علم الله

الفصل الحادي والعشرون



الفصل الحادي والعشرون

الفصل
الحادي والعشرون

أصل
الإنسان

 

1 – ما هي الأنثروبولوجيا؟

مقالات ذات صلة

*
الأنثروبولوجيا كلمة يونانية مركبة من كلمتين، معناها “عِلم الإنسان”
وهي دراسة في العلوم الطبيعية وفي علم اللاهوت. ففي العلوم الطبيعية يُراد بها
البحث في طبيعة الإنسان الجسدية من جهة مقامه في المملكة الحيوانية، وصفاته
الخاصة، وأجناس البشر وأخلاقهم وعاداتهم وآثارهم القديمة قبل أن يُسطَّر شيء من
التاريخ. وفي علم اللاهوت يُراد بها البحث في طبيعة الإنسان الروحية، فهو مخلوق
على صورة الله ومسؤولٌ أمامه، وذلك يشمل أصله ووحدة نوعه وطبيعته الأخلاقية وحالته
الأصلية وامتحانه وسقوطه، وما نتج من معصية آدم فيه وفي نسله، وعلاقته بشريعة الله
الأخلاقية، وإمكان خلاصه من حالته الساقطة.

2 – كيف توضح أهمية الأنثروبولوجيا في علم اللاهوت؟

*
خلق الله الإنسان رأس الخليقة على صورته، بقدرات عقلية وأخلاقية بها يقدر أن يعرف
الله، وأعلن له شريعته ومقاصده الإلهية. وتجسَّد ابن الله لأجله ليفديه من الخطية
ويخلّصه من الحالة التي سقط فيها، ويُعدّ له ميراثاً أبدياً في السماء عند خالقه.
فلنفهم حقيقة الفداء وفوائده المجيدة يجب أن نعرف ما كان عليه الإنسان حين عصى
خالقه، وما صار إليه بعد السقوط في حالة الخطية والشقاء، وما يلزم لخلاصه من تلك
الحالة الخطيرة. ومما يدل أيضاً على ضرورة درس الأنثروبولوجيا في علم اللاهوت كثرة
الآراء الخاطئة عن الإنسان وطبيعته ومقامه بين المخلوقات، وخصوصاً في ما يتعلق
بالإنسان باعتباره مخلوقاً متديناً ساقطاً، مع أنه لا يزال مسؤولاً أخلاقياً أمام
الخالق، وأهلاً لقبول الفداء بدم المسيح.

3 – ما هو تعليم الكتاب المقدس في أصل الإنسان؟

*
يقول سفر التكوين “وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشَبَهنا، فيتسلّطون
على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات
التي تدب على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكراً
وأنثى خلقهم. وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار
آدم نفساً حية” (تك 1: 26، 27 و2: 7). وهذا يدل على سموّ شأن الإنسان وعظمته
وشرف أصله، خاصةً ما تضمنه من التلميح إلى بنوَّته لله وأبوَّة الله له. وهذا
مُعلن بوضوح أكبر في الإنجيل.

ولا
نقدر أن نشبّه صورة الله بشيء من المخلوقات الطبيعية، فليس له صورة جسدية، ولا
صورة أحد الأصنام التي توهّمها بعض الناس، بل هي صورة الإله الوحيد الحق، خالق
السماوات والأرض الذي لا تدركه عقول البشر. وهي صورة روحية لا جسدية. والفرق بعيد
بين صفات الله الباهرة وصفات الإنسان، ولكن هذا لا يناقض ولا ينفي أن الإنسان
مخلوق على صورته.

ويعلّمنا
الكتاب المقدس أن الله واحد، خالق الجميع، وأن الإنسان صنعة يديه، وأنه خلقه
مباشرةً على صورته. وهذه الحقيقة ليست من تعليم الوحي الفائق فقط، بل هي جوهرية في
الإنسان أيضاً، لأننا نرى من أول العهد القديم أن الإنسان يحتاج للفداء الذي هو
موضوع العهدالجديد، وأن ما قيل عن إن الله أعطاه السلطان على الأرض وما عليها، وما
أجراه من الاستعدادات لفدائه حين سقط، ولحياته الأبدية يوافق أن الإنسان مخلوقٌ
على صورته، وله علاقة شديدة به. وهذا يوافق وحدة التعليم في الأسفار المقدسة.

ويتضح
من تك 1: 26، 27 و2: 7 أن جسد الإنسان الأول صُنع بقوة الله وحدها، دفعة واحدة،
وأن الله أبدأ نفس الإنسان لما نفخ في أنفه نسمة حياة جعلته مخلوقاً حياً على
صورته. وأنه جبل جسده من مواد أوجدها قبله، من تراب الأرض. وذلك يوافق ما يقوله
علم الكيمياء من أن جسد الإنسان إذا تحلل وجدنا فيه الكربون والهيدروجين
والأكسوجين والنتروجين والكلسيوم والحديد والكبريت والفسفور وغيرها، من نفس
العناصر التي يتركب منها تراب الأرض بأنواعه.

ونتعلم
أيضاً من هذا النص أن نفس الإنسان مخلوقة، ولكن ليس من مواد أرضية، فإنها روح أو
نسمة حياة أبدعها الخالق على صورته لما نفخها في أنفه، فهي ليست الجسد، ولا الحياة
الحيوانية الناتجة عن اقتران النفس بالجسد كما في سائر الحيوانات، بل هي روح، له
حياة خاصة به، أصلها من الخالق ميَّزه بها عن كل المخلوقات. ولهذا سُمي الله “أبا
الأرواح” (عب 12: 9) و”إله أرواح جميع البشر” (عد 16: 22). “فمتى
رجع التراب إلى الأرض كما كان، ترجع الروح إلى الله الذي أعطاها” (جا 12: 7).
وقال البعض إن المقصود بقول الكتاب “نفس حية” (تك 2: 7) هو حياة الإنسان
الطبيعية، أي أن الإنسان صار حياً بغض النظر عن أنه مخلوق على صورة الله، ذو روح
خاص به. وهو خطأ، صوابه أن ذلك كناية عن روح الإنسان الذي هو على صورة الله بدليل
قرينة الكلام وهي “فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه”
(تك 1: 27). فالله روح، والذي خُلق على صورته هو روح بالضرورة، ويمتاز عن كل ما
أُبدع قبله من المخلوقات المادية. ويؤيد هذا ما نتعلمه أيضاً من الكتاب المقدس من
أن الإنسان مكوَّن من نفس وجسد، ما عدا الحياة الطبيعية المشتركة بينه وبين جميع
الحيوانات الحية، لأن نفسه الخالدة مقترنة وقتياً بجسده المادي.

ولا
صحة لما قاله البعض إن كلمة “نفخ” تدل على أن نفس الإنسان البشرية
انبثقت من الجوهر الإلهي (أي أنها جزء منه) لعدم استلزامها ذلك، ولعدم موافقة هذا
المعنى لطبيعة الله، لأنه يلزم عنه أن الجوهر الإلهي قابل للتجزؤ واتخاذ قسم منه
بدون صفات الله، فنقلّل بهذا من شأن الله، ونحسبه كنفوس البشر الساقطة. وفي هذا
التعليم الإلهي بشأن أصل الإنسان ما ينفي القول الباطل بالتوالد الذاتي، وبمذهب
الماديين القائل إن حياة الإنسان العاقلة الروحية ليس لها إلا أصل مادي، وبمذهب أهل
النشوء أن الإنسان نشأ بموجب نواميس طبيعية من الحيوانات البُكم!

4 – كيف تبيّن صدق هذا التفسير للنص الإلهي الذي تقدَّم ذكره في أصل
الإنسان؟

*
مما يبيّن صدق ذلك:

(1)
أنه يوافق كل ما علّمه لنا الكتاب المقدس بشأن الإنسان، ومن ذلك الألفاظ المستعملة
للتعبير عن إبداعه، فإنه لما فرغ من ذكر إبداع المخلوقات المادية وانتقل إلى ذكر
الإنسان، غيَّر سياق الكلام ونهج منهجاً جديداً. لأنه قال في خلق الحيوانات الأولى
“لتفض المياه” وفي خلق الحيوانات الأخيرة “ولتُخرج الأرض”.
وأما في خلق الإنسان فقال “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” ولم يقل
كجنسه كما قال في النبات والحيوان، وكرر القول “على صورتنا كشبهنا” مما
يدل على أن الله خلق الإنسان مباشرةً، كما يدل على ما للإنسان من المقام العالي
عند الخالق، وهو ما نراه أيضاً في خلق حواء (تك 2: 18-23). ونتعلم من تك 2: 7 أن
آدم خُلق ثم خلقت حواء بعده. والكلام بالتفصيل في خلق المرأة بطريقة عجيبة بفعل
الله مباشرةً يدل على أن الكلام في خلق الإنسان يشير أيضاً إلى فعل الله العجيب.
والقول عن سلطان الإنسان على المخلوقات وهو “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا
فيتسلطون” يدل على أن الإنسان مخلوق بطريقة خاصة، وأن سلطانه مبني على أنه
مخلوق على صورة الله، خلافاً لبقية المخلوقات. ومما يبين أيضاً صدق هذا التفسير
للنص الإلهي في أصل الإنسان تعاليم الكتاب المقدس المستمرة في طبيعة الإنسان
الروحية، فهو يمتاز عن سائر الحيوانات بما له من القوة العقلية والإرادة الحرة
والضمير، وبما عليه من الالتزام للخالق بموجب شرائع أخلاقية سنَّها له، وبما عليه
أيضاً من المسؤولية إذا لم يتمم واجباته، لأنه مخيَّر قادر على التمييز بين الخير
والشر. وكل ما قيل في الكتاب المقدس عن سقوط الإنسان وخطئه يدل على أنه فريد بين
المخلوقات، كما يدل الكلام على أصله. ومن هذا أيضاً خاتمة كلام لوقا في نَسَب
المسيح الجسدي وهي “ابن شيث ابن آدم ابن الله” (لو 3: 38).

(2)
أنه يوافق شهادة الشعور بأن في الإنسان طبيعة أخلاقية دينية بها يقترب من الله
ويمتاز عن سائر المخلوقات، فلسان حاله الأخلاقي الديني يعلن صريحاً أنه ابنٌ لله،
وليس في شعوره ولا في طبيعته الأخلاقية ما يُشعِر أنه من أصل حيواني وأنه ابن
المادة.

(3)
أنه يوافق ما بين الإنسان والحيوان من الاختلاف المشهور والفرق البعيد، ويوافق كل
ما امتاز به الإنسان من المبادئ الأخلاقية والدينية والخواص العقلية التي لا وجود
لها في الحيوانات، ولا أمل في أن تكتسب الحيوانات شيئاً منها. بخلاف الإنسان الذي
فيه قابلية النمو والتقدم حتى تقرّبه شيئاً فشيئاً من خالقه العظيم، مصدره الأصلي.

(4)
أنه يوافق تاريخ البشر وتقدمهم في العلوم والفنون والتمدن. فالبشر يرتقون قرناً
بعد قرن دون غيرهم من سائر المخلوقات الأرضية في التمدن والاختراعات واستنباط
وسائط العيشة المرفّهة، والتسلط على قوات الطبيعة واستخدامها لخيرهم. وكل هذا يدل
على أن الإنسان نوع فريد بين الأنواع المخلوقة.

(5)
أنه يوافق شهادة العلوم الطبيعية في أصل الإنسان، فمعظم ما أثبته العلم الطبيعي في
أصل الإنسان هو أن النوع البشري أُبدع فجأة في أواخر الحقب الجيولوجية عند الفراغ
من إبداع سلسلة المخلوقات الحية، ولم يثبت صحة تسلسل الإنسان من الحيوانات البُكم.
وكل ما عرفناه من العلم والتاريخ عن حالة الإنسان الأولى يثبت تعليم الكتاب أن الإنسان
خُلق على ما هو عليه الآن، وأنه اتخذ من خالقه مباشرةً كل صفاته الباهرة العقلية
والجسدية، خلافاً لقول البعض إنه تحوّل من وحش إلى إنسان بطريقة طبيعية.

5 – ما هي علاقة القول الأول في خلق الإنسان
(تك 1: 26-29) بالقول الثاني فيه (تك 2: 7-25)؟

*
يخبر تك 1 عن خلق الكون إجمالاً، ثم يذكر خلق الإنسان لأنه رأس المخلوقات. ويخبر
تك 2 عن خلق الإنسان باعتباره رأس البشر وبداية تاريخهم. فاقتصر على ذكر خلق
الإنسان الأول والمرأة الأولى دون التعرُّض لذكر أعمال الخَلق بالإجمال. ويتضح ذلك
من أول جملة منه، وهي “هذه مبادئ (تواليد) السماوات والأرض” فنستدل من
كلمة “تواليد” أن الهدف في تك 2 هو ذكر حوادث تاريخية متعلّقة بالسماوات
والأرض بعد خلقهما، ولذلك نعتبر هذا القول في شأن خلق الإنسان، لأن فيه تفاصيل عن
ذلك ليست في تك 1 ومنها أن الإنسان خُلق من تراب الأرض، وأن الله نفخ في أنفه نسمة
حياة، وأن المرأة الأولى أُخذت من جسده، وأن الله وضعهما أولاً في جنة عدن وسنَّ
لهما الزواج. فالهدف من تك 1 أن يخبرنا عن خلق كل الكائنات إجمالاً، ولذلك يبدأ من
البدء ويمتد إلى آخر أعمال الخلق. وهدف تك 2 أن يخبرنا عن خلق الإنسان فقط
بالتفصيل، ولذلك لم يذكر غيره.

6 – ما هو مذهب النشوء الذاتي، وفيم يختلف عن النشوء الإلهي؟

*
المقصود به أن الكون كله بكل ما فيه من الكائنات الحية وغيرها نشأ بالتدريج في
حقبٍ متوالية من مجرد فعل قُوى الطبيعة الذاتية، بدون تدخل إرادة الخالق. وهو
يناقض مذهب أن الله هو الخالق. وإليك هذه الملاحظات:

(1)
تمت أعمال الخلق بالتدريج بحسب نظام إلهي بطريقة التقدم من البسيط إلى المركب. وهو
أمر لا خلاف فيه، فقد ذكر سفر التكوين الخلق بطريقة تشبه في ظاهرها ما يقوله أصحاب
مذهب النشوء، إلا في أن الخلق تمّ بفعل الخالق وبعنايته.

(2)
من شأن الكائنات الحية أن تنمو من الخلية الأصلية إلى حالة البلوغ، وهذا يتميّز عن
مذهب النشوء بأنه ضمن دائرة محدودة معلومة معينة من الخالق الذي وضع في الخلية
الأصلية قوة النمو في الأحوال المناسبة لذلك، بطريقة تتفق مع طبيعتها.

(3)
من شأن الكائنات الحية أن يلد الشيء نظيره بحسب قوانين ثابتة. أما مذهب النشوء فلا
يُراد به ولادة كل فرد من والديه، بل تعليل نشوء نوع جديد من أنواع أخرى، حتى أن
المخلوقات الحية قد تنوَّعت على ما هي الآن بتفرُّع بعضها من بعض.

(4)
يتقدم البشر من الحالة الدنيئة لحالةٍ أفضل، ومن الفقر للغنى، ومن الجهل لمعرفة
العلوم والفنون والصنائع. وهذا التقدم على أنواعه مسلَّم به، وهو يتميّز عن مذهب
النشوء في أنه ليس فيه شيء من تحوّل الأنواع، ولا من نشوء أشياء جديدة بمجرد
الفواعل الطبيعية، وأن العامل العظيم فيه هو العقل والاجتهاد واستعمال الوسائط
الموافقة للأهداف المطلوبة. نعم إن مذهب النشوء العلمي يتضمن الحقائق المتقدمة
ولكن بتعليل آخر، وهو أن العلة الفاعلة مستقرة في الطبيعة نفسها، فتقدر من تلقاء
ذاتها أن توجد أشياء جديدة بدون انقطاع، وأن ذلك تم في عالمنا هذا إلى أن أخذ شكله
الحاضر وصار على ما هو عليه الآن من النظام واختلاف الأنواع الحية.

هذا
من جهة مذهب النشوء بحسب الاصطلاح العلمي. غير أن كلمة “نشوء” استُعملت
بشأن هذا المذهب بصورتين مختلفتين: ففي الأولى يشمل النشوء العلة الأولى (الله)
وجميع العلل الثانوية ويقوم مقامها ويفعل فعلها، وينفي من الكون كل علة سواه.
وبموجب الصورة الثانية لا يشمل العلة الأولى (الخالق) ولا العلل الثانوية مستقلةً
عن العلة الأولى، وإنما دائرة فعله محدودة. وهو يبين أن العلة الأولى (الله
الخالق) فعل بالعِلل الثانوية الموضوعة بحكمته وقوته الفاعلة بإرادته.

فالصورة
الأولى تنفي وجود الخالق، بحجة أن لا لزوم له، لأن النشوء يقوم مقامه ويعمل عمله.
ولكن المؤمنين بوجود الله لا يسلّمون بذلك. وتُثبِت الصورة الثانية الخالق وعمله
في الخليقة. والنشوء فيها هو في كيفية تنظيم الخالق للكائنات وتنويع الموجودات.
غير أنه يتعذَّر الآن على البشر القطع بحقيقة ذلك، فالصورة الأولى تتركه إلى أن
يتحقق بالبحث بالوسائط العلمية. ويمكن قبول هذه الصورة كتصوُّر عقلي محتمل لا
يناقض عقائد الدين، إذا كان لا ينفي الخالق ولا أعماله ولا عنايته، بل يقتصر على
تفسير طريقة إتمام أعماله. ولكنه يحتاج لإثبات، ويلزم حصره ضمن حدود معلومة لئلا
يتطرَّف معتقدوه لنفي وجود الخالق وعنايته. وهو أمر لا يليق لا علماً ولا ديناً،
ولا يوافق ما في الإعلانات الإلهية من علاقة الخالق بالكون وبالعالم بعنايته
المشهورة.

وينقسم
أصحاب نظريات النشوء إلى ثلاث فرق: الأولى تعتقد بالنشوء بدون خلق، والثانية تعتقد
أن الخلق كان بداية النشوء، والثالثة تعتقد أن الخلق والعناية يصحبان النشوء.

(1)
تعتقد الفرقة الأولى بالنشوء بدون خلق، وهكذا أنكرت وجود الله، وزعمت أن العالم
تكوّن بارتقاء مواده الأصلية بالتدريج، فنشأ شيء من شيء وتحوّل البسيط لمركب،
وهكذا على التوالي بلا انقطاع إلى أن صارت كل الموجودات من الجماد وذوات الحياة
النباتية والحيوانية والعقلية والروحية على ما هي عليه الآن. ومن أهل هذا الاعتقاد
“الماديون” وهم الذين يعتبرون المادة مركز كل قوة فاعلة في الكون وأصل
كل ما ظهر فيه من العجائب. و”الحلوليون” وهم الذين يعتقدون أن الله حال
في كل شيء، وفي كل جزء من كل شيء متحداً به، حتى يصح أن يُطلق على كل شيء أنه
الله. و”اللاأدريون” وهم المرتابون في الوحي الذين يعتقدون أن النشوء
يتم بفعل قوة مجهولة لا يقدر العقل البشري أن يدركها. غير أنهم لا يعتبرون تلك
القوة أنها الله المعلن في الكتاب المقدس المستحق الكرامة لأنه إله عاقل خالق كل
ما سواه ذو إرادة واختيار وصفات ذاتية مجيدة. فجميع فروع هذه الفرقة تنسب تركيب
الكون وإبداع الحياة والأنواع وأصل الإنسان وتاريخ العالم ومستقبل الجنس البشري
إلى النشوء الذاتي، الذي يعمل بنفسه من دون الله.

(2)
الفرقة الثانية تعتقد أن الخلق كان بداية النشوء، فهي تؤمن بوجود الخالق الذي خلق
المواد الأصلية وخلايا الحياة، ثم تركها لذاتها تتحرك ويدخل بعضها بين بعض، وتنتقل
من حالة لأخرى ومن نوع لآخر بحسب نواميس النشوء وفواعله، إلى أن صار العالم والكون
بأسره كما هو الآن. وهذه الفرقة تخالف السابقة في أنها تؤمن بالخالق، وأنه عمل مرة
واحدة في البداية بخلق المادة الأصلية والخلايا الأولى، ولكنها تتفق مع الفرقة
الأولى في عدم عناية الخالق بعد ذلك، وأنه ترك تلك المادة والخلايا لفعل النشوء
التدريجي. وهذا المذهب لم يُبرهَن بعد، ويخالف ما عندنا من إعلانات إلهية عن تدخل
الله في أمور الكون، خاصةً في خلق البشر في آخر الأدوار على صورته، وعنايته به منذ
البدء. وهو يؤدي للغلوّ في تعظيم شأن الطبيعة المخلوقة ويجعلها في مقام الله، إلا
في الخلق الأصلي. فكأنهم يقولون لله أن يتخذ مركزه في أقصى طرف الكون زماناً ومكاناً،
ولا يقترب إليهم أبداً، لأن القوات الطبيعية وحكمة قوانين النشوء تغنيهم عنه! وهو
يناقض نفسه، ويناقض المنطق، لأن أصحابه قالوا إن الله خلق مرة واحدة. فإن كان قد
خلق مرة، فماذا يمنع أن يخلق مراراً كثيرة؟ وأين اختفى الذي أبدع في القديم كل
الكائنات بحكمته الفائقة كأنها غير محتاجة بعد ذلك إلى إرشاده وسلطانه؟ ويعلّمنا
الكتاب المقدس أن عناية الله تمتد إلى كل شيء، ونرى الطبيعة عاجزةً عن عمل شيء
جديد بدون معونة إلهية، إما بالخلق أو بالتنظيم والإرشاد، لتتمم أهدافاً لا تصدر
إلا عن عقل الخالق. ويقول الكتاب المقدس إن لله مقاصد وأهدافاً يتممها بسلطانه
وإرشاده وإجراء إرادته السامية. فأهل هذا المذهب يُثبتون وجود الله، ولكنهم
يقلّلون من شأنه وينفون علاقته الصحيحة بمخلوقاته، كما أن مذهبهم لا يثبته برهان.

ومن
هذا نرى أن الفرقة الثانية من أهل هذا المذهب تمتاز عن الأولى بإثبات وجود الخالق،
لكنها تشترك معها في القول بأصل الإنسان الذي يناقض تعليم الوحي الإلهي.

(3)
تعتقد الفرقة الثالثة أن الخلق والعناية الإلهية يصحبان النشوء، وهي تؤمن بالخالق
وخلقه الكون. فمن الكون ما تمَّ بالخلق فعلاً، ومنه ما تمَّ بأسباب ثانوية عملت
بقوانين سنَّها الله، ويُحتمل أن ذلك كان بأسلوب النشوء، غير أن هذا النشوء محصور
ضمن حدود معلومة لا يتجاوزها إلا بتدخل الله بالخلق أو بالعناية الخاصة لإجراء ما
هو خارج عن دائرة فعل النشوء. ولا يتم النشوء بأسلوب طبيعي بدون تدخّل إلهي. فمذهب
النشوء على هذه الصورة من المحتملات لأنه ليس فيه ما يمس شأن الخالق أو علاقته
بالكون. على أن فيه مسائل تحتاج لإيضاح وإثبات لم يتفقوا عليها. وبين الباحثين في
هذا الموضوع من العلماء اتفاق إلى حدٍّ معلوم، فإن جميعهم ينسبون إبداع المواد
الأصلية والحياة وخلق الإنسان إلى الخالق مباشرةً دون توسط قانون النشوء. أما
المسألة التي اختلفوا فيها فهي من جهة أصل الأنواع، فمنهم من قال إنها نتجت من فعل
النشوء بتحوّل نوعٍ لآخر، ومنهم من جزم بنفي ذلك وقال إنه يتعذَّر على النشوء
إيجاد الأنواع، وإن الله أبدعها على ما هي ورسم لها حدوداً لا تتخطاها، بحيث لا
يتحوّل واحد منها لآخر بطريقة طبيعية، غير أن كل نوع منها يمكن أن يتفرع لأصناف
مختلفة لا تتجاوز حدوده كما نرى في الحيوانات والبشر. والمذهب الأخير من هذين
المذهبين أصحّ. ولا شك أن البحث عن أصل الأنواع يليق بالعلم، ولكن يجب أن يستند
إلى أدلة وبراهين، لا على افتراضات لم تتبرهن بعد، لأن العلم الصحيح يبُنى على
حقائق ثابتة.

7 – ما هو القول الصحيح في مذهب النشوء في أصل الإنسان؟

*
إنه إلحاد لا دليل على صدقه، والقوانين اللازمة لإيجاد الإنسان بطريقة النشوء
وهمية لا وجود لها، ولا يمكن إثباتها. بل قد اتضح بالأدلة الإيجابية العلمية خطأ
براهين النشوء، فالتوالد الذاتي يخالف ما أثبته العلم، وتحوُّل الأنواع دعوى بلا
دليل، وتحويل الطبيعة الحيوانية لطبيعة الإنسان العقلية والأخلاقية بعيد الوقوع لأن
الصفات البشرية تختلف عن الصفات الحيوانية كاختلاف صورة الله عن صورة الحيوانات.
ولا دليل على توالد إنسان إلا من إنسان نظيره، ولم يرد في أقوال أشهر العلماء من
المسيحيين والطبيعيين ما يصح أن يكون دليلاً على تسلسل جسد الإنسان من القرود،
فضلاً عن النظر إلى بنيته الروحية. وإذا أمعنّا النظر في جميع علامات الحكمة
والقصد في الكون لا نرى للمادة إرادةً حرة ولا قدرة على تركيب عجائب المخلوقات
الحية. فهل تقدر المادة أن تقول للمادة: لنعمل الإنسان على صورتنا! إن من يفكر
منطقياً يرفض أن ينسب المخلوقات لفعل المادة، فنسبة الإنسان رأس الخليقة وحامل
صورة الله لا تصح لا عقلاً ولا علماً ولا ديناً إلا لحكمة الخالق وفعله وقوته
القادرة على كل شيء.

8 – ما هو مذهب دارون في أصل الإنسان؟

*
اعتقد دارون أولاً أن الله أبدع الأنواع المختلفة كُلاً على حدته، ثم مال بالتدريج
لمذهب النشوء، ونفي تدخل الخالق في إيجاد الكائنات سوى مرة واحدة، أي أن كل عمل
الله في الخليقة هو أنه أبدع خلية واحدة لا غير وتركها لذاتها، وهي أخذت من تلقاء
نفسها تتوالد وتتنوع وتتفرع ثلاث أو أربع خلايا إلى أن صارت ملايين من الأنواع
التي تختلف بعضها عن بعض بخواص متباينة، كما نرى في النباتات والحيوانات المتنوعة
المعروفة عندنا. وكل ذلك تم بدون تدخل الله بموجب قانونين عظيمين أسس عليهما دارون
مذهبه، كأن لا شك فيهما، وهما: قانون الانتخاب الطبيعي، وقانون بقاء الأصلح. وقد
التزم دارون دفاعاً عن مذهبه في أصل جميع الأنواع النباتية الحيوانية وتكميلاً له
(ليشرح صيرورة العالم على ما هو عليه الآن) أن يجعل مذهبه يشمل أصل الإنسان أيضاً،
فقال إن الجنس البشري نشأ بقوانين طبيعية من الحيوانات البكم، خاصةً من القرود
التي اعتبرها أسلاف البشر. وهذا يخالف الوحي المقدس. وقد اعترف دارون قبل موته
بعدم تصديقه الوحي على الإطلاق، فصار نموذجاً محزناً لنتائج مذهبه، واحتقر الخالق،
وعظم الطبيعة المادية في نسبة أصل كل شيء لقواتها وقوانينها، ونفى تدخل الله في
أمور الكون وأحوال البشر، وقلّل من شأن الوحي والمعجزات والعناية وجعلها من باب
الخرافات.

فاتضح
مما تقدم أن دارون من الفرقة الثانية من الفرق الثلاث لأهل النشوء التي ذكرناها في
إجابة س 6. ويقول دارون إن الإنسان نشأ من جسد حيوان شبيه بالقرد، جعله دارون
الحلقة المفقودة بين البشر والحيوانات (والحلقة المفقودة فرض محض ليس لها أثر،
احتاجها دارون ليبرهن مذهبه فاخترعها اختراعاً). وقال دارون إن قوى الإنسان
العقلية نشأت من غرائز الحيوانات، وإن نفس الإنسان صدرت من الطبيعة الحيوانية. فيا
له من مذهب غريب لا يقبله عقل سليم!

9 – ما هي الاعتراضات على المذهب الداروني في أصل الإنسان؟

*
هناك ثلاثة اعتراضات رئيسية:

(1)
هذا المذهب لا يقدم تعليلاً لأصل الأنواع الأقل رقياً من ذوات الحياة، وبالتالي لا
إثبات لتعليله أصل الإنسان. فإن كان موضع شكٍ في ما يختص بالنباتات والحيوانات،
فهو بالأولى موضع شك في ما يختص بالإنسان. وكل ما نعلم من أحوال الإنسان في
الأدوار الأولى من تاريخه يدل على أنه كان كامل البنية الجسدية والصفات العقلية
منذ وجوده في العالم، ولم يظهر في البحث الطويل أقل دليل من البقايا الحيوانية في
الأرض على انتقاله من هيئة القرد إلى هيئة الإنسان، لأن البُعد بينهما (مع وجود
شيء من المشابهة) كبير وواضح. وشهد أفضل العلماء بعدم وجود دليل طبيعي على تناسل
الإنسان من القرود.

(2)
يتضح خطأ تعليل هذا المذهب لأصل الإنسان من جملة نواحي: (أ) إنه دليل على تناسل
بنية الإنسان الجسدية من الحيوانات، مع أن ما بين جسد الإنسان وأجساد بعض
الحيوانات من المشابهة لا يدل بالضرورة على ذلك، لأن الخالق اختار أن يخلق الإنسان
على شكلٍ يشبه صورة بعض الحيوانات الجسدية في بعض الوجوه، ويختلف عنها في ما يليق
بمقامه ويناسب أحواله الطبيعية، بدون أن يتولد من الحيوانات. وكل ما نعلمه من بنية
قدماء البشر أنهم لا يختلفون شيئاً عن أهل العصر الحاضر. فإذا قارنّا ما اكتُشف من
آثار الأقدمين بأناس هذا العصر، ثم قارنّاها بالقرود، اتضح لنا أن الفرق بين أقدم
البشر والقرود كالفرق بين أحدثهم والقرود في كل ما يختص بالبنية الجسدية. فإذا
نظرنا مثلاً إلى الجمجمة التي يتبين منها حجم الدماغ رأينا أن الفرق الواضح بين
جماجم البشر والقرود هو من أول تاريخ البشر إلى الآن. وكذلك إذا قارنّا حجم جماجم
أقدم البشر مع جماجم أهل عصرنا لا نرى شيئاً من الفرق، غير أن جماجم القدماء كانت
أكبر قليلاً من جماجم أهل الوقت الحاضر. فوزن دماغ الغورلا، أعظم القرود، نحو 858
جراماً، ووزن دماغ أهل استراليا الأصليين الذين هم أدنى جميع البشر نحو 2828
جراماً، ووزن دماغ الشمبانزي وأوران أوتان من القرود المعتدلة المقدار ليس إلا نحو
742 جراماً. فدماغ أعظم القرود أقل من ثلث دماغ أدنى البشر، ومن نصف دماغ الطفل
عند ولادته. فيتضح خطأ القول إن الفرق بين أعظم أدمغة البشر وأصغرها ليس أقل من
الفرق بين أدمغة البشر وأعظم القرود. نعم إن البشر تقدموا في التمدن أكثر من
القدماء، غير أنهم لم يتغيروا في بنية أجسادهم، ولا كان القدماء أقرب إلى
الحيوانات البكم في شيء من الأحياء إلى الآن. فإذا لم يكن هناك دليل على النشوء في
بنية الإنسان منذ وجوده إلى الآن، فكيف يقوم الدليل على أنه نشأ بالتدريج من
الحيوانات؟ (ب) من موهبة النطق، فإن الإنسان يقدر أن ينطق بلغة مفهومة. وقد بذل
دارون كل جهده ليثبت زعمه أن أصوات الحيوانات تحولت رويداً لتكلم البشر، فذهب كل
اجتهاده سُدى. فلم نسمع أن قرداً في القرون الخالية تعلم لغة أو كلمة غير الصوت
الخاص به. فقد امتاز جميع البشر حتى في أشد الحضارات تخلُّفاً بموهبة الكلام بلغة
مفهومة، وذلك ما لم يقدر عليه أعلى رتب الحيوانات. (ج) من عدم وجود دليل على أن
قُوى البشر العقلية نشأت من قوى البهائم. نعم لبعض البهائم فطنة وغرائز تمكنها من القيام
بأعمال غريبة، غير أنه لا دليل على أنها تغيرت في توالي الأزمنة، ولا على أنها من
طبيعة العقل البشري، فإن العصافير تبني عشوشها والنمل قُراه على نمط واحد طول
حياتها، وكذا سائر البهائم. وأما الإنسان فيرتقي بعقله من درجة لأخرى على الدوام،
ويبحث في الأمور العقلية والعلمية، مما لا يقدر عليه غيره من الحيوانات. (د) من
طبيعة الإنسان الأخلاقية، فإن الإنسان يعلو في مواهبه الأخلاقية على سائر
الحيوانات كما تعلو السماء على الأرض. وقد بذل دارون غاية جهده يبحث عن قبيلة من
البشر تخلو من الاتجاهات الأخلاقية والدينية فلم يجد. ومن الأمثلة التي عوَّل
عليها دارون ليثبت زعمه محبة الكلب لصاحبه وخضوعه لإرادته وخوفه منه ونحو ذلك، مما
يشبه الميول الدينية في الإنسان. والرد عليه أنه مهما قوي الشعور بلزوم الاستناد
على شيء أو شخص فذلك لا يدل على شعور ديني. فالغرِيق الذي يمسك قطعة خشب يعرف أن
نجاته تتوقف عليها لا ينظر إليها بشعور ديني، ولا يدل ذلك على ميوله الدينية من
نحو الخشبة. فالانفعالات الدينية تختلف جداً عن انفعالات الحيوانات الغريزية، ولم
يظهر في البهائم ما يشبه انفعالات الإنسان وميوله الأخلاقية والدينية. فالقرد
المتديّن لم يوجد بعد! أما الإنسان فشهد الكتاب أنه وُضع قليلاً عن الملائكة وكلله
الله بالمجد والكرامة (مز 8: 5).

لقد
أضر دارون العالم بإدخاله رأياً فاسداً في فلسفة الأخلاق بإعلانه هذا المذهب
الغريب بشأن صدور طبيعة الإنسان الأخلاقية من انفعالات البهائم، ولم يقدر أن يثبته
بالأدلة العلمية، لأنه أوهم الناس أن أصل الضمير حيواني لا إلهي، وأن كل القوانين
الأخلاقية صادرة عن استحسان الإنسان نفسه. مع أن الشريعة الأخلاقية مكتوبة على قلب
الإنسان، لأن الله خلق الإنسان على صورته، وضميره عطية من خالقه، ينوب عن الخالق
في إرشاده والتزامه الأخلاقي، وهو مسؤول أمامه.

(3)
هذا المذهب في أصل الإنسان يخالف تعاليم الكتاب المقدس، فهدف خبر الخليقة في
الكتاب أن يبين أن الله هو الذي خلق الكائنات ورتبها على ما هي عليه، ولو أنه لا
يذكر كيفية الخلق ولا القوانين التي أُجري بموجبها، لأن المقصود منه إثبات أن الله
هو الخالق. أما أهل العلم فيبحثون كيفية إبداع المخلوقات. فالعلم لا يناقض الكتاب،
ولو أن بعض أهل العلوم الطبيعية أذاعوا مذاهب تخمينية هي مجرد أوهام، وادَّعوا
أنهم توصلوا إليها بالبحث العلمي، فأفسدوا بذلك أخلاق البشر وضللوا بعضهم وقللوا
شأن العلم.

وتتضح
مخالفة مذهب دارون في أصل الإنسان لتعليم الكتاب المقدس من أن الله خلق الإنسان
مباشرةً، لا بالنشوء، وذلك مما يأتي:

(أ)
من ذكر الكتاب خلق آدم وحواء (تك 1: 26-28 و2: 7، 21-24) فعند خلق آدم قال الله “نعمل
الإنسان على صورتنا” وهذا يدل على أن آدم كان الإنسان الأول، وأنه حين خُلق
لم تكن المرأة قد خُلقت. أما خلق حواء فكان بكيفية عجيبة تختلف عن مذهب النشوء،
الذي يقول إن البشر نشأوا بالتدريج من الحيوانات، وإنهم حين بلغوا درجة الإنسان
كانوا أفراداً كثيرة من الذكور والإناث لا شخصاً واحداً، وذلك يخالف قول الكتاب في
خلق آدم “وأما لنفسه فلم يجد معيناً نظيره” أي كان وحده. ومن أقوال
الكتاب الكثيرة التي توافق خبر خلق الإنسان في سفر التكوين قول المسيح “ولكن
من بدء الخليقة ذكراً وأنثى خلقهما الله” (مر10: 6). وقول بولس إن “الرجل
ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل” وإن “الرجل لم يُخلق من أجل المرأة
بل المرأة من أجل الرجل” (1كو 11: 7-10). وقول رسالة العبرانيين في رئاسة
الإنسان في الخليقة “وضعتَه قليلاً عن الملائكة. بمجدٍ وكرامة كللته، وأقمته
على أعمال يديك” (عب 2: 7). و”لأن آدم جُبل أولاً ثم حواء” (1تي 2:
13). ومن هذا أن حواء دُعيت بهذا الاسم لأنها أم كل حي (تك 3: 20). وفي الكتاب
أقوال كثيرة غير ما تقدم تثبت أن كل البشر متناسلون من أب واحد وأم واحدة، وهما
آدم وحواء.

(ب)
من تعليم الكتاب المقدس في حالة الإنسان الأصلية وسقوطه، فقد خُلق أصلاً في حالة
البر والقداسة ثم سقط من تلك الحالة بمعصيته. فعلى مذهب النشوء لا يصح تعليم
الكتاب أن الإنسان خُلق في حالة البر والقداسة، لأنه ارتقى بالتدريج من البهيمية
إلى الإنسانية. وفي أثناء هذا الارتقاء لم يعرف شيئاً من البر والقداسة، لأنه
ارتقى إلى تلك الحال بالتدريج. وبهذا يتعذَّر تعليل دخول الخطية إلى العالم وبيان
وقت دخولها. فالخطية بموجب تعاليم الكتاب هي التعدي على شريعة الله وعدم طاعته.
ولكن إذا صحّ أن الإنسان ارتقى ارتقاءً بطيئاً في مدة طويلة من البهيمية إلى
الإنسانية، وأنه ابن الطبيعة وثمرة النواميس، فمتى دخل تحت شريعة الخالق وتعدى
عليها عمداً أول مرة؟ ألا يخالف ذلك تعليم الكتاب أن الإنسان سقط بالتعدي عمداً
على شريعة الله، وبذلك صار خاطئاً واستحق العقاب والدينونة، وهكذا دخل الموت إلى
العالم. ولولا فعل النعمة الإلهية في العالم لتوغّل البشر على الدوام في المعاصي،
لأنه “بإنسان واحد دخلت الخطية.. وملك الموت من آدم إلى موسى” (رو 5:
12-21) “فإنه إذ الموت بإنسان بإنسانٍ أيضاً قيامة الأموات، لأنه كما في آدم
يموت الجميع هكذا في المسيح سيُحيا الجميع”. وكذلك “صار آدم الإنسان
الأول نفساً حية، وآدم الأخير روحاً محيياً” (1كو 15: 22، 33، 45).

(ج)
من تعليم الكتاب في مستقبل الجنس البشري الأبدي، وهو أن كل نفس بشرية تحيا إلى
الأبد، إما في حالة القداسة أو في حالة الشقاء. فإن كانت النفوس البشرية (على مذهب
النشوء) تولدت من البهائم، فمن أين اتخذت صفة الخلود؟ وإن كان النشوء لا يزال يفعل
في الجنس البشري فيبقى الأصلح ويتلاشى الضعيف، فكيف نال الخلود الذين تلاشوا؟ وما
هو الدليل على خلود الذين كانوا الأصلح؟ فلا يمكن الحصول على الخلود بواسطة
النشوء! وإذا قال أصحاب النشوء إن الله وهبه للبشر قلنا إن ذلك يخالف قول علمائهم
إن الله لا يعتني بأمور العالم على الإطلاق.

(د)
من تعليم الكتاب المقدس في عمل الفداء، الذي لا يخلُص الخاطئ إلا به، ولذلك أرسل
المسيح ليموت عن العالم، وليس لأحدٍ رجاء في التقدم بالقداسة ونوال الحياة الأبدية
إلا بواسطة المسيح. وأما مذهب النشوء فينادي بأن لا حاجة للمسيح، لأن الإنسان
يتقدم بالتدريج بفعل القوانين الطبيعية، ولا محل فيه لعمل الله في فداء العالم.
ولنسأل أهل النشوء: ما قولهم في الوحي المقدس، وفي قيامة المسيح، وفي المعجزات على
أنواعها؟ هل كان ذلك بفعل القوانين الطبيعية أو بقوة الله؟ وأيضاً ما قولهم في فعل
الروح القدس في تجديد النفس وفداء الإنسان من حالته الساقطة وإرجاعه إلى حالة تشبه
الحالة التي سقط منها؟ وما قولهم في منفعة الصلاة وتأثيرها؟ فإن أجابوا أن ذلك فعل
الله خالفوا مذهبهم، وإن قالوا إنه فعل القوانين الطبيعية كان جوابهم هذا مضحكاً!
فما أحلى تعليم الكتاب المقدس أن الله يستجيب صلواتنا، وأنه ليس بعيداً عنا، بل هو
حاضر قريب حافظ كل شيء بكلمة قدرته، يُجري مقاصده باستخدامه قوات الطبيعة وأعمال
الملائكة والبشر. وما أبعد هذا عن القول إنه خلق خلية صغيرة منذ حقبٍ لا تُحصى،
وغاب ولا يزال غائباً تاركاً جميع الأمور للقوانين الطبيعية.

10 – كيف حاول الدارونيون إثبات عدم تناقض
مذهبهم في أصل الإنسان مع تعليم الكتاب المقدس؟

*
لم يهتم بعض الدارونيين بذلك لشدة توغلهم في الإلحاد، وحاول بعضهم أن يبرهنوا عدم
وجود تناقض بما يأتي:

(1)
قال بعضهم إنه لما لم يكن هدف الكتاب المقدس أن يعلّم حقائق علمية، فقد ذكر الأمور
الطبيعية بدون اعتبار لحقائق العلم، مراعاةً لفهم الذين سمعوه. فنجيب: نعم، ليس
هدف الكتاب المقدس تعليم العلوم الطبيعية، ولا استعمال الاصطلاحات العلمية في
التعبير عن أمور الطبيعة. لكنه يذكر حقائق كثيرة تتعلّق بالطبيعة (كالخليقة وأصل
الإنسان) ليعلن لنا أن الله خلق الكون بقدرته الفائقة، وأنه خلق الإنسان مباشرةً
على صورته. فإذا خطّأنا تعاليم الكتاب الواضحة الصريحة في أمور طبيعية كهذه، فتحنا
باباً للشك في كل ما ذكره الكتاب من أمور تاريخية وغيرها. ولا يمكن أن نقول إن
ذِكر الكتاب لبعض الأمور الطبيعية بعبارات مألوفة دليلٌ على خطئه، لأن علماء
الطبيعة يستخدمون أحياناً عبارات مألوفة ليوضحوا الأمور لغير المتخصصين. ولما كان
التعليم في أصل الإنسان مختصاً بالدين والعلم معاً، فلا نقول إن الكتاب أخطأ وهو
يقدم لنا الأمر بعبارات مألوفة غير علمية.

(2)
قال آخرون إن ما جاء في سفر التكوين عن خلق الموجودات ليس خبراً تاريخياً بأمور
جرت، بل هو من باب المثل أو التمثيل أو الحكاية. فنجيب: إن هذا القول مردود بأن
جميع الكتبة والمسيح نفسه اعتبروا هذا الخبر تاريخياً لا تمثيلياً، بدليل تناسل
رؤساء الآباء في الجداول النَّسَبية إلى آدم وحواء تناسلاً طبيعياً. كما أن الخبر
عن الخليقة جاء كتاريخ وليس كمَثَل. ولولا أن أصحاب مذهب النشوء قالوا هذا الكلام،
لما خطر هذا الزعم على بال إنسان.

(3)
قال غيرهم إن لفظ الجلالة في خبر خلق العالم كناية عن قوة غير معروفة ولا مُدرَكة،
وإنه يتعذر معرفة شيء مما يتعلق بالله أو بوجوده، فيكون كلام الكتاب في الخلق من
باب الخرافات الدينية، لأننا لا نعرف شيئاً عاملاً في الكون إلا القوات الطبيعية.
وسمَّى أهل هذا المذهب أنفسهم “اللاأدريين” متّخذين هذا الاسم من
اعتقادهم أنه يستحيل أن ندري شيئاً عن القوة العظيمة العاملة في الكون. وللرد
عليهم نقول إن الكتاب المقدس يعلمنا أن الله أعلن نفسه للبشر خاصةً في يسوع المسيح
ابنه الحبيب، وأن ذلك مبرهَن بعجائب وآيات وأدلة كثيرة مختلفة، ومن اختبار
المؤمنين في كل القرون.

11 – ماذا يقول الكتاب المقدس عن مقام الإنسان بين المخلوقات؟

*
إذا نظرنا إلى مجرد تركيب الإنسان الجسدي لا نراه يمتاز عن سائر الحيوانات إلا
بأمور جزئية. وإذا قارنّاه بالكون العظيم وقِسنا قوته بقوات الطبيعة الهائلة لم
نره شديد القوة. ولكن إذا نظرنا لمنزلته في سلسلة المخلوقات وتسلطه على ذوات
الحياة رأينا أنه رأس الخليقة. وإذا نظرنا لمقامه العقلي والروحي ولأنه مخلوق على
صورة الله ذو إرادة حرة رأيناه تاج الخليقة. ولولا سقوطه في الخطية وتوغله في الشر
لكان في مقام أخلاقي مجيد كمقام الملائكة الأبرار. فهو والحالة هذه يمتاز عن كل من
سواه بأنه على صورة الخالق العقلية الروحية، ذو سلطان على الطبيعة، مخلوقاً للخلود.
ومع أنه سقط في الخطية إلا أنه يرجو نوال الحياة الأبدية بفداء المسيح.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى