علم الله

الفصل الحادي عشر: قياميات



الفصل الحادي عشر: قياميات

الفصل
الحادي عشر: قياميات

ختم
لوسكي كتابه بعظة الفصح المنسوبة إلى الذهبي الفم. وأوردتها في “سر التدبير
الإلهي”. أما الآن فأقلِّده في تعظيم القيامة، فأختم الكتاب بثلاث عظات عن
القيامة متنوعة الشكل الأدبي.

الأولى:
القيامة في المسيح

كلما
أطلَّ عيد القيامة ينتقل فكر الإنسان إلى ربط الحياة بالموت. شبح الموت يخيف
الإنسان لأنه يتعادل في مخيلته مع العدم والفناء. من هنا كان تعلّق الإنسان
بالحياة تعلقاً بالوجود ومقاومةً للعدم لأنه يعسر عليه أن يعيش العدم، فاقد الشعور
بوجوده وكيانه. ولكن الموت كالمنجل يحصد كل الناس على السواء، فإزداد الإنسان
خوفاً ورعباً، وأصبح همه الوحيد وشغله الشاغل كيف ينجو من الموت، ذلك الأمر
المخيف؟ سؤال مطروح دوماً… أمر غريب مقلق… سوف يبقى الكل متخبطين في قلقهم هذا
حتى يحصلوا على جواب لتساؤلهم. لا سيما وأن الكل فشلوا أمام الموت. حتى الطب فشل في
إيجاد حل لمشكلة الموت المستعصية. ومن جهة أخرى مهما أحببنا الحياة والبقاء فهل
نستطيع أن نرضى بأن يعيش أحدنا مئات السنين؟ أما تفقد الحياة كل لذة بعد المائة من
العمر؟ ومن يعتني بإنسان تجاوز المائة والخمسين من العمر، فصار أحفاده آباء وربما
أجداداً؟ فمهما كرهنا الموت وخشيناه، فنحن مكرهون على القبول به كحل لا بد منه
لوجودنا البائس على هذه الأرض الفانية. هنا لا بد من أن نقول مع داود النبي في
مزاميره “… أيام سنينا فيها سبعون سنة، وإذا كانت مع القوة فثمانون سنة
وأكثرها تعب ووجع” (المزمور 89).

مقالات ذات صلة

 

إن
الموت يفعل فينا على خطين: أولاً- جسدياً ينمو الإنسان نحو الشيخوخة. ثانياً–
روحياً تستنفد الأهواء والشهوات قوانا الروحية، فتنحل إرادتنا الصالحة، ثم تموت
قبل موت الجسد. لذا كان الموت آلة تنخر الجسد والروح لحظة فلحظة. ما من سعادة
حقيقية على الأرض. إن الحياة جهاد مرير ومستمر. والذين لا يجاهدون هم أكثر البشر
بؤساء وشقاء. السجين مسجون بإرادة غيره، والغير المجاهدين هم بالتالي سجناء
تخاذلهم وإنهزاميتهم أمام معارك الوجود. أي أمل يبعث للإنسان بالانتقال من الوجود
التافه البائس على الأرض الجدباء؟ كيف ينجو الإنسان من الموت.

 

في
آلام المسيح وقيامته جواب شاف لهذا الداء السقيم. آلام يسوع بلسم عزاء لآلامنا،
قيامته فجر نجاتنا من الآلام، بآلامه شفى آلامنا وبأوجاعه حمل أوجاعنا. ونحن لا
نتمتع بذلك من بعيد، إنما أعطانا يسوع نندمج كلياً في آلامه وموته ودفنه وقيامته،
وذلك في جرن المعمودية. ألم يقل بولس الرسول: “نحن معشر الذين اصطبغنا
بالمسيح يسوع فلموته إصطبغنا؛ فقد دفنا معه بالمعمودية للموت، حتى أننا كما قام
المسيح من بين الأموات نسلك نحن أيضاًَ في حياة جديدة” (رومية 6: 3 و4)؟

 

هذا
هو رجاؤنا. نحن أبناء القيامة وقد عرفناها جيداً بالمسيح لا بسواه…

 

إذ
به اعتمدنا وإياه قد لبسنا. بواسطة المعمودية أصبحنا شركاء الرب في موته ودفنه
وقيامته. فبمجرد التزامنا صليبه نصير في إشعاع القيامة ذائقين بها طعم الحرية
والسعادة، ونصبح قادرين أن نحيا وأن نستغني بذلك عن كل شيء.

 

رجاؤنا
هو في أن الجميع سيحيون في المسيح (1 كورنثوس 15: 22). لأن كل من عاشر ربه في صلاة
وصوم، وتأمَّلَ بعمق أصيل، ترسَّخ إيمانه الحي بربه، فسلّم إليه حياته. فلا يستطيع
بعد ذلك أن يبقى خارج خدر المسيح، وإنما يكون متربعاً في الملكوت. فهو بجوار الله.
ترتسم القيامة فيه أعني الحياة الحقة. إن من فرح بالمسيح منبعثاً من بين الأموات
لا يستطيع أن يحيا في الخصام، لأنه أصبح شريكاً في القيامة. بالقيامة تعمَّد
الكون، فصار أبناء هذا الكون جميعاً في مسيرة واحدة نحو المسيح حيث “يكون
الله كلاً في الكل” (1 كورنثوس 15: 18).

 

في
هذا يمكن جواب من يسأل: كيف أنجو من الموت؟ إنغراس القيامة في الحياة هو السبيل
الوحيد إلى الخلاص من الموت. الفصح عبور، والقيامة ممر العالم من الموت إلى
الحياة. المسيح المنتصر بالقيامة على الموت خميرة جديدة، خمير عدم الموت، خمير
الحياة، وهو وحده يغير ذلك العالم الساقط تحت ثقل الآلام والخطايا، الغارق في
الظلمات، فيصبح عالم الفرح، والسعادة، والنور، والغبطة.

 

أبناء
القيامة مسؤولون عن جعل القيامة واقعاً وفعلاً في العالم. لكي يطمئن بال كل سائل
عن النجاة من الموت، عليه أن لا يخشاه لأن “موت المخلص قد حررنا وأخمد الموت
بموته وسبى الجحيم لما إنحدر إليها” (من خطبة منسوبة إلى القديس يوحنا الذهبي
الفم)

 

في
موت المسيح أبيدت قوة الموت، وسخقت الجحيم: “اين شوكتك يا موت أين انتصارك يا
جحيم؟ لقد قام المسيح وأنت صرعت مغلوبة…” (الخطبة المذكورة).

 

بقيامة
المسيح أصبحت الروح طليقة متحرِّرة من كل قيد، متحررة من الموت؛ لذا كانت القيامة
تجدُّد الإنسان الداخلي حسب صورة خالقه، لتكميل القداسة في خوف الله. هي في
النهاية زرع الحياة الأبدية فينا.

 

الثانية:
حقاً قام

قيامة
المسيح هي “عيد الأعياد وموسم المواسم”، كما نردِّد في صلواتنا، في
أعقاب أقوال القديس غريغوريوس اللاهوتي.

 

كيف
لا تكون القيامة عيد الأعياد وموسم المواسم وهي تعني أن جسد يسوع الراقد في قبر
محكم الإغلاق بحجر كبير، قد قام، وخرج من القبر دون أن تَدخل ملاك أو أُنس؟ لقد
قام بمقدرته الذاتية. كيف قام جسد الميت؟ يسوع أقام لعازر وابن أرملة نايين وأبنة
يايروس. عرفنا أن يصنع العجائب ولكن كيف قام هو نفسه بعد موته الخلاصي على الصليب؟
هذا سر عظمته، سر قدرته. هذا لا يصنعه إلا إله قد صار جسداً من أجلنا. هو نفسه
سُرٌّ وارتضى أن يقترض من العذراء جسداً من أجلنا يقاسي فيه الآلام والصلب والدفن،
لكي يبيد بآلامه آلامنا، وبصلبه خطايانا، وبعريه عري آدم وحواء ونسلهما من البرّ،
وبموته موتنا، وبدفنه عودتنا إلى التراب والبلى. وذاق من أجلنا كل هذا، والهزءَ
والجلد والبصاق والإهانات، لكي ينقذنا من العقوبات المتوجبة علينا بسبب خطايانا
التي لا تحصى.

 

لا
يقلْ أحد أنه بار وصدّيق. لا يقل أحد أنه ذو فضل وإحسان. كلنا خطِئنا وأعوزنا مجد
الله. كلنا هالكون بسبب أعمالنا الرديئة. أفضل فاضل هو تلوث بالأثم، هو جبلة من
آثام. لا يفتخر أحد بأعماله. الأثم يلوث الجميع. بطرس وبولس يوحنا الإنجيلي وسائر
الرسل ما خلصوا إلا بدم المسيح. وما لي أذكرهم ولا أذكر سيدتهم مريم العذراء؟ هي
نفسها ما خلصت إلا بدم المسيح، فأنشدت وسبحت:

“تعظم
نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي” (لوقا 1: 46-47).

 

إبراهيم
كان في الجحيم (لوقا 16: 23). كل أرواح الصديقين الذين نبغوا في العهد القديم كانت
في الجحيم. القديس ابيفانيوس (أسقف قبرص) يستعرضهم واحداً واحداً في خطبة السبت
العظيم. لا يستثني منهم حتى يوحنا المعمدان الذي قال فيه يسوع إنه أعظم مواليد
النساء (متى 11: 11). فيذكر أن يسوع شاهده وشاهدهم لما نزل إلى الجحيم، ليُخرج من
هذا الشجن أرواحهم (رسالة بطرس الأول 19: 3)، ويصعدهم مع روح اللص التائب إلى الفردوس
(لوقا 22: 43).

 

حتى
آخر لحظة من العمر يتربص الشيطان الدوائر بأفضل القديسين لعله يقتنصه. حتى آخر
لحظة من العمر ترافقنا حكَّهُ الخطيئة لتطوح بنا. لا يستطيع إنسان ما أن يخلص
بذاته ولا بفضائله، لأنه ملوث بالآثام مهما صنع من جليل الأعمال.

 

لهذا
مات المسيح ي الجسد لكي يصلب جسم الخطايا الأقسى والأعمى والأعتى من جسم السرطان
الفتاك. هكذا شاء الله أن يطهرنا بدمه المسفوك على الصليب. لماذا اختار هذه
الطريق؟ هذا شأنه. لقد فاضت محبته سعياً ورائي أنا الإنسان الضال الهالك، فأتى إلى
في جسد مثل جسدي، إنما جسد طاهر. هكذا شاء أن يسفك دمه حباً بي ليغسلني به، فيطهر
ضميري وروحي وجسدي من كل نجاسة الخطايا. عقلي لا يفهم ذلك بالمنطق والتحليل العقلي
البارد. فهذا فوق العقل وفوق الفهم. إنما تطمئن إليه روحي، يرتاح إليه قلبي. لا
أستطيع أن أتصور نفسي ناجياً من كل إثم لأن ألاثم ديدن ينخزني ليل نهار. الشيطان
يستطيع أن يوهمني أني بارٌّ وصدِّيق. ولكن نجاحه نسبي، لأني سأكتشف أني أرتكب
خطايا.

 

ليس
من وسيلة تحت السماء لمحو خطاياي وغسلي من أدران نجاساتي وتطهيري تطهيراً كاملاً
من كل رجاسة الروح والجسد سوى دم المسيح. أعمالي الصالحة لا تمحو آثامي.

 

سأبقى
ما حييت أقوم بأعمال صالحة وأعمال طالحة كأن الإثم فيَّ ينبوع دائم الجري.

 

عمليات
الجمع والطرح والضرب والقسمة الحسابية غير واردة. المقاصة الحقوقية بين فضائلي
وآثامي غير واردة. التجار يجرون مقاصّة بين ما لأحدهم على الآخر وما للآخر عليه.
هذا غير وارد في الحياة الروحية. طبيعة الفضيلة هي نقيض مطلق لطبيعة الرذيلة. لو
كانت المقاصة ممكنة لما أتى المسيح الأرض ومات مصلوباً.

 

كل
محاولة لتخفيف الشعور بآثامنا هي شيطانية. نحن خاطئون إلى أقصى الحدود. ولذلك ما
كان من وسيلة لتطهيرنا سوى تنازل ابن الله، فجاء أرضنا، ومات على الصليب بين
مجرمين كأنه ثالثهما.

 

صلبه
اليهود كمجرم ومع هذا فقد مات من أجلهم ومن أجل العالم أجمع. وكان من الممكن أن
يتوب حنان وقيافا وبيلاطس ويخلصوا بدم المسيح الذي صلبوه. فرحمة يسوع لا تعرف
الحقد لا على حنان ولا قيافا. ألم يصلِّ يسوع من أجل صاليبيه فقال: “يا
أبتاه، اغفر لهم، فإنهم لا يدرون ما يعملون”؟ (لوقا 23: 34).

 

ولذلك
بعدما صنع يسوع لنا خلاصاً عظيماً بهذا المقدار تمَّم عمله بالقيامة من الأموات،
اجتاز من الموت إلى الحياة، لينقلنا نحن المائتين من الموت إلى الحياة. بعد قيامته
لم نعد محاصرين بالخوف من الموت والقبر، لأن موت المسيح قد حرَّرنا. بعد قيامة
المسيح تشجع المسيحيون في القرون الأولى، فتقدموا من ساحات الاستشهاد ببطولات
نادرة من أجل يسوع. كان العالم خاضعاً آنذاك للامبراطوريتين الكبيرتين، الرومانية
والفارسية. تفنَّنتا في اختراع أساليب التعذيب. ولكن الشهداء جازوا الامتحان
ببطولات نادرة وصبر غير بشري، لأنهم آمنوا أن آلامهم هي اشتراك في آلام المسيح،
وأن موتهم في ساحات البطولات هو صليب بضمهم إلى قيامة المسيح، لينالوا ملكوتاً
أبدياً بعد عذاب يسير. يقول فيهم القديس أثناسيوس الكبير إنهم ازدروا الموت بعد
قيامة المسيح.

 

ولا
يتوهَّمْ أحد أنهم وحدهم أبطال. فجميع الذين اعتمدوا نالوا مسحة البطولة
والاستشهاد، وقاموا مع يسوع. إنما الإهمال والجبانة لباس شيطاني قد غلفنا. الخلاص
موضوع للجميع لا لفئة دون فئة.

 

قام
المسيح، فلننهض معه من كبوتنا. قام المسيح فلندس الخطيئة. قام المسيح فلنعيّد
بأثواب الفضائل، وموائد الإحسان وأناشيد القيامة، لا بالحرير والطيلسان والخمر
وأطايب الطعام والأغاني البذيئة. العيد عيد الروح لا عيد الجسد، عيد الهرب من
الجحيم إلى الفردوس لا عيد النزول إليها. فلنطرب طرباً إلهياً مميتين بالروح القدس
شهوات الجسد. ولنهتف من الأعماق هتاف النصر: “المسيح قام”.

 

الثالثة:
من الأحضان الأبوية إلى قبر الخلاص

-1-

في
رؤيا يوحنا: يسوع هو الخروف المذبوح قبل كل الدهور. وهو أيضاً الخروف المنتصر الذي
صبغ بدمه الناس فطهرهم وقام ظافراً.

في
مقاصد الآب الأزلية كان مرسوماً أن يأتي يسوع الأرض ويعتلي محرقة الصليب ذبيحة من
أجلنا. فالمحبة صليب حتى في مقاصد الله الأزلية، ولذا قال يسوع: “ليس لأحد حب
أعظم من أن يبذل نفسه عن أحبائه” (يو 15: 13). “هكذا احب الله العالم
حتى أنه بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له حياة أبدية”
(يوحنا 3: 16).

محبة
الله بذلٌ. الآب بذل ابنه ليخلص، وينال الحياة الأبدية كلُ من يؤمن بابنه الوحيد.
والابن بذل نفسه عن أحبائه. ونحن أحباؤه.

 


2 –

الخطوة
الأولى في هذا البذل، في هذا الموت، في هذا الانصلاب، كانت لما حبلت مراحم الله
العلي وحان الزمان، بل ملء الزمان الممتلئ بحنان الله لتلد. فكسر قدرة الملائكة
أنفسهم على الفهم، فطأطأ السموات ونزل.

في
الناصرة تم السر الذي أذهل عقول الملائكة: الله يتخذ، من فتاة، طبيعة بشرية
فيرتديها.

كيف
وسع بطن مريم المحدود أن يكون مسكناً للإله غير المحدود؟ كيف تم هذا في السر لا
وسط تطبيل وتزمير؟ لماذا شاء الله أن تقوم أكبر معجزة –منذ خلق الكون المنظور وغير
المنظور- في الكتمان؟ لماذا تنازل الله لأن يختفي في جسد أخذه من مريم، لنراه،
ونلمسه، ثم لنأكله ونشربه في القربان؟

لم
يلجأ مثل أبناء هذا الزمان إلى شاشات التلفزيون، والمهرجانات لإشباع الغرور الباطل
وحب الظهور الفارغ باساليب متكلِّفة لا طبيعية ولا طبعية وعلى الأخص: غير نورانية،
بل بالأحرى ظلامية.

فالصليب
الأكبر حمله الله يوم البشارة، يوم تجسد يسوع من العذراء في الناصرة. هذا التواضع،
هذا التنازل هو الصليب الأكبر. كيف اخفى بطن مريم شمس البر الالمع من شمس سمائنا؟
يا له من صليب مذهل! أن يموت جسدنا على الصليب أو المشنقة هذا الأمر يرد مهما كان
وزن الإنسان في الأرض. ولكن أن يحلّ الله في بطن مريم، فهذا ما لا يستطيع البشر أن
يستوعبوه.

فيا
حملَ الله، يا ابن الآب احتضن عقولنا لئلا تنفجر إن اغرقت في تأمل هذا السر
الرهيب. ان مستوانا هو دون الصفر لتأمله. الملائكة مذهولون. فما عساه يكون وضعي أن
الملوث بالخطايا والآثام؟

 


3 –

ولكن
منذ الحبل بيسوع كانت الأنظار تتجه نحو أورشليم قاتلة الأنبياء والمرسلين. فبعد أن
بشر يسوع بملكوت الله، وأرسى قواعد البشارة، وهيأ العقول لاقتبال الرسالة والخدمة
صعد إلى أورشليم وهو عالم أن ساعته قد اتت. فدخل بستان الزيتون وصلى في الجسمانية
حتى تصبب عرقه دماً. ما كان في حاجة إلى هذا الجهاد الدامي. إنما عاناه من أجلنا
لكي يعجن بعرقه الصائر دماً طبيعتنا الساقطة فيجددها. ولكن ذلك تم اثناء الجهاد في
السر والصلاة، لكي نعيش نحن في اليقظة والصلاة حتى يفرز جسمنا العرق والدموع كمياه
معمودية جديدة تغسلنا بدم المسيح الذي يطهرنا من كل دنس وخطيئة.

 


4 –

وفي
اللحظة المرسومة في مقاصد الله ارتفع يسوع على الصليب فوق الأرض، فجذب إليه
الجميع. لم يعد مخفياً في بطن العذراء. لم يعد مخفياً عن الشياطين. لم يعد الناس
قادرين بسهولة على الافلات من قبضة يده. بسط كفيه على الصليب، فجمع البشر.

 

ففي
اللحظة التي توهَّم بها الشياطين وعملاؤهم (بين اليهود والسلطات الرومانية والعسكر
الروماني) انهم قبضوا على يسوع إلى الأبد، كان صليب يسوع اسفيناً مدكوكاً في بطن
الدبن اليهودي والوثنية الرومانية-اليونانية، وضربة مبيدة لسطوة الجحيم وعجرفة
الشياطين وعتوهم. فالمسامير المغروزة في يدي يسوع ورجليه مزقت سند دين خطايانا.
الحرية فتحت لنا باب الحياة المغلق، فشربنا ماء المسيح في المعمودية، ودمه في
القربان مغتسلين بهما من خطايانا.

 


5 –

لماذا
شاء الآب السماوي أن يغسلنا بدم ذبيحة الصليب لا بشيء آخر؟ هذا سؤال يدوخ العقول
لا القلوب. الله قادر على كل شيء. ولكن قدرته اختارت اقسى الحلول. وإنما قساوة
الحل هي كمال المحبة. هل كان بالإمكان أن تظهر محبة الآب في صورة أكمل من صورة
الصليب؟ فما هو الصليب؟ إنه: الابن الوحيد يسوع الممتلئ من الروح القدس يقرب نفسه
على مذبح الصليب ذبيحة الصليب ذبيحة حية يشويها –بنارة الإلهية- الروح القدس الساكن
فيه. الآب تقبل برضوانه هذه الذبيحة التي أرسل ابنه إلى العالم ليكون موضوعها.

 


6 –

الأغرب
من هذه التضحية هي أن يكون قصده تطهيري من جرائمي وخطاياي. الله حر في كل اموره،
حر في محبته وتدابيره. شاء أن يموت أبنه على الصليب فكان. ولكن من أجل من؟ من أجل
أعدائه، من أجل صالبيه. باسيليوس الكبير قال أنه لا يوجد إنسان على الأرض بريء من
الخطيئة ولو كان عمره يوماً واحداً. فيسوع مات من أجل آدم وحواء وكل ذريتهما حتى
انقضاء الدهر. ليس فيهم من نجا بريئاً إلا يسوع. يسوع –اخوهم في الجسد- مات على
الصليب من أجلهم جميعاً، ليعتقهم جميعاً من عبودية الخطيئة، والهلاك الأبدي.

شاء
الآب أن يموت أبنه عنا. بموت أبنه مات الموت.

شاء
الآب أن يغسلنا من خطايانا، فغسلنا بدم أبنه.

شاء
الآب أن يحول هيئتنا المهترئة بالآثام والأمراض، أن يجدد طبيعتنا الفاسدة المنخورة
بالرذائل، فناولها لقاحاً هو الحياة الأبدية. كيف؟ أدخل جوفَنا جسدَه ودمه، فضمنا
إلى جسده ودمه. ابتلعنا ابتلاعاً. امتزج بنا (الذهبي).

 


7 –

كان
اليهود وسواهم من الشعوب يقربون الحيوانات وأحياناً الأطفال ذبائح لاسترضاء الله،
ورفع غضبه، واستجداء رحمته.

أما
نحن، فقد أخذ الله نفسه عبء ذلك عنا. جاء أبنه يسوع يقرب نفسه ذبيحة بنار الروح
القدس. ارتضى الآب بهذه الذبيحة فحلَّت علينا بركاته ورضوانه ومراحمه. النار حلت
من السماء على ذبيحة إيليا النبي. أما هنا فالذبيحة تحمل نار الروح القدس منذ عقد
ليسوع جسداً في أحشاء مريم حين بشرها الملاك في الناصرة. هذه الناس افنت أعداء
الإنسان، فكان يسوع ذبيحة اثم كما قال اشعياء أي ذبيحة عن آثامنا. هذا الروح القدس
الذي احرق ذبيحة الصليب هو هو نفسه –بنعمة هذه الذبيحة- يحرق آثامنا ويجدد قوانا
ماسحاً اياها بدم المسيح الذي يطهرنا من كل اثم. أي قوتك يا شيطان؟ قد سحقها الصليب.

 


8 –

فالمسيح
على الصليب هو سر الحياة. بهذا الصليب استحال الكون كله. دم يسوع مسح الكون
فطهَّره وقدسه. فالافتراق عن الصليب هو افتراق عن الحياة. مات المسيح مرة عن
الاثمة، فأوجد فداء أبدياًَ. ولكن هذا الموت مستمر. بولس تكلم عن سر عظيم هو حملُه
سمات الرب يسوع (علا 6: 17)، ووجوب تجلّي ملء آلام يسوع فيه (كو 1: 24) فيسوع
مصلوب في كل واحد منا، ليموت في كل واحد منا موتاً بطيئاً على مدى العمر الفاني
على الأرض. لا شيء في حياة المسيح الحقيقي ذو معنى عميق بدون تجربة الانصلاب مع
المسيح التي تكلم عنها بولس الرسول. العمر كله صليب المؤمن يحمل صليبه للخلاص
والكافر للهلاك (القديس اينوكندبوس كمتشاتكا: الطريق إلى ملكوت السماء). ولذلك
فنحن معلقون مع المسيح على الصليب. المسيح تألم ودخل مجده. اعتبر الآلام أيضاً
مجده. آلامنا هي آلام المسيح أن احتملناها باسم يسوع ومع يسوع. ويسوع يتمجد في
آلامنا كما تمجد في آلامه.

 


9 –

على
الصليب نحر جندي جنب يسوع. يوحنا الإنجيلي ربط بين موت المسيح على الصليب تم نحر
خروفنا الفصحي دون كسر أي من عظامه. كان الصليب المسلخ.ز ولكن القبر كان المائدة
الفصحية التي وضع عليها الخروف الفصحي أي يسوع. ورمز إليه المستغفر الذي كان فوق
تابوت العهد. فنحن أمام عهد جديد مبرم بين الله والإنسان بدم المسيح. فصح اليهود
رمز، فصحنا حقيقي نأكل فيه جسد المسيح ونشرب دمه.

القبر
هو مائدتنا الفصحية. فصح اليهود لا يبدل الإنسان. فصحنا خروف حي لأن يسوع قام من
القبر فصار لنا ينبوع حياة بالروح القدس بلا فناء. في القبر تم سر التحويل من
الموت إلى الحياة.

ما
بين الناصرة والجلجلة والقبر صار كل شيء جديداً. في الناصرة نزل الله إلينا. على
الصليب وفي القبر رفعنا الله إليه، بعد أن غسلنا دمه، وضمنا إلى ذاته جاعلاً منا
أعضاء في جسده ومستودعاً لجسده ودمه. ونحن رضينا باحتضان الصليب والقبر لكي نتحد
بالله الذي اتحد بالإنسان في الناصرة. بداية يسوع تنازل فآلام فدفنٌ فقيامة.
بدايتنا اصطباغ بآلامه ودفنه وقيامته لنصير آلهة. هو تأنس. نحن تألهنا. لم تعد
الجلجلة والقبر في أورشليم. انتقلا إلى قلوبنا. قلوبنا هي مذبح الجلجلة وقبر
المسيح.

الذهبي
الفم قال في الإحسان إلى الفقراء أنه إحسان نضعه على مذبح المسيح الحي لا على
مذابح من حجارة. كل إنسان هو مسيح نضع إحساناتنا عليه. إن أحببنا الإنسان لا نحب
لحماً ودماً بل يسوع نفسه المصلوب في كل إنسان. وخير إحسان على الإنسان هو تخليص
روحه لا جسده. فالإحسان الروحي – بالوعظ والفدوة والعناية الروحية – هو أفضل
الإحسان. وما لي أقول إحسان؟ اللفظة مرفوضة روحياً بنسبة ما، لأنّ من يتقبَّل
الصدقة مني هو المحسن إلىَّ، إذ يقرِّبني بها إلى الله. يجب أن نطرح من عقولنا
مفهوم استعلاء المحسنين على الفقراء. القديس يوحنا الرحيم كان يسمي الفقراء:
أسيادَه.

نعم
هم مذابح مقدسة يقبل الله عليها قرابيننا. إنهم مذابح تقدس قرابيننا. هؤلاء
الأصاغر في عيون الناس هم يسوع المسيح. فلنسجد له فيهم. فلنقبِّل أيديهم وجراحهم،
فنلمس جراح المسيح.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى