علم الله

الفصل التاسع والثلاثون



الفصل التاسع والثلاثون

الفصل التاسع
والثلاثون

الدعوة

 

1 – ما هو عمل كل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس في الفداء؟

*
يعلّمنا الكتاب أن لكل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس قسم من عمل الفداء، فينسب
إلى الآب تدبير الفداء، واختيار المخلَّصين، وإرسال الابن لإجراء الفداء. وينسب
إلى الابن إكمال كل ما هو ضروري ليجعل خلاص البشر الخطاة مطابقاً لناموس الله
وكماله، ومنح الفداء النهائي للذين أعطاهم الآب للابن. وينسب إلى الروح القدس
تخصيص الفداء الذي اشتراه المسيح، لأنه لو تُرك الناس لأنفسهم بعد السقوط لداموا
في عصيانهم ورفضوا المصالحة التي يعرضها الله عليهم، فيكون المسيح قد مات عبثاً.
فإنجازاً للوعد الإلهي أنه يرى من تعب نفسه ويشبع، يعمل الروح القدس في شعب الله
المختارين، فيأتي بهم إلى التوبة والإيمان، فيصيرون ورثة الحياة الأبدية بيسوع
المسيح مخلِّصهم.

2 – ما هو عمل الروح القدس في مختاري الله ليأتي بهم إلى التوبة
والإيمان؟

*
عمل الروح القدس هو “الدعوة” كما يظهر من قوله “شركاء الدعوة
السماوية” (عب 3: 1) وقوله “رجاء دعوته” (أف 1: 18) وقوله “أن
تسلكوا كما يحق للدعوة التي دُعيتم بها” (أف 4: 1) وقوله “رجاء دعوتكم
الواحد” (أف 4: 4) وقوله “دعانا دعوة مقدسة” (2تي 1: 9) وقوله “أن
تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين” (2بط 1: 10). والفعل الوارد في الأصل
اليوناني للتعبير عن عمل الروح القدس المذكور معناه “دعا”. ومن أمثلة
ذلك قوله “الذين سبق فعيّنهم فهؤلاء دعاهم أيضاً، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم
أيضاً” (رو 8: 30 انظر أيضاً 9: 11، 24). وقوله “الذي به دُعيتم إلى
شركة ابنه” (1كو 1: 9). وقوله “الذي دعاكم”. وقوله “الذي
أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته” (غل 1: 6، 15). وقوله “الذي دعاكم إلى
ملكوته ومجده. أمين هو الذي يدعوكم” (1تس 2: 12 و5: 24). وقوله “الأمر
الذي دعاكم إليه بإنجيلنا لاقتناء مجد ربنا يسوع المسيح” (2تس 2: 14). وقوله “الذي
دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب”. وقوله “الذي دعانا إلى مجده الأبدي
في يسوع المسيح” (1بط 2: 9 و5: 10). وقوله “بمعرفة الذي دعانا بالمجد
والفضيلة” (2بط 1: 3).

3 – من هم الذين يعمل فيهم الروح القدس ذلك العمل العظيم؟

*
هم “المدعوون” كما يظهر من قول الرسول “مدعوو يسوع المسيح”
وقوله “الذين هم مدعوون حسب قصده” (رو 1: 6 و8: 28). وقوله إن الكرازة
بالمسيح للبعض عثرة وللبعض جهالة، وأما “للمدعوين، يهوداً ويونانيين،
فبالمسيح قوة الله وحكمة الله” (1كو 1: 23، 24). وقول يهوذا في رسالته “إلى
المدعوين والمحفوظين ليسوع المسيح” (آية 1).

والمدعوون
والمختارون بمعنى واحد، كما يظهر من قول صاحب الرؤيا إن الحمل هو “رب الأرباب
وملك الملوك، والذين معه مدعوون ومختارون ومؤمنون” (رؤ 17: 14). وكذلك قول
بولس “ليس كثيرون حكماء، بل اختار الله جهّال العالم ليُخزي الحكماء”
(1كو 1: 26، 27). وقوله إن المسيح وسيط عهدٍ “لكي يكون المدعوون.. ينالون وعد
الميراث الأبدي” (عب 9: 15).

فالخطاة
يصيرون شركاء في فوائد الفداء بدعوة إلهية فعالة، هي عمل الروح القدس الذي به يفعل
فيهم إلى أن ينقلهم من ملكوت الظلمة إلى ملكوت ابن الله الحبيب.

4 – لماذا يُسمى عمل الروح القدس “دعوة” وماذا نتعلم من
ذلك؟

*
نشأ هذا التعبير مما جاء في الكتاب المقدس عن الله وعلاقته بالعالم، فهو الذي يقول
فيصير، ويدعو الأشياء غير الموجودة فتوجد. فكل ما يحدث من أعمال قدرته يحدث بكلمته.
وكما أنه خلق كل الأشياء في العالم الظاهر بكلمة قدرته، كذلك كل ما يحدث في العالم
الروحي يجري بمجرد إرادته أو أمره. ومعنى الدعوة في الكتاب الإحداث أو الإيجاد.
ويترتب على ذلك أمران: (1) إن الله هو علة ما يحدث بدعوته أو أمره. و(2) إن القوة
الفاعلة في دائرة الروحيات ليست من الأسباب الثانوية أو الطبيعية. فالخاطئ يصير
خليقة جديدة بدعوة الله. وهذا لا يحدث عن أسباب طبيعية أو روحية، ولا عن عمل
الإنسان نفسه، بل عن مجرد قدرة روح الله. ولذلك كثيراً ما أتت “الدعوة”
في الكتاب بمعنى الإحداث أو الإيجاد، فإن الشعب أو الفرد ينتقل بدعوة الله إلى ما
يُدعى إليه، فلما دعا الله العبرانيين ليكونوا شعبه صاروا شعبه، ولما يُدعى شخص
ليكون نبياً يصبح نبياً، ولما دُعي بولس ليكون رسولاً صار رسولاً. والذين دُعوا
بدعوة فعالة ليكونوا قديسين صاروا قديسين.

5 – ما هو الفرق بين الدعوة الخارجية والدعوة الداخلية؟

*
يميّز الكتاب المقدس بين الدعوة الخارجية الظاهرة التي يخاطب الله بها الجميع
بكلمته المقدسة، وبين الدعوة الداخلية الفعالة، بدليل قوله “لأن كثيرين
يُدعَون، وقليلين يُنتخبون” (مت 22: 14 و20: 16) وقوله “دعوت فلم
تُجيبوا” (إش 65: 12) وقوله “لأني دعوتُ فأبيتم” (أم 1: 24) وقوله “دعوتكم
فلم تجيبوا” (إر 35: 17 و35: 17 وإش 66: 4).

6 – ماذا تتضمن الدعوة الخارجية؟

*
(1) إعلان طريق الخلاص.

(2)
وعد الله بتخليص كل الذين يقبلون شروط هذه الطريق.

(3)
أمر الله ونصحه ودعوته للجميع بأن يقبلوا الرحمة التي يعرضها عليهم.

(4)
إظهار الأسباب التي من شأنها أن تشجع الناس على التوبة والإيمان ليخلصوا من الغضب
الآتي.

وجميع
هذه الأمور واضحة في الإنجيل لأنه إعلان طريق الله لخلاص الخطاة. ومن أقواله “كل
من يدعو باسم الرب يخلص” (أع 2: 21). وقوله “من يُقبل إليَّ لا أُخرجه
خارجاً” (يو 6: 37). وأمره جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا ويؤمنوا بالرب
يسوع المسيح (أع 2: 38 و16: 31). والإنذار بعد الأمر كقوله “ارجعوا ارجعوا عن
طرقكم الرديئة، فلماذا تموتون؟” (حز 33: 11). “ليترك الشرير طريقه ورجل
الإثم أفكاره، وليتُب إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران” (إش 55:
7).

“التفتوا
إليَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض” (إش 45: 22). وفضلاً عن ذلك يخاطب
الإنجيل عقول البشر وضمائرهم وعواطفهم وكل ما يحملهم على قبول دعوته الكريمة.

7 – ما معنى أن هذه الدعوة الخارجية عامة، وممَّ نشأت عموميتها؟

*
معناه أنها موجَّهة إلى جميع الذين يصلهم الإنجيل بلا تمييز، فلا تنحصر في جيل ولا
أمة ولا طبقة من البشر، بل تمتد إلى الجميع. ونشأت عموميتها عن موضوعها، لأنها
تعلن الشروط التي يخلص الله بها الخطاة، وواجبات البشر الساقطين لينالوا الخلاص،
فكانت بالضرورة عامة لكل البشر الخطاة. وهي من هذا القبيل شبيهةٌ بالناموس
الأخلاقي الذي يعلن لجميع البشر واجباتهم في علاقتهم بالله خالقهم وحاكمهم
الأخلاقي الذي يعِد الطائعين برضاه الإلهي، ويهدد العصاة بالغضب. فهو يمتد
بالضرورة إلى كل الخلائق العاقلة. فدعوة الإنجيل هي لكل طبقة من البشر الساقطين
لأنه يأمرهم أن يقبلوا المسيح ويتصالحوا مع الله باعتباره “مصالحاً العالم
لنفسه”.

ويعلن
الكتاب المقدس أن دعوة الإنجيل هذه موجَّهة إلى كل الناس، فقد أمر المسيح الكنيسة
أن تكرز بالإنجيل للخليقة كلها، ولا يُستثنى من ذلك إلا الخلائق غير العاقلة والملائكة
الساقطون. ولذلك يجب أن يُعرض خلاص المسيح على كل مخلوق من البشر على وجه الأرض.
ولا يجوز لنا أن نُخرج أحداً من هذه الدعوة، ولا يجوز لأحدٍ أن يُخرج نفسه منها “لأنه
هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له
الحياة الأبدية” (يو 3: 16). وقد تكرر في العهد الجديد الوعد المذكور في
يوئيل بقوله “كل من يدعو باسم الرب ينجو” (يوئيل 2: 32 انظر أع 2: 21
ورو 10: 13) وقال داود “لأنك أنت يا رب صالح وغفور وكثير الرحمة لكل الداعين
إليك” (مز 86: 5). وقال إشعياء “أيها العطاش جميعاً هلموا إلى المياه،
والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا. هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمراً
ولبناً” (إش 55: 1). ودعا المسيح الخطاة بدون قيدٍ قائلاً “تعالوا إليَّ
يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت 11: 28) وخُتمت الأسفار
المقدسة بالقول “الروح والعروس يقولان تعال. ومن يسمع فليقل تعال. ومن يعطش
فليأتِ. ومن يرد فليأخذ ماء حياة مجاناً” (رؤ 22: 17). وبناءً على ذلك ذهب
الرسل وكرزوا بالإنجيل لكل طبقات الناس مؤكدين أن كل من يتوب ويؤمن بالرب يسوع
المسيح يخلص.

8 – هل توافق الدعوة الخارجية صدق الله؟

*
اعترض قومٌ على الدعوة الخارجية التي تعرض الخلاص على الذين قصَد الله بسابق حكمه
أن يتركهم لجزاء خطاياهم العادل، وقالوا إنها مغايرة لصدق الله.. فنجيب: سبق أن
اعتُرض بمثل ذلك على سابق علم الله بالقول: كيف يعرض الله الخلاص على الذين عرف
بسابق علمه أنهم يحتقرونه ويرفضونه؟ فإنه بذلك يعظم ذنبهم ويشدد دينونتهم.
والاعتراضان خاطئان، وهما ناشئان عن قِصر فهمنا، فنحن لا نستطيع أن ندرك طرق الله
التي لا تُستقصى، ولا نفهم كيفية سياسته للعالم وإتمام مقاصده الفائقة الحكمة.
فيجب أن نقتنع بأنه لا يحدث إلا ما يسمح الله بوقوعه. وكل ما يسمح به يليق أن يسمح
به. ويكفي في هذا الأمر أن نعرف أن خلاص المسيح معروضٌ على كل إنسان، وأن كل من
يقبله يخلص، وأن ما أعده الله من الخلاص كافٍ لجميع البشر. وأما مسألة مقاصد الله
في الاختيار وعدمه فليست من شأن خدّام الإنجيل الذين يجب عليهم التبشير به. ولا هو
من شأن الخطاة الذين يجب عليهم أن يقبلوه بالشكر. وإذا كان أمر الله للناس بأن
يحبوه لا يناقض صدقه، فلا يناقض صدقه أمره لجميع الناس أن يتوبوا ويؤمنوا
بالإنجيل.

9 – ما البرهان على أن الدعوة الخارجية إلى الخلاص لم تأتِ للبشر
إلا في الإنجيل؟

*
يدعو الله البشر للخلاص بواسطة سماع كلمته وقرائتها، فالله لم يعلن طريق الخلاص
بواسطة أعماله أو عنايته، ولا بنظام طبيعتنا الأخلاقي، ولا بالبداهة أو التبصُّر
العقلي، ولا بالإعلان لجميع الناس مباشرةً في كل مكان وزمان، بل في كلمته
المكتوبة. وبعد ما أعلن طريق الخلاص في الكتاب المقدس، وأمر الكنيسة أن تكرز به
لجميع الأمم، لم يبقَ لنا دليل من الكتاب أو العقل أن الله يعلن شروط الخلاص
بطريقٍ آخر. والكتاب يعلّم أن معرفة الخلاص محصورة فيه. فمن لم يعرف طريق الخلاص
هلك.

والأدلة
على ذلك كثيرة، نكتفي بذكر أربعة منها:

(1)
تعلّم أسفار العهد القديم والجديد دائماً أن الوثنيين في حال الجهل المهلك. فقد
وصفهم الأنبياء أنهم بعيدون عن الله، يعبدون الأصنام، ويغوصون في الخطية. وفصل
الله بني إسرائيل عن بقية الشعوب ليحافظ على معرفة الدين الحق الذي اؤتُمنوا على
أقواله الإلهية. وقيل في العهد الجديد إن الوثنيين لا يعرفون الله، فصاروا جميعاً
تحت الدينونة (رومية 1) وأمر بولس أهل أفسس أن يذكروا حالهم قبل وصول الإنجيل
إليهم، لما كانوا بلا مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل، غرباء عن عهود الموعد، بلا
رجاء وبلا إله في العالم (أف 2: 12). فهذا هو تعليم الكتاب الذي يؤكد أن معرفة
الله لم تصل للوثنيين بالتقليد أو بالوحي الباطن، فلم يكن عندهم ما يسوقهم إلى
القداسة وإلى الله.

(2)
يقول الإنجيل إن المسيح، الكلمة المتجسد، هو الطريق الوحيد للخلاص، وإن البشر في
حال الخطية والدينونة التي لا يستطيعون أن يخلصوا أنفسهم منها. والإنجيل يعلّم أن
ابن الله الأزلي أخذ طبيعتنا وأطاع وتألم عوضاً عنا لأجل خلاصنا، وأنه بعد ما مات
لأجل خطايانا قام أيضاً لأجل تبريرنا، وإن الشرط العظيم الجوهري للخلاص هو قبول
المسيح إلهاً ومخلصاً، قبولاً مصحوباً بالفهم والاختيار، وإنه ليس اسم آخر تحت
السماء سوى اسم المسيح يخلُص الناس به. ولذلك أعد الله كنيسةً وخداماً للدين
ليعلنوا هذا الخلاص العظيم للبشر. فالبشر جاهلون بهذه المعرفة، مع أنهم في غاية
الاحتياج إليها، وهم في خطر عظيم أن يهلكوا في خطاياهم.

(3)
عيّن الله خداماً للإنجيل أمرهم أن يذهبوا إلى كل العالم ويقولوا لكل إنسان “آمِن
بالرب يسوع المسيح فتخلص. من آمن بالابن فله حياة أبدية، ومن لا يؤمن بالابن لن
يرى حياةً، بل يمكث عليه غضب الله”. فلو أمكن أن يخلُص الناس بلا معرفة
المسيح وبلا إيمان به لكانت هذه الرسالة بلا معنى.

(4)
نص الكتاب على ضرورة معرفة الإنجيل، فقال المسيح “ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلا
بي”. وإنه لا يعرف أحد الآب إلا الابن ومن يعلنه الابن له. وقال أيضاً “من
لم يؤمن يُدَن” (مر 16: 16 ويو 3: 18). ولا يمكن أن يؤمن أحدٌ بلا معرفة.
وقال يوحنا “من له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة”
(1يو 5: 12) أي أن معرفة المسيح شرط لنوال الحياة الأبدية، بل هي الحياة نفسها، إذ
لا توجد بدونها، ولذلك قال بولس “إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل
معرفة المسيح يسوع ربي” (في 3: 8). ثم أن الأشواق الروحية الباطنة تنتهي إلى
المسيح، ولذلك قال بطرس إنه بواسطة معرفة المسيح دعانا الله إلى المجد والفضيلة
(2بط 1: 3). وقال بولس إن من كان بلا المسيح كان بلا رجاء وبلا إله (أف 2: 12) و
نادى بضرورة دعوة البشر للخلاص بقوله “فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به؟ وكيف
يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بلا كارز؟” (رو 10: 14) فالدعاء يستلزم
الإيمان، والإيمان يستلزم المعرفة، والمعرفة تستلزم التعليم الخارجي، لأن الإيمان
بالخبر والخبر بكلمة الله (آية 17). فلا إيمان حيث لا يُسمع الإنجيل، وحيث لا
إيمان لا خلاص.

وما
أرهب القول “واسعٌ الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين
يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين
يجدونه” (مت 7: 13، 14).

وما
أرهب أن نعرف أن معظم الذين يسمعون الإنجيل يرفضونه، مع أنه الرحمة المهداة لهم!
لقد علّمنا المسيح أن نذكر حكمة الله الفائقة وبره غير المحدود إذا رأينا ما يزعزع
إيماننا في ما يجري حولنا، أو في تعاليم الديانة، وأن نقول “نعم أيها الآب،
لأنه هكذا صارت المسرة أمامك” (مت 11: 26). فيجب أن ينشأ عن أن معرفة الإنجيل
ضرورية لإعلان طريق الخلاص مزيدٌ من الجهد في إعلان الإنجيل للهالكين في خطاياهم،
ووَقْف كل مقاومة لكلمة الله أو اعتراض على طريق الخلاص.

وإن
سأل سائل: ألا يمكن أن يرسل الله النعمة الروحية إلى قلوب المختارين من الوثنيين
(إن وُجد بينهم مختارون) لتُعِين ضعفاتهم وتساعدهم على العيشة بالأمانة بما عندهم
من النور، حتى لو لم يعرفوا الإنجيل؟ قلنا: لا نقدر أن نقطع بعدم إمكان ذلك، ولو
أن الأسفار المقدسة لا تعلّم هذا التعليم بصراحة. فالذي يريد أن يأمل في ذلك ليس
له إلا مجرد الأمل فقط، لأنه لا يوجد تعليم قاطع صريح بذلك. وإذا خلص أحد بدون
معرفة الإنجيل كان ذلك باتكاله على مجرد رحمة الله، واستعماله ما عنده من النور أحسن
استعمال، فيكون خلاصه من رحمة الله بالمسيح، وبتخصيص فوائد كفارته له على سبيل
النعمة المجانية. ولكن هذا لا يسند القول الباطل إن للوثنيين فرصة أخرى بعد الموت
لسماع الإنجيل ونوال الخلاص بالمسيح في العالم الآتي، لأن امتحان جميع البشر، سواء
كان بواسطة معرفتهم الإنجيل أم بواسطة نور الطبيعة والضمير، ينتهي في هذا العالم،
والموت هو نهاية الامتحان.

10 – لماذا وُجهت دعوة الإنجيل إلى كل الناس إذا كانوا لا يخلصون
جميعاً؟

*
(1) دعوة الإنجيل هي أمر الله للبشر أن يتوبوا ويؤمنوا بالرب يسوع المسيح، ووعده
أن الذين يؤمنون يخلصون. فهي إعلان ما يجب على جميع البشر وجوباً لازماً. فوجوب
الإيمان بالمسيح كوجوب المحبة لله، وقد أمر الله الناس بالأمرين.

(2)
دعوة الإنجيل العامة هي الواسطة التي وضعها الله لجميع مختاريه المختلطين ببقية
البشر الذين لا يعرفهم أحد غيره. وقد أعلن للجميع ما يجب على الجميع، وعرضت البركة
على الجميع بلا تمييز. وإعانة الله للبعض ليقوموا بما يجب عليهم لا يخالف صحة
تعميم الدعوة للجميع.

(3)
دعوة الإنجيل العامة، مع الوعد العام أن كل من يؤمن يخلص، يُظهِر شر من يرفضون
الدعوة عمداً ويصرّون على آثامهم، مما يُظهِر لهم ولكل الخلائق العاقلة عدل
دينونتهم، كما قال المسيح “الذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله
الوحيد. وهذه هي الدينونة: أن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من
النور، لأن أعمالهم كانت شريرة” (يو 3: 18، 19). ولا شك أن رفض ابن الله
مخلصاً هو من أعجب الخطايا التي يرتكبها البشر.

11 – ما هي الدعوة الداخلية بموجب تعليم الكتاب المقدس؟

*
الدعوة الداخلية هي قوة إلهية تؤثر مباشرةً في النفس بواسطة الروح القدس الذي
يمنحها حياة جديدة روحية تقوم بها بأعمال روحية كالتوبة والإيمان والاتكال والرجاء
والمحبة، التي كانت عاجزةً عنها قبل بلوغ الدعوة الداخلية إليها، فإن كل الذين قد
سبق الله فعيّنهم للحياة، وهؤلاء فقط شاء أن يدعوهم بكلمته وروحه في وقته المعيَّن
المختار، من حال الخطية والموت التي هم فيها طبعاً، إلى النعمة والخلاص بالمسيح،
فينير أذهانهم إنارة روحية للخلاص حتى يفهموا أمور الله، فينزع قلبهم الحجري
ويعطيهم قلباً لحمياً، ويجدد إرادتهم بقوته الضابطة الكل، ليُميلهم إلى ما هو صالح
ويجذبهم إلى المسيح جذباً كافياً حتى يأتوا إليه بكامل حريتهم إذ جعلوا منتدَبين
بنعمته. فربما تؤثر الدعوة الخارجية في الإنسان إلى حين، ولكنها تُقاوَم وتُرفَض
غالباً. أما الدعوة الداخلية فتؤثر تأثيراً فعالاً في قوى النفس، وتُرغّب الإنسان
رغبة شديدة في التدين وقبول المسيح والشروع في حياة التقوى. على أن هذه الدعوة
الداخلية المسماة أيضاً “الدعوة الفعالة” و”الدعوة الكافية”
قد يقاومها البعض أيضاً إلى حين. لكن مقاومتها لا تُبطِل قصد الله، لأنها تدوم
فعالة في القلب وتجذب النفس إلى التقوى الحقيقة. فهي واسطة لتوجيه الإنسان إلى
حياة التقوى الحقيقية بتغيير أفكاره ومقاصده ليجتهد بمعونة النعمة في القيام
بمطالب الإنجيل.

ولنا
على إثبات هذه الدعوة الداخلية الكافية الفعالة، وامتيازها عن الدعوة الخارجية،
أدلة كتابية كثيرة، نقتصر على خمسة منها:

(1)
العبارات التي تميّز تأثير الروح عن تأثير الكلمة (يو 3: 5-8 و6: 45، 64، 65 و1تس
1: 5، 6 و1بط 1: 23 و1يو 5: 1).

(2)
العبارات التي توضح لزوم تأثير الروح لقبول الحق (يو 1: 13 و16: 13-15 و1كو 2:
10-16 و12: 3 و2كو 3: 3 وأف 1: 17).

(3)
العبارات التي تنسب كل خير في الإنسان، حتى الإيمان والتوبة، إلى الله (مت 16: 17)
وغل 1: 15، 16 و2كو 3: 18 و4: 6 وفي 2: 13 وأف 2: 5-10 و2تي 2: 25 وتي 3: 4).

(4)
العبارات التي تصرح بالتمييز بين الدعوتين، فقد أُشير إلى الدعوة الخارجية بقوله “لأن
كثيرين يُدعَون وقليلين يُنتخبون” (مت 22: 14) وإلى الدعوة الداخلية بالقول “الذين
دعاهم فهؤلاء بررهم أيضاً” (رو 8: 30) وقوله “فكل من سمع من الآب
وتعلَّم يُقبل إليَّ” (يو 6: 45).

(5)
العبارات التي تعلن عجز الناس الأخلاقي وتنسب إليهم العمى والموت الروحي، حتى لا
ينقذهم شيء من تلك الحال إلا الدعوة الإلهية الكافية (1كو 2: 14 و2كو 4: 4 وأف 2:
1).

12 – كيف لم يفهم البعض الدعوة الداخلية؟

*
أنكر البيلاجيون الخطية الأصلية، وقالوا إن الخطية تقوم بأفعال الإرادة، ولا تختص
بأحوال النفس الباطنة. ولذلك نسبوا إلى الإنسان القدرة الكاملة على ترك الخطية متى
شاء بمجرد التوبة، وأنكروا لزوم التجديد وتأثير الروح القدس الفعال لإرجاع الإنسان
عن شره، فلم يسلّموا بلزوم الدعوة الفعالة (انظر فصل 24 س 6-10 وفصل 26 س 3-6).

وسلّم
النصف بيلاجيين بلزوم النعمة لتُعِين الإنسان ليرجع إلى الله، لكنهم قالوا إن
الرغبة في الرجوع والعزم عليه هما من اختيار الإنسان، وإنه يشرع في ذلك من تلقاء
نفسه. فيحقّ له بناءً على تلك الرغبة أن ينتظر معونة الله في إدراك غايته. وهذا
يوضح أن التعليم النصف بيلاجي ينكر لزوم الدعوة الداخلية الفعالة وضرورة سبقها
لرجوع الإنسان إلى الله، ولكنه يسلّم أن الله يعين كل من يقصد التقوى من تلقاء
نفسه.

وسلم
الأرمينيون بالخطية الأصلية وعجز الإنسان عن القيام بواجباته الروحية من تلقاء
نفسه، ولكنهم قالوا إن الله أرسل النعمة الكافية لجميع البشر ودعا الجميع بدون
استثناء دعوة كافية، وإن الفرق بين المدعوين الدعوة الداخلية والمدعوين الدعوة
الخارجية يقوم بأن البعض يسمع الدعوة والآخر يرفضها. فالسامعون مدعوون دعوة فعالة،
والرافضون مدعوون دعوة غير فعالة، مع عدم التمييز في موضوع الدعوة وغايتها وقوتها.
فعندهم أن خلاص كل إنسان يتوقف على سماعه الدعوة العامة المشتركة، بلا احتياجٍ إلى
أن تجعل قوة الله تلك الدعوة فعالةً في المختارين للخلاص.

وقال
اللوثريون إن البشر أموات بالخطايا، وإنهم عاجزون قبل التجديد عن عمل روحي مقبول
لدى الله، وإن حياة النفس الروحية تأتيها من الروح القدس المحيي المنير، ولذلك
سلّموا بتعليم الاختيار، ونسبوا خلاص جميع المخلَّصين إلى إرادة الله. لكنهم قالوا
إن سبب ترك الله للإنسان ليس عدم اختيار الله إياه، بل مقاومة الإنسان للنعمة
الكافية، التي (على قولهم) وُهبت من أول الأمر للجميع على السواء.

ولنوضح
ما سبق في الدعوة الداخلية نقدم المثل التالي:
س وص كلاهما
خاطئ. أما
س فآمن وخلص
بينما
ص رفض وهلك.
فيقول البيلاجيون إن س أراد أن يؤمن وص لم يرد، ولكلٍّ منهما قدرة تامة على عمل كل
ما هو مطلوب منهما روحياً. ويقول النصف بيلاجيين إن س بدأ من تلقاء نفسه يطلب
الخلاص، وأعانه الله في ذلك. ولكن ص لم يسعَ في الخلاص مطلقاً. ويقول الأرمينيون
إن س استعمل النعمة التي وُهبت لسائر البشر ولكن ص تغافلها ولم يستعملها. ويقول
اللوثريون إن س وص كليهما كانا عاجزين ومحتاجين إلى نعمة من فوق. أما س فقبل
النعمة بالشكر وسلم نفسه إلى إرشادها، وأما ص فقاوم النعمة ورفضها. ويقول
الكلفينيون إن س اختاره الله وأرسل إليه الروح القدس فجدده ودعاه دعوة داخلية
فعالة، فأجاب تلك الدعوة بالتوبة والإيمان. ولكن ص لم يُدع تلك الدعوة الفعالة بل
تُرك يتصرف كما يشاء. على أنه لم يتخلص من المسؤولية بحجة عدم دعوته دعوة فعالة،
لأنه سمع الدعوة الخارجية، ولم يكن هناك ما يمنعه من اختيار الخلاص إلا عدم إرادته
الاستماع والإجابة للدعوة وميله إلى الشر، ولذلك فهو علة هلاك نفسه لا الله. ولم
ينكر الكلفينيون صحة أقوال جميع هؤلاء في إيضاح نجاة س وهلاك ص، وإنما أنكروا
إحاطة أقوالهم بكامل علة نجاة الواحد وهلاك الآخر. وزادوا سبباً أصلياً أعلى وأرفع
وأفعل من تلك، وهو اختيار الله للأول وتمكينه من الوسائط الفعالة، وعدم اختياره
للآخر، بل تركه بدون الوسائط الفعالة. على أن هذا السبب الأصلي عند ص ليس على سبيل
التأثير الإيجابي أو المنع الإجباري من خلاصه، بل هو قائم على عدم إرسال الله إليه
القدر الكافي من النعمة السماوية الفعالة، وبتركه لأهوائه ليقيم لنفسه الموانع في
سبيل الخلاص، ويهلكها باختياره طريق الهلاك طوعاً لا كرهاً، وذلك لأسباب لا يعرفها
إلا الله، وهي فوق إدراك البشر. ولا ينكر الكلفينيون أن الله يرسل قدراً عظيماً من
النعمة العامة لكل إنسان، فيدعو الخاطئ دعوة خارجية عظيمة الشأن ويُسمعه الإنجيل،
ويعرّفه الحق معرفة عقلية. وهذه الدعوة الخارجية تجعل كل إنسان مسؤولاً لأنه
رفضها. ولا شك أن كل إنسان دُعي الدعوة الخارجية نال شيئاً من الرحمة الإلهية. ولو
أنه قبلها لاستفاد ولم يُترك بلا دعوة فعالة. ولكن إهماله لها قطع رجاءه وزاد
مسؤوليته.

13 – ما هي النعمة، وما أنواعها؟

*
النعمة في اصطلاح الكتاب المقدس هي التعطُّف والميل إلى عمل المعروف، ولا سيما
المحبة للأدنى أو المحتقر أو غير المستحق. وقد ورد أنها رأس الصفات الطبيعية
الإلهية، وأن إظهارها هو الغاية العظمى من عمل الفداء. فالغرض من الاختيار
والتعيين للتبني والخلاص هو مدح مجد نعمة الله التي يُنعم علينا بها في المسيح
يسوع (أف 1: 3-6). فإنه يقيم الناس من الموت الروحي ويُجلسهم معه في المسيح،
ليُظهر في الدهور الآتية غِنى نعمته الفائق (أف 2: 6، 7). وكثيراً ما قيل إن
الخلاص هو من النعمة، بمعنى أن نظام الإنجيل هو نظام النعمة، لأن كل بركاته تُعطى
مجاناً. وتظهر نعمة الله في كل قسم من عمل الفداء، لأنها محبته التي لا يستحقها
أحد من الناس. فلا يُمنح شيء ولا يوعد به إلا على سبيل النعمة لا على سبيل
الاستحقاق. وعلى ذلك يكون تدبير الخلاص من أول الأمر إلى نهايته من النعمة وحدها
بدون إلزامٍ لله. فإذا خلص أحد دون آخر كان ذلك من النعمة، حتى أن كل فضائله
المسيحية تُسمى نِعماً أو مواهب. ولذلك سُميت موهبة الروح القدس، وهي أعظم مواهب
الإنجيل، موهبة النعمة الإلهية. فإن عمل النعمة هو عمل الروح القدس، ووسائط النعمة
هي الوسائط التي يُجري الروح القدس بها عمله. وبناءً على ذلك تكون أنواع النعمة
ثلاثة، وهي: (أ) النعمة المشتركة أو العامة وهي فعل الروح الممنوح لجميع الذين
يسمعون الحق. و(ب) النعمة الكافية أو الفعالة وهي ما كان كافياً من عمل الروح
ليأتي بالناس إلى التوبة والإيمان بالحياة الطاهرة، وهي فعل الروح القدس الخاص
الذي ينشأ عنه بالتحقيق التجديد والرجوع إلى الله. و(ج) النعمة الحالة، وهي حلول
الروح القدس في المؤمنين بالقوة الدائمة المتمكنة الناشئة عن حضوره واستقراره
وقدرته.

وهذه
الأنواع الثلاثة من النعمة تنحصر في نوعين فقط، وهما عام وخاص. ويسمى العام
بالنعمة المشتركة، والخاص بالنعمة الكافية أو الفعالة. فالنعمة المشتركة هي فعل
الروح القدس العام بواسطة الأسفار المقدسة ونور الطبيعة وإرشاد الضمير، وهي ترشد
الإنسان في الأخلاق والمعرفة الدينية، غير أن قلبه لا يتجدد، ولا يتمكن بها من
التقوى الحقيقية (أع 7: 51 وعب 10: 29). والنعمة الفعالة هي فعل الروح القدس الخاص
الفعال الذي يجدد القلب ويقوده إلى التوبة الحقيقية والإيمان الحي، ويحثه على
التقوى الحقيقية، ويساعده في كل مساعي الحياة الروحية، ويحل في القديسين ويجعلهم
هياكل الروح القدس (رو 8: 30 و11: 7 و2تس 2: 13).

14 – ما هو الدليل على أن النعمة المشتركة تُوهَب للبشر جميعاً؟

*
الدليل هو آيات الكتاب المقدس الكثيرة التي تقول إن الله يمنح كل الناس بعض أعمال
الروح. ومنها “لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد” (تك 6: 3) والمعنى أن
الروح القدس هو أصل الحياة الروحية، كما أنه أصل الحياة الطبيعية. فلما رأى الله
أن شر الناس قد كثر قال إنه يسترد منهم روحه الذي كان إلى ذلك الوقت يعمل في قلوبهم،
دون أن يتوبوا. وقول استفانوس الشهيد لليهود “أنتم تقاومون الروح القدس. كما
كان آباؤكم كذلك أنتم” (أع 7: 51) وقول إشعياء في أهل جيله إنهم أحزنوا روح
الله القدوس (إش 63: 10). ومثل ذلك أقوال كثيرة في الكتاب يظهَر منها أن الروح
يجاهد في الأشرار وفي كل البشر، وأنهم يقاومونه ويُحزنونه ويطفئون أعماله. فكما
أنه في كل مكان في العالم المادي يسوس أعماله حسب قوانين الطبيعة، كذلك هو في كل
مكان في عقول الناس بصفته روح الحق والصلاح، يعمل فيهم حسب قوانين حريتهم
الأخلاقية، فيستميلهم للخير ويحجزهم عن الشر. ويتضح أيضاً عمل الروح القدس العام
بين كل الناس مما ذُكر في الكتاب في شأن المرفوضين، فإن من البشر من ينزع الله
عنهم حواجز روحه (التي تحجز الإثم) بسبب خطاياهم ويسلّمهم لأنفسهم ولسلطان الشر.
وذُكر أن هذا عقاب عظيم أصاب العالم الوثني لسبب فجورهم، فإنهم لما استبدلوا حق
الله بالكذب، واتّقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق، أسلمهم الله إلى أهواء الهوان.
وكما لم يستحسنوا أن يُبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوض (رو 1:
25-28). وقيل أيضاً “لم يسمع شعبي لصوتي، وإسرائيل لم يرض بي. فسلّمتُهم إلى
قساوة قلوبهم ليسلكوا في مؤامرات أنفسهم” (مز 81: 11، 12).

فبناءً
على أن الكتاب يحذر الناس من أن يُحزِنوا الروح، ويوصيهم أن يصلّوا إلى الله أن لا
ينزع روحه القدوس منهم، ويعلّمهم أن نزع الروح من شخص أو شعب هو دينونة هائلة،
يتّضح لنا أن روح الله يعمل في عقول الناس كثيراً أو قليلاً. ولذلك قيل إن غير
المتجددين الذين لا ينالون الحياة الأبدية هم “شركاء الروح”. وقد ذكر
الرسول أناساً منهم تابوا وآمنوا زماناً وقبلوا كلمة الله بفرح واستناروا وذاقوا
الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح، ثم سقطوا وهلكوا (عب 6: 4-6).

15 – هل هناك أهمية لنتائج النعمة المشترَكة (أي عمل الروح العام)؟

*
نتائج النعمة المشتركة من أهم الأمور لكل إنسان بمفرده وللعالم كله، لأن ما يحدث
للعالم المادي إذا تُرك للعوامل الطبيعية بدون العناية الربانية، هو نفس ما يحدث
للعالم الروحي في جميع ظواهره الأخلاقية والدينية بدون قوة وإرشاد الروح القدس
الحاجزة (التي تحجز الإثم). ولنا على أهمية نتائج النعمة المشتركة دليلان:

(1)
ما ينشأ عن حجز الروح عن عقول البشر، ويتضح ذلك من أمرين: (أ) يعلّمنا الكتاب
المقدس والاختبار أن الذين يرفضون عمل الله فيهم تموت ضمائرهم أو تضعف، فلا يبالون
بالروحيات، ويخضعون لسلطة شهوات طبيعتهم الرديئة. وقد وصف بولس ذلك في رومية 1.
ولا يقتصر هذا الرفض على الأفراد بل قد يعم أمماً وكنائس بجملتها، فتكون النتيجة
الموت الروحي الدائم. (ب) من التأمل في ما ورد في الكتاب المقدس عن نزع سلطة الروح
القدس على الخلائق العاقلة، فتصبح حالتها جهنمية، بعكس السماء، وهي الحالة أو
المكان الذي يملك فيها الروح بسلطة مطلقة. أما جهنم فهي مكان أو حال لا يتسلّط
فيها الروح ولا يحجز فيها الإثم. فيكون وجود الروح وعدم وجوده هو السبب العظيم في
الفرق بين السماء وجهنم.

(2)
النظر إلى نتائج النعمة المشتركة وهي: (أ) ما نراه بين البشر من اللياقة والترتيب
واللطف والفضل هو نتيجة قوة الروح القدس العامة العظيمة، حتى لو لم يشعر بها
الإنسان. فإن مجرد الخوف من العقاب الآتي، والشعور الطبيعي بما يجب، وحواجز
النواميس البشرية لا تمنع الشر إلا قليلاً. (ب) ما يُشاهَد في عامة الناس من مخافة
الله والشعور الديني، وهو ما يسوقهم إلى احترام طقوس الدين بأنواعها المختلفة وما
تستحقه من الوقار والانتباه. (ج) ما نراه مراراً كثيرة من التأثير الوقتي من
الكرازة بالحق، أو من التأديب الإلهي. ولو أنه يزول بعد حين دون أن يعطي ثمراً
للبر، فإن كثيرين من البشر يصدقون الحق ويقتنعون تماماً بصحة التعاليم الإلهية،
ولكن ذلك لا يؤثر فيهم تأثيراً يؤدي إلى حياة التقوى. وربما يشعر الإنسان بذنبه
أمام شريعة الله، وبنجاسته أمام قداسته، ويعلم أنه محكوم عليه أمام شريعة العدل.
لكن لعدم اهتمامه لا ينتج عن ذلك نتائج إيجابية. وإن نتجت فهي تؤدي إلى الإصلاح
الخارجي بدون تغيير القلب. وقد قال المسيح في مَثَل الزارع إن البذار تسقط على
أماكن لم تأتِ بثمر، أو كان ثمرها وقتياً. ولكن البرهان الوحيد على وقوع زرع
الإنجيل في أرض جيدة هو وجود الأثمار ودوامها. وقد حدث في كل تاريخ الكنيسة أن
ارتدّ بعض الذين حُسبوا متديّنين حقيقيين، ووقع بعضهم في فتور مهلك. ونحن لا نقدر
أن نميز المتجددين الحقيقيين من غير المتجددين، إلا بقول المسيح “من ثمارهم
تعرفونهم”.

16 – ماذا يعلّمنا الكتاب عن النعمة المشترَكة، أي تأثير الروح
العام؟

*
نحن لا نعرف كيف يعمل الروح في التجديد أو الإقناع، فقد قال المسيح “الريح
تهبّ حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كل
من وُلِد من الروح” (يو 3: 8). فإن كنا لا نفهم كيف تعمل أنفسنا في أجسادنا،
ولا كيف تعمل الأرواح الشريرة في عقول البشر، فكيف نفهم طرق عمل الروح القدس في
عقول الناس؟ ولكننا نعلم ما يأتي:

(1)
يخاطب الله عقول الناس ويعلّمهم بروحه ويرشدهم ويبكّتهم ويقنعهم إقناعاً أخلاقياً
يؤثر في عقولهم فيُظهِر لهم الحق، ويدفعهم ليقوموا بالعمل الصالح.

(2)
يستخدم الروح القدس كلمة الحق.

(3)
لا تتجاوز النتائج الأخلاقية والدينية المنسوبة إليه دائرة أعمال العقل الطبيعية،
لأن المعرفة والإيمان والشعور بالخطية وتأنيب الضمير والحزن والفرح التي يُحدثها
الروح في النفس جميعها ليست معجزاتٍ، بل أعمال طبيعية قد يحرك مثلها إنسان في عقل
إنسانٍ آخر.

(4)
قد تُقابَل أعمال الروح المذكورة بمقاومة قاطعة.

وتتميز
هذه النعمة المشتركة في كل ما ذُكر عن عمل الروح الفعال الذي ينسب إليه الكتاب
المقدس تجديد النفس. والحقيقة العظيمة هي أن روح الله الحاضر في كل عقل بشري يردّ
الإنسان عن الشر، ويسوقه إلى الخير. ويرجع كل ما في العالم من حُسن الترتيب
واللياقة والفضيلة واحترام الديانة وفرائضها إلى حضور الروح وعمله. ولذلك فإن أعظم
كارثة تحل بالفرد أو الكنيسة أو الأمة هي نتيجة نزع الله روحه منهم. فلنحذر من أن
نُحزن الروح أو نطفئ أعماله بمقاومته وارتكاب الخطية، ولاسيما رفض عمله بروح
الاحتقار والتجديف عليه. “لأن من قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له، وأما من
قال على الروح القدس فلن يُغفر له، لا في هذا الدهر ولا في الآتي” (مت 12:
32).

17 – ما المقصود بالنعمة الفعالة، أي فعل الروح الخاص؟

*
“الدعوة الفعالة هي فعل روح الله، الذي به يبكتنا على خطيتنا وينير أذهاننا
في معرفة المسيح ويجدد إرادتنا، ويقنعنا بل يقوينا على قبول المسيح المقدم لنا
مجاناً في الإنجيل الطاهر. هي قوة الله الضابطة الكل الصادرة عن نعمة الله
المجانية. وقد ذكرنا أن جميع الحوادث التي يمكننا أن نعرف شيئاً منها تنقسم إلى
ثلاثة أقسام: (1) ما يحدث من عمل الأسباب الثانوية العادي، مع إرشاد عمل العناية
الربانية وضبطها. (2) ما يحدث في العالم من مجرد الإرادة الإلهية بعمل الله
مباشرةً بدون مشاركة عمل الأسباب الثانوية. أو باستعماله تلك الأسباب الثانوية
مباشرةً بقوة غير عادية، كالمعجزات بأنواعها. (3) ما يحدث في عقل الإنسان وقلبه
ونفسه من فعل روح الله، أو عمل قدرته مباشرةً. ومن هذا القسم الأخير الإعلان
الباطن والإلهام والتجديد وقوة المعجزات، كموهبة الألسنة وموهبة الشفاء وما
شابهها.

وإذا
ثبت أن النعمة الفعالة هي قوة الله القادرة على كل شيء كان ذلك حلاً لجميع المسائل
المختلَف عليها في هذا الشأن، كما يظهر من إجابة السؤال التالي.

18 – ماذا يُقال في حقيقة النعمة الفعالة؟

*
(1) أعمال هذه النعمة سرية، لا تُسبِّبها النواميس التي تحكم أعمالنا العقلية
والأخلاقية. قال المسيح “الريح تهبّ حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من
أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كل من وُلد من الروح” (يو 3: 8).

(2)
بين النعمة الفعالة وعمل العناية الربانية المعتاد فرق جوهري، لا في الدرجة أو
الكيفية أو العلاقة، بل في النوع. فلا يمكن أن نقارن بين ما يسبِّب التقدم العقلي
في جانب وما يُصلح الصفات الأخلاقية، والقوة التي تُقيم الموتى في جانب آخر.

(3)
ليست النعمة الفعالة إقناعاً أخلاقياً فقط، لأن الإقناع الأخلاقي ينتج من تأثير
عقل واحد في عقل آخر بإظهار الحق، أو بالترغيب، أو بالإنذار وغير ذلك. فإذا حدث
مثل هذا النوع من القوة الأخلاقية قد يقبل العقل وقد لا يقبل، ويكون حكمه خاصاً به
وضمن دائرة قوته. ولكن النعمة الفعالة غير ذلك، لأن شفاء المريض بكلمة يختلف
اختلافاً جوهرياً عن شفائه بالدواء. وقد يقتنع الرجل الحي بأن لا يقتل نفسه، وأما
الميت فلا يمكن إحياؤه بواسطة الإقناع. فإذا كان التجديد يتم بإرادة الله وأمره
وقدرته العظمى، فمن المؤكد أنه لا ينشأ عن حُجّة الكلام أو الإقناع، بل بفعل الروح
القدس الذي يرافقه.

(4)
عمل الروح هو في النفس مباشرةً، وهذا يختلف عما تُحدثه عناية الله بالمخلوقات. نعم
قد ترافق معرفةُ الحق عملَ الروح، ولكن ليس لمعرفة الحق دورٌ في تجديد النفس إلا
كواسطةٍ يستخدمها الروح لإنارة العقل وإرشاده (مت 13: 18-23).

(5)
عمل النعمة الفعالة لا يمكن أن يُقاوَم لأنه عمل القوة الإلهية. أما النعمة
المشترَكة (أي فعل الروح الممنوح كثيراً أو قليلاً لكل إنسان) فكثيراً ما يلقَى
المقاومة، وكثيراً ما يُحزِن المؤمن الروح القدس ويطفئ عمله، لأن الإنسان حرّ
وقادر على مقاومة كل الأفعال الأخلاقية التي يجريها الروح فيه. وهذا يختلف عن عمل
التجديد الذي تُجريه القوة الإلهية غير المحدودة، فلا يقدر أحدٌ أن يقاومه كما لا
يقدر أحدٌ أن يقاوم عمل الخليقة. فإن هذه النتيجة تنشأ عن إرادة الله في الحال،
كما ظهر النور فوراً لما قال “ليكن نور”. وليس في هذا سلبٌ لحرية
الإنسان بل هو يحفظها.

(6)
الإنسان ليس الفاعل في تجديد نفسه، بل التغيير مفعول فيه. صحيح أن الإنسان يعمل في
ما يسبق التغيير وفي ما يعقبه. أما التغيير نفسه فأمرٌ يختبره دون أن يعمله.
فالإنسان مثل العُمي والعُرج الذين جاءوا إلى المسيح، فقد كابدوا المشقة في الحضور
إليه، ولما نالوا الشفاء فرحوا بالقوة الجديدة الممنوحة لهم. وأما الشفاء نفسه فلم
يكن لهم فيه عملٌ. هكذا التجديد، هو نتيجة القوة الإلهية، كفتح أعين العمي وآذان
الصم عند صدور الأمر الإلهي.

(7)
لا بد أن التجديد عمل سريع فجائي. فإذا كان التجديد هو إحياء الذين كانوا موتى،
فلا بد أنه سريع كإحياء لعازر. وعندما يأمر الله بالحياة للخاطئ، يحيا في الحال،
وتظهر فيه صفات الحياة الجديدة الإلهية.

(8)
التجديد من عمل النعمة المطلقة، فلا بد من جعل الشجرة جيدة لتصير ثمارها جيدة. ولا
يمكن أن تغيّر الشجرة الرديئة نفسها، فهي تحتاج إلى من يغيّرها. وكذلك الحال مع
الأعمال الصالحة الروحية. إنها ثمر التجديد الذي يُجريه الله في القلب. والتجديد
هبة مجانية لا تُمنح بناءً على ما يكون أو سيكون من الصلاح في الإنسان الذي يتغير،
كما لم يقُل أحد من الذين شفاهم المسيح إنه طلب عمل القوة الإلهية لتعمل فيه بناءً
على صلاحٍ خاص سيقوم به، كما لم يدخله أدنى ظن أنه اشترك مع الله في استرجاع بصره
أو عافيته.

19 – ما هي الأدلة على تميُّز عمل الروح عن تأثير كلمة حق الإنجيل؟

*
يقول الكتاب إن عمل الروح في العقل متميز عن قوة الحق الإلهي، وإن كان يصاحبه.
ولنا على ذلك أدلة كثيرة هي:

(1)
يميز الكتاب المقدس تمييزاً واضحاً بين الذين يسمعون الكلمة فقط والذين يعلّمهم
الله الكلمة في قلوبهم. قال المسيح “لا يقدر أحد أن يُقبل إليَّ إن لم يجتذبه
الآب” (يو 6: 44) وقد أشار بهذا إلى اجتذابٍ في باطن الإنسان، غير ما يعمله
الحق الآتي إلى العقل من الخارج، لأن قوة الحق في عقول الذين يسمعونه وضمائرهم لا
يكفي، فلابد من تعليم الروح الباطني ليتمكن الحق من العمل. قال الرسول إن الكرازة
بالإنجيل مهما كانت صريحة وشديدة، إلا أنها بدون تأييد الروح القدس في الإقناع
تصبح ضعيفة وغير فعالة، ولو كان الكارز بولس أو أبلوس (1كو 1: 23-26 و2: 14، 15
و1تس 1: 5، 6) فالمدعوون بالدعوة الفعالة حسب الكتاب هم الذين ينالون دعوة باطنة
من الروح القدس، لا الذين يسمعون الكلمة فقط. فإن الذين يدعوهم الله يبررهم،
والذين يبرّرهم يمجّدهم (رو 8: 30).

(2)
يذكر الكتاب أن حالة الإنسان بعد السقوط تجعل الحق غير فعالٍ فيه، فيلزم أن يعمل
الروح القدس فيه. الإنسان ميت روحياً، فلا يسمع ولا يبصر ولا يقبل أمور الروح، ولا
يستطيع أن يعرفها لأنه يحكم فيها روحياً. فلا يقبل حقائق الإنجيل إلا الروحيون
الذين يحل فيهم الروح ويملك على عقولهم وقلوبهم (1كو 2: 10-15).

(3)
يعلّم الكتاب أن عمل الروح القدس ضروري ليهيّئ عقول الناس ليقبلوا الحق. فالحق هو
النور الضروري للرؤية، ولكن إذا كانت العين مغمضة أو عمياء فلا بد من فتحها أو ردّ
البصر إليها قبل أن يُحدِث النور فيها تأثيره، كما فتح الرب قلب ليدية لتُصغي إلى
ما كان يقوله بولس (أع 16: 14 قارن مز 119: 18 وأف 1: 17-19 و4: 30).

(4)
الوعد العظيم في الكتاب هو حلول الروح القدس، كما قيل “ويكون بعد ذلك أني
أسكب من روحي على كل بشرٍ” (يوء 2: 28). ويظهر من النتائج التي ذكرها النبي
أن انسكاب الروح ليس هو قوة الحق، لأن الحق مهما كان واضحاً ومصحوباً بقوة فائقة
لا يكون سبباً لإحداث النبوات والأحلام والرؤى. والعهد القديم مشحون بالنبوات
والمواعيد المتعلقة بموهبة الروح القدس التي تُنتِج زيادةً في إعلان الأمور
الإلهية التي يأتي بها المسيح وتجعلها فعالة. ومن أمثلة ذلك قول الله بفم إشعياء
أن يُسكَب علينا روحٌ من العلاء فتصير البرية بستاناً (إش 32: 15) وقوله “أسكب
ماءً على العطشان وسيولاً على اليابسة. أسكب روحي على نسلك وبركتي على ذريتك”
(إش 44: 3). وقوله بفم حزقيال “سكبت روحي على بيت إسرائيل” (حز 39: 29)
وقوله بفم زكريا “أفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات
فينظرون إلى الذين طعنوه، وينوحون عليه كنائح على وحيدٍ له” (زك 12: 10).

وقد
أمر المسيح بعد قيامته تلاميذه أن يبقوا في أورشليم إلى أن يعطيهم قوةً من العلاء،
أي إلى أن ينالوا موهبة الروح القدس، فحل الروح على التلاميذ في يوم الخمسين
تحقيقاً لنبوات العهد القديم. وكانت النتيجة أن استنارت عقول الرسل ونالوا موهبة
المعجزات، واهتدى خمسة آلاف نفس دفعة واحدة. وقد نشأت هذه النتائج عن قوة الروح
المتميزة عن قوة الحق، كما يظهر من قول بطرس في حوادث يوم الخمسين “فيسوع هذا
أقامه الله، ونحن جميعاً شهود لذلك. وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس
من الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه” (أع 2: 32، 33 قارن في 2:
13 و2تس 1: 11 وعب 13: 21). وكان ما حدث يوم الخمسين تحقيقاً لوعد المسيح لتلاميذه
أنه يرسل إليهم “معزياً آخر ليمكث معهم إلى الأبد، روح الحق” (يو 14:
16، 17) ليعلّمهم ويذكّرهم بكل ما قاله المسيح لهم، وليشهد للمسيح، وليبكت العالم
على خطية وعلى برٍ وعلى دينونة، ويعطي الرسل فماً وحكمةً لا يستطيع المقاومون الرد
عليه. ولذلك قال إن المؤمنين ينالون الروح القدس، وإن لهم مسحة من القدوس تمكث
معهم وتعلّمهم كل شيء (1يو 2: 20، 27). وقصد المسيح “عطية الروح” في
قوله إن الآب السماوي أسخى في إعطاء الروح القدس للذين يسألونه من إعطاء الأب
الأرضي أولاده عطايا جيدة (لو 11: 13) وهو شيء آخر يفوق معرفة كلمته، لأن كثيرين
يسمعون ولا يفهمون ولا يؤمنون، ولذلك وعد الله بإرسال الروح ليصاحب تعليم الكلمة
ويجعله فعالاً. فهو الهبة الثمينة التي يهبها للذين يطلبونها. وقال الرسول “بهذا
نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا” (1يو 3: 24). وعلى هذا يكون الروح
القدس هبةً للذين وصلتهم كلمة الله، وهي متميزة عنها.

(5)
أمر الله العارفين بالكلمة أن يصلّوا لأجل عطية الروح لتصير فعّالة، وهذا يدل على
أن عمل الروح في عقول البشر يمتاز عن عمل الحق. ولنا أمثلة كثيرة في الكتاب على
هذه الصلوات، منها صلاة داود “روحك القدوس لا تنزعه منّي” (مز 51: 11)
وصلاة الرسول لأجل أهل أفسس الذين كرز لهم بالإنجيل أكثر من سنتين أن الله يعطيهم
الروح القدس ليعرفوا الله وتنفتح عيونهم ليعرفوا رجاء دعوتهم، وغِنى مجد ميراث
القديسين، وعظمة قدرته الفائقة نحو المؤمنين (أف 1: 17-19) ومثلها صلاته لأجل أهل
كولوسي. ومن الجهة الأخرى يُنذر الناس بأن لا يُحزنوا الروح ولا يطفئوه لئلا ينصرف
عنهم. والدينونة العظيمة التي تهدد دائماً الذين يسمعون الإنجيل ويُصرّون على عدم
التوبة هي أن الله يحجز عنهم الروح القدس، ويتركهم لأنفسهم وللقوة المستقرة في
الحق. فهم المرفوضون الذين كفَّ الروح عن العمل فيهم.

(6)
ينسب الكتاب دائماً التجديد والتوبة والإيمان والأفكار الطاهرة إلى عمل الروح
القدس رأساً. ومن ذلك أنه يحل في المؤمنين ويضبط حياتهم الباطنة والظاهرة، وينيرهم
ويرشدهم ويقدسهم ويقويهم ويعزيهم، ويمنح كل واحد بمفرده من المواهب ما يشاء (1كو
12: 11). ولا يميز الكتاب بين مواهب الألسنة والشفاء والمعجزات والحكمة ومواهب
الفضائل المسيحية كالإيمان والمحبة والرجاء، بل ينسبها جميعاً إلى عمله. فكما أن
النوع الأول من المواهب ليس قوة تمنحها كلمة حق الإنجيل، كذلك النوع الثاني. ولم
يعتمد الرسول في نجاح تبشيره على توضيح الحق أو الإلحاح على قبوله، بل على ما
يرافقه من برهان الروح (1كو 2: 4). وشكر الله على أن الإنجيل لم يأتِ بالكلام فقط،
بل بالقوة أيضاً وبالروح القدس (1تس 1: 5). وقال إن الله هو العامل فيهم أن يريدوا
وأن يعملوا من أجل المسرة (في 2: 13) وطلب إلى الله أن يكمل شعبه، عاملاً فيهم ما
يُرضي أمامه (عب 13: 21). والحق أن كل صلاة وردت في الكتاب لأجل هداية الناس
وتقديسهم وتعزيتهم تتضمن معنى أن الله يعمل في عقول الناس بروحه القدوس. ويصدُق
هذا القول خصوصاً على البركة الرسولية حيث يُراد بشركة الروح القدس ما يعمله الروح
في النفس من التقديس والخلاص.

(7)
آمنت الكنيسة عبر عصورها أن الروح يرافق الكلمة والفرائض الإلهية بقوة عليا ليست
في نفس الكلمة والفرائض، بل معطاة حسب ما يشاء الله. فإن خدمة الصلاة المستعملة في
كل الكنائس مشحونة بطلبات مرافقة الروح للكلمة وللأسرار. وتاريخ الكنيسة عامرٌ
بأخبار الحوادث التي تشهد بهذا، وإلا فكيف اهتدى ألوف في يوم الخمسين ولم يؤمن إلا
قليلون بواسطة كرازة المسيح نفسه؟ ولماذا تقدمت الكنيسة تقدماً سريعاً في كل أقطار
العالم مدة العصر الرسولي، وتجدد الأمر في زمن الإصلاح وبعده مراراً كثيرة؟ فهذه
شواهد ظاهرة لقوة الروح القدس التي ترافق قوة الحق.

وليس
القصد أن نقلّل أهمية الحق، لأن الروح يستخدم الحق واسطةً لإنارة القلب. وليس لنا
دليل على تجديد الناس أو خلاصهم بدون معرفة الحق، فتكون علاقة الحق بعمل الروح هي
أن الروح يجدِّد الإنسان ويقدّره على فهم الحق وقبوله، بأن يعطي قوة البصر، والحق
يُظهر ما نراه بواسطة تلك القوة (رو 10: 14، 17 ويع 1: 18 ويو 17: 17).

20 – ما هو الدليل على تميُّز عمل الروح عن عمل العناية؟

*
كما يتميّز عمل الروح عن تأثير كلمة حق الإنجيل، كذلك يتميّز عن عمل العناية
الربانية. وفي موضوع العناية يعلّمنا الكتاب:

(1)
أن الله حاضر في كل مكان وحافظ كل المخلوقات في الوجود والحياة.

(2)
أنه يعمل على الدوام مع الأسباب الثانوية في إحداث ما ينشأ عنها.

(3)
إن القوى الطبيعية التي أبدعها تعمل عملاً منتظماً حسب النواميس المعينة، ولكن لأن
الله خارج عن دائرة المخلوقات وفعال لما يريد، فإنه يضبط أعمال النواميس المذكورة
(أي عمل الأسباب الثانوية) ويُجريها كما يشاء، فيرسل المطر تارةً ويحجزه أخرى،
ويأمر بالخصب أو القحط كما يريد. مثال ذلك أن إيليا صلى أن لا تمطر على الأرض، فلم
تمطر ثلاث سنين وستة أشهر. ثم صلى أيضاً فأعطت السماء مطراً وأخرجت الأرض ثمرها
(يع 5: 17، 18).

(4)
أن الله يضبط كل البشر كما يضبط النواميس الطبيعية. ومن أمثلة ما ورد في الكتاب
المقدس بياناً لسلطة عناية الله وأنه يعمل كل شيء حسب مشورة إرادته، قوله “قلب
الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يُمِيله” (أم 21: 1) وقوله “هذا
يضعه، وهذا يرفعه” (مز 75: 7). وقوله “قلب الإنسان يفكر في طريقه، والرب
يهدي خطوته” (أم 16: 9). وقوله “بي تملك الملوك وتقضي العظماء عدلاً”
(أم 8: 15).

21 – ما هي الأعمال الخاصة بالروح؟

*
أربعة وهي:

(1)
إعلان الحق، فمن الواضح أن البشر لم يتوصّلوا إلى تعاليم الكتاب العظيمة نتيجة
تقدمهم العلمي، بل أعلنها الله بطرقٍ فائقة الطبيعة، بواسطة الروح القدس.

(2)
ألهم الروح القدس رجال الله القديسين وساقهم ليكتبوا الأسفار المقدسة (2بط 1: 21).

(3)
وزَّع الروح المواهب العقلية والأخلاقية والطبيعية على البشر ليؤهّلهم لخدمته.
وكانت بعض هذه المواهب خارقةً للعادة، كما كان الأمر في الرسل وغيرهم، وكان بعضها
مواهب طبيعية كحذق الصُّناع، وشجاعة الأبطال وقوتهم، وحكمة أهل السياسة وما
شابهها. ومن ذلك قوله في بصلئيل “ملأتُه من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة
وكل صنعة لاختراع مخترعات، ليعمل في الذهب والفضة والنحاس” (خر 31: 3، 4).
وقوله في الشيوخ الذين انتخبهم موسى “آخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم”
(عد 11: 17). وقيل في يشوع إنه أُقيم ليخلف موسى “لأنه كان فيه الروح”
(عد 27: 18). وقيل في عثنيئيل إنه “كان عليه روح الرب وقضى لإسرائيل”
(قض 3: 10) وهكذا قيل في جدعون ويفتاح وشمشون، وما قيل يوم دعوة شاول ليكون ملكاً
على إسرائيل من أنه “حل عليه روح الرب” ولما رُفض بسبب عصيانه انصرف
الروح عنه (1صم 16: 14) وما قيل يوم مسح صموئيل داود من أنه “حل روح الرب على
داود من ذلك اليوم فصاعداً” (1صم 16: 13) وكذلك قول العهد الجديد “أنواع
مواهب موجودة ولكن الروح واحد” (1كو 12: 4) فصار “البعض رسلاً، والبعض
أنبياء، والبعض معلّمين، والبعض أصحاب قوات” (1كو 12: 29). ولهذا السبب شجع
بولس شيوخ أفسس أن “يرعوا الرعية التي أقامهم الروح القدس فيها أساقفة”
(أع 20: 28).

(4)
التأثيرات الروحية على أنواعها، ومنها الإقناع بالخطية والبر والدينونة، ومقاومة
الشر في القلب، والجهاد والإنذار وإنارة الضمير والإقناع بالحق، والحواجز الشديدة
عن ارتكاب الخطية، والإيمان والتجديد والتقديس والتعزية والقوة والثبات في
القداسة، وتمجيد النفس والجسد أخيراً.

22 – ما هي الأدلة على فعل الروح الخاص، أي النعمة الفعالة؟

*
ذكرنا البراهين على إثبات دعوة داخلية فعالة ممتازة عن الدعوة الخارجية (قارن ما
قلناه في هذا الفصل إجابةً لأسئلة 5-10).
ونضيف:

(1)
يعلّمنا الكتاب أن التجديد من عمل الروح القدس القادر على كل شيء، ولا يمكن أن
يجريه إلا الروح الأزلي نفسه، فهو مما لا يقدر عليه إلا قوة الله العظيمة، وقد
وُصف بأنه “إحياء” ولا ينشئ الحياة إلا الله. وقيل أيضاً إنه من عمل قوة
الله رأساً، فهو كعمل الخليقة الأصلية لا دَخل للأسباب الثانوية فيه. فكما أُقيم
المسيح من الأموات بقوة الله، هكذا أُقيم لعازر وهكذا يُقام المتجددون من قبور
خطاياهم. فالقيامة الروحية إحياء حقيقي كإحياء الجسد الميت. ولا خلاف بينهما إلا
في حدوث الواحد في العالم الظاهر والآخر في العالم الروحي، ولكن الله يهب الحياة
في الحالتين. فالتجديد ليس من الإنسان، ولا من مجرد الإقناع الأخلاقي، بل من قدرة
الله العظيمة مباشرةً. ومن عبارات الكتاب التي تؤدي إلى هذه الحقيقة نفسها قوله إن
المؤمنين خلائق جديدة، وإنهم خُلقوا جديداً في المسيح.

ومن
عباراته أيضاً في هذا المعنى أن المؤمنين أبناء الله، لا لمجرد أنه خلقهم، بل
لأنهم مولودون ولادة جديدة من الله، ومولودون من الروح (1يو 5: 1-18). والمعنى في
كل ذلك أن الحياة هبةٌ، يأتينا نوع منها من والدينا الأرضيين الفاسدين، ويأتينا
نوع آخر من الروح، كما قال المسيح “المولود من الجسد جسد هو، والمولود من
الروح هو روح” (يو 3: 6) فيصير من أولاد الله، الذين يولدون “ليس من دم،
ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله” (يو 1: 13).

(2)
علاقة هذا التعليم بغيره من تعاليم الكتاب. فلو علّم الكتاب (كما يزعم البعض) أن
البشر بعد السقوط لم يفقدوا كل القدرة على الصلاح الروحي، ولم يموتوا في الذنوب
والخطايا، وأنهم لا يزالون قادرين على الرجوع إلى الله، لصحّ القول إن التجديد
محصور في الإقناع الأخلاقي. غير أن الكتاب يعلّم في الدعوة الفعالة أن هذه الدعوة
الكافية هي من نعمة الله المجانية، وليست من شيءٍ سبق الله فرآه في الإنسان، حتى
بعد ما يحيا ويتجدد بالروح القدس، وبه يستطيع أن يجيب هذه الدعوة وأن يقبل النعمة
المعروضة والمحمولة فيها. فإذا كان الإنسان في حالته الطبيعية بعد السقوط ميتاً
روحياً كما كان لعازر ميتاً جسدياً، كانت القيامة الروحية من عمل القدرة الإلهية
وحدها، كالقيامة الجسدية. ولذلك لم تنفصل هذه التعاليم المتصلة قط، لأن كل الذين
يعتقدون أن الخطية الأصلية توجب الموت الروحي وتسلب الإنسان كل قدرة على عمل
الصلاح الروحي يعتقدون أيضاً أنه لا يتخلص من هذه الحال بالإقناع الأخلاقي، بل
بعمل قوة الله العظيمة مباشرةً. وقد أشار المسيح إلى هذين النوعين من الموتى بقوله
“كما أن الآب يُقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء. الحق الحق
أقول لكم إنه تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله، والسامعون
يحيون” (يو 5: 21، 25).

وهناك
علاقة قوية بين تعليم سلطان الله المطلق في الاختيار وتعليم النعمة الفعالة. فلو
صحَّ القول إن بعض الناس يميِّزون أنفسهم عن غيرهم، وإن الاختيار مبني على سابق
علم الله بالأعمال الصالحة، وإن بعض الذين يسمعون الإنجيل ويشعرون بعمل الروح
يقتنعون والبعض يرفضون، وإن الأوَّلين يُنتخبون والآخرين يُرفضون، لصحَّ أيضاً أن
النعمة التي يجريها الله في دعوة الناس أمر يقبله الإنسان أو يرفضه. ولكن إذا كان
الله يرحم من يرحم، والأمر ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل لله الذي يرحم، وكوننا في
المسيح هو من الله لا من أنفسنا، وكان الله يخفي هذه عن الحكماء والفهماء ويعلنها
للأطفال حسب مسرته- كان العمل الذي يتم بواسطة مقصده بالضرورة فعالاً في ذاته، لا
يتوقف نجاحه على عزم الذين يجريه الله فيهم.

وتظهر
هذه النتيجة أيضاً مما قاله الكتاب في شأن عهد الفداء، فلما أعطى الله في هذا
العهد ابنه شعباً جزاءً لطاعته وموته، كان لا بد أنهم يأتون إليه، وكان العمل الذي
يوجب إتيانهم فعالاً كذلك.

وهذا
التعليم مرتبط بسائر التعاليم الأخرى العظيمة في شأن النعمة الإلهية، وهو قسم
جوهري، أو على الأقل قسم لا ينفصل عن النظام الذي أعلنه الله لخلاص البشر وقصد به
إعلان غِنى النعمة الإلهية أي محبته العجيبة لغير المستحقين، حتى أن الذي يفتخر
إنما يفتخر بالرب ويهتف مع المرنم “ليس لنا يا رب ليس لنا، لكن لاسمك أعطِ
مجداً” (مز 115: 1).

(3)
شهادة الاختبار. فخبرة المؤمن وتاريخ الكنيسة يشهدان بذلك، لأن كل ظواهر الحياة
المسيحية تطابق التعليم الأغسطيني في النعمة الفعالة، فلم ينسب مؤمنٌ التجديد إلى
نفسه، ولا رأى أنه هو صانع العمل، أو أن صلاحه النسبي أو زيادة قبوله للتأثير
الصالح وللاقتناع سببٌ لتفضيله على غيره في نوال هذا التغيير. ولكنهم جميعاً يعلمون
أنه من عمل نعمة الله المجانية، كما قال الرسول “لا بأعمالٍ في برٍ عملناها
نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس” (تي
3: 5). وقوله إن الله “أفرزه من بطن أمه ودعاه بنعمته” (غل 1: 15) لأنه
كان مضطهِداً متلِفاً، فلم يكن فيه ما يستحق عناية الله به. فلم ينسب بولس دعوته
إلى نفسه، ولا إلى رغبته في الخضوع لعمل الحق، بل قال إنه شاهدٌ لتنازل الله
العجيب ونعمته.

ومن
أمثلة ذلك اهتداء ثلاثة آلاف في يوم الخمسين، أكثرهم شاهدوا المسيح وأعماله وسمعوا
تعاليمه، وقاوموا (إلى ذلك الوقت) التأثيرات الناشئة عن إظهار صفاته وصدق أقواله،
وبقوا مصرّين على عدم الإيمان رغم مجاهرة الروح الذي لا يكف أبداً عن تقديم الحق
إلى عقول الناس وضمائرهم، فكان رجوعهم إلى الله سريعاً وبحسب الظاهر فجائياً،
ولكنه كان صادقاً غيّر جميع صفاتهم وحياتهم بعد ذلك. ولم يكن ما حدث في يوم
الخمسين أمراً فريداً في تاريخ الكنيسة، فكثيراً ما ظهر مثل ذلك من قوة الروح ولا
يزال يظهر في كل قسم من أقسام العالم حيث انتشرت معرفة الإنجيل. وفي جميع ما حدث
من هذا القبيل تظهر علامات العمل الإلهي، كالمعجزات التي جرت في العصر الرسولي.
فكل شهادة الاختبار في المؤمنين أفراداً وإجمالاً تؤيد ما سبق أن قلناه في النعمة
الفعالة، ولا توافق مذهباً آخر في هذا الشأن.

23 – ما هي الاعتراضات على تعليم النعمة الفعالة والرد عليها؟

*
الاعتراضات على تعليم النعمة الفعالة لا تختص بهذا الموضوع فقط، بل تعم كل
التعاليم التي من هذا القبيل وقد سبق الكلام عليها. فلا نذكر هنا إلا ثلاثة منها:

(1)
هذا التعليم ينافي المسؤولية. فإذا كنا نحتاج إلى تغيير لا يمكن إحداثه إلا بالقوة
الإلهية، وبدونه لا نستطيع أن نخلُص، فإننا نكون غير مسؤولين. وهذا الاعتراض قديم
مبنيٌ على أن العجز والمسؤولية ضدان لا يجتمعان. وللرد على هذا الاعتراض انظر
فصل 27 س 30.

(2)
إن كنا لا نقدر أن نتوب ونؤمن إلا بواسطة قوة الله الفائقة، وجب أن ننتظر وقت
إجراء هذه القوة. وهذا اعتراض الذين يحبون الخطية ولا يريدون أن ينجوا منها.
فمثلهم مَثَل رجلٍ أبرص في عهد المسيح، يقول “لا أستطيع أن أشفي نفسي، وعليَّ
أن أصبر حتى يجيء المسيح ويشفيني”. ونحن نرى أن الشعور بالعجز التام هو الذي
يدفع الإنسان للبحث عن المعونة وطلبها من مصدرها الوحيد. وقد وعد المسيح أن يخلِّص
كل الذين يشعرون بخطاياهم وعجزهم عن تخليص أنفسهم، بقوله “تعالوا إليَّ وأنا
أريحكم. اسألوا تُعطَوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم”. فلا يحقُّ لأحدٍ
أن يشكو الخيبة من نوال قوة المسيح الشافية إلا بعد ما يطلبها بكل ما تقتضيه أهمية
الأمر من التأني والاجتهاد، واتّباع ما ترشده إليه كلمة الله (انظر فصل 27).

(3)
يستلزم هذا التعليم تدخل الله رأساً في تاريخ البشر الديني، وهذا (على زعمهم)
يناقض الفلسفة وشهادة العلم، ويخالف علاقة الله بالعالم. وللرد نقول: إن في هذا
الأمر خلافاً بين الفلسفة الكاذبة والكتاب المقدس، لأن الكتاب يُعلّم أن الخلق
والعناية وإنزال الوحي والتجسد والمعجزات والقيامة أمور خارقة للطبيعة لا يقدر أن
يقوم بها إلا الله وحده. فإن كان الكتاب صادقاً كانت الفلسفة التي تنكر إمكان هذا
العمل الرباني كاذبة. وهو نهاية المسألة عند كل مسيحي.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى