: 8) وإن موته انطلاق
ليكون مع المسيح (في 1: 21، 23). وقيل إن الأبرار بعد الموت أرواح أبرار
مكمَّلين (عب 12: 23). وقال استفانوس عند موته “أيها الرب يسوع اقبل روحي”
(أع 7: 59). وقيل إن المؤمنين هم أصحاب الحياة الأبدية التي ابتدأت فيهم وهم في
هذا العالم (يو 5: 24) وإن سيرة المسيحيين هي في السموات، أي أنهم من الرعية
السماوية وإن كانوا لا يزالون على هذه الأرض (في 3: 20). ورأى يوحنا في رؤياه نفوس
الشهداء تحت المذبح ولهم وجدان وأشواق حية (رؤ 6: 9-11). فهذا المذهب يخالف
كل ما نعرفه عن طبيعة النفس وعدم غيابها عن الشعور مطلقاً، لأن
النفس لا تنام مع نوم الجسد ولو في ساعة الموت مع ضعف الجسد، وقد
تشعر بشعور أشد مما اعتادت عليه. ويأبى العقل السليم أن يظنَّ أن النفوس الحية في
هذه الحياة، الغيورة في خدمة الله، تذهب حالاً عند الموت إلى حالة عدم الشعور
والانقطاع عن الإحساس ورؤية الرب في المجد.

8- ما هي أقسام عالم الأرواح عند الكنيسة الكاثوليكية؟

*
قسم الكاثوليك عالم الأرواح إلى أقسام شتى، جعلوا لكل نوع من الأرواح مكاناً يذهب
إليه:

(1)
أول تلك الأماكن هو لمبوس الآباء، وهو (على زعمهم) مكان نزلت إليه نفوس الآباء قبل
مجيء المسيح وانتظرت مجيئه. ولما أتى المسيح وأكمل عمل الفداء بموته على الصليب
نزل إلى حيث كانت تلك النفوس مسجونة وخلَّصها وأخذها ظافراً إلى السماء.

(2)
والمكان الثاني هو لمبوس الأطفال، وهو مكان يذهب إليه الأطفال غير المعمَّدين بعد
موتهم، ويبقون فيه إلى الأبد. وهذا المكان (مثل لمبوس الآباء) لا ذكر له في كلمة
الله. وقالوا إن الأطفال والآباء في العهد القديم لم يستفيدوا من الواسطة الوحيدة
لتطهير النفس من الخطية الأصلية، وهي (على زعمهم) بالمعمودية على يد الإكليروس.

(3)
والمكان الثالث هو المطهر، وهو مكان يدخل إليه جميع الذين يموتون من المنتمين
للكنيسة الكاثوليكية دون أن يوفوا قصاص خطاياهم الزمني، بحسب قانون “سر
التوبة”. والمطهر مكان عذاب. والرأي الغالب عندهم أن ذلك العذاب يكون بنار
مادية، وغايته التطهير والتكفير، وهو أليم هائل ومدته غير معينة، لكن يمكن
تقديرها وتخفيف العذاب بواسطة صلوات القديسين، ولاسيما ذبيحة القداس.
ولرؤساء الكنيسة الكاثوليكية ولاسيما البابا نفسه سلطة وقدرة على رفع العذاب
عن النفوس في المطهر. وسبب هذا التعليم أن أصحابه يعتقدون أن المسيح
ينقذنا من الخطية الأصلية وخطر الموت الأبدي بواسطة المعمودية، إذا لم نخطئ بعد
ممارستها. ولكن التخلص من الخطايا التي نرتكبها بعد المعمودية لا يكون إلا بحل
الكاهن عند الاعتراف، الذي به الخلاص من القصاص الأبدي، في هذه الحياة بواسطة سر
التوبة، وبعد الموت بعذاب المطهر. والوسائط العظيمة للتخلص من المطهر هي صلوات
الأتقياء وذبيحة القداس والغفرانات وتخصيص شيء من كنوز استحقاق القديسين.

(4)
المكان الرابع هو جهنم، وهي عندهم مكان يتعذب فيه الملائكة الساقطون إلى الأبد،
والبشر الذين يموتون في الخطية المميتة. فإلى جهنم يذهب جميع الذين يموتون خارجاً
عن حضن الكنيسة الكاثوليكية، وكل الذين لا يعتمدون من البالغين، وكل الذين يرتكبون
خطية مميتة ويموتون بدون نوال الحِل من الكاهن.

(5)
المكان الخامس هو السماء، وهي مكان الأبرار المكملين والملائكة الأطهار، حيث الله
والمسيح جالس على عرش عظمته. ولا يدخل السماء قبل القيامة إلا الذين يطهرون تماماً
عند موتهم والذين ينالون التطهير في المطهر بعد الموت.

9 – ما هي الاعتراضات على تعليم المطهر؟

*
أقرَّت الكنيسة الكاثوليكية هذا التعليم في بداية القرن السابع، وهو موجود في شِعر
فرجيل، وفي محاورةفيدو” لأفلاطون. وصُرّح به قانونياً في مجمع
فلورنس (سنة 1439م) وفي المجمع التريدنتيني (سنة 1545-1563م).

أما
الاعتراضات على هذا التعليم فهي كثيرة، نقتصر على خمسة منها:

(1)
لا يستند هذا التعليم على الأسفار المقدسة، وقد سلَّم معتقدوه بذلك، ولو أنهم
ادعوا أن في الكتاب تلميحاً إلى المطهر. ومن ذلك قول المسيح “من قال كلمةً
على ابن الإنسان يُغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يُغفر له، لا في هذا
العالم ولا في الآتي” (مت 12: 32). ولكن هذه الآية لا تشير إلى المطهر بل إلى
جهنم، بدليل قوله “لن يُغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي” أي لا
مغفرة له أبداً. وهذا نصيب الذين في جهنم. أما ما قالوه على سبيل الاستنتاج من هذه
الآية، وهو أن المغفرة تكون لبعض الخطايا في العالم الآتي، فلا سند له في
الأسفار المقدسة. ومنه قول الرسول “فعمل كل واحد سيصير ظاهراً
لأن اليوم سيبيِّنه، لأنه بنارٍ يُستعلَن، وستمتحن النار عمل كل واحد ما هو.
إن بقي عمل واحد قد بناه عليه فسيأخذ أجرة. إن احترق عمل واحد فسيخسر،
وأما هو فسيخلُص ولكن كما بنار” (1كو 3: 13-15). ولكن هذه الآية
لا تشير لنيران المطهر، بل للامتحان الذي يكشف الصفة الجوهرية في عمل كل
إنسان، هل هي مما يُمدَح أم لا. وامتحان عمل كل إنسان يختلف عن تطهير نفسه. وأما
قول الرسول “فسيخلص ولكن كما بنار” فمعناه أنه يتعسَّر عليه
الخلاص كثيراً، فيكون كمن أحاطت به النار وصار في خطر ولكنه خلص. وهذا اصطلاح في
اللغة اليونانية، ومنه قول السيد المسيح “كن مراضياً لخصمك سريعاً ما دمت معه
في الطريق، لئلا يسلِّمك الخصم إلى القاضي، ويسلمك القاضي إلى الشرطي فتلقى
في السجن. الحق أقول لك، لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير” (مت
5: 25، 26). ولكن الخطية المذكورة في هذه الآية هي الإصرار على عدم المغفرة للخصم،
ولا إشارة فيها إلى المطهر بل إلى جهنم.. ومنه قول بطرس الرسول “فإن المسيح
أيضاً تألم مرةً واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة لكي يقرِّبنا إلى
الله، مُماتاً في الجسد ولكن مُحيىً في الروح. الذي فيه أيضاً ذهب فكرز للأرواح
التي في السجن إذ عصت قديماً حين كانت أناة الله تنتظر مرة في أيام نوح” (1بط
3: 18-20). على أن السجن المذكور في هذه الآيات هو سجن النفوس الهالكة بالطوفان،
وكانت كرازة المسيح لهم في أيام نوح كما قيل. وبما أن هؤلاء الأشرار لم يقبلوا
الكرازة صاروا في سجن جهنم، لأن خطيتهم كانت رفض الحق، ولأنهم ماتوا غير تائبين
ولذلك هلكوا. والمطهر (على فرض وجوده) ليس لغير التائبين ورافضي الحق. فسجن النفوس
التي هلكت في الطوفان ليس هو المطهر بل جهنم. فليس في هذه الآية أية إشارة إلى
المطهر (انظر ما قلناه عن نزول المسيح للهاوية في فصل 37 س 8).

وذُكرت
في الأسفار المقدسة الأماكن في العالم الآتي بأسماء مختلفة كالهاوية وجهنم
والفردوس والسماء، ولكن لا ذكر للمطهر فيها. ولم يذكر المسيح والرسل الأطهار شيئاً
من ذلك. وعليه فإن هذا التعليم إضافة بشرية على كل التعاليم الإلهية (رؤ 22: 18).

(2)
يتناقض القول بالمطهر مع ما جاء في الأسفار المقدسة، ومن الآيات التي
تناقضه ما جاء عن لعازر: “حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم” (لو
16: 22) وعن الغني أنه ذهب إلى الهاوية أي إلى جهنم، وبين هذين المكانين هوة عظيمة
قد أُثبتت ولا طريق بينهما (لو 16: 26). ومنها قول المسيح للص التائب “اليوم
تكون معي في الفردوس” (لو 23: 43). فلو وُجد المطهر لقال المسيح للص “بعد
سنين كثيرة تكون معي في الفردوس، لأنك تحتاج إلى نيران المطهر زمناً طويلاً!”.
وعدم ذكر المسيح للمطهر هنا دليلٌ على عدم وجوده. ومنها صلاة استفانوس “أيها
الرب يسوع، اقبل روحي” (أع 7: 59). والقول إن التغرب عن الجسد هو الاستيطان
عند الرب (2كو 5: 8). والقول “إذاً لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في
المسيح يسوع” (رو 8: 1). وقول المسيح “من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني
فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى
الحياة” (يو 5: 24) والقول “المسيح افتدانا من لعنة الناموس”
(غل 3: 13) والقول “الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة” (1بط
2: 24). والقول “مَن سيشتكي على مختاري الله؟” (رو 8: 33-39). وقيل
أيضاً إن دم المسيح يطهر من كل خطية، وإن لا خلاص إلا بالمسيح، وإن
القديسين في السماء قد طهَّروا ثيابهم بدم الحمل. وقيل إشارة إلى أحوالنا بعد
الموت “من يظلم فليظلم بعد، ومن هو نجس فليتنجس بعد، ومن هو بار
فليتبرَّر بعد، ومن هو مقدس فليتقدس بعد” (رؤ 22: 11). فلو وُجد
المطهر لكانت هذه الآية مناسبة لذكره، ولكنها لم تذكره!

وليس
في الكتاب المقدس ما يشير على الإطلاق إلى عذاب المؤمنين بعد موتهم، بل فيه ما
ينفي ذلك، وهو قول الرسول “لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في
السماوات بناءٌ من الله، بيت غير مصنوع بيد، أبدي” (2كو 5: 1). وقوله: “وُضع
للناس أن يموتوا مرَّة، ثم بعد ذلك الدينونة” (عب 9: 27) فلماذا لم
يكملها بالقول: “ثم بعد ذلك عذاب المطهر”؟

وهذا
التعليم يناقض أقوال الكتاب الصريحة عن خلاص المؤمن بالمسيح ويكلِّفه أن يوفي ديون
نفسه، ويستلزم كذلك فرض استحقاق الأعمال الصالحة. ولكن الإنجيل يحكم أننا نخلص
بالنعمة لا بالأعمال. بل إن التعليم بوجود المطهر يستلزم القول بأن القديس يمكن أن
يكنز لنفسه كمية من الاستحقاق أكثر مما تقتضي مغفرة خطاياه، ومن هذا الاستحقاق
الزائد المكنوز تأخذ الكنيسة وتخصص ما تشاء لإعانة النفوس في المطهر. فكأن جنسنا
الساقط العاجز يقدر أن يعمل فوق ما يطلبه الله منه، حتى يصير الله مديوناً له.
وحاشا لله!

(3)
أدى تعليم المطهر إلى أضرار جسيمة في تاريخ الكنيسة. ولا يخفى أن السلطان الذي لا
يُؤتمن عليه إلا الله نفسه، إذا سُلِّم إلى أناسٍ خطاة ضعفاء، لابد أن ينتهي بأعظم
فساد.

(4)
الأدلة التي تستند عليها الكنيسة الكاثوليكية لإثبات المطهر ضعيفة وخاطئة، ومنها
ادعاؤها قوة الحل والربط، وقولها بالخلافة الرسولية، وشهادة التقاليد، واستدلالها
بالصلاة لأجل الموتى، وتعليم سر التوبة بمعنى أن الإنسان ملزوم أن يكفر عن خطايا
نفسه حتى إن كان متبرراً ببر المسيح.

وقد
رفضت الكنائس الأرثوذكسية والإنجيلية فكرة المطهر، الذي لم يُذكر شيء من أمره في
المجامع المسكونية الأولى. فإن أجساد البشر بعد الموت تعود إلى التراب وترى
فساداً، وأما نفوسهم التي لا تموت ولا تنام فتعود حالاً إلى الله الذي أعطاها، لأن
لها جوهراً غير قابل للموت. وحينئذ تصير نفوس الأبرار كاملة في
الطهارة في السماوات العليا، حيث تشاهد وجه الله في النور والمجد وهي تنتظر فداء
أجسادها الكامل. أما نفوس الأشرار فتطرح في جهنم حيث تبقى تحت العذاب والظلام
التام محفوظة إلى حكم اليوم العظيم. ولا يحكم الكتاب المقدس عن مكان آخر غير هذين
للنفوس المنفصلة عن أجسادها.

(5)
التعليم بالمطهر يناقض العقل لأنه يقول إن نار العذاب تطهر نفوس البشر. فما هي
علاقة نار العذاب بالتطهير الأخلاقي، وما هي العلاقة بين فعل النار المادية وتطهير
النفس الروحي، وأين ذلك كله من قول الكتاب إن “دم يسوع المسيح يطهر من كل
خطية” وإن الأطهار “غسلوا ثيابهم بدم الحمل” وليس بنيران المطهر؟

10 – ما هي الاعتراضات على القول بفرصةٍ ثانية بعد الموت لنوال
الخلاص للذين لم ينالوه في هذه الحياة؟

*
يعلِّم الإنجيل أن الموت هو نهاية الفرصة المعينة للبشر للتوبة والإيمان بالمسيح،
وهو نهاية نوال المغفرة والخلاص بواسطة استعمال نور الطبيعة عند من لم يعرفوا
الوحي (إذا صحَّ إمكان الخلاص بالنور الخارج عن معرفة الكتاب المقدس). ولم تصدق
التعاليم اللاهوتية المؤسسة على كتاب الله في عصر من العصور على القول بدوام
الفرصة لاستماع الإنجيل ونوال فوائد موت المسيح في العالم الآتي بعد انتقال
الإنسان من هذه الحياة الأرضية. بل قد اشتهر دائما القول “هوذا الآن وقت
مقبول، هوذا الآن يوم خلاص” (2كو 6: 2) أي أن الموت هو نهاية الأمر.
وهذا التنبيه وغيره مفيد ومهم لأنه يقطع كل رجاء باطل من جهة الخلاص بعد الموت
للذين لم يخلصوا قبله كما قيل “فلنخَفْ أنه مع بقاء وعدٍ بالدخول إلى
راحته يُرى أحدٌ منكم أنه قد خاب منه” (عب 4: 1). وكما قيل في مثل العذارى
العشر “أُغلق الباب” بمعنى أن باب الرجاء في الخلاص قد أُغلِقَ عند
الموت. فيتوقف مستقبل كل إنسان على نتيجة أعماله في هذه الحياة. والحصاد في العالم
الآتي هو نتيجة الزرع هنا. وهذا النظام يتفق مع حكمة الله ويوافق هدف عمل الفداء،
كما يوافق عدل الله وصلاحه.

على
أنه قد شاع الاعتقاد بين البعض أن هذا التعليم غير عادل، ويخالف روح
الوحي وبعض آيات الكتاب التي حُسبت أنها تلميحات إلى فرصة أخرى بعد الموت، لا سيما
للذين لم تكن لهم فرصة الاستماع لبشرى المسيح ومطالعة أسفار الوحي في هذه الحياة.

أما
الاعتراضات على هذا الاعتقاد فهي ستة:

(1)
إن الأسفار المقدسة لا تعلم ذلك، ونذكر منها ما قاله المسيح، وما قاله الرسل: (أ)
قول المسيح “من قال كلمةً على ابن الإنسان يُغفر له، وأما من قال على الروح
القدس فلن يُغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي” (مت 12: 32). فاستنتجوا
من هذه الآية وجود مغفرة أخرى في العالم الآتي.. لكن المعنى ليس كذلك، بل غاية قول
المسيح هي تشديد القول بعدم مغفرة تلك الخطية أبداً، بدليل ما يرادفه في إنجيل
مرقس وهو قوله “من جدَّف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو
مستوجب دينونة أبديَّة” (مر 3: 29). فقول المسيح يعلمنا أن لا مغفرة لمن جدف
على الروح القدس برفض ما يعلنه عن المسيح، لا في هذا العالم ولا في العالم الآتي،
فإن وقت امتحان الإنسان ينتهي قبل موته، أي عند ارتكابه تلك الخطية التي ليس لها
مغفرة. (ب) ما قاله الرسول بطرس عن كرازة المسيح للأرواح التي في السجن (1بط 3:
18-20) فاستنتَجوا من هذه العبارة أن المسيح ذهب وكرز بالإنجيل للموتى، فصارت لهم
فرصة أخرى للتوبة وقبول الإنجيل، واستدلوا بقولٍ آخر في هذه الرسالة (1بط 4: 6)..
وللرد نقول: إن هذا الاستنتاج لا يصح من هذه الآيات، فليس فيها أية إشارة للكرازة
بالإنجيل في جهنم للأرواح التي قد انتقلت إلى ذلك السجن، بل هي تقول إن المسيح بشر
الذين هلكوا بالطوفان بلسان نوح، لأن نوحاً بشَّر بروح المسيح. وكذلك ما جاء في
1بطرس 4: 6 لا يشير إلى تبشير الموتى بعد الموت، بل إلى تبشير الذين كانوا قد
ماتوا وهم أحياء على الأرض. وسندنا في هذا التفسير أن كل ما ينبئنا به الكتاب في
شأن التبشير بالخلاص لم يكن بعد الموت على الإطلاق بل قبله. وليس في الكتاب ما
يثبت الظن أن المسيح في المدَّة بين موته وقيامته نظَّم نظاماً آخر للخلاص بين
الهالكين. وعلى فرض صحة القول إن تلك الكرازة كانت بمعنى منح فرصة أخرى للأموات
لقبول الإنجيل، فلماذا تخصَّصت تلك الكرازة لمن هلكوا بالطوفان فقط؟ ألا يعني هذا
أن الله ميَّزهم على غيرهم وأعطاهم فرصة استماع الحق ونوال الخلاص بواسطة كرازة
نوح مدة 120 سنة؟ ولماذا هذا التمييز؟ ألم يكن أَوْلى بهذه الفرصة الثانية للتوبة أولئك
الذين لم تكن لهم فرصة كافية في هذه الحياة ليتوبوا؟ وعليه، فليس في هذه الآية
دليل يثبت وجود فرصة للتوبة بعد الموت بناءً على عدم وجود فرصة في هذه
الحياة. ولو صحَّ تفسيرهم لَمُنحت فرصة توبة بعد الموت لأهل سدوم وعمورة (لو 17:
26، 27 و2بط 2: 3-9). وعلى فرض أن تلك الكرازة صارت كما يزعمون، فمن أين نستنتج
أنها أنشأت توبةً في الذين نالوها؟ فإن الذين رفضوا الحق في هذه الحياة سيرفضونه
بأعظم حماقة في العالم الآتي. وعلى ذلك يكون معنى هذه الكرازة كمعنى مثل الغني
ولعازر “إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء، ولا إن قام واحد من الأموات
يصدقون” (لو 16: 31). والأصح أن هذه الآيات لا تعلّم تعليماً يناقض غيرها من
التعاليم الصريحة الكثيرة في الكتاب. وقد استند أهل هذا الزعم لإثباته على آيات
غير المذكورة، وحسبوها إشارة إلى خلاص جميع البشر أخيراً (1كو 15: 22-28)
كما استندوا إلى آيات تفيد أن المسيح رب الأحياء والأموات (رو 14: 9 ورؤ 1: 18)
وآيات تشير حسب تفسيرهم إلى أن قصاص الأشرار ليس أبدياً، وآيات شتى تبين
عظمة محبة الله للخطاة وقيمة الخلاص وهول الهلاك. على أن تلك الآيات لا تدل
على شيء مما قصدوه. فإن الكتاب المقدس لا يعلِّم عن فرصة للتوبة والخلاص بعد
الموت.

(2)
تعلِّم الأسفار المقدسة ما يخالف هذا الزعم، فالكتاب يقدم إنجيل الخلاص للبشر لأنه
يهمهم في هذه الحياة، وينبغي قبوله هنا لا في الدهور الآتية، لأن التأخر عن قبوله
خطر يُفضي إلى هلاك النفس. كما أن التبشير بالخلاص ووسائط النعمة وتأثير الروح
القدس جميعها تختص بعالمنا هذا، ولا وَعْد ولا تلميح بوجودها في العالم الآتي، ولا
مغفرة بعد الموت، فالنفس عند الموت تبلغ حالتها الأبدية إما للخلاص وإما للهلاك،
وإن تلك الحال لن تتغير إلى الأبد. ومن العبارات التي تثبت ما سبق: (أ) مثل المسيح
في لعازر والغني (لو 16: 19-31) فقيل إن نصيب الغني بعد الموت كان مبنياً على ما
جرى في حياته (آية 25) وإن ذلك النصيب لا يمكن أن يتغير لوجود الهوة العظيمة التي
تمنع العبور (آية 26) وإن الغني طلب لإخوته على الأرض لا لنفسه (آيتا 27، 28) ولم
يذكر إبراهيم غير كتب “موسى والأنبياء” كوسائط إرشاد في هذه
الحياة لإخوة الغني. (ب) قول الرسول: “لأنه لا بد أننا جميعاً نُظهر
أمام كرسي المسيح لينال كل واحدٍ ما كان بالجسد بحسب ما صنع، خيراً كان أم شراً”
(2كو 5: 10) فالحكم يصدر على ما يُصنع في هذه الحياة، وانفصال
الروح عن الجسد هو نهاية ما تجرى عليه الدينونة. (ج) قول الرسول “الذي
سيجازي كل واحد حسب أعماله” (رو 2: 5-11) فأساس الحكم هو أعمالنا في هذه
الحياة، لا الأعمال التي يعملها الإنسان بنور الوحي فقط، بل التي يعملها بنور
الطبيعة أيضاً كما قيل “اليهودي أولاً ثم اليوناني” (آية 9). (د) قول
الرسول إن الأمم ستُحاكم بحسب النور الذي لها (رو 2: 14-16 و1: 18-32). فلكل إنسان
(حتى الوثني) نور كافٍ يجعله بلا عذر، والحكم عليه لا بد منه إذا رفض إرشاد ذلك
النور. وعلى هذا فالذين ليس لهم غير النور الطبيعي يُمتحنون في هذه الحياة، لكن
الحكم عليهم لا يكون كما لو كان لهم نور الوحي. وهو حكم نهائي بمقتضى
استحقاقهم وبموجب العدل. (ه) قول الرسول “وُضِع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد
ذلك الدينونة” (عب 9: 27) ولم يقل: ثم بعد ذلك فرصة أخرى بعد الموت. (و)
قول المسيح “أنا أمضي، وستطلبونني وتموتون في خطيتكم.. لأنكم إن لم تؤمنوا
أني أنا هو تموتون في خطاياكم” (يو 8: ا 2، 24). وهذا يفيد أن ذلك نهاية
الأمر، كأن الموت في خطاياهم يقطع رجاءهم في الخلاص. (ز) قول صاحب الرؤيا “من
يظلم فليظلم بعد، ومن هو نجس فليتنجس بعد” (رؤ 22: 11). وهذا معناه أن لا
فرصة للأشرار بعد الموت. (ح) قول المسيح “لكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلَّم
ابن الإنسان. كان خيراً لذلك الرجل لو لم يُولد” (مت 26: 24). فلو عرف المسيح
أن ليهوذا فرصة أخرى للتوبة بعد الموت ما قال: خير له لو لم يولد. (ط) قول
الرسول “فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعد ما أخذنا معرفة الحق، لا تبقى بعد
ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف، وغيرة نارٍ عتيدة أن تأكل المضادين”
(عب 10: 26، 27) فلو كانت للناس فرصة للتوبة أو الهداية بعد الموت
ما قال الرسول ذلك، بل لقال: إذا أخطأنا باختيارنا بعد ما أخذنا معرفة الحق تبقى
لنا فرصة بعد الموت لنوال فوائد الذبيحة الكفارية. فهذه الآية تستأصل هذا الضلال،
وتنفي كل فرصة للتوبة بعد الموت.

من
كل ما سبق نرى أن جميع الناس حتى الوثنيين (رو1: 18-32 و2: 3-15) أخذوا فرصة كافية
للتوبة ونوال الخلاص في هذا العالم. فإذا لم يتمموا واجباتهم دانهم الله على قدر
النور الذي رفضوه، لا نور الإنجيل الذي لم يعرفوه. ولا بد من معاملة الله لهم
بالعدل كما قيل “كل من أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك، وكل من أخطأ في
الناموس فبالناموس يُدان” (رو 2: 12).

وإذا
قيل إن الكتاب المقدس لم يصرح بنفي فرصة التوبة بعد الموت، قلنا: لا لزوم لذلك،
لأن الكتاب صرح بأن فرصتنا هي في هذه الحياة، ولم يصرح بفرصة أخرى بعد الموت. وهذا
دليل على عدم وجودها. ولو أنها كانت موجودة لأفادنا الله بها، لأنها من
أعظم ما يهم البشر.

(3)
التعليم بوجود فرصة ثانية لنوال الخلاص بعد الموت يخالف مثال الرسل وغيرتهم في
التبشير مدَّة بقائهم في هذا العالم، فقد اجتهدوا كلهم في الكرازة بخبر الخلاص
للبشر في هذه الحياة، وكابدوا مشقات عظيمة لإتمام غايتهم. فلو عرفوا أن للبشر فرصة
أخرى بعد الموت ما أظهروا تلك الغيرة العجيبة في دعوة الناس للرب في هذا العالم،
ولم يسكتوا عن إبلاغ أهل زمانهم أنهم إن لم يقبلوا المسيح في هذه الحياة، فلهم
فرصة أخرى بعد الموت. فإن كان الرسل لم يقولوا هذا القول ولا قاله المسيح له
المجد، فمن من البشر يجوز له أن يقوله؟ وإذا كان المسيح قد قاله، فمَن مِن البشر
سيهتم بأن يتوب هنا ولا ينتظر الفرصة بعد الموت، فيعيش في هذه الدنيا بحسب
شهواته الدنيوية. لأن الناس بذلك لا يرون حاجةً إلى التوبة في هذه الحياة،
فلا يؤثِّر فيهم وعظ ولا إنذار. وتكون نتيجة هذا التعليم نزع الشعور بالمسؤولية من
قلوب البشر، وانحطاط شأن الديانة.

(4)
يبرهن أمر المسيح للكنيسة بالذهاب إلى كل العالم والكرازة بالإنجيل لجميع الناس
ليرجعوا إلى الله في هذه الحياة، خطأ القول بفرصة أخرى للتوبة بعد الموت، لأن فرصة
نوال الخلاص بالمسيح لا تكون إلا في هذه الحياة! ولقد وعد المسيح المبشرين أن يكون
معهم في إتمام هذا الأمر إلى انقضاء الدهر، ولكنه لم يقل شيئاً عن الخلاص بعد انقضاء
العالم. وقال الرسول “فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم
يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بلا كارز؟” (رو 10: 14) وجعل المسيح الرسل “صيادي
الناس”. وقال الرسول يعقوب “من ردَّ خاطئاً عن ضلال طريقه يخلّص نفساً
من الموت (كأن لا فرصة بعد الموت) ويستر كثرة من الخطايا” (يعقوب 5: 20).
فليس في أمر المسيح للكنيسة ما يجعلها تعلم البشر بفرصة توبة أخرى بعد الموت.

(5)
أدلة القائلين بهذا التعليم ليست كافية لإثباته ولا لترجيحه. ومنها: (أ) الفرصة
الثانية ضرورية لأن الله عادل.. وللرد نقول: ليس الله ملزوماً أن يهب أكثر من فرصة
واحدة، بل إنه غير ملزوم بعمل الفداء مطلقاً. يكفي أنه سيعامل كل البشر
بتمام العدل ولا يظلم أحداً، سواء كان من رافضي المسيح عمداً أم من الذين لم
يعرفوا شيئاً من أمر الإنجيل. ومبدأ الحكم عند الله هو عين العدل، فالعبد الذي
يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته يُضرَب كثيراً. ولكن الذي لا يعلم
ويفعل ما يستحق ضربات يُضرب قليلاً (لو 12: 47، 48). فمبدأ العدل ظاهر في قول
المسيح “يفعل ما يستحق ضربات” والنتيجة أن الذي لا يفعل ما يستحق
الضربات (إن وُجد مثل هذا العبد) لا يُضرب أبداً. (ب) الفرصة الثانية لازمة لأن من
الصعب على العقل أن يسلّم بكفاية مدة هذه الحياة للتوبة.. وللرد نقول: إن الكتاب
المقدس أضبط وأصح من حكم العقل، بل إن إنارة كل عقل هي من الكتاب. وليس للعقل حكم
على الكتاب في شيء. وإذا سلمنا برفع شأن العقل على أقوال الكتاب الواضحة، فإنما
نجعل الحكم للعقل لا للكتاب في جميع المسائل، لا في هذه فقط. (ج) يستلزم كون
الإنجيل لجميع الناس أن نقدمه لهم. وإن لم تتهيأ الفرصة لذلك في هذه الحياة فلابد
منها بعد الموت.. وللرد نقول: إن الإنجيل، وإن كان مُعداً للناس جميعاً، إلا أنه
لا يفيدهم إلا إن قبلوه. والذي يرفضه في هذه الحياة ليس له أن ينتظر فرصة أخرى
بعدها. والذين لم يعرفوا الإنجيل منا لا يحكم الله عليهم بسبب رفضهم الإنجيل، بل
بسبب رفضهم ما عندهم من نور. ولكن في قدرة الله أن يرشدهم بروحه وبنور العقل
والضمير إلى الاتكال على رحمته بالتوبة والتواضع. وعلى هذا لا نرى مانعاً (إن شاءت
إرادته) يمنعه من تخصيص فوائد موت المسيح لخلاصهم. أما الذين يخطئون رغم ما عندهم
من نور الطبيعة فيُدانون كسائر البشر بموجب استحقاقهم لا سواه. فلنا أن نتركهم إلى
جودة الله وعدله. وليس لنا أن نقول إن الله ملزوم أن يقدم لكل شخص نور الإنجيل، وإلا
يكون قد ظلم الذين لم ينالوا هذا النور. لأنه لو كان الله ملزوما بذلك لكان عَمَلُ
الفداء على سبيل الدَّيْن، لا على سبيل النعمة. (د) لجميع البشر الحق في معرفة
المسيح والاستفادة من وسائط النعمة وتأثير الروح القدس. وبما أن جانباً عظيماً من
البشر ليس لهم هذه المعرفة في هذه الحياة، يحق لهم ذلك في الحياة الآتية.. وللرد
على هذا نقول ما قلناه في الجواب السابق، وهو أنه ليس لأحدٍ حق في معرفة المسيح،
لأن هذا يرجع إلى رحمة الله وقضائه واستحسانه ونعمته، فهو يرحم من يشاء. على أن
الخلاص لا يتوقف فقط على معرفة المسيح ومعرفة الوحي، فإن الأطفال والمجانين
يخلصون، فليس لنا أن نحكم بعدم إمكان خلاص البشر بدون معرفة المسيح. فربما اختار
الله أناساً منهم فيرشدهم بروحه ونور الضمير والطبيعة إلى رفض الخطية وإلى التوبة
والاتكال على رحمته. وليس لنا أن نحكم أن الوثني الذي تمت فيه هذه الشروط لا ينال
نصيباً من فوائد موت المسيح، وإن لم يعرف كيفية الخلاص بكفارة المسيح. وهذا القول
ليس بعيداً عن روح الكتاب، وهو يوافق ما نعرفه عن رحمة الله،
ويستلزم التوبة في هذه الحياة.

(6)
التعليم بفرصة ثانية للخلاص بعد الموت يؤدي إلى نتائج خاطئة، نذكر منها ما يأتي:
(أ) إنه يحط من شأن الكتاب المقدس وسلطانه باعتباره دستورنا في المسائل الدينية،
ولا سيما في ما يختص بطريق الخلاص. فإذا صحَّ أن نضيف إلى الكتاب تعليماً كهذا ليس
فيه، فذلك إهانةٌ للكتاب وإنكارٌ لكفايته ورفضٌ لإرشاده. (ب) إنه يرفع شأن
العقل إلى درجة غير جائزة، ويفوِّض إليه إصدار تعاليم تخالف الوحي، لأننا
إذا حكمنا بوجود فرصة أخرى بعد الموت بحجة أننا بذلك نبرر الله من الظلم، نكون قد
جعلنا الكتاب المقدس يقول ما لم يقُلْهُ! وليس لنا أن نسلك بنور العقل من جهة
مسائل أوضحها الوحي. (ج) إنه يحط من شأن الحياة الحاضرة، ويغير
علاقتها بالحياة الآتية، ويجعل معظم البشر ينالون الخلاص في العالم الآتي. وهذا
يخالف الكتاب الذي يعظم شأن هذه الحياة ويجعلها وحدها فرصة نوال الخلاص. (د) إنه
يحوِّل بُشرى الخلاص من باب النعمة إلى باب الاستحقاق، لأن هذا التعليم يقول إن
لكل إنسان حقاً أن يعرف طريق الخلاص بالمسيح معرفة جيدة، وإلا فهو
مظلوم. وهكذا يصير الخلاص ليس من النعمة بل من حقوق البشر.
(ه) إنه يرفع عن جميع الوثنيين وعن أهل الوحي أيضاً لزوم التوبة في هذه الحياة،
ويحررهم من مسؤولية واجباتهم الدينية. فإذا كان للجميع فرصة أخرى، لا تبقى ضرورة
لأن ينتهزوا الفرصة الأولى. وكذلك يرفع عنهم كل دينونة إن لم يستفيدوا من الوسائط
المُعدَّة في هذه الحياة، فالوثني يموت بريئاً. كما أن الذين عرفوا الإنجيل لا
يكونون تحت المسؤولية عند انتقالهم إلى العالم الآخر. وهذا يدفع البشر لرفض وسائط
الخلاص هنا وعدم الانتباه لها بحجة أن لهم فرصة أخرى بعد الموت. (و) إنه يُخمد
غيرة الكنيسة في التبشير بالإنجيل بين الوثنيين والضالين، ويقضي على كل كرازةٍ
للعالم. فلماذا تتكلف الكنيسة إرسال المبشرين إلى الضالين لتعليمهم طريق الخلاص
بالمسيح، مع أن لهم فرصة أخرى أفضل لمعرفة المسيح ونوال الخلاص به! ولكن بولس لم
يرَ هذا الأمر على هذه الصورة، فقال “فإذ نحن عالمون مخافة الرب نُقنع الناس”
(2كو 5: 11) وقال “لأن محبة المسيح تحصرنا” (آية 14). فالذي ساق الكنيسة
إلى التبشير بالإنجيل والاجتهاد في توزيع الأسفار المقدسة ورد الضالين في كل العالم
إلى المسيح هو اليقين أن ذلك ضروري في هذه الحياة لخلاصهم.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى