علم الله

الثالوث الأقدس فى الكتاب المقدس



الثالوث الأقدس فى الكتاب المقدس

الثالوث
الأقدس فى الكتاب المقدس

سر
الثالوث المقدس بحسب إعلان العهد القديم

مقدمة:
ما يميز الكنيسة الأرثوذكسية أو المسيحية بصورة رئيسية عن سائر الديانات هو
اعتقادها بسر الثالوث الغريب (صلب الإيمان) كما يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي
والذي عليه ترتكز بقية عقائدها. لا بل إن اللاهوت ذاته بحسب الآباء هو سر الثالوث.
وحتى الإعلان الإلهي ما هو إلا إعلان بصورة خاصة لسر الثالوث ولهذا فسرّ الثالوث
ليس فقط الأساس بل هو الهدف الأسمى للاهوت. لأنه بحسب تعبير القديس مكسيموس
المعترف “أن نعرف كلياً سر الثالوث معناه أن نصير في وحدة كلية مع الله، أي
أن نصل إلى تأله الكائن البشري، إلى الحياة الإلهية التي هي بحد ذاتها حياة
الثالوث الأقدس، عندئذ فقط نصبح بحسب ما عبّر عنه القديس بطرس”شركاء الطبيعة
الإلهية”. في دراستنا لهذا السر سوف نتبع ما أُعلن عنه بالتدريج في الكتاب
المقدس ومن ثم نقدم ملخصاً عما علّ/ته الكنيسة في هذا الصدد.

سر
الثالوث المقدس بحسب إعلان العهد القديم:

•       “وظهر
له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار فرفع عينيه ونظر
وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى
الأرض. وقال يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك” (تكوين18:
1-3).

•       “وظهر
ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة. فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم
تكن تحترق. فقال موسى لأميلن الآن لأنظر هذا المنظر العظيم لماذا لا تحترق العليقة،
فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال موسى موسى فقال ها
أنذا” (خروج3: 2-4).

•       “في
سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالساً على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل
والسيرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة باثنين يغطي رجليه وباثنين يغطي وجهه
وباثنين يطير.. وهذا نادى ذاك وقال قدوس قدوس قدوس مجده ملء كل الأرض.. ثم سمعت
صوت السيد قائلاً من أرسل من يذهب من أجلينا” (أشعياء6: 1-10).

•       “كنت
أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام
فقربوه قدامه. فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة،
سلطانه سلطان أبدي لن يزول وملكوته لا ينقرض” (دانيال7: 13-14).

جوهرياً
ليس من فرق بين تعليم العهد القديم وتعليم العهد الجديد عن سر الثالوث الأقدس. لأن
الله الثلاثي الأقانيم الواحد في الجوهر وغير المنقسم، والذي أعلن عن ذاته في
العهد الجديد هو ذاته الله الثلاثي الأقانيم الواحد في الجوهر وغير المنقسم والذي
أعلن عن ذاته في العهد القديم، صحيح أن العهد القديم يشدد بالأكثرية على وحدانية
الله، ولا يتكلم بوضوح كافٍ عن سر الثالوث، ولعل السبب كما يرى بعض الآباء، أن
العبرانيين كانوا محاطين بشعوب وثنية قد يسقطون نتيجة لذلك في شرك تعدد الآلهة.
إلا أن هذا لا يعني أن البطاركة وأنبياء العهد القديم لم يعرفوا سر الثالوث الأقدس.
وبالطبع فهذه المعرفة كمعرفة رسل وقديسين العهد الجديد لهذا السر ليست عقلانية
حسية، بل تفوق العقل والحس، إذ تمت عبر سر التأله، أي سر ظهور مجد الثالوث الإلهي
أمام من أُهلوا لذلك بواسطة النعمة الإلهية.

وفي
الواقع فالعهد القديم يحفل بإشارات متعددة إلى الثالوث الأقدس، والتي كان دورها
التهيئة لقبول هذا السر عند مجيء الإعلان الكامل بيسوع المسيح، إلا أنها على ضوء
تفسير العهد الحديد والآباء تتجلي كدلائل واضحة عن سر الثالوث.

آ
– الظهورات الإلهية:

نعطي
كمثال عنها ظهور الله لإبراهيم عند بلوطات ممرا (تك18). إبراهيم يرى ويستقبل ثلاثة
رجال، ولكنه يسجد لهم ويخاطبهم كما لو كانوا فرداً واحداً. “وقال يا سيد إن
كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك” (تكوين18: 3)”. من هنا
فالأيقونة الأرثوذكسية التي تعبّر عن سر الثالوث هي أيقونة للملائكة الثلاثة الذين
استقبلهم إبراهيم. في رأي المغبوط اوغسطين أن إبراهيم لما رأى الثلاثة فهم سر
الثالوث. ولما سجد لواحد فقط أقرّ بالإله الواحد المثلث الأقانيم. أما الآباء عامة
فيرون أن الملائكة الثلاثة كانوا ظهوراً رؤيوياً للأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس
في الروح القدس والذي عرفه إبراهيم فسجد له كإله، وحاوره بعد انصراف الملاكين
(تك18: 22، 19: 1). وأن هذا الأقنوم الثاني أي الابن هو صاحب كل الظهورات الإلهية
في العهد القديم لأنه هو الكلمة والمخبر عن الآب الذي لم يره أحد قط (يو1: 1-18).
مهما يكن من أمر تبقى صيغة الظهور الثلاثي لإبراهيم إشارة واضحة إلى ثلاثية
الأقانيم ووحدة جوهرهم، ومصادقة الآب والروح القدس على ظهور الابن. وفي الواقع فإن
العهد القديم حافل بظهورات لملاك خاص متميز عن الملائكة العاديين المخلوقين لأنه
تكلّم ليس كمجر ناقل لكلام الله، بل بصفته الله نفسه ولأنه كان هناك دائماً خوف
وشعور عند من ظهر لهم بأنهم قد رأوا الله نفسه “أنا إله أبيك إله إبراهيم.
إله اسحق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله” (خر3: 1-15).
(انظر تك 16: 7-14، 21: 17-19، 22: 11-18، 48: 15-16. قض6: 11-25 إلخ.. وهنا لا
يجب أن يغيب عن البال أن كلمة ملاك في اللغتين العبرانية واليونانية تعني رسولاً
أو مرسل، فأي رسول أفضل من “كلمة الله” (يو1: 1)، “وبهاء رسم جوهره
وحامل كل الأشياء بلكمة قدرته” (عبرانيين1: 3) ومن غيره يستطيع أن يصنع مشيئة
الله ويعلنها بسلطان إلهي وأن يظهر بهيئات متنوعة تتناسب مع ظروف الرؤى المختلفة؟

هذا
الملاك المرسل الإلهي غير المخلوق هو الذي قال عنه الله نفسه “إن اسمه
فيه” “ها أنا مرسل ملاكاً أمام وجهك ليحفظك في الطريق، وليجيء بك إلى
المكان الذي أعددته، احترز منه واسمع لصوته ولا تتمرد عليه، لأنه لا يصفح عن
ذنوبكم لأن اسمي فيه” (خروج23: 20-22) وعدد20: 16.

فصرخنا
إلى الرب فسمع صوتنا وأرسل ملاكاً وأخرجنا من مصر.. خرو3: 2 و14: 19 و23: 20 و33: 2.
وسمّاه في مكان آخر “وجهه” وقال موسى للرب.. أنظر إن هذه الأمة شعبك،
فقال وجهي يسير فأريحك. فقال إن لم يسر وجهك فلا تصعدنا من ههنا” (خروح33: 12-17).
وهو نفسه قال لنوح “لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب” (قض13: 16-22). أي
الصفة ذاتها التي وصف بها النبي اشعياء الابن المتجسد. “لأنه يولد لنا ولد
ونعطى ابناً وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً..”
(اش9: 6).

ملاك
العهد القديم، إذن أي المرسل الذي عرف بأنه الرب والله ويهوه، وقاد الشعب في
البرية، وأرض الميعاد والسبي وهو نفسه الذي وصفه ملاخي ب “ملاك العهد”
الذي يرسل لينقي شعبه (ملا3: 1-6)، أي نفسه هو عمانوئيل “الله معنا” في
العهدين القديم والجديد، والذي كانت ظهوراته قبل التجسد مقدمات وتهيئات لتجسده
وخلاصه (1كو10: 1-4).

ولا
يخفى بأن مفهوم الآباء للظهورات الإلهية ليس كمفهوم الآريوسيين الذين يدّعون بأن
الابن هو مرسل من الآب كإله من درجة ثانية، بل الآباء يشددون بأن كل ظهور إلهي هو
ظهور غير منفصل للأقانيم الثلاثة معاً عبر مجدها الواحد. أي أنّ كل ظهور للابن هو
أيضاً ظهور للآب فيه بالروح القدس، لأن الابن هو صورة الآب (يو14: 6)، ولأن الروح
اشترك ويشترك في كل عمل إلهي إن كان في العهد القديم (حج2: 5) وفي العهد الجديد
(1كو12: 4-6).

هذا
الرأي يشبه بصورة خاصة في العهد القديم تجلي الرب بمجده لأشعياء النبي في الهيكل.
والسيرافيم واقفون حول عرشه وصارخون فيما بينهم قدوس، قدوس، قدوس رب الجنود مجده
ملء الأرض (اش6: 3). لأن بتثليث السيرافيم للتقديس إشارة إلى أقانيم الثالوث،
وبقولهم رب الجنود تأكيد لوحدة الجوهر. الرسولان يوحنا الإنجيلي وبولس يستشهدان
بهذه الرؤيا، الأول ليظهر أن أشعياء قد رأى مجد المسيح أي الابن (يو12: 14). أما
الثاني فليبيّن أن من كلّم أشعياء النبي كان الروح القدس (أع28: 25-26). فإذ أخذنا
بعين الاعتبار ما قاله السيد في الرؤيا ذاتها أمام أشعياء مستعملاً صيغة المفرد
والجمع معاً: “من أرسل ومن يذهب من أجلنا” (اش6: 8) ألا يصبح هذا دليلاً
أكيداً على وحدة السيّد مثلث الأقانيم؟

 

ب
– نبؤات تشير إلى ألوهية الابن المتجسد:

1.     ها
إن العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل أي الله معنا (اش7: 14؛ أنظر متى1:
23).

2.     ها
أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن برّ فيملك ملك وينجح ويجري حقاً وعدلاً في
الأرض. في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمناً وهذا هو اسمه الذي يدعونه به: الرب
بِرَّنا (أر23: 5-6 أنظر 1كو1: 30).

3.     أما
أنتِ يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يحرج الذي يكون
متسلطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل (ميخا5: 2 أنظر متى2: 5-6).

4.     هلموا
نرجع إلى الربّ.. لأنه افترس فيشفينا، ضرب فيجبرنا يحينا بعد يومين، وفي اليوم
الثالث يقيمنا فنحيا (هو6: 1-2).

5.     ارفعن
رؤوسكن أيتها الأبواب وارتفعن أيتها المداخل الأبدية فيدخل ملك المجد. من هذا ملك
المجد؟ رب الجنود هو ملك المجد (مز23 أو 24: 7-10، أنظر مر16: 19، 1كو2: 8).

6.     كنت
أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن الإنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام
فقربوه قدّامه. فأعطى سلطاناً ومجداً وملكوته لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة.
سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول ما لا ينقرض (دانيال7: 13-14).

هذه
الآيات الست، والتي هي نموذج عن نبوءات العهد القديم الماسيانية تشدد من خلال
إشارتها إلى تجسد المخلص وميلاده وقيامته وصعوده وانتشار سلطانه ومجده، على
ربوبيته فتسميه “الله معنا” و”الرب برّنا” والأزلي والرب وملك
المجد الذي هو رب الجنود (يهوه) وصاحب سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته لا ينقرض.

 

ج
– آيات تشير إلى أكثر من أقنوم واحد معاً:

•       آيات
تشير إلى الآب والابن

1.     من
صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صرّ المياه في ثوب؟ من ثبّت
جميع أطراف الأرض؟ ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت (أمثال30: 4 أنظر يو3: 13)

2.     من
البطن قبل كوكب الصبح ولدتك (مز109: 3) سبعينية يقابلها “من رحم الفجر لك طل
حداثك” (مز110: 3) عبرية.

3.     قام
ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الربّ وعلى مسيحيه.. أما أنا فقد مسحت ملكي على
صهيون جبل قدسي (مز2: 2). إني أخبر من جهة قضاء الرب قال لي أنت ابني أنا اليوم
ولدتك (مز2: 7).

4.     لأنه
يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً
قديراً أباً أبدياً رئيس السلام (اش9: 6).

5.     كرسيك
يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك أحببت البرّ وأبغضت الاثم من أجل
ذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من رفقائك (مز45: 6) (أنظر عبر1: 5-14).

6.     قال
الرب لربي أجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئاً لقدميك (مز110: 1).

ففي
الآيتين الأولى والثانية يشير العهد القديم بالنبؤة إلى الآب والابن المولود من
قبل كل الدهور. في الأول يسأل عن اسميهما، ولكن يعطينا علامات لا تخطئ عنهما.
كالصعود إلى السموات والنزول، والخلق. وكما نعلم من العهد الجديد لم يصعد أحد إلى
السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء (يو3: 13) أي الابن
الذي تمجّد بالجسد بصعوده إلى السموات، واشترك مع الآب والروح في الخلق (يو1: 1-2،
2كولو1: 16-17). أما في الآية الثانية فيشدّد على أزلية ولادة الابن من الآب
مستعملاً عبارتي “من البطن” و”قبل كوكب الصبح” في الترجمة
السبعينية “من رحم الفجر” بحسب النسخة العبرية.

الآيتان
الثالثة والرابعة تتحدثان عن ولادة الابن الثانية في الزمن بالجسد ومسحته وملكوته.
لكنهما لا تهملان الإشارة إلى ولادته الأولى من الآب والتي تفوق الزمن. لأن الآب
لا يكتفي بأن يقول في الآية الثالثة للابن المتجسد “أنت ابني” مشيراً
إلى ولادته له قبل كل زمان بل يشدد على حقيقة ولادته الفعلية الدائمة له، وفي
الزمان “أنا ولدتك” هذه الحقيقة تؤكدها الآية الرابعة إذ تسمي المولود
إلهاً قديراً أباً أبدياً ولا يمكن لمن هو إله قدير وأبدي إلا أن تكون ولادته
أزلية وأبدية.

الآيتان
الخامسة والسادسة تطلقان كلمتي الله والرب على الآب والابن مظهرتين بجلاء لا لبس
فيه ألوهية وربوبية الاثنين معاً. فالخامسة تطلق كلمة الله نفسها على الابن وعلى
الآب مشيرة إلى الملك الدهري للابن وسح الله الآب له بسبب قداسته واستقامته
(أعمال10: 38). وبالطبع فهذا المسح حصل أثناء تجسده، ولهذا فهو المسيح والآب الآب
هو إلهه، لأنه اتخذ، كطبيعة ثانية له، جسداً مخلوقاً.

•       آيات
تشير إلى الآب والروح القدس

1.     وكانت
الأرض خربة وحالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرفّ على وجه المياه (تكوين1: 2).

2.     روح
الرب تكلم بي وكلمته على لساني (2صم23: 2)

3.     لا
تطرحني من أمام وجهك وروح القدوس لا تنزعه مني (مز51: 11 عبري، 50: 11 سبعينية).

4.     فنزل
الرب في سحابة وتكلّك معه وأخذ من الروح الذي عليه وجعل على السبعين رجلاً الشيوخ
(عدد11: 25).

5.     جعلوا
قلوبهم ماساً لئلا يسمعوا الشريعة والكلام الذي أرسله رب الجنود بروحه عن يد
الأنبياء (زكريا7: 12).

6.     روحك
الصالح يهديني في أرض مستقيمة (مز143: 10).

7.     فيحل
عليك روح الرب فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل آخر (1صمو10: 6).

8.     يا
ليت كل شعوب الرب كانوا أنبياء. إذ جعل الرب روحه عليهم (عدد11: 21).

9.     ويخرج
قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم روح
المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب (اشعيا11: 1-2).

10.   أين
أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب. إن صعدت إلى السموات فأنت هناك.. (مز139: 7-8).

11.   حسب
الكلام الذي عاهدتكم به عند خروجكم من مصر وروحي قائم في وسطكم (حج2: 5).

12.   ويكون
بعد ذك أني أسكب روحي على بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى
شبابكم رؤى (يوئيل2: 28-29).

13.   وأجعل
روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها.. وتكونون لي
شعباً وأما أكون لكم إلهاً (خر36: 27).

14.   روح
الله صنعني ونسمة القدير أحيتني (أيوب33: 4).

15.   ترسل
روحك فيخلقون وتجدد وجه الأرض (مز104: 30).

من
بين آيات كثيرة، قدمنا هذه كنماذج عن إيمان أنبياء العهد القديم بمن سمّوه روح
الله أو روح الرب أو روحه القدوس.. (آيات 1، 2، 3) هذه التسميات بالذات تظهر
الاتحاد الكياني بين الله وروحه لأن الروح كما يقول القديس بولس الرسول يفحص كل
شيء حتى أعماق الله لأن مَنْ مِنَ الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي
فيه هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله (1كو2: 9-11). لكن بالرغم من
هذا الاتحاد الصميمي فالله متميز عن روحه كما تظهرها هذه التسميات ذاتها. وهذا
الروح المتميز عن الله والمتحد به في آن هو شخص قائم بحد ذاته في الله وليس مجرد
قوة إلهية كما يدّعي البعض لأن الشخص العاقل والواعي وحده، وليس القوة، يستطيع أن
يهدي البشر “آية 6”. وأن يجعلهم يتكلمون “آية 2” ويتنبأون
ويتحولون إلى رجال آخرين “آية 7 و8” وأن يتصفوا بالحكمة والفهم والمشورة
والقوة والمعرفة ومخافة الرب “آية 9”. واضح كذلك أن هذا الروح هو شخص
إلهي وليس شخصاً مخلوقاً. لأنه روح الله غير المخلوق الحاضر في كل مكان وزمان
“آيتين 10 و11” والخالق “آيتين 14 و15” والمسؤول عن إعطاء
كنيسة الله كل المواهب الإلهية التي سوف تتمتع بها وخصوصاً في قرنها الأول
“آيتين 12 و13″، وهنا لا بد أن نميّز بين الروح كشخص أو أقنوم وبين
المواهب أو القوى الإلهية غير المخلوقة التي تصدر عن الروح ولا تنفصل عنه والتي
يمكن أن تعطى وتوزع وأن تسمّى في كثير من الأحيان بالروح (آيات 3، 4، 7، 8، 12،
13) وهو ما يحتاج إلى توضيح أكثر من خلال معطيات العهد الجديد.

•       آيات
تشير إلى الآب والابن والروح معاً:

1.     روح
السد الرب عليّ، لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب.. (اش61:
1).

2.     كرسيك
يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل
ذك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من رفقائك (مز45: 6، عبر1: 8).

3.     بكلمة
الرب صنعت السموات وبروح فمه كل جنودها (مز33: 6).

4.     أين
أذهب من روحك، ومن وجهك أين أختبئ.. (مز 139: 7-8)

في
الآية الأولى هناك ذكر للروح القدس الذي هو روح السيد الرب. وبالطبع فالسيد الرب
هو الآب الذي مسح الابن المتجسد وأرسله بالروح القدس الذي استقر عليه بحسب طبيعته
البشرية. الابن المتجسد بيسوع يوضح بحسب رواية البشير لوقا (لو4: 18) إنه هو
بالذات المعني بكلمة عليّ والذي تمت فيه هذه الكلمات.

في
الآية الثانية هناك إعلان جلي عن الابن وعن الآب، كما شرحنا سابقاً وإعلان ضمني عن
الروح القدس. لأن الله الآب قد مسح الله الابن عند تجسده بالروح القدس (انظر أع10:
38)، كما رأينا في الآية الأولى، وبالتالي فكلمة زيت الابتهاج تعني ضمناً الروح
القدس، لأن المسح لم يتم بزيت مادي بل بالروح القدس منذ لحظة تجسده، (لو1: 53، يو3:
43) أكثر بما لا يقاس من جميع رفقائه بالطبيعة البشرية التي قَبِلَ أن يتخذها.
ولهذا السبب فهو المسيح أي ممسوح الروح القدس بالمعنى المطلق للكلمة.

الآية
الثالثة تذكر الأقانيم الثلاثة معاً من خلال اشتراكهم في الخلق. لأن الرب أي الآب
قد خلق السموات وكل جنودها بواسطة كلمته أي الابن (أنظر أم 30: 4، يو1: 1-2، كولو1:
16-17) وبمشاركة روح فمه أي الروح القدس (أنظر أيوب 33: 4، مز 104: 30).

لا
تختلف الآية الرابعة كثيراً عن الآية الثالثة، لأن كلمة روحك تشير إلى روح الآب أي
إلى الروح القدس. أما وجهك فقد وجدنا سابقاً أنها تشير بشكل خاص إلى الملاك غير
المخلوق الذي كان يظهر في العهد القديم والذي هو الكلمة أو الابن (أنظر خر23: 20-23
و33: 12-17).

 

د
– تكلم الله بصيغة الجمع:

1.     وقال
الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا (تك1: 26).

2.     وقال
الرب الإله هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر (تك3: 22).

3.     وقال
الرب هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم.. (تك: 11: 6-7).

4.     ثم
سمعت صوت السيد قائلاً من أُرسل ومن يذهب من أجلنا (أش 6: 8).

في
هذه الآيات الأربع ظاهرة غريبة إذ يقدم الرب الإله متحدثاً بصيغة المفرد
“وقال الله” ومع ذلك يستعمل في حديثه صيغة الجمع.

•       أوريجنس
يرى كما اليهود بأن الله يتكلم هنا مع الملائكة لكن هذا الرأي لا يثبت أمام النقد
الصحيح. لأن الملائكة لا يمكن أن يوضعوا في مستوى واحد مع الله، فمثلاً في الآية
الأولى يصبح الملائكة شركاء لله ليس فقط في الصورة والشبه بل وفي المشيئة والخلق،
وهذا ما يجعلهم متمتعين بالصفات الإلهية وبالتالي بالجوهر الإلهي ذاته مما يتناقض
جذرياً مع الإعلان الإلهي (أنظر عبر1: 5-14).

•       كذلك
لا تثبت الفكرة القائلة بأن الله يتكلم في هذه الآيات بصيغة جمع التعظيم، لأن هذه
الصيغة، بشهادة كتب العهد القديم، لم تكن معروفة عند الأقدمين. فلا الله استعملها
عند مخاطبته للبشر (أنظر مثلاً تك15: 1-18، خر3: 4-21، أر10: 4-19) ولا الملوك
والعظماء (أنظر مثلاً تك41: 39-41، دا2: 5-1) والحقيقة إننا إذا تمعنا في هذه
الآيات الأربع نجد القاسم المشترك بينها هو مشورة بين عدة أشخاص (أقانيم)، قبل
الإقدام على عمل ما. وهؤلاء الأشخاص قائمون في الله ذاته. لأن أفعال الله توضع في
صيغة المفرد ليس فقط قبل المباشرة بالعمل وأثناءه وبعده (أنظر تك1: 27-31، 3: 23،
11: 8-9) مما دل على وحدة جوهر الله رغم تعدد أقانيمه وبالطبع فهذا التفسير
المسيحي يعوزه البرهان الأكيد، إذا أخذت هذه الآيات الأربعة لوحدها. لكننا إذا
نظرنا إليها على ضوء ما تقدم من آيات وشروحات فسنجد أنها تتناغم وتتآزر جميعاً ضمن
مفهوم ثالوثي واضح. مكونة أشعة نور السحر الذي يسبق إنبلاج ضياء شمس الثالوث
المقدس في العهد الجديد.

 

سر
الثالوث المقدس بحسب إعلان العهد الجديد

في
العهد الجديد يعلن سر الثالوث الإلهي بجلاء تام من خلال آيات كثيرة وواضحة يمكن
تقسيمها إلى المجموعات التالية التي تظهر:

1.     ثلاثة
أقانيم حقيقيين معاً.

2.     ألوهية
كل من الأقانيم الثلاثة.

3.     وحدانية
جوهر الأقانيم الثلاثة.

 

1.     ثلاثة
أقانيم حقيقيين معاً.

A.    في كلمات الملاك جبرائيل للعذراء مريم حين بشّرها بالحبل
بيسوع نجد الإشارة الأولى للأقانيم الثلاثة معاً في العهد الجديد “الروح
القدس يحل عليكِ وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن
الله” (لو1: 35).

B.    تحدثنا الأناجيل الأربعة عن معمودية يسوع وتأتي أهمية هذه
المعمودية بالدرجة الأولى بسبب ظهور سر الثالوث الأقدس ممثلاً بأشخاصه الثلاثة
المتميّزين فيما بينهم بصورة جلية واضحة: الابن المتجسد الذي تعمّد، الروح القدس
الذي ظهر بهيئة حمامة نازلاً على الابن، الآب الذي أعلن عن ذاته وعن أبوته للابن
بصوته من السماء (متى3: 16، مر1: 10-11، لو3: 21-22، يو1: 33-34).

C.    في خطبة يسوع الوداعية الموجهة للرسل بعد عشائه معهم نجده
يحدثهم مراراً عديدة عن الآب وعن الابن وعن الروح القدس، نستشهد خاصة بهاتين
الآيتين اللتين يذكر في كل منهما الأقانيم الثلاثة معاً وبصورة متميّزة.
“وأما المعزي روح القدس الذي يرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل
ما قلته لكم” (يو14: 26) كذلك في (يو14: 16-17).

D.    “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن
والروح القدس” (متى28: 19). في هذه العبارة التي يوجز بها المخلّص رسالة
الرسل قبل إنطلاقهم للبشارة تظهر أسماء الأقانيم الثلاثة معاً وبدون شرح إضافي مما
يؤكد عل أن الرسل كانوا يعلمون عن سر الثالوث الأقدس بما فيه الكفاية من تعليم
الرب يسوع وأن هذا السر هو قمة وجوهر هذا التعليم.

E.     نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس مع
جميعكم (2كو13: 14) هذا ما يختم به بولس الرسول رسالته إلى أهل كورنثوس طالباً من
أجلهم بركة الأقانيم الثلاثة المذكورة معاً بوضوح تام.

F.     والقديس بولس يبدأ رسالته الأولى بطلبه من أجل المرسل إليهم
يظهر فيها أسماء الأقانيم الإلهيين الثلاثة بتميّز جلي ” بِمقتضى عِلْمِ
اللهِ الآب السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ. لِتُكْثَرْ لَكُمُ النِّعْمَةُ وَالسَّلاَمُ” (1بط1: 2).

2.     ألوهة
كل من الأقانيم الثلاثة:

ألوهة
الآب: ليس من حاجة لتقديم آيات كتابية كدليل على اعتراف الكتاب المقدس البديهي
بألوهة الآب. لأن جميع من قبلوا هذا الكتاب، بما فيهم الهراطقة، أقرّ،ا بدون جدال،
بهذه الحقيقة لذا من بين الآيات التي لا حصر لها، نكتفي هنا بإيراد آيتين صغيرتين
تلخصان أبوة الآب للابن، كذلك أبوته للمؤمنين وألوهته لجميع البشر بمن فيهم ابنه
الإلهي المتجسد كابن للبشر “مبارك أبو ربنا يسوع المسيح..” (أف1: 3).
“اذهبي إلى أخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم”
(يو20: 17).

ألوهة
الابن: رأينا في دروسنا السابقة أن يسوع المسيح الابن الوحيد للآب وكلمته المتجسد،
هو مركز العهد الجديد كما كان مركز العهد القديم قبل أن يتجسد. إذ أن كل ظهور
للثالوث الأقدس وكل إعلان عن مشيئته تم به “الله لم يره أحد قط الابن الوحيد
الذي في حضن الآب هو خبّر” (يو1: 18).

لذا
فمن البديهي أن الشواهد التي تؤكد ألوهيته كثيرة للغاية وقاطعة وأن التسبت بهذه
الألوهة على بعض الهراطقة بسبب نسبة الكتاب المقدس إليه في بعض الأماكن صفات
الطبيعة البشرية المخلوقة التي اتحد بها. في السطور الآتية نقدّم بعض هذه الشواهد:

A.    بنوة حقيقة للآب وليست مجازية:

إن
إعلان العهد القديم الجازم لبنوة الابن الحقيقية “.. الرب قال لي أنت ابني
أنا اليوم ولدتك” (مز2: 7) “من البطن قبل كوكب الصبح أنا ولدتك”
(مز106: 13) (أش9: 6). يلتقي مع إعلان العهد الجديد لبنوة الابن ذاته الذي تجسد.
والتي يقصد بها في العهد الجديد صدور طبيعة الابن أزلية عن طبيعة الآب ولهذا فهذه
البنوة تختلف جوهرياً عن تسمية الملائكة أو البشر المؤمنين أحياناً كأبناء لله
(ايوب1: 6) و(لو3: 38، مز82: 6) و(1يو3: 1) ومن يقرأ الكتاب المقدس بموضوعية يظهر
له سريعاً الفرق الواضح بين البنوتين فمثلاً الرسالة إلى العبرانيين وهي تؤكد
ألوهة الابن تنفي صفة البنوة الحقيقية عن الملائكة “لأنه لمن من الملائكة قط
قال أنت ابني وأنا اليوم ولدتك..” (عبرانيين1: 5) كذلك تُظهر الرسالة إلى
أفسس أن بنوة القديسين لله هي مجرد تبني بيسوع المسيح (أف1: 5) بينما تؤكد جميع
شهادات الكتاب المقدس بنوة الرب يسوع الطبيعية والفريدة لله الآب “الروح القدس
يأتي عليك وقدرة العلي تظللك، من أجل ذلك فالقدوس الذي يولد منك يدعى ابن
الله” (لو1: 35).

•       الآب
يعترف ليسوع وحده من بين كل البشر أثناء معموديته وتجليه أنه ابنه الحبيب (متى3: 17،
مر1: 19، متى17: 5، لو9: 35). المسيح ذاته يجيب بالإيجاب على سؤال رئيس الكهنة
“أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله” (متى26: 64)
وهو يعلم تماماً أن قيافا يقصد من طلبه هذا أن يسلمه إلى الموت بسبب اعترافه ببنوة
وضعية طبيعية وليست مجازية. كما أنه لو كانت بنوة المسيح مجازية لما كان سأل
الأعمى أتؤمن بابن الله؟ ولما كان أكّد له عندما سأله من هو يا سيد لأومن به: “قد
رأته والذي يتكلم معك هو هو” (يو9: 35-38).

•       القديس
بطرس ينال مديح السيّد “طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يعلنا
لك لكن أبي الذي في السموات” عندما أجاب “أنت هو المسيح ابن الله
الحي” (متى16: 15-17).

•       الإنجيلي
يوحنا يشدّد وفي أكثر من مناسبة على فرادة بنوة الابن حين يضيف إليها حصراً كلمة
“الوحيد” “لأنه هكذا أحب الله والعالم حتى يبذل ابنه الوحيد لكي لا
يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16: 18 أنظر أيضاً يو1:
14، 18، يو20: 30، 31).

B.    تأكيدات مشدّدة على حقيقة ألوهته:

o      إله
حقيقي “ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح هذا هو الإله الحق والحياة
الأبدية” (1يو5: 50).

o      إله
عظيم “منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد إلهنا العظيم ومخلصنا يسوع
المسيح” (تيطس2: 13).

o      إله
حكيم “وملك الدهور الذي لا يفنى ولا يرى الإله الحكيم وحده له الكرامة والمجد
إلى دهر الدهور أمين” (1تيمو1: 7).

o      إله
مبارك “ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى
الأبد” (رو9: 5).

o      هو
الله نفسه “في البدء كان الكلمة وكان الكلمة عند الله وكان الكلمة الله”
(يو1: 1)

 “لترعوا
كنيسة الله التي اقتناها بدمه” (أع20: 28).

 “..
عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد” (1تيمو3: 16).

o      ربّ
الأرباب “والحمل يغلبهم لأنه ربّ الأرباب وملك الملوك” (رؤ17: 14 قارن
تثنية 10: 17).

C.    مساواة تامة مع الآب:

o      لأنه
لم ينقض السبت فقط بل قال أيضاً أن الله أبوه معادلاً نفسه بالله (يو5: 18).

o      إذ
كان في صورة الله لم يحسب نفسه خلسة (غنيمة) أن يكون معادلاً لله (فيليبي2: 6).

o      أبي
يعمل حتى الآن وأنا أعمل (يو5: 33).

o      كل ما
للآب هو لي (يو16: 15 أنظر أيضاً 17: 10).

o      لأن
مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك (يو5: 19).

o      لكي
يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب (يو5: 23).

D.    صفات وأعمال إلهية تامة:

o      حياة
في ذاته “لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له
حياة في ذاته” (يو5: 26).

o      الأزلية
“الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن” (يو8: 58) قارن كلمة
“كائن” هنا مع كلمة الله لموسى حين تجلى له في العليقة “الكائن
أرسلني إليكم” (خروج3: 13-14) أنظر (ميخا5: 3) “ومخارجه منذ القديم منذ
أيام الأزل”.

o      السرمدية
“هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلى وكرداء تطويها فتتغير ولكن أنت أنت وسنوك
لن تفنى” (عب1: 11-12).

 ”
وملك الدهور لا يفنى ولا يرى الإله الحكيم وحده له الكرامة والمجد إلى دهر
الداهرين” (1تيمو1: 17).

o      الحضور
في كل مكان “لم يصعد أحد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي
هو في السماء” (يو3: 13).

o      الخلق
والعناية الإلهية “وأنت يا رب في الأرض والسموات هي عمل يديك” (عب1: 10).

 “فإن
فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض وما لا يرى سواء أكان عروشاً أم سلاطين
أم سيادات أم رئاسات الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل”
(كولو1: 16-17).

o      المعرفة
التامة “أما يسوع فلم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرفهم جميعاً ولم يكن
مفتقراً إلى شهادة أحد عن الإنسان لأنه هو نفسه كان عالماً بما في الإنسان”
(يو2: 24-25).

 “..
والمسيح المذخّر به جميع كنوز الحكمة والعلم” (كولو2: 2-3 أنظر متى 11: 27).

o      السلطة
الإلهية الكاملة السلطة التشريعية “قد سمعتم أنه قيل للقدماء.. أما أنا فأقول
لكم” (متى5: 21: 43). واضح أن الذي قال للقدماء هو الله نفسه الذي أعطاهم
الوصايا التي ذكرها يسوع (خرو20) ولذلك فسلطة يسوع الذي يكمل هذه الوصايا مساوية
لسلطة الذي أعطاها.

o      السلطة
على مغفرة الخطايا “ولكن لكي تعلموا أن ابن البشر له سلطة على الأرض لكي يغفر
الخطايا..” (لو5: 24).

o      السلطة
على الحياة والموت “لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحي كذلك الابن أيضاً يحي
من يشاء” (يو5: 21).

o      الدينونة
“لأن الآب لا يدين أحداً بل أعطى كل الدينونة للابن” (يو5: 22).

ألوهة
الروح القدس: تتوضح حقيقة شخصانية الروح القدس الإلهية بشكل قاطع في العهد الجديد،
فهو من جهة يحمل كل الصفات التي تميز الأشخاص-الأقانيم-، ومن جهة أخرى يحمل كل
الصفات والأعمال التي تميز الله.

A.    صفات لا يمكن أن تطلق إلا على شخص-أقنوم:

o      يعزّي،
يعلّم، يذكّر: “وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم
كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو14: 26).

o      يرشد،
يتلكم، يتنبأ “وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا
يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع به يتكلم به ويخبركم بأمور آتية” (يو16: 13).

o      يشهد
“ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب
ينبثق فهو يشهد لي” (يو15: 26).

 “غير
أن الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلاً ً: إنَّ وثقاً وشدائد تنتظرني..”
(أع20: 23).

 “الروح
نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله” (رو8: 16).

o      يقيم
أساقفة “احترزوا إذن لأنفسكم وعلى جميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها
أساقفة..” (أع20: 28).

o      يشفع
“ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنّات لا ينطق بها” (رو8: 26).

B.    صفات وأعمال إلهية تامة

o      هو
الله ذاته “لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس أنت لم تكذب على
الناس بل على الله” (أع5: 3-4).

 في
الرسالة إلى أهل كورنثوس يقول القديس بولس: “وأنواع أعمال موجودة ولكن الله
واحد الذي يعمل الكل في الكل” (1كو12: 6). ثم يعدد هذه الأعمال ويختمها يقوله:
“ولكن هذه كلها يعملها الروح القدس بعينه قاسماً لكل واحد كما يشاء” (اكو12:
11) مما يدل على أن الروح القدس بنظر بولس هو الله. لزيادة التأكيد أنظر العدد 28
في نفس الإصحاح.

o      الحضور
في كل مكان “وأنتم فلستم بالجسد بل فيالروح إن كان روح الله ساكن فيكم”
(رو8: 9، 11: 14).

 “أم
لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله” (اكو6:
19).

o      الولادة
الروحية والخلق “إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت
الله” (يو3: 5).

 “روح
الله صنعني ونسمة القدير أحيتني” (أيوب 3: 5).”

 “ترسل
روحك فيخلقون وتجدد وجه الأرض” (103: 30).

o      المعرفة
التامة “أما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء..”
(يو14: 26).

 “هكذا
أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله” (1كو2: 11).

o      الكرامة
الإلهية التامة “الحق أقول لكم أن جميع الخطايا تُغفر لبني البشر والتجاديف
التي يجدفونها، ولكن من جدّف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد بل هو
مستوجب دينونة أبدية” (مر1: 28-29) و(متى12: 31-32).

o      القدرة
على كل شيء “فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة والآخر كلام علم بحسب الروح
الواحد.. ولأخر عمل قوات ولأخر نبوة ولآخر تمييز الأرواح ولأخر أنواع ألسنة ولآخر
ترجمة ألسنة. ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكل واحد بمفرده كما
يشاء” (1كو12: 8-11).

o      السلطة
على الحياة والموت “وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم فالذي
أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم” (رو8:
44).

 

3.     وحدانية
جوهر الأقانيم الثلاثة:

سر
الله الأبعد عن الإدراك ليس في التثليث بمقدار ما هو في وحدانية جوهر الأقانيم
الثلاثة. الله واحد. وهذه الوحدة حقيقة مطلقة لا تقبل انقساماً أو انفصالاً. ولذلك
مع أن كلاًّ من الأقانيم الثلاثة هو إله حق إلا أنه بسبب وحدة الجوهر التي ينتج
عنها: وحدة الطبيعة وحدة الصفات وحدة الإرادة، وحدة الأعمال، فالأقانيم الثلاثة
معاً هم إله واحد بكل ما في هذه الكلمة من معنى.

A.    وحدانية جوهر الابن مع الآب:

إن
بنوة الابن الطبيعية للآب ليست بمفهوم الكنيسة سوى وحدة الطبيعة الإلهية عند الآب
والابن أو تماثل جوهرهما “نور من نور، إله حق من إله حق” وهو مفهوم
الكتاب المقدس ذاته “أنا والآب واحد” (يو10: 30)، “الذي رآني فقد
رأى الآب” (يو14: 9) هاتان الآيتان مع كثير غيرهما (راجع يو5: 18، 10: 38، 14:
10-11، 16: 15، 17: 10 الخ..) نطق بها يسوع لإثبات وحدانية جوهره مع الآب وهي ذات
معنى حقيقي لا مجازي كما يدّعي البعض، والدليل أنه حين قال العبارة الأولى لم ينكر
عليهم هذا التفسير بل ثبته إذ قال: “إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي
ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب
فيّ وأنا فيه” (يو10: 37-38).

إذن
ما رأيناه أيضاً من تشديد على ألوهة الابن في العهد الجديد لا يعني بالنتيجة سوى
أن اللاهوت أو الجوهر ذاته الذي للآب، وهو ما يتوضح كذلك من عبارات كتبها الرسل
بمناسبات مختلفة عن الرب يسوع “فإن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً”
(كولو2: 9)، “الذي وهو بهاء مجد ورسم جوهره” (عبرانيين1: 3)، “صورة
الله غير المنظور” (كولو2: 5) (فيلبي2: 6) الخ..

B.    وحدانية جوهر الروح القدس مع الآب:

إن
ما ينطبق على الابن في علاقته مع الآب ينطبق على الروح القدس في علاقته مع الآب ذاته.
مع الفارق أن الابن يولد من الآب بينما الروح القدس ينبثق منه (يو16: 26) هذا ما
تثبته بصورة خاصة العبارة التالية للرسول بولس: “لأن مَنْ مِنَ الناس يعرف
أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا
روح الله” (اكو2: 11) والتي تشدّد على أن الروح القدس وحده عنده معرفة كاملة
عن الله بينما نجد في الأناجيل أنه “ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد
يعرف الآب إلا الابن” (متى11: 27/ لو10: 22، يو1: 18، 6: 46، 10: 15). إذاً
فالروح القدس كالابن مساوٍ للآب أو عنده الجوهر الإلهي الواحد، وخصوصاً أن كلمة
“روح الله” نفسها تدل على أنه ليس من العدم بل هو من جوهر الله ومستقر
فيه.

C.    وحدانية جوهر الأقانيم الثلاثة معاً:

نجد
ذلك في إشارة الرسل إلى رؤيا أشعياء النبي التي تحدثنا عنها سابقاً. أشعياء يسمي
السيد الجالس على العرش رب الجنود (اش6: 5) بينما يوحنا الإنجيلي يعلن أن أشعياء
قد رأى مجد الابن (يو12: 41) أمّا بولس الرسول فيقول أن من كلّم أشعياء النبي كان
الروح القدس (أع28: 25) هذا كله لا يمكن تفسيره إلا بأن من رآه أشعياء كان مجد
الإله الواحد المثلث الأقانيم.

كما
أن عبارة “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح
القدس” (متى28: 19) والتي أشرنا إليها سابقاً تبرز أيضاً حقيقة الجوهر الإلهي
الواحد، لأن الرب يسوع عندما ذكر الأقانيم الثلاثة المتميزين فيما بينهم لم يقل
عمدوهم بأسماء الآب والابن والروح القدس كثلاثة آلهة منفصلين بل استعمل تعبير باسم
أي بقوة أو سلطان الله الوحيد الثلاثي الأقانيم الذي عنده الطبيعة الإلهية الواحدة.

D.    وحدانية قوى وأعمال الأقانيم الثلاثة:

.إن
ما يؤكد كذلك وحدانية جوهر الأقانيم الثلاثة، هو الإعلان الإلهي لوحدة قوى (مواهب)
وأعمال هذا الجوهر الواحد وهو ما يلخصه بولس الرسول بقوله “فأنواع مواهب
موجودة ولكن الروح واحد وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد وأنواع أعمال موجودة
ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل” (1كو12: 4: 6).

 

نظرة
على تعليم الكنيسة الكاثوليكية

تعليم
الكنيسة الكاثوليكية عن سر الثالوث الأقدس:

1.     العهد
القديم والظهورات الإلهية:

الكنيسة
الكاثوليكية ترفض أو على الأقل تخفف حقيقة الظهورات الثالوثية في العهد القديم.
ولا شك بأن أصول هذا الموقف ترجع إلى آراء المغبوط أوغسطين والمدرسيين
(سكولاستيكيين) الذين كانوا يسلّمون بأن ملاك يهوه في ظهورات الله في العهد القديم
ما هو إلا ملاك مخلوق استخدمه الكلمة الإلهي. بالرغم من إقرارهم أن الآباء رأوا
فيه الكلمة الإلهي ذاته، استناداً، بصورة خاصة إلى ما جاء في (أشعياء9: 6)
“ملاك الرأي العظيم أو المشورة العظيمة ” الترجمة السبعينية (
LXX) أو النص العبراني “عجيباً مشيراً” قارن مع (قضاة13: 18-33
وفي ملاخي3: 1) “ملاك العهد”.

2.     صدور
الروح القدس بطريقة الانبثاق من الآب والابن:

تتهم
الكنيسة الغربية الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية بأنها تعلّم منذ القرن التاسع أن
الروح القدس ينبثق من الآب وحده. وقد التأم مجمع في القسطنطينية (876) برئاسة بطريركها
فوتيوس ورفض كلمة “والابن” التي عند اللاتين على أنها بدعة، على الرغم
من اعتراف الكتب العقائدية الكاثوليكية بأن كلمة “والابن” المضافة إلى
قانون نيقية-القسطنطينية قد وردت لأول مر في مجمع طليطلة (توليدو) الثالث (589).

وتدعم
الكنيسة الكاثوليكية إيمانها بالفيليوكفي بالبراهين التالية (كتاب مختصر علم
اللاهوت العقائدي “ترجمة المارديني”):

A.    الروح القدس ليس فقط، حسب تعليم الكتاب المقدس، روح الآب
(متى10: 20) (يوحنا 15: 26) (1كور2: 11) بل أيضاً روح الابن (غلاطية 4: 6) وروح
المسيح (رو8: 9) وروح يسوع (أع 16: 7) وروح يسوع المسيح (فيليبي1: 11).

B.    أُرسل الروح القدس ليس فقط من قِبَل الآب بل أيضاً من قِبَل
الابن (يوحنا15: 26) (يوحنا 16: 7) (لوقا 24: 49) (يوحنا 20: 22) فالإرسال إلى
الخارج هو بنوع ما مواصلة الصدور الأزلي في الزمن. ومن هذا الإرسال نستطيع أن
نستدل على الصدور الأزلي.

C.    الروح القدس يأخذ علمه من الابن (يوحنا 16: 13-14)
“يتكلم بكل ما يسمع هو يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم”. ولا يمكن
التكلم عن شخص إلهي أنه تعلّم وأخذ إلا بمعنى أنه أخذ العلم الإلهي. وبالتالي
الجوهر الإلهي وهما في الله واحد منذ الأزل، في شخص إلهي أخر أشركه في جوهره.

ولما
كان الروح القدس يأخذ علمه من الابن وجب أن يصدر من الابن كما أنّ الابن يأخذ علمه
من الآب (يوحنا8: 26) ويصدر من الآب.

D.    الروح القدس ينبثق من الآب والابن كمن مبدأ أوحد وبنفخ أوحد.
هذا ما نستخلصه من (يوحنا16: 15) “جميع ما للآب هو لي” ولما كان الابن
بسبب ولادته الأزلية يملك كل ما يملكه الآب إلا الأبوة وعدم الصدور. إذ لا يمكنه
أن يشرك بهما غيره، وجب أن يملك الابن أيضاً القدرة على نفخ الروح وبالتالي على أن
يكون له مع الروح القدس صلة الأصل والمصدر

E.     تستشهد كتب العقائد الكاثوليكية بأقوال بعض الآباء الغربيين
والشرقيين لتؤكد على قبولهم لفكرة صدور الروح القدس من الآب والابن أو من الآب
بواسطة الابن.

 

3.     صدور
الروح القدس من إرادة الآب والابن:

تشرح
كتبت التعليم الغربية قضية صدور الابن من الآب والروح القدس من الآب والابن بطريقة
نظرية. فتعلن أن الابن بسبب كونه كلمة فهو يصدر عن عقل الآب أو أنه يجب أن ولادة
الابن من الآب على أنها ولادة محض عقلية أو على أنها فعل معرفة في حين تقول عن
الروح القدس أنه يصدر عن إرادة الآب والابن أو عن محبتهما المتبادلة. وتستدل على
ذلك من اسم الروح القدس نفسه فهو (الروح-الريح-نسمة-زفرة-مبدأ حياة-نفس) يدل على
مبدأ حركة ونشاط وعلى صلة بالإرادة. والنعت (القدس) يدل أيضاً على الصدور والإرادة.
لأن القداسة إنما تكون في الإرادة والكتاب والتقليد ينسبان إلى الروح القدس أفعال
المحبة وإنما نسبت أفعل المحبة إلى الروح لأنها من خواصه الشخصية وتدل على أصله.
ينتج من ذلك أن الروح يصدر عن فعل محبة.

وموضوع
الإرادة الإلهية التي بها الآب والابن يصدران الروح القدس هو:

o      أولاً
– ما يريده الله ويحبّه بالضرورة: الذات الإلهية والأقانيم الإلهية.

o      ثانياً
– ما يريده الله ويحبّه مختاراً: الأشياء المخلوقة، وعلى رأي بعض اللاهوتيين
الأشياء الممكنة أيضاً.

وهنا
لا بد أن نشير ولو بسرعة إلى النقطة الثالثة والأخيرة وهي صدور الروح القدس من
إرادة الآب والابن، فنلاحظ بحسب تعليم الآباء خصوصاً الشرقيين منهم، أن صدور الروح
القدس عن الآب هو كصدور الابن من الآب، أي بحسب الطبيعة، وليس بحسب إرادته، ولكن
بالطبع ليس ضد هذه الإرادة، وبالنتيجة فلا يصدر إذاً عن إرادة الآب والابن أو عن
محبتهما المتبادلة وكأنه أحد الخلائق أو فعل ما من أفعالهما، بل هو واحد في الجوهر
معهما.

 

الموقف
الأرثوذكسي من قضية انبثاق الروح القدس من الآب والابن:

ختاماً
لهذا البحث (سر الثالوث) لا بد من إظهار رأي الكنيسة الأرثوذكسية فيما يتعلق
بالنقاط الخاصة التي وردت عن تعليم الكنيسة الكاثوليكية في سر الثالوث الأقدس،
مكتفين بالإجابة على النقطيتين الأخيرتين (2/3) فبالنسبة للنقطة الثانية، أي قضية
صدور الروح بالانبثاق من الآب والابن، فمن المعروف أنها كانت موضوع الخلاف الرئيسي
بين الكنيستين الغربية والشرقية. لدرجة أنها أصبحت أهم العوامل التي باعدت بينهما
وأدّت إلى انشقاقهما النهائي سنة 1054. ومن المؤكد تاريخياً أن الكنيسة
الأرثوذكسية لم تعلّم منذ القرن التاسع فقط أن الروح القدس ينبثق من الآب وحده، بل
هذا كان تعليمها منذ البدء. والذي تسلمته منذ القرن الأول من الرب يسوع نفسه، الذي
علّم “ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند
الآب ينبثق فهو يشهد لي” (يوحنا15: 26). وبديهي أن السيّد لا يتلكم هنا
بطريقة عامة تحتمل التأويل. بل هو يحدد بوضوح وبالتخصيص أن الإرسال في الزمن هو من
الآب والابن، أو من الآب بواسطة الابن (أنظر لو 24: 49). في حين أن الانبثاق هو من
الآب وحده. ولو كان الروح القدس ينبثق فعلاً من الآب والابن لكان الربّ يسوع قد
ذكر كما فعل بالنسبة للإرسال ولكان من الطبيعي أن يقول: “ومتى جاء المعزي
الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عندنا ينبثق أو من عند الآب وعندي
ينبثق”. ولو كانت الكنيسة الشرقية هي التي علّمت منذ القرن التاسع أن الروح
القدس ينبثق من الآب وحده كما تدّعي الكتب الكاثوليكية لكانت هي التي حذفت من
دستور إيمان الكنيسة الجامعة كلمة “والابن”، وليست الكنيسة الغربية هي
التي أضافتها على هذا الدستور سنة 1014 بعد أخذ ورد طويلين وبضغط من الملوك
الإفرنج والتوتونيين (الجرمانيين).

ولا
يخفى تاريخياً على أحد الآن معارضة البابوات الطويلة لهذه الإضافة منذ القرن
السادس، وحكاية البابا لاون الثالث الذي أمر بنقش دستور الإيمان الأصلي بدون إضافة
“والابن” على لوحين من الفضة وتعليقهما على باب كنيسة القديس بطرس
“من أجل الحفاظ على الإيمان الأرثوذكسي” صار معترفاً بها حتى من
الكاثوليك أنفسهم.

2.     وفيما
يتعلّق بدعم الكنيسة الكاثوليكية لإيمانها “بالفليوكية” أو بإضافة
“والابن” بآيات من الكتاب المقدس نجيب على الفقرات التي وردت بما يلي:

A.    لقد سمّي الروح القدس مرّة واحدة في الكتاب روح الابن: “ثم
بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً أيها الآب” (غلاطية 4: 6).
وذلك انسجاماً مع فكرة البنوة لله بالمسيح والتي تسيطر على المقطع الذي أُخذت منه
هذه الآية بأكمله.

يستنتج
الكاثوليك بأنه كما سمّي الروح القدس بروح الآب (متى10: 20) لأنه ينبثق من الآب،
كذلك سمّي هنا بروح الابن لأنه ينبثق من الابن، والواقع أن الروح القدس سمّي بروح
الآب، ليس فقط لأنه ينبثق من الآب بل ولأنه واحد في الجوهر معه. ولهذا ليس من
الضروري أن يُدعى الروح القدس “روح الابن” لأنه ينبثق منه كأقنوم بل
لأنه واحد في الجوهر معه، وباقٍ في شركة كلّية ودائمة معه، ولأنه بالضبط يأخذ مما
له ويخبركم (يوحنا16: 13-14) أي هنا يأخذ من واقع بنوته الحقيقية للآب ليجعل
المفتدين متبنين له، وصارخين معه وفيه”يا أيها الآب” لا بل إن الرسول
بولس في تأكيده على هذه الفكرة يذهب أبعد من ذلك فيسمّي الروح ذاته روح التبني: “إذ
لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أيها
الآب” (رو8: 15)، فهل الروح منبثق من التبني أيضاً؟

أما
من جهة تسمية الروح بروح المسيح أو روح يسوع أو روح يسوع المسيح، فواضح أيضاً من
سياق النصوص المذكورة أن المقصود لا الإشارة إلى انبثاق الروح من الابن بل التشديد
على مشاركة الرب يسوع المسيح الخاصة في عمل الروح المشار إليه، وذلك نظراً
لوحدانية أفعال الثالوث الإلهية أي لاشتراك الأقانيم الثلاثة في العمل الواحد.

فمثلاً
تعبير “ورح المسيح” الوارد في (رو8: 9) إنما يشير إلى حالة النعمة التي
يعيشها المؤمن الذي لبس المسيح (غلاطية3: 27).

وفي
الواقع فإن الآباء يفسّرون عامة تسمية الروح بروح الابن أو بروح المسيح إما بسبب
تماثل أو وحدة الجوهر بين الروح والابن وبالتالي وحدة أفعالهما الإلهية. أو بسبب
إرسال الروح القدس من الابن وليس انبثاقه منه. لأن الانبثاق هو صفة أقنومية تميّز
الروح القدس. والبثق هو صفة أقنومية تميّز الآب. والآباء ينهون بصورة جازمة عن
تعميم الصفات الأقنومية التي بحسب إجماعهم غير قابلة للاشتراك والتعميم () إذ بها
تقوم خصوصية وتميّز الأقانيم في الثالوث.

القديس
باسيليوس بعد أن يؤكد على الخواص الأقنومية لكل من الآب والابن والروح القدس،
وبأنه بها تتميز أقنوميتهم، يضيف، من أجل هذا لا نقول: “الروح من الابن بل
نسمّي روح الابن، ونعترف أنه بالابن ظهر وأُعطي لنا”

هذه
الملاحظة ذاتها تظهر عند القديس كيرلس الإسكندري لأنه “إذا كان الروح القدس
يصدر من الآب لكنه من الابن يأتي وهو خاصته”. حتى أن القديس أثناثيوس الكبير
يدعو مسحة الروح التي أُعطيت للمؤمنين نفخة الابن وختم يطبع المسيح في نفوس
المؤمنين المختومين وهو يعني بهذه إعلانات الكلمة والروح نحو الخارج قاصداً بها
إرسال الروح وتقبّله من المؤمنين. وليس الخصوصيات الداخلية لأقانيم الثالوث. ولهذا
نخطئ إذا كنا نستنتج من الأفعال الخارجية للروح ونتائجها على البشر صلات
الأشخاص-الأقانيم- الإلهيين بحسب حياتهم الداخلية.

B.    يعتبر الغربيون أن إرسال الروح القدس إلى الخارج والذي تمّ
ليس فقط من قِبل الآب بل أيضاً من قِبل الابن هو بنوع ما مواصلة الصدور الأزلي في
الزمان. ولهذا فعبارة (الذي من عند الآب ينبثق) لا تنفي في نظرهم الانبثاق من
الابن بل تفترضه بسبب مساواة أو وحدة الابن مع الآب في الجوهر (يوحنا 16: 25).
ولكن هذا الافتراض خاطئ بالأساس. صحيح أن وحدة جوهر الآب والابن تفترض وحدة الصفات
الأزلية مثل الحضور في كل مكان، القدرة على كل شيء.. لكنها تفترض أيضاً أنهما
أقنومان متميّزان وهذا التميز بحسب الآباء يقوم فقط بتميّز صفاتهما الأقنومية التي
لا يجوز تعميمها كما رأينا لئلا يحصل التشوش ونصل إلى الصاباليوسية. فيبطل أن يكون
هناك ثالوث.

السؤال:
هل انبثاق الروح القدس صفة جوهرية أم صفة أقنومية؟

فإن
كان صفة جوهرية يمكن أن نعممها فعندئذ يجب قبول انبثاق الروح القدس من الآب والابن.
لكننا في هذه الحال نصل إلى نتائج لا حدود لتجديفها وغرابتها. فمثلاً إن كان الروح
القدس ينبثق من الابن لأن الابن متحد مع الآب في الجوهر، وكل ما للآب هو للابن،
فلماذا لا ينبثق الآب والابن من الروح أيضاً؟ – الابن يولد من الآب، فلماذا لا
تكون للآب والروح صفة الولادة أيضاً طالما هو متحد في الجوهر معهما وكل ما هو لهما
هو له؟ ولماذا لا تكون للابن والروح صفات عدم الصدور والإيلاد التي للآب..؟

ولكي
لا يصل الكاثوليك إلى نتائج كهذه قالوا أن الابن بسبب ولادته الأزلية يملك كل ما
يملكه الآب إلا الأبوة وعدم الصدور، إذ يمكنه أن يشرك غيره بالبثق ولكنه لا يستطيع
أن يشرك غيره بالولادة. أليس هذا استثناءً اعتباطياً غير مبني على أساس؟

عند
بعض اللاهوتيين الكاثوليك جواب آخر هو أن ترتيب الأقانيم الإلهيين هو الآب، الابن،
الروح القدس. ولأن الروح القدس هو الثالث في الترتيب لذلك لا يستطيع أن يلد الابن
أو أن يبثق من هو قبله، وبالطبع فهذا يقود في حال قبوله إلى نوع من المرتبية
والأسبقية بين الأقانيم، على اعتبار أن الابن يولد من الآب قبل أن ينبثق الروح
القدس منه.

ولعل
الإدعاء الذي ورد في الفقرة (
D) بأن الروح القدس ينبثق من الآب والابن، كمن مبدأ أوحد وبنفخ أوحد،
هو محاولة للتهرّب من الوصول إلى هذه المرتبية والأسبقية الزمنية بين الأقانيم
التي لا بد أن المغبوط أوغسطين قد لاحظها ولذا شدّد: “يجب أن لا نقبل (من
مبدأين) لأن هذا بالكلية مختلق وأخرق. لا بل هرطقة وليس بحسب العقيدة
الجامعة”. وفي الواقع فإن مجرّد الدفاع عن انبثاق الروح القدس من الآب والابن
هو بحد ذاته القول بأن الروح القدس ينبثق من مبدأين أي مصدرين هما الآب والابن،
وبالتالي إلى اعتبار الروح مركباً وليس بسيطاً، لأنه مأخوذ من مصدرين ولا تنفع في
هذه الحالة إضافة كلمات (كمن مبدأ واحد وبنفخ واحد) إذ لا يمكنها أن تغيّر واقع
الإدعاء الأول وفي هذا المجال يقول البطريرك فوتيوس: “مَنْ مِنَ المسيحيين
يستطيع أن يسمح أن يُدخل علتان في الثالوث الأقدس للابن والروح القدس، فيجعل للروح
أيضاً (الابن).. ولماذا ينبثق الروح (ومن الابن) فإن كان الانبثاق من الآب هو تام
(وهو تام لأن الروح إله تام من إله تام) فلماذا إذاً الانبثاق من الابن؟
ولماذا؟”.

بناء
على ما تقدّم، فبثق الروح القدس ليس هو صفة جوهرية يمكن تعميمها على الأقانيم بل
هو صفة أقنومية شخصية تخص الآب وحده، وبها يتميّز عن الابن والروح القدس. وهي
مختلفة جذرياً عن إرسال الروح القدس في الزمن، والمعني به إفاضة مواهبه وقواه على
الخليقة التي افتداها الابن بتجسده وقيامته. ولعل هذا هو ما قصده السيد عندما جمع
في عبارة واحدة بين الإرسال والانبثاق (يوحنا15: 26) لكي يميّز بوضوح بينهما وليس
لكي يدل على أن الإرسال إلى الخارج يفترض بالضرورة مواصلة الصدور الأزلي كما تدعي
كتب اللاهوت الكاثوليكية. وللبرهنة على خطأ هذا الادعاء يكفي أن نقول بأنه في حال
تسليمنا به يجب أن نقبل بأن الابن يولد من الأزل من الروح القدس، لأن الكتاب
المقدس يعلّمنا بأن الابن يُرسل في العالم الروح القدس “روح الرب عليّ لأنه
مسحني لأبشر المساكين.. أرسلني لأشفي المنكسري القلوب” (أشعياء61: 1 ولوقا 4:
18).

جواب
الكاثوليك على هذا البرهان هو قولهم بأن الروح القدس يرسل هنا الابن كإنسان وليس
بحسب طبيعته الإلهية التي هي حاضرة في كل مكان وليست قابلة للإرسال. وردنا نحن على
جوابهم بأن الروح القدس هو أيضاً بحسب أقنومه الإلهي حاضر في كل مكان وليس قابلاً
للإرسال، وإنما أُرسل بهيئة منظورة في الزمن، أي بشكل ألسنة نارية في العنصرة لكي
يبقى مع الكنية، بحسب قواه المعزية والمرشدة والمقدسة.

الآباء
القديسون: يفسرون إرسال الروح القدس في العالم بواسطة الابن، وإرسال الابن بواسطة
الروح القدس من خلال وحدة الجوهر الإلهي التي يعبّر عنها بوحدة عملهما الخارجي.
ولذلك حيث يعمل أحد الأقانيم يكون حاضراً وفاعلاً بشكل تلقائي الأقنومان الآخران.
ولهذا يقول الآباء أن الابن أُرسل في العالم من الآب ومن الروح القدس لكي يظهر من
خلال هذا أن الآب والروح ليسا غريبين عن العمل الخلاصي للابن بل يشاركان في هذا
العمل، وكذلك الحال بالنسبة لإرسال الروح القدس في العالم من الآب والابن.

القديس
امبروسيوس هو أحد الآباء الذين يؤكدون هذه الفكرة “الآب مع الروح يُرسلان
الابن، أيضاً الآب والابن يُرسلان الروح.. وبالنتيجة إذا كان الابن والروح يرسل كل
منهما الآخر كما يرسلهما الآب فهذا يحدث ليس بسبب خضوع ما (من أحدهما للآخر) بل
لأن عندهما قوة مشتركة”. يطبق هذا التفسير أيضاً على البراهين الكتابية
الأخرى المشابهة التي يسوقها الكاثوليك لتأكيد رأيهم مثل نفخ السيد المسيح وقوله
لتلاميذه: “اقبلوا الروح القدس”، فإن كان هذا الفعل يظهر لنا أن الروح
القدس من الابن ينبثق، فعندئذ يجب أن نقول أيضاً بأن الروح القدس ينبثق أيضاً من
الرسل القديسين وحتى من الأساقفة، لأن هؤلاء يعطون أيضاً الروح القدس بوضع الأيادي.
والحقيقة أن السيّد هنا أعطى تلاميذه قوة أو نعمة الروح القدس من أجل مغفرة
الخطايا، كما نتعلّم من الآباء القديسين وليس لارتباط ذلك بانبثاق الروح القدس
أزلياً من الابن.

C.    “وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق،
لأنه لا يتكلم من نفسه بل مما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ذاك يمجدني لأنه
يأخذ مما لي ويخبركم. كل ما هو للآب هو لي، لهذا قلت أنه يأخذ مما لي
ويخبركم” (يو16: 13-14).

في
هذه الآية يشدّد الغربيون بصورة خاصة على عبارة (لأنه يأخذ مما لي ويخبركم)
ليستنتجوا أنه يأخذ علمه من الابن وبالتالي جوهره أو كيانه. ولهذا وجب أن يصدر من
الابن. والحال أن هذه الآية بالذات توضح أكثر ما أشرنا إليه قبلاً في أجوبتنا
السابقة بأن السيّد عندما تكلّم عن الروح القدس الموعود به، لم يكن يتكلّم عن أصله
أو مصدره الأزلي بل عن مجيئه في الزمان. وأفعال () التي وضعت هنا في صيغة المستقبل
تدل على ذلك بكل وضوح. فإلى جانب الحقائق التي كان المعلّم قد أخبرها لتلاميذه هنا
أيضاً حقائق أخرى لم يخبرهم عنها بوضوح لأنهم لم يكونوا بعد يستطيعون اقتبالها.
ولذا عندما سيأتي روح الحق الموعود به هذا سوف يكمل عمله، لأنه سيلهم ويقدّس
ويعلّم كل الحقيقة. سوف لن يتكلّم عن نفسه لأنه ليس هناك من تعليم جديد بل هناك
إنارة وتوضيح للحقائق ذاتها التي كانوا قد هيئوا لمعرفتها سابقاً من السيّد. ومن
البديهي أن الربّ يسوع لم يرد أن يقول بأن الروح القدس سوف يقبل تعليماً لم يكن
يعرفه من قبل، بل أراد أن يشدّد على وحدة الحق الذي أتى الإله المتجسد على الأرض
ليعلنه. هذا الحق هو التعليم الإلهي أي تعليم الآب الذي علّمه الابن، والآن هذا
التعليم ذاته هو في عهدة الروح القدس المكلّف بإنارة البشر لكي يستطيعوا قبوله.
وللتأكيد على أن هذا هو مفهوم الآباء نعطي تفسير القديس يوحنا الذهبي الفم لهذا
المقطع كمثال في هذا الصدد “قال الابن: مما هو لي سوف يأخذ أي أن ما تكلّمت
به أنا سوف يتكلم به الروح القدس وعندما يتكلم عندئذ لن يقول أي شيء من نفسه أي لا
شيء مضاد معاكس، لا شيء خاص به، بل فقط ما هو لي. وكما شهد عن نفسه (الابن) إذا
أشار: “لا أتكلم من نفسي” (يوحنا16: 10) أي لا أتكلّم أي شيء خارج ما هو
للآب أي لا شيء خاص بي، لا شيء غريب عنه، هكذا أيضاً يجب فهم ما يتعلق بالروح
القدس فتعبير (سوف يأخذ مما هو لي) يعني مما أعرف أنا، من معرفتي لأن معرفتي
ومعرفة الروح واحدة مما هو لي سوف يأخذ أي سوف يتلكم بالتوافق معي. كل ما هو للآب
هو لي لأنها لي، ولأن الروح القدس سوف يتكلم مما هو للآب، وبالتالي سوف يتكلم مما
هو لي”.

ويتابع
القديس يوحنا الذهبي الفم ملخصاً: “مما هو لي سوف يأخذ، أي من المعرفة ذاتها
التي عندي أنا، سوف يأخذ ليس كمن عنده نقص أو كمن سوف يتعلّم من آخر بل لأن عندنا
المعرفة الواحدة ذاتها”.

وهكذا
فكلمات (كل ما هو للآب هو لي) لا تدل على انبثاق الروح القدس من الابن بل على
الخواص الجوهرية الإلهي والتي هي في هذه الحالة المعرفة الإلهية التي تخص الجوهر
الإلهي الواحد للأقانيم الثلاثة.

D.    تستشهد كتب العقائد الكاثوليكية ببعض أقوال المجامع مثل
موافقة المجمع المسكوني الثالث على الحروم الإثني عشر للقديس كيرلس الإسكندري
ومنها الحرم التاسع الذي يسمّي فيه الروح القدس خاصة الابن. وفي الحقيقة إذا
تعمقّنا في نص هذا الحرم لوجدنا أن التشديد ضد نسطوريوس هو أن يسوع صنع العجائب
بواسطة الروح القدس، ليس كأنه قوة غريبة عنه بل بواسطته كقوة خاصة به لأن الروح
القدس متحد معه في الجوهر. القديس كيرلس أوضح فيما بعد هذه الحقيقة في جوابه على
بعض النقاط التي أثارها ثيودوريتس القورشي، ومن بينها هذه النقطة بالذات، فيقول
بأنه سمّى الروح القدس خاصة الابن لأنه بالرغم من انبثاقه من الآب إلا أنه ليس
غريباً عن الابن.

كذلك
يستشهد الكتّاب الكاثوليك بأقوال بعض الآباء فيفسّرون بعض العبارات تفسيراً يتفق
مع دعمهم للفيليوكفي، مثل: الروح القدس يستقر في الابن، يرتاح في الابن، هو أيقونة
الابن، عنده المنبع في الابن،.. ولكن إذا نظرنا أيضاً على هذه العبارات في مجمل
النص الذي وجدت فيه وبعلاقته مع العقيدة العامة للآباء القديسين الذين استعملوها
لوجدناها تتحدّث عن الإرسال الزمني للروح أو على وحدة الجوهر مع الابن، وليس البتة
عن انبثاق الروح من الابن. فمثلاً القديس أثناثيوس الكبير يسمّي الابن: نبع الروح
القدس لأن الابن هو من يرسل الروح القدس في العالم لكي يساعد البشر على اقتبال
الخلاص.

والقديس
يوحنا الدمشقي يستعمل عبارة: “الروح القدس يرتاح في الابن” لأنه واحد مع
الآب في الجوهر، وهكذا..

ويضيف
الكاثوليك أنه إلى جانب هذه العبارات الآبائية غير المباشرة، هناك من الآباء
والكتّاب الكنسيين من يعلّم الانبثاق من الابن بصورة مباشرة. ويستنتجون من هذا قدم
وعمومية هذه العقيدة في الكنيسة المسيحية. إلا أنه كما يلاحظ (
B. Bartman) الكاثوليكي، تظهر الفيليوكفي لأول مرّة عند أوغسطين الذي أعلن
“لا نستطيع أن نقول بأن الروح القدس لا ينبثق” “من الابن”
لأنه ليس بدون هدف أن يقال عن الروح نفسه بأنه روح الآب أو روح الابن”. وتبعه
في ذلك كتّاب غربيون كنسيون آخرون مثل البابا لاون الكبير وجناديوس المارسيلي
وفيليكس دي لولا وفولجنتسيو دي روسيي. ومع ذلك فلم يكن رأي أوغسطين نفسه ثابتاً
دائماً في هذه النقطة كما وأن رأي هؤلاء الكتّاب الكنسيين لا يشكّل البرهان بأن
هذا هو اعتقاد الكنيسة الأولى بل هو مجرد رأي شخصي انحرف عن تعليم الكنيسة الجامعة.

يوجد
بعض الآباء الذين استعملوا عبارة “الروح القدس ينبثق من الآب بالابن” ()
() وقد استعملها بشكل خاص بعض الآباء الشرقيين. وبالطبع فاللاهوتيون الغربيون
يعتبرون أن عبارة () تعبّر عن فكرة (من الابن أو) ولا يوجد أي فرق بينهما.

أما
بالنسبة للآباء فالبعض منهم استعمل عبارة () للتعبير عن إظهار الروح القدس في
العالم وليس انبثاقه. بينما البعض الآخر استعملها بالعلاقة مع أصله.

فمثلاً
فيما يختص بالاستعمال الأول، نقرأ عن القديس غريغوريوس العجائبي: “إن الروح
القدس عنده الكيان من الله وأُظهر للناس بواسطة الابن” وكذلك عند القديس
كيرلس الاسكندري “يأتي الحق من الآب بالابن”. “يأتي منه بحسب
الجوهر ويمنح للخليقة بواسطة الابن” أي أن هؤلاء الآباء يريدون القول أن
الابن هو السبب الذي من أجله أرسل الآب الروح القدس. ولو لم يأتِ الابن في العالم
لما كان أُرسل الروح القدس.

فيما
يتعلق بالاستعمال الثاني لعبارة () هناك بعض الآباء استخدموها عندما كانوا
يتكلّمون عن أصل الروح القدس، لكنهم مع ذلك لم يكونوا يقصدون انبثاق الروح القدس
(ومن الابن) أي لم يستعملوها بمعنى () بل كانوا يقرون معنى آخر مختلفاً جذرياً
عنها، فمثلاً القديس غريغوريوس النيصصي يكتب بأن “الابن يصدر من الآب بدون
واسطة لكن الروح القدس هو أيضاً من الآب إنما بالابن أي بالذي هو بلا واسطة”.

بهذه
الكلمات لا يريد أن يقول بأن الروح القدس ينبثق (ومن الابن) بل وبحسب تعبيره هو: إننا
نحن البشر نفتكر بأن الآب قبل الابن إنما بواسطة الابن ومعه الابن يعرف الروح
متحداً، وهذا بدون أن يكون الروح القدس كوجود بعد الابن.

ولهذا
يستعمل بعض اللاهوتيين عبارة (بالابن) بمعنى: “والابن”، “مع
الابن”، أي “في نفس الوقت مع الابن”. إذاً يريدون أن يقولوا بأن
الروح القدس عنده الوجود أو ينبثق من الأزل من الآب مع الابن (في نفس الوقت مع
الابن).

القديس
مكسيموس المعترف (662+) أيضاً عنده تعبير () ولكنه يستبعد هو نفسه إمكانية تفسير
هذه العبارة بحسب المفهوم الغربي ففي رسالة وجهها إلى الكاهن مارين من قبرص يقول فيها
مدافعاً عن غربيي ذلك الزمان: “عندما يقبل اللاتين بأن الروح القدس ينبثق من
الآب بالابن لا يجعلون من الابن علة (مصدراً) للروح، وإنما يقولون هذا لكي يظهروا
بأن الروح القدس يصدر بواسطة الابن ولكي يشيروا بهذا إلى وحدة وتماثل الجوهر”.

القديس
يوحنا الدمشقي استعمل عدّة مرّات عبارة بأن الروح القدس ينبثق من الآب بالابن،
وبكلا المعنيين المذكورين أعلاه، بالنسبة للمعنى الأول يقول: “لا نقول الروح
من الابن () لكن نعترف أنه بالابن () ظهر وأعلن لنا.. روح قدس لله الآب منه منبثق،
ولكن إذا قيل روح الابن فهذا يعني أنه بواسطته ظهر وأعلن للخليقة، وبدون أن يكون
حاصلاً على وجوده منه”.

أما
بالنسبة للمعنى الثاني فيقول: “الروح القدس ليس ابن الآب بل روح الآب لأنه
ينبثق من الآب.. وروح الابن ليس بمعنى أنه منه بل بمعنى أنه منبثق من الآب به، لأن
الآب فقط هو المسبب”.

بالنتيجة
نحن الأرثوذكس نشدد مع الآباء على كون الآب وحده هو سبب انبثاق الروح القدس، ولهذا
لا يمكننا أن نقبل بتعبير “ومن الابن” () الذي يجعل الابن كمصدر ثانٍ
للروح القدس. كل ما يمكننا أن نقبل به هو تعبير “بواسطة الابن” () والذي
ورد كرأي لاهوتي عند بعض الآباء. إذ لا يتعارض، كما فسروا، مع كون الآب هو المصدر
الأوحد.

 

3.     وختاماً
نلفت النظر إلى خطورة النقطة الثالثة من التعليم الكاثوليكي الخاص عن الثالوث
الأقدس، والتي تشكل بمجملها نموذجاً عن المقايسة والتفكير العقلاني المحض في
اللاهوت الغربي. نكتفي هنا بالتوقف عند القول بأن الروح القدس يصدر عن إرادة الآب
والابن أو عن محبتهما المتبادلة، فنلاحظ أن هذا تأكيد واضح على أن اللاهوتيين
السكولاستيكيين لم يميزوا بين الأقنوم الإلهي وبين ما يصدر عنه من قوى وأفعال.
ولهذا فهم يحدرون أقنوم الروح القدس ليس فقط إلى مستوى القوى الإلهية غير المخلوقة
التي تصدر عن الثالوث الأقدس وبل وحتى إلى مستوى ما ينتج عن هذه القوى من أفعال
مخلوقة، إذ يقررون أنه يصدر عن إرادة الآب والابن أو محبتهما المتبادلة أو يقولون
أنه يصدر عن فعل محبة. لأن المخلوقات بحسب الآباء تصدر عن إرادة الأقانيم وبسبب
محبتها، وهي بالضبط فعل محبتها. معنى هذا الإدعاء إذن، أنه يؤدي، من حيث لا يدرون،
إلى درج أقنوم الروح القدس بين المخلوقات وبالتالي إلغاء مفهوم الثالوث القدوس أو
على الأقل جعله مقتصراً على أقنومين فقط هما الآب والابن. لأن انبثاق الروح عن
آباء الكنيسة، هو كولادة الابن، لا يصدر عن إرادة الآب أو عن محبته بل عن طبيعته
الخاصة، لكنه بالطبع ليس ضد هذه الإرادة.

كما
أن هذا التقسيم الغريب والمنصاع إلى تأملات المفكرين الإغريق في الألوهة الفلسفية
المجردة، بين ما يحبه الله بالضرورة وما يحبه مختاراً، هو في نظرنا اتهام واضح
للثالوث القدوس إله المحبة بالأنانية المجبرة، لأنه بحسب مفهومهم يحب ذاته
بالضرورة!!!.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى