علم الكنيسة

تذييل: تعليق على قضاة (أصحاح 19 إلى 21)



تذييل: تعليق على قضاة (أصحاح 19 إلى 21)

تذييل:
تعليق على قضاة (أصحاح 19 إلى 21)

(بقلم
يوسف رياض)

 لعله
مما يلفت النظر أن نختم تأملاتنا في موضوع التأديب الكنسي بتذييل عن الأصحاحات
الأخيرة من سفر القضاة، والتي تعتبر هي نفسها أيضاً تذييلاً لهذا السفر. ووجه
الغرابة أن سفر القضاة، كما يعرف دارسو الكتاب المقدس، يحدثنا عن أيام انحطاط
وخراب لشعب اسرائيل. إنها تختلف كثيراً عن أيام سفر يشوع التي فيها كان كل الشعب
يعمل لأجل الرب كرجل واحد. أما أيام سفر القضاة ففيها “كان كل واحد يعمل ما
يحسن في عينيه”.

 

 ما
أبعد هذه الصورة إذاً عن تلك المطلوبة من جماعة تقدر حضور الرب في وسطها وتتصرف
بما يتوافق مع ذلك. فتمارس التأديب الكنسي. ولهذا فبينما نجد صورة مثالية للقضاء
على الشر الذي ظهر أيام يشوع في حادثة عاخان بن كرمي، فإننا نجد صورة مشوشة للقضاء
على الشر في حادثة جبعة بنيامين كما سنتأملها الآن. ليس فقط لأن الشعب في مجموعه
كان منغمساً هو نفسه في الشر بدرجات متفاوتة، بل أيضاً (وهذا ما أود التنبير عليه
هنا)، لأن روحهم وهم يمارسون القضاء كانت أبعد ما تكون عن الروح التي تجعل الرب
يصادق على فعلهم الخطير هذا.

 

 وإن
كنا نتأمل في هذه الصورة الآن، فليس باعتبارها الصورة المثلى، التي يجب أن ننسج
تصرفاتنا على منوالها، بل على العكس، فبضدها تتميز الأشياء. ألا يكفي أن نذكر أن
الشعب لم يمكنه القضاء على الشر الذي في وسطه إلا ثلاثة أضعاف عدد السبط موضوع
القضاء وسبب البلاء!!

 

 ودون
الخوض في تفاصيل الشر الوارد في الإصحاح التاسع عشر، فإن الرجل المساء إليه، وقد
استخدم أسوأ أسلوب لإبلاغ الشعب كله بالفضيحة التي حدثت، مما جعل الدماء تغلي في
العروق، فلقد “اجتمعت الجماعة كرجل واحد.. وأرسل أسباط اسرائيل رجالاً إلى
جميع أسباط بنيامين قائلين ما هذا الشر الذي صار فيكم. فالآن سلموا القوم بني
بليعال الذين في جبعة لكي نقتلهم.. فلم يرد بنو بنيامين أن يسمعوا لصوت إخوتهم،
(واجتمعوا) لكي يخرجوا لمحاربة بني اسرائيل” (20: 1 – 14).

 

 ودارت
رحى الحرب وانكسر اسرائيل عظيمة أمام بنيامين، مرة ومرتين. لكن في المرة الثالثة
وعد الرب الشعب بأن يدفع بنيامين ليدهم. وفعلاً انكسر هذه المرة بنيامين المغرور
بنصرتيه السابقتين. وكاد يفني هذا السبط المدلل “بنيامين الصغير”.

 

 وبكل
تأكيد تنطبق على هذه الأحداث أيضاً كلمات الرسول بولس “هذه الأمور جميعها
أصابتهم مثالاً وكتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور. إذاً من يظن
أنه قائم فلينظر أن لا يسقط” (1 كو 10: 12).

 

 ولعل
الأسئلة التي تزدحم في فكر الواحد منا بعد قراءة سريعة لهذه الإصحاحات هي: لماذا
سمح الرب أن يكسر الشعب أمام بنيامين؟ هل الله يهادن الخطية؟ هل هو في صفها؟ أليست
عينا الرب “أطهر من أن تنظرا الشر”؟ (حب 1: 13). وأليس وجهه ضد عاملي
الشر؟ (مز 34: 16). أليس إثم جبعة الذي جاوز التصور هو موجهاً إلى الله القدوس لا
إلى الشعب وحده؟ ألم يحم غضب الله على داود عندما اقترف خطية لا تزيد عن خطية جبعة
هنا وأرسل إليه قائلاً “لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه” (2
صم 12: 9).

 

 ماذا
يقصد الرب من كل هذا؟ أم لعله يريدنا سلبيين أمام الشر فنريح ونستريح؟!

 كلا
أيها الأحباء. إن إلهنا لم يكن قط، ولا يمكن أن يكون موافقاً على الخطية. كما أنه
لا يريدنا أن نكون غير مبالين بها. ومع أن خطية جبعة قد فاقت كل الحدود، فالشر
الذي حدث لم ير مثله من يوم صعود الشعب من أرض مصر (19: 30). إلا أن الشعب وهو
يريد معالجة خطأ جبعة، ارتكب على الأقل ثلاثة أخطاء قادت إلى النتائج الوخيمة التي
يختم بها هذا السفر، ويمكن تلخيص هذه الأخطاء في الكلمات الثلاث: متى؟ وأين؟ وكيف؟

 

الخطأ
الأول: متى تحركوا؟

 إنهم
لم يتحركوا عندما أهين اسم الرب. وحصل التعدي على حقوق واعتبارات مجده. ففي
الإصحاحات 17، 18 دخلت وثنية صريحة في الشعب دون أن يلتفت إليها أحد. ولقد استمرت
أصنامية “ميخا” دون اعتراض عليها “حتى سبى الأرض” (18: 30).
وكأن كرامة هذا الرجل المساء إليه، وغيرته (وفي الواقع ما أقلهما، ذاك الذي ذهب
وراء سريته الخائنة ليطيب قلبها، دون أدنى بادرة من جانبها تدل على توبتها)، نعم
كان كرامة هذا اللاوي وغيرته أهم عندهم من كرامة الرب وغيرته!!

 

 أحبائي!!
كم تبدو في أعيننا الخطايا الموجهة ضد الرب زهيدة، عديمة القيمة، فنظهر فيها
الكثير من التسامح، والاحتمال، ورحابة الصدر، واتساع الأفق، بينما نتشدد كل التشدد
عندما تمس كرامتنا نحن!! لكن الشعب الذي تساهل ولم يتحرك لمواجهة الخطية التي ضد
الله، قد اضطره الله أن يتحرك – تحت القضاء- عندما سمح بفوران الخطية ضد نفوسهم…
وإذ أهمل الشعب اجتثاث الجذور، وهي التحول عن الله فقد تحرك ليحصد الثمار. نعم،
لقد تحركوا. ولكن تحركهم كان متأخراً، وكان أنانياً.

 

 أحبائي:
هل نظن أننا إذا تراخينا في الدفاع عن حقوق الرب سنسلم من جلب متاعب على أنفسنا،
هي بحسب تقديرنا، لا لزوم لها؟إن الواقع يحكي وكلمة الله تؤكد أن من لا يذرف
الدموع المقدسة على الخطايا التي في حق الله ستكون له حتماً دموع من نوع آخر
يذرفها مضطراً (قارن غل 6: 7 و 8).

 

الخطأ
الثاني: إلى أين تحركوا؟

 بحسب
تثنية 3 كان على الشعب في نور حضرة الرب المقدسة أن يفحص الأمر بتأني. لكن الشعب
لم يكن له قلب للرب. والذي نقرأه هنا ليس هو الفحص المتأني ولا حتى هو الغضب
المقدس، بل إنه أشبه بغضبة قبلية أو فورة جسدية، فاجتمعوا ليدينوا الشر الذي ظهر
في بنيامين.

 

 ولقد
ذهبوا إلى المصفاة. ولماذا المصفاة؟ لعل معنى الكلمة بالعبري يعطينا تفسيراً
روحياً. فالمصفاة تعني برج مراقبة. لقد اجتمعوا، أولئك الأبرار في أعين أنسهم،
لفحص الأمر وإبداء الرأي. فأين يجدون مكاناً أنسب من برج المراقبة؟ لقد
“صعدوا إلى المصفاة” (20: 3) حيث قال لهم الرجل المنكوب “هوذا كلكم
بنو اسرائيل هاتوا حكمكم ورأيكم ههنا”. وكان رأيهم الذي أرسلوه إلى بنيامين
“ما هذا الشر الذي صار فيكم. فالآن سلموا القوم… لكي نقتلهم” (20: 12،
13).

 

 هكذا
بكل بساطة!! وكم خدعتنا نحن أيضاً فظننا أن الروحانية تعني فقط القدرة على تمييز
الأمور وإصدار الآراء السديدة والأحكام الصائبة. كم من المرات اعتلينا “برج
المراقبة” لنحكم على الشر الذي صار في إخوتنا بدلاً من الانكسار أمام الرب
بالصوم والمسح والرماد، مثل دانيال، لنعترف بالشر الذي صار فينا (دا 9).

 

 قد
يقول قائل: لكنهم اجتمعوا إلى الرب في المصفاة (20: 1). نجيب، ألم يفحصوا الأمر
بمعرفتهم؟ وأصدروا الحكم فيه بمعرفتهم؟ فهل الاجتماع إلى الرب يعني أننا نحن نقرر،
ونتجاهل الرب؟! لو كانوا قد شعروا حقاً باجتماعهم إلى الرب أما كان الشعور التقوي
يفرض أن يقدموا “ثوراً ابن بقر ذبيحة خطية يأتون به إلى قدام خيمة
الاجتماع”؟ (لا 4: 14). وبالتالي أما كان الأجدر أن يكون اجتماعهم إلى شيلوه
حيث خيمة الاجتماع وليس إلى المصفاة؟!

 

 يقول
آخر: لكنهم بعد ذلك قاموا وصعدوا إلى بيت إيل وسألوا الله.. نجيب عليهم بأنهم
قرروا الأمر وانتهوا فيه إلى ما رأوا.. ثم أرادوا أن يشركوا الله معهم. أيليق هذا؟
أيمكن أن يكون هذا؟ لاحظ أنهم لم يسألوا: هل نصعد؟ ولا حتى: كيف نصعد؟ بل “من
يصعد منا أولاً؟”

 

 أحبائي.
في مسائل الأحكام الكنسية فإن الصلاة ليست مسألة شكلية ولا أمراً ثانوياً.. هل
لاحظت كيف أن الاجتماع الكنسي للحل والربط المذكور في متى 18: 17، 18 يقترن
اقتراناً وثيقاً بالاجتماع للصلاة (مت 18: 19). فنحن بدون الرب لا نقدر أن نحل ولا
أن نربط. بدونه لا نقدر أن نعمل شيئاً (يو 15: 5). ألا نأخذ الدرس من يشوع العظيم
وكل رجاله المخلصين، وكيف أخطأوا في مسألة الجبعونيين عندما “أخذ الرجال من
زادهم. ومن فم الرب لم يسألوا”!! (يش 9: 14).

 

 لكن
الشعب أخطأ هنا إذ لم يسألوا الرب. ثم كرروا خطأهم مرة ثانية في أصحاح 21. ونحن كم
من المرات نخطئ عندما نسرع ولا ننتظر مشورته (مز 106: 13). ثم عندما تقع الواقعة
نتحول إلى الرب باللوم، كما فعل الشعب هنا “لماذا يا رب إله اسرائيل حدثت هذه
في اسرائيل؟” (21: 3).

 

الخطأ
الثالث: كيف تحركوا؟

 لقد
كانت الكبرياء واضحة في تحركهم فكبرياؤهم الظاهرة والمستترة في رسالتهم إلى
بنيامين هي التي قادت إلى إذكاء النعرة العصبية في بنيامين فرفضوا تسليم المخطئين
(قض 6: 13 مع 20: 12).

 

 هل
الكبرياء التي هي أردأ صفات الجسد، تصلح لأن تحكم على الجسد الذي ظهر في جبعة، ثم
ظهر في بنيامين؟ هل يمكن أن الجسد يحكم على الجسد؟ لقد رأى الله أن يدين الجسد
فيهم أولاً قبل أن يكونوا مؤهلين للقضاء والحكم على الجسد في إخوتهم؟ لقد كانوا
معجونين بالكبرياء، فكان على الرب أن يعالج الداء العميق فيهم قبل أن يتمكن من
استخدامهم في علاج إخوتهم. ولكي يصل الرب إلى هذا كان يجب أن يكسروا المرة تلو
المرة.

 

 إن
كسرتهم في المرة الأولى، كان قصد الله منه أن يعالج تصرفهم وتعجلهم. لكن في كسرتهم
الثانية أمام بنيامين كان الرب يعالج نفوسهم، ليصل بالعلاج إلى الجذور في الأعماق..
وإلى الكبرياء الدفينة.

 

 في
المرة الأولى أشعرهم الرب بحاجتهم إليه، وبأن الذي أخطأ هو أخوهم. لذلك “صعد
بنو اسرائيل وبكوا أمام الرب إلى المساء وسألوا الرب هل أعود أتقدم لمحاربة
بنيامين أخي؟” (20: 23). لكن بعد الكسرة الثانية “صعد جميع بني اسرائيل
وكل الشعب وجاءوا إلى بيت إيل وبكوا وجلسوا هناك أمام الرب وصاموا ذلك اليوم إلى
المساء واصعدوا محرقات وذبائح سلامة أمام الرب. وسأل بنو اسرائيل الرب. وهناك
تابوت عهد الله.. وفينحاس.. قائلين أأعود أيضاً للخروج لمحاربة بنيامين أخي أم
أكف” (20: 26 – 28).

 

 هذه
المرة “صعد جميع بني اسرائيل وكل الشعب” إنه حزن عمومي، نظراً لمأساة
عامة قد حدثت.. ولأن الحكام الكنسية اليوم هي مسئولية الجماعة المحلية كلها، فإنه
ما لم يكن شعور الجماعة هو الحزن والنواح (قارن يش 7: 6، 1 كو 5: 2)، فإنها لا
تكون في الحالة التي تؤهلها لتدين الشر أو تحكم عليه. إنه ليس أن البعض أحس بالخطأ،
ولا أن الروحيين يقدرون خطورته. بل إنه شعور ينتاب الجماعة كلها لتتدرب به تدريباً
تقوياً أمام الله.

 

 ولقد
“جلسوا أمام الرب”. لم يسألوه وهم وقوف، كان الأمر لا يستلزم الانتظار.
وكم أثرت فينا نحن أيضاً روح العصر الذي طابعه السرعة فأصبحنا اليوم نحتاج إلى
تدريب عميق على الانتظار الصبور في محضر الرب.

 

 لقد
اكتشفوا أن الروح الفريسية في القضاء على الشر لا يمكن أن يوافق الرب عليها. كما
اكتشفوا أن الاتكال على البر الذاتي هو رجس قدام الله، سواء ظهر هذا في شعب الله
أو في الآخرين (لو 16: 15). ولهذا فقد “بكوا.. وصاموا” كما قدموا
الذبائح والمحرقات. أي أنهم أعلنوا عدم استحقاقهم في ذواتهم، لكنهم احتموا في
الذبائح (شخص المسيح وعمله) للعفو والقبول.

 

 وبهذا
وصل الله إلى غرضه في اسرائيل، وتعلموا أخيراً الدرس. وجاء دور بنيامين المعاند،
المتستر على الشر، لكي يتلقن الدرس هو أيضاً.

 

 وكم
من بنيامين في وسطنا هذه الأيام أيها الأحباء.. أشخاص أعماهم الصلف والغرور
فاحتقروا جماعة الرب. ونسوا أنهم بهذا يحتقرون أيضاً رب الجماعة؟ ويا ويلهم، أولئك
المقاومين، إن لم يستفيقوا من فخ إبليس قبل فوات الأوان.

 

 إن
نبوخذ نصر، رمز الكبرياء والصلف قال عن الرب “كل أعماله حق وطرقه عدل. ومن
يسلك بالكبرياء فهو قادر على أن يذله” (دا 4: 37). وهذا ما حدث مع بنيامين
وقتها، ويحدث مع كل بنيامين وسط شعب الله، في كل وقت.

 

 إن
المخطئ، لو ظن أنه يملك من القوة ما تجعله يشعر أن القطيع الصغير، والمؤمنين
البسطاء أضعف من أن يتعرضوا له، فعلى هذه الجماعة، إن كانت أمينة حقاً، أن تعلن
ضعفها هذا أمام الرب في ركب منحنية، ونفوس مسكوبة وهي لو فعلت ذلك فستجد حتماً،
كيف يتداخل الرب بسرعة، ويعلن مجده. وسيمكن للجماعة بطريقة إلهية أن تمارس التأديب
أو الحكم الذي يريده هو أن تنفذه.

 

 هذه
كانت حالة اسرائيل “في تلك الأيام”. فهل حالة المسيحية في هذه الأيام
أفضل منها؟؟؟

 

 أحبائي..
وماذا بالنسبة لنا نحن الذين انفصلنا إلى اسمه؟ وهل وعينا هذا كله؟ هل خرجنا
بالدروس واستخلصنا العبر المتضمنة في هذه الإصحاحات الغنية التي يختم بها سفر
القضاة؟ أم أن الرب ذا العينان اللتان كلهيب نار ترى فينا نحن أيضاً نفس ما سطره
عن هذا الشعب مرة، ثم كرره بأسف مرة ثانية في ختام السفر “في تلك الأيام لم
يكن ملك في اسرائيل. كل واحد عمل ما حسن في عينيه”؟!!

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى